الورع
من الصفات التي أهتم الأئمة الطاهرون(ع) بها اهتماما كبيراً جدا صفة الورع، فوردت عنهم نصوص عديدة. فعن أبي جعفر الباقر(ع): أشد العبادة الورع.
وعن أبي عبد الله(ع) قال: اتقوا الله وصونوا دينكم بالورع.
وعنه(ع) أيضاً قال: إنا لا نعد الرجل مؤمناً حتى يكون بجميع أمرنا متبعاً مريدا ألا وإن من إتباع أمرنا وإرادته الورع فتزينوا به يرحمكم الله وكبدوا أعدائنا به ينعشكم الله.
معنى الورع:
وقد عرف بأنه: الاجتناب والابتعاد عن جميع المعاصي بتركها، مع التمسك بالآداب الشرعية، وفعل الطاعات، بل التوقي حتى من الشبهات حذراً من الوقوع في الحرام.
ويستفاد هذا المعنى من النصوص، فعن أمير المؤمنين(ع):أصل الورع تجنب الآثام والتنزه عن الحرام.
وقال(ع)في تعريفه أيضاً: إنما الورع التحري في المكاسب والكف عن المطالب. وعنه(ع): إنما الورع التطهر عن المعاصي.
وليس بين النصوص منافاة، لكون كل واحد منها يشير لإحدى المميزات التي يتحقق الورع عند الشخص بامتلاكها.
وقد أشارت نصوص أخرى إلى أورع الناس، فعن النبي(ص)قال: كف عن محارم الله تكن أورع الناس.
وعن أبي جعفر الباقر(ع)قال: قال الله عز وجل: يا بن آدم، اجتنب ما حرمت عليك تكن من أورع الناس.
درجات الورع:
وقد ذكر أن للورع خمس درجات:
الأولى: وهي ورع العادلين:
وهو ترك الفسوق، واجتناب كل ما اقتضت الفتوى تحريمه مما يدخل في مداخل الحرام.
الثانية: ورع الصالحين:
وهو ترك ما يحتمل التحريم، حتى مع كون الشارع قد رخص في تناوله بناء على الظاهر كطعام الملوك وعمالهم.
ومن أمثلته العملية في حياتنا اليومية اليوم، اللحم المشكوك التذكية، فإن الحكم في البداية هو عدم جواز أكله لأننا لم نحرز تذكيته، لكنه لما كان يباع في سوق المسلمين، فإن الشارع قد أحل لنا أكله، وتوضيح هذا الأمر:
أنه يوجد عندنا لحاظان، لحاظ أخلاقي تربوي روحي، ولحاظ فقهي تكليفي، فمتى وجد المكلف لحماً يشك في حليته وكونه مذكى، يباع في سوق المسلمين يرتب عليه أثر كونه محللاً ومذكى فيحل أكله، لكن الآثار الوضعية التي تترتب على الناحية الأخلاقية تبقى على حالها فلو كان هذا اللحم واقعاً ميتة فإنه لما أكله استناداً لقاعدة سوق المسلمين لا يكون مرتكباً لحرام، لكنه لا يستطيع دفع الآثار الوضعية التي تترتب عليه لكونه قد أكل الميتة وهذا هو معنى ورع الصالحين الذين يحاولون الاجتناب عن كل شيء ينطوي على شبهة حتى لو كان محللاً من الشارع المقدس من الناحية الظاهرية لا من الناحية الواقعية.
وقد يقال: مادام الحكم الشرعي قد أعطى الإباحة والجواز فلماذا نتعب أنفسنا بالالتزام بالورع خصوصا وأن في الالتزام شيئاً من كلفة.
قلت: إن الحكم التكليفي الفقهي الدال على حلية الأكل، يمنع كما ذكرنا العصيان واستحقاق العبد العقاب من الله سبحانه وتعالى لكنه لا يمنع الآثار الوضعية المترتبة على أكل هذا الشيء المشتبه لو ثبت كونه ميتة إذ ربما وقع الرجل على أهله وكان نتيجة ذلك نطفة فتكون قد تكونت من حرام فأنظر أنت إلى آثار ذلك عندما تكون النطفة متكونة من الحرام.
الثالثة: ورع المتقين:
وهو ترك ما ليس في حليته شبهة خوفاً من أن يؤدي إلى المحرم أو يؤدي إلى الشبهة.
وقد حكي عن بعضهم أنه كان له عند رجل مائة درهم فحملها إليه فأخذ تسعة وتسعين وتورع عن استيفاء الكل خيفة الزيادة.
وكان بعضهم يتحرز فكل ما يستوفيه يأخذه بنقصان حبة وما يعطيه يوفيه بزيادة حبة ليكون ذلك حاجزاً من النار.
ومن هذه الدرجة الاحتراز عما يتسامح به الناس فإن ذلك حلال من الناحية الشرعية لكنه يخاف منه فتح باب ينجر إلى غيره.
الرابعة: ورع الصديقين:
وهو ترك ما ليس في حليته شبهة ولا يخاف من أن يؤدي إلى المحرم أو يؤدي إلى شبهة لكونه أمراً غير متعلق بالدين، كالمباحات، أو لكونه متصلاً بمن يكره اتصاله به.
كما نقل عن ذي النون المصري أنه لما سجن لحقه جوع وهو مسجون فأرسلت له امرأة صالحة بطعام على يدي السجان، فأبى أن يأكله، واعتذر بأنه وصل إليه يدي ظالم.
يعني أن القوة التي قد أوصلت الطعام إليه لم تكن طيبة.
ويحكى عن بعض العرفاء، وقيل أنه بشر الحافي أنه كان لا يشرب الماء من الأنهار التي قام بحفرها الأمراء، فالماء وإن كان مباحاً، لكنه رأى أن النهر قد حفر بأجرة دفعت من مال حرام.
وبالجملة فالصديقون يرون أن الحلال هو كل ما لا تتقدم في أسبابه معصية ولا يستعان به على معصية ولا يقصد منه في الحال والمآل قضاء وطر، بل يتناول لله سبحانه وتعالى فقط وللتقوي على عبادته واستبقاء الحياة لأجله، ولذا يرى هؤلاء أن كل ما ليس لله تعالى حراماً.
ثم إن هذه الرتبة رتبة الموحدين المتجردين عن حظوظ أنفسهم المنفردين لله تعالى بالقصد.
وقد حكي عن بعضهم أنه شرب الدواء، فقالت له امرأته: لو تمشيت في الدار قليلاً حتى يعمل الدواء، فقال هذه مشية لا أعرفها، وأنا أحاسب نفسي منذ ثلاثين سنة.
فكأنه لما لم يحضره نية في هذه المشية تتعلق بالدين لم يجز لنفسه الإقدام عليها.
الخامسة: ورع المقربين:
وهو صرف القلب عن الاشتغال بما سوى الله سبحانه وتعالى.
ثمرة الورع:
يعتبر الورع أحد الأسباب الرئيسية في صلاح النفس والسيطرة على الغرائز الموجودة فيها، كما أنه طريق لصلاح دين الإنسان، لكونه يعتبر حاجزاً يحول بينه وبين اقتـراف السيئات وارتكاب المعاصي والذنوب.
فعن أمير المؤمنين(ع): ثمرة الورع صلاح النفس والدين، وعنه(ع): الورع يحجز عن ارتكاب المحارم، وقال(ع)أيضاً: الورع أساس التقوى، وجاء عنه(ع):بالورع يكون التنـزه من الدنايا، وقال(ع):الورع يصلح الدين، ويصون النفس، ويزين المروءة، وقال(ع)أيضاً: من زاد ورعه نقص إثمه.
ويكفينا ثمرة للورع، النصوص التي تعرضت إلى أنه لا خير في العبادة ما لم يكن فيها ورع، مما يوضح لنا دور الورع وأهميته حتى في العبادة.
فعن رسول الله(ص)قال: لو صليتم حتى تكونوا كالأوتار وصمتم حتى تكونوا كالحنايا، لم يقبل الله منكم إلا بورع.
وعن الإمام زين العابدين(ع): الورع نظام العبادة، فإذا انقطع ذهبت الديانة، كما إذا انقطع السلك أتبعه النظام.
تحذير:
ذكر أهل الفن وأرباب القلوب، أن الورع قد يصل في بعض الموارد إلى الوسواس، فالحذار من وصول الشخص المتورع إلى مثل هذه الحالة بدعوى أن ذلك من أفراد الورع، إذ شتان بين الموردين.