صفات المتقين, الإيمان بالغيب

لا تعليق
محرم الحرام 1446 هـ
99
0

صفات المتقين, الإيمان بالغيب

 

إن المتأمل في الآيات القرآنية الشريفة يقف على أنها تقسم الناس وفقاً لمعتقداتهم إلى ثلاثة أنواع:

الأول: المتقون:

وهم الذين يشكلون جماعة لها وجود في المجتمع الإسلامي، ويعرف هذا الصنف من الناس، بأنهم يؤمنون بالله سبحانه وتعالى، واليوم الآخر، ويسيرون في خط الرسالة المحمدية.

الثاني: الكافرون:

وهم الذين لم يستجيبوا للرسول الأكرم محمد(ص)، وظلوا مصرين على قناعاتهم، مع معرفتهم بحقانية الرسالة المحمدية.

الثالث: المنافقون:

وهم الذين حملوا شخصيتين، شخصية ظاهرية، تمثل الإيمان، وشخصية واقعية تمثل الكفر.

المتقون في القرآن الكريم:

وعند حديث القرآن الكريم عن النوع الأول من الناس، ميزهم من خلال صفات ذكرها لهم، يعرفون من خلالها، وقد تضمنت الآيات الأول من سورة البقرة ذكراً لهذه الصفات، قال تعالى:- (ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين* الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون* والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون). وهي ست أو خمس صفات[1]، وهي:

1-الإيمان بالغيب.

2-إقامة الصلاة.

3-الإنفاق مما رزقهم الله.

4-الإيمان بما أنزل الله تعالى على أنبيائه(ع)، من خلال الإيمان بما أنزل الله عز وجل على النبي الكريم محمد(ص)، وما أنزله على من سبقه من الأنبياء والمرسلين(ع) أيضاً.

5-اليقين بالآخرة.

ولما كان القرآن الكريم يمثل مصدر نور وهداية لعامة الناس، والذين منهم المتقون، فإن ذلك يوجب عرض سؤال، مفاده: إن المفروض أن يكون المتقون قد حصلوا، وحصلّوا الهداية، فلم يعودوا بحاجة إليها فضلاً عن أن يكونوا محتاجين للقرآن الكريم، لأن الغرض منه أن يحصلوا من خلاله على الهداية، وهي قد تحققت بالنسبة إليهم.

وجواب ذلك، يتضح حين الإحاطة بأن الهداية ليست عنواناً متواطئاً لتكون نوعاً واحداً يشترك فيه عامة الناس، بل الهداية من المفاهيم المشككة، والتي يختلف الناس في الحصول عليها ويتفاوتون، ولهذا قالوا بأن الهداية نوعان، هداية عامة، وهي التي يحصل عليها جميع أفراد البشر، بل كافة الموجودات كل بحسبه، وهداية خاصة، لا ينالها إلا الأوحدي من الناس، وهي التي يشير إليها قوله تعالى:- (اهدنا الصراط المستقيم)، فإن هذه الآية يتلوها المسلمون يومياً في صلواتهم الخمس عشر مرات، والمفروض أنهم مهتدون، وإلا لم يقوموا بأداء الصلاة، فأي معنى لطلبهم الهداية، إن ذلك يتضح عند الالتفات إلى أن هذه الهداية التي يطلبونها ليست الهداية العامة، بل الهداية الخاصة. وهذا النوع من الهداية هو الذي يسع المتقون لتحصيله، بجعلهم القرآن الكريم كتاب هداية ونور لهم.

الإيمان بالغيب:

وقد عدّ القرآن الكريم أول صفات المتقين في آيات سورة البقرة إيمانهم بالغيب، وحتى يتضح المقصود من هذه الصفة، لابد من شرح مفردتيها، وهما: الإيمان، والغيب.

الإيمان:

أما المفردة الأولى، وهي الإيمان، فربما تصور بعضهم أن الإيمان هو العلم بالشيء، ولازم ذلك أنه لا يعتبر في تحقق الإيمان شيئاً إضافياً وراء الإحاطة بالشيء المعلوم.

إلا أن الأمر ليس كذلك، بل إنه لا يكتفى في تحقق الإيمان بمجرد الإحاطة، بل لابد وأن يضاف لذلك الإذعان بالشيء الذي تمت الإحاطة به، وعليه سوف يكون الإيمان هو: العلم بالشيء والإذعان به. ومقتضى هذا التعريف أنه لابد من توفر عناصر ثلاثة كيما يقال بامتلاك الإنسان للإيمان، وهي:

الأول: العلم بالشيء، ويكون ذلك بمجرد رؤية الإنسان للشيء، بحيث تنطبع صورته في ذهن الإنسان، وهذا يكون من خلال مواجهة الشيء ليراه، نظير النظر في المرآة، فإن الإنسان لا يرى نفسه فيها إلا إذا واجهها.

الثاني: إذعان النفس لما علمت به، وتسليمها له عقلياً ونفسياً، لأن الإنسان قد يعلم بالشيء، ولكنه لا يذعن ولا يسلم، بل يجحد به، يقول تعالى:- (وجحدوا بها واستيقنتها أنفُسُهُم)، ويعبر عن هذا الإذعان بالإيمان مع الإقرار باللسان.

الثالث: الجري العملي وفق العلم والإيمان، ويعدّ هذا من ثمرات الإيمان.

الغيب:

وأما المفردة الثانية، وهي الغيب، فإن المقصود منها ما كان غائباً عن الحواس الظاهرة، فعالم الغيب يقابل عالم الشهود، ولما كانت دائرة الحقيقة أوسع من دائرة عالم الشهود، لذلك كان المتقون يؤمنون بعالم الغيب، كما يؤمنوا بعالم الشهود.

ثم إن كلمة الغيب التي وردت في الآية المباركة مطلقة، وليست مقيدة بشيء ما، ما يعني عدم انحصار الإيمان بالغيب في خصوص الإيمان بالله سبحانه وتعالى فقط، بل يشمل ذلك الإيمان بكل الحقائق الغيبية، سواء ما كان منها مرتبطاً بالمبدأ، أم ما كان منها يرتبط بالمعاد، ونحوهما. ويشهد لما ذكرناه من سعة مفهوم الغيب المذكور في الآية الكريمة، ما ورد عن الإمام أبي عبد الله الصادق(ع)، قال:- (الذين يؤمنون بالغيب)، يصدقون بالبعث والنشور والوعد والوعيد. وجاء في رواية أخرى تفسيره(ع) الغيب في الآية بمن أقرّ بقيام القائم(روحي لتراب حافر جواده الفداء)، أنه حق.

ووفقاً لما تقدم، سوف يكون المقصود من الإيمان بالغيب، هو حصول العلم بالغيب والإذعان به، والجري على وفق ذلك عملاً وتطبيقاً.

كيف يكون الإيمان بالغيب:

وبعد الإحاطة بحقيقة الإيمان بالغيب، يأتي سؤال مهم في المقام، حاصله: كيف يؤمن الإنسان بالغيب؟ وبعبارة أخرى: كيف يؤمن الإنسان بشيء لم يره بعينه؟

والداعي لوجود مثل هذا التساؤل هو ما ذكرناه في مطلع شرح المفردة الأولى وهي الإيمان، من أنه يعتبر في حصول العلم بالشيء عند الإنسان حتى تنطبع صورته في الذهن حصول المواجهة بين المعلوم والعالم، فما لم تكن هناك مواجهة بينهما، فلن يتسنى للإنسان أن يعلم بذلك الشيء. وهذا لا يتصور حصوله في الأمور الغيبية، لأنه لا يمكن للإنسان أن يواجهها، فالإنسان لا يمكنه أن يواجه الملائكة، فكيف يؤمن بها، ولا يمكنه أن يواجه عذاب القبر وهو في الدنيا، فكيف يؤمن به، وهكذا بقية الأمور الأخرى، فكيف يؤمن الإنسان بشيء لم يشعر به من خلال شيء من حواسه الخمس، فلم تلمس يده ذلك الشيء ليعلم به، ولم تره عينه، ولم تسمعه أذنه، وهكذا.

وتتضح الإجابة عن التساؤل المذكور حين الإحاطة بكيفية حصول الإيمان الناجم من العلم بحقيقة من الحقائق، فإن ذلك يتم من خلال أحد طريقين:

الأول: التواصل المباشر مع تلك الحقيقة نتيجة الإحساس بها من خلال أحد الحواس الخمس، فتؤمن بالشيء لأنك قد أبصرته بعينك مثلاً، أو لمسته بيدك.

الثاني: التواصل معها بطريق غير مباشر، وهذا له صور ثلاث:

الأولى: أن يحصل لك الإيمان بالحقيقة بسبب رؤيتك آثارها الوجودية، فمن خلال تلك الآثار تنتقل إلى الإيمان بوجود تلك الحقيقة، وهذا مثل الإيمان بالله سبحانه وتعالى، فإن الإنسان وإن لم ير الله تبارك وتعالى، إلا أن رؤيته لآثاره الوجودية في الخارج موجب للإيمان بوجوده سبحانه وتعالى، وأنه واحد أحد فرد صمد. ومثل الإيمان بالجاذبية الأرضية، فإن الإنسان وإن كان لم يرها، إلا أنه يؤمن بها، لأنه يرى آثارها الوجودية في الخارج. ومثل ذلك الإيمان بالكهرباء، فمع أننا لا نراها، إلا أنه لا مجال لإنكارها، وذلك لأن الجميع يرى آثارها الوجودية في الخارج، وهكذا.

ويعتبر هذا الانتقال من الأمور الوجدانية والتي تكون حتى عند الأطفال، ويعبر عنه في كتب البرهان والمنطق بالدليل الإني، وهو الذي يكون الانتقال فيه من وجود المعلول إلى وجود علته، ومن وجود المسبب إلى وجود السبب.

الثانية: أن يكون الإيمان بالحقيقة والاعتقاد بها بسبب الايمان بوجود علتها، لأن المعلول لا يتخلف عن علته التامة، فوجود العلة يكشف عن وجود المعلول، فلو رأيت جهاز التكيـيف مشغلاً، فسوف تؤمن ببرودة المكان، لأن اشتغال جهاز التكيـيف سبب لوجود البرودة، فلا ينفك وجود جهاز التكيـيف عن وجود البرودة في المكان، ويعبر عن هذا الدليل بالدليل اللمي، وهو الانتقال من وجود العلة إلى وجود المعلول.

الثالثة: أن يكون سبب إيمانك بالحقيقة راجعاً إلى إيمانك بوجود لازمها، أو ملزومها، أو ملازمها، لأن أحد المتلازمين لا ينفك وجوده عن وجود الآخر، فيكون العلم بوجود أحدهما يكفي في الانتقال إلى وجود الآخر، ومثال ذلك الأربعة والزوجية، فإن الزوجية لازمة للأربعة، فالإيمان بوجود الأربعة يستلزم الإيمان بوجود الزوجية جزماً.

 

[1] منشأ التردد في الصفات يعود إلى عدّ الإيمان بما أنزل على رسول الله(ص)، وعلى الذين من قبله من الأنبياء(ع)، صفتين، أو صفة واحدة، والأمر سهل يسير.

تعليقات الفيسبوك

التعليقات مغلقة