الوقوف في عرفات مع المسلمين(3)

لا تعليق
خواطر حوزوية
146
0

الوقوف في عرفات مع المسلمين(3)

 

ويمكن الملاحظة عليه، أولاً: إن إنكار حصول العلم الإجمالي بالخلاف بين الموقف الرسمي والموقف الشرعي طيلة تلك المدة الزمنية والتي تجاوزت القرنين، من الغرابة بمكان، إذ لا ريب في تحققه ولو في بعض السنين ومع ذلك لم يعهد من الأئمة الأطهار(ع) لو كانوا في الحج أن أتخذوا موقفاً آخر مغايراً للموقف الرسمي، بل ولم ينبهوا أصحابهم على أن يكون لهم موقف آخر غيره، وهذا كاشف عن الاجتزاء بالوقوف معهم.

ومن الواضح أن هذه السيرة تشير للحكم الوضعي أعني الإجزاء والصحة، وليس لمجرد الحكم التكليفي وهو الوجوب.

ثانياً: إنه على فرض التسليم بما ذكر، فإنه لا يشمل ما إذا لم يكن هناك علم بالخلاف بين الموقفين الرسمي والشرعي، وإنما كان هناك شك في اتفاقهما أو اختلافهما كما لو كان الفارق بينهما يوماً واحداً، وهذا يعني أن السيرة المدعاة مختصة بصورة الشك، وليس صورة العلم بالخلاف والجزم، كما سمعت ذلك من بعض الأساطين وبعض الأعاظم(ره)، مع أن الجواب الصادر من بعض أساطين العصر من المحققين(دامت أيام بركاته)، وتبعه عليه ولده الفاضل المعاصر(دام موفقاً) كان منصباً على ما إذا كان هناك علم وقطع بالخلاف بين الموقفين.

ثالثاً: إن خلو النصوص عن الإشارة لهذا الأمر من قريب أو بعيد لو لم يكن موجباً لإثبات تحقق السيرة القطعية، كما هو الصحيح، فلا أقل أنه لا ينفيها، خصوصاً وأن المنكر لوجودها لم يذكر ما يصلح شاهداً على نفيها.

وأما الاستشهاد بحادثة الإمام الصادق(ع) مع أبي العباس السفاح، فقد روى رفاعة عن رجل عن أبي عبد الله(ع) قال: دخلت على أبي العباس بالحيرة، فقال: يا أبا عبد الله، ما تقول في الصيام اليوم؟ فقلت: ذاك إلى الإمام، إن صمت صمنا، وإن أفطرت أفطرنا، فقال: يا غلام، عليّ بالمائدة، فأكلت معه، وأنا أعلم والله أنه يوم من شهر رمضان، فكان إفطاري يوماً وقضاؤه أيسر عليّ من أن يضرب عنقي، ولا يعبد الله[1]، فإن ظاهر تعبير بعض أساطين العصر من المحققين(دامت أيام بركاته)، وكذا ولده الفاضل المعاصر(دام موفقاً) أنها في بداية شهر رمضان المبارك، كي ما يؤكدا على مزيد عناية السلطة الحاكمة بشأن الهلال، وتشددها فيها لدرجة أنهم لم يثبت الهلال عندهم من تشددهم، وقد ثبت عند الإمام(ع)، فمع ضعفها سنداً،  بالإرسال، فلا تصلح أن تكون شاهداً ولا مستنداً، فإن ظهورها في نهاية الشهر الكريم أوضح، وبالتالي تكشف عن ثبوت هلال شوال وحصول العيد السعيد عند السلطة الحاكمة دون الإمام(ع)، وهذا يجعل الاستشهاد بالخبر المذكور على خلاف المدعى أوضح منه في الدلالة عليه، فيكشف ذلك عن تساهل عند السلطة الحاكمة في عملية إثبات الهلال.

على أنه لو بني على ظهوره في مطلع الشهر الشريف فإنه لا يصلح للاستشهاد أيضاً لإثبات عدم وجود السيرة العملية، لأنه وإن كشف عن تشدد السلطة الحاكمة في أمر ثبوت الهلال، وأن الإمام(ع) كان متقدماً عليهم يوماً في ثبوت هلال شهر رمضان، فإن هذا بنفسه يجري بالنسبة لهلال شهر ذي الحجة، ما يستدعي حصول الاختلاف بين الموقفين الرسمي والشرعي، ولم ينقل أن أحد الأئمة(ع) قد احتاط أو قد أمر أصحابه بالاحتياط، ولم يثبت أن واحداً منهم قد وقف قبل الموقف الرسمي، وهذا يساعد على ثبوت السيرة.

والحاصل، إنه كما يحتمل أن يكون الهلال عند السلطة الحاكمة متأخراً عن الإمام(ع)، فإنه يحتمل أن يكون متقدماً عليه، ذ لا فرق بينهما، لأنه لو تقدم الهلال عند الإمام(ع)، ولم يقف إلا مع السلطة الحاكمة، كان مانعاً من صحة الحج، كما لو تقدم الهلال عند السلطة الحاكمة ووقف الإمام(ع) قبل يوم عرفة، لما عرفت في مطلع المسألة من أن المطلوب هو الوقوف في يوم عرفة الواقعي.

وعلى أي حال، فإنه لم يصدر من الإمام(ع) في كلتا الحالتين ما يشير إلى مخالفة موقف السلطة الرسمي، ولم يأمر أصحابه بمخالفته.

رابعاً: إن غاية ما يروم إثباته المجيب عن السيرة هو بيان أن هناك تشدداً من السلطة الحاكمة في عملية إثبات الهلال، ونحن لا نمانع فيما ذكر، إلا أن هذا التشدد لا يؤدي إلى نفي وجود الاختلاف الحاصل بين الموقفين الشرعي والرسمي، فكم من تشدد لا ينفع في تحقق الاتحاد وما قصة الإمام الصادق(ع) مع أبي العباس السفاح عنا ببعيد، فإنه لو سلم دلالتها على التشدد في أمر الهلال كما يدعيه المجيب، إلا أنها كشفت عن وجود اختلاف في موضوع الهلال بين السلطة الشرعية والسلطة الرسمية، وهذا بعينه يجري في الحج.

بقي أن يشار في ختام التعقيب على الجواب الإجمالي عن قيام السيرة القطعية على إجزاء الوقوف، بالإشارة لما ذكره بعض أساطين العصر من المحققين، وبعض فضلاء العصر(دامت أيام بركاتهما)، من الإشارة إلى خلو المصادر الفقهية لعلماء الطائفة منذ الرعيل الأول وحتى عصر الشهيد الثاني تقريباً من الإشارة إلى هذه المسألة، وهذا يكشف عن عدم وجود مشكلة الاختلاف في الموقف بين السلطة الحاكمة والجهة الشرعية، وهو يدل على مدى تثبت السلطة الحاكمة المسؤولة عن أمر الهلال.

وما ذكر لا يخرج عن كونه مجرد احتمال ليس عليه شاهد، ويقابله احتمال آخر وهو أن عدم تعرض الفقهاء لذلك يعود إلى وضوح الأمر عندهم، وأن اللازم أن يكون الوقوف وفق ما تقضي به السلطة الحاكمة، وبسبب وضوح الأمر عندهم لم يتعرضوا للمسألة في كلماتهم.

إن قلت: إن مقتضى ما ذكر أن لا يتعرض لها الفقهاء المتأخرون أيضاً.

قلت: من المحتمل جداً أن تعرض من تعرض لها من الفقهاء المتأخرين يعود للمنهج المتبع عندهم دون القدماء، ذلك أن الفقهاء المتأخرين يدققون أكثر منهم. كما يحتمل أن يكون منشأ ذلك هو التشكيك في دلالة نصوص التقية على شمول الحكم الوضعي، وقصر دلالتها على الحكم التكليفي، فأوجب ذلك البحث في المسألة.

الجواب التفصيلي عن قيام السيرة:

وأما الجواب التفصيلي، فإن تمامية السيرة المدعاة رهين توفر أمرين:

الأول: إحراز عدم الفرق في الأسباب الموجبة للاختلاف في الموقفين بين زمان الأئمة الأطهار(ع) والعصر الحاضر.

الثاني: عدم اختلاف موقف السلطة الحاكمة في عصر المعصومين(ع)، وموقف السلطة الحاكمة في العصر الحاضر، فكما أن السلطة في هذا العصر تجبر الناس على الوقوف في يوم واحد، كانت السلطة أيضاً في تلك الفترة تجبر الناس على الوقوف في يوم واحد.

أما الأول:

لا يخفى أن المستندين للسيرة العملية القطعية قد قاسوا زمان الأئمة الأطهار(ع) بهذا الزمان، فقالوا بأن الاختلاف يقع على نطاق واسع في زمانهم(ع) بتصور أن ما يؤدي إلى الاختلاف في هذا الزمان كان يؤدي إلى الاختلاف أيضاً في ذلك الزمان، لأن القوم هم أبناء القوم، والمعايير عندهم هي ذاتها منذ عصر الخلفاء، ولم يستجد ما يعزى إليه الاختلاف في هذا العصر ليبنى على أنه لم يكن موجوداً في عصرهم(ع).

وهو تصور غير دقيق، لأن ما يتسبب في الاختلاف في الأزمنة المتأخرة على قسمين:

الأول: الاختلاف في آلية ثبوت الهلال، فإن المذهب الفقهي المتبع رسمياً في الأراضي المقدسة منذ قيام حكم آل سعود فيها هو المذهب الحنبلي السلفي الذي يكتفي في ثبوت هلال شهر رمضان بشهادة شخص واحد استناداً إلى الحديث المروي عن ابن عباس أنه قال: جاء اعرابي إلى النبي(ص) فقال: رأيت الهلال، فقال: أتشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله؟ قال: نعم، قال: يا بلال أذن في الناس فليصوموا غداً.

نعم يعتبرون شهادة شخصين في بقية شهور السنة ومنها شهر ذي الحجة حتى لو كانت السماء صاحية، خلافاً لأبي حنيفة وغيره ممن قالوا باعتبار الاستفاضة في ثبوت الهلال[2].

وعلى هذا الأساس بنوا الإعلان عن حلول شهر ذي الحجة بمجرد إدلاء شخصين بشهادتهما على رؤية الهلال، وإن كانت السماء صحواً وتعذرت رؤية الهلال على غيرهما من المستهلين، بل وإن كانت المعلومات الفلكية الدقيقة تشير إلى عدم كون الهلال قابلاً للرؤية بالعين المجردة، بل وكونه في المحاق، وطالما اعتذروا عن ذلك بأن في رد الشهادة على الرؤية حتى في هذه الحالة رداً لحديث النبي(ص).

وإذا لم تتوفر الشهادة على الرؤية في ليلة الثلاثين من ذي القعدة، وهو ما لا يحصل إلا في حالات قليلة، فإنهم يبنون على إكمال الشهر ثلاثين يوماً، ولكن مع ذلك قد لا يكون الهلال قابلاً للرؤية في الليلة اللاحقة، لأن بداية ذي القعدة لم تكن تبتني عندهم على أساس صحيح من رؤية محققة أو نحوها.

والمذكور في بعض المصادر أن الجهات المختصة كانت تعتمد ولسنوات عديدة حتى عام(1420 هـ)، على تقويم أم القرى في بداية الأشهر القمرية ما لم تقم شهادة معتبرة على خلاف ذلك، وهو مبني-كما يقال-على الاكتفاء على عدّ اليوم أول الشهر الجديد ببلوغ عمر الهلال عند غروب الشمس فيه اثنتي عشر ساعة، وقد اعتمدت في عام(1421 ه،) و عام(1422 هـ) ضابطاً آخر، يبتني على تحديد بداية الشهر الجديد بمجرد غروب القمر بعد غروب الشمس من اليوم التاسع والعشرين من الشهر الحالي، وأضافت إلى الضابط المذكور أمراً آخر في عام(1423 هـ) وهو لزوم المقارنة مع الأرض قبل غروب الشمس، وهذا أيضاً لا يستلزم إمكانية رؤية الهلال بالعين المجردة عند غروب الشمس.

والحاصل، إن الاختلاف بين الجهات المعنية بالإعلان عن أول الشهر في الأراضي المقدسة، وبين الشيعة في آلية ثبوت أول الشهر يعدّ من أهم أسباب ما نجده من الاختلاف في الموقف الرسمي والموقف الشرعي في غالب السنين.

ولم يكن الحال كذلك في عصر الأئمة(ع)، وبعد ذلك إلى مئات السنين اللاحقة، فقد كان الشهر القمري وهو ما بين الهلالين مقياساً زمنياً تداوله العرب قبل الإسلام، والشهر في لغتهم هو اسم للقمر، وقد اتخذ العرب الأشهر القمرية المقياس الأساس عندهم لحساب الأيام لأنها تناسب حالهم، فإن معرفتها لا تحتاج إلى حساب، بخلاف الأشهر الشمسية، وأيضاً تناسب مناطقهم التي تكون السماء فيها في غالب أيام السنة صحواً مما يتيح معرفة أيام الشهر بالنظر إلى حال القمر في الليل بكل سهولة. وقد أقر الدين الإسلامي الحنيف العرب في اعتمادهم على الأشهر القمرية، قال تعالى:- (هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نوراً وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب)[3]، فكانوا يعلمون عدد السنين والحساب من منازل القمر، وقال تعالى:- (يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج)[4]، يعني أنها أزمان وأوقات مضروبة للناس في أمور معاشهم ومعادهم.

ومن المعلوم أن الذي يصلح أن يكون ميقاتاً للناس بصورة عامة هو الهلال الذي يظهر على الأفق المحلي بنحو قابل للرؤية لعامة الناس إذا لم يكن هناك مانع من غيم ونحوه، ولذلك ورد في رواية زياد بن المنذر العبدي، قال: سمعت أبا جعفر محمد بن علي(ع) يقول: صم حين يصوم الناس، وأفطر حين يفطر الناس، فإن الله عز وجل جعل الأهلة مواقيت. فقد علل(ع) لزوم متابعة الناس بأن الأهلة مواقيت، يعني ما يكون واضحاً للناس عامة فيصومون ويفطرون برؤيته.

وأما في الإسلام فإن هناك مجموعة من النصوص الواردة عن أهل بيت العصمة والطهارة(ع)، تفيد عدم الاكتفاء بشهادة البينة إلا مع علة في السماء، وكون شهادتهما من خارج المصر. نعم لا توجد صورة واضحة عما كان يجري العمل عليه في صدر الإسلام زمن الخلفاء، وأنه كان يكتفى بشهادة اثنين مثلاً حتى مع صفاء الجو وكثرة المستهلين، وعدم تيسر الرؤية لغيرهما، أو أن ذلك يختص بغير هذه الصورة. ولعله هو مورد ما حكي في بعض مرويات المسلمين من اعتماد عمر بن الخطاب على شهادة البينة من خارج المدينة.

وأما في العصر الأموي، فإن هناك بعض الشواهد المساعدة على التشدد في ثبوت الهلال:

منها: ما رواه ابن حزم بإسناده عن سفيان الثوري عن عمر بن محمد، قال: شهد نفر أنهم رأوا هلال ذي الحجة، فذهب بهم سالم إلى ابن هشام وهو أمير الحج، فلم يقبلهم. فوقف سالم بعرفة لوقت شهادتهم، ثم دفع-أي دفع إلى المزدلفة-فلما كان في يوم الثاني وقف مع الناس. والمقصود بسالم هو سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، والمراد بابن هشام هو إبراهيم بن هشام بن إسماعيل المخزومي، خال هشام بن عبد الملك الذي كان أمير الحاج في سنة(105 هـ). ويلاحظ أن سالم ومع ما له من عظمة، إلا أنه لم يقبل منه من أتى بهم شهوداً على رؤية الهلال.

ومنها: ما حكاه الفاكهي، عن أيوب بن سليمان أبي الحسن، قال: سمعت ابن عائشة يقول: أشكل على الناس الهلال في أول حجة حجها عبد الملك بن مروان من خلافته، فشاور في ذلك أقواماً، فلم يجد عندهم بياناً لما يريد، فأمر فنصب المنبر في يوم سابع وهو قبل يوم التروية بيوم-فخطب فحمد الله تعالى وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس إن الله عز وجل جعل أمر الأمم من غيركم إلى أنفسهم يدبرون الأوان ويقيمون الزمان، فيصرفون أعيادهم أنى شاؤوا بظن وحسبان، ألا وإن الله عز وجل ملك عليكم أمركم فجعل الأهلة مواقيت للناس، ألا وإن الله عز وجل أخفى عليكم هذا ليبتليكم فيعلم أيكم المتبع من المضيع، ألا وإني شاورت أقواماً فلم أجد عندهم شفاء لما في الصدور، وأتاني الركب من كل جهة يخبروني عن رؤية الهلال قبل اليوم الذي يأتي لكم، ولم أجد فيهم من أثق بشهادته عن ثبات معرفته عندي، وإنما تعبدنا الله عز وجل بإجازة شهادة المعروفين، ولعله أن يكون فيهم ممن لا أعرف قوم هم أوثق ممن أعرف، ولكن الحق والسنة أولى أن تتبع، ألا وإني قد رأيت رأياً فإن أصب فمن الله تعالى، وإن أخطئ فمبلغ اجتهادي، والله أسأل التوفيق، وأنا خارج بالناس من غد يومنا هذا إلى منى، وهذا اليوم الذي يزعم من سبقنا إلى رؤية الهلال أنه يوم التروية، وأقف بهم من غد ذلك اليوم، وهو الذي يزعم من تأخر في الرؤية أنه يوم التروية، ثم أفيض بهم إلى جمع، ثم أصبح بهم راجعين إلى عرفات فأقف بهم وقفة أخرى، وأؤخر نسكهم، فيحلون وينحرون في اليوم الذي يزعم أولئك أنه يوم النفر، فإن يكن القول ما قالوا لم يضرهم تأخير مناسكهم، ويكون ما فعلت زيادة في أعمالهم، وعلى الله أجر العاملين، قال: فوقف بالناس يومين.

وتعدّ هذه الرواية من أوضح الشواهد على ما كان من تشدد في قبول الشهادة على رؤية الهلال في ذلك العصر.

والظاهر أن الحال لم يختلف في العصر العباسي عنه في العصر الأموي، من حيث التشدد في أمر ثبوت الهلال، ويمكن الاستشهاد لذلك بمعتبرة معمر بن خلاد بن عمارة، قال: قال أبو عبد الله(ع): دخلت على أبي العباس-السفاح-في يوم شك، وأنا أعلم أنه من شهر رمضان، وهو يتغذى. فقال: يا أبا عبد الله ليس هذا من أيامك. قلت: لم يا أمير المؤمنين؟ ما صومي إلا بصومك ولا إفطاري إلا فإفطارك. قال: فقال: ادن. قال: فدنوت فأكلت، وأنا أعلم-والله-أنه من شهر رمضان. فإن موضوعها يوم الشك عند الناس الذي كان الإمام(ع) على علم أنه من شهر رمضان، والمقصود من يوم الشك فيها هو يوم الشك من شعبان أي اليوم الذي يلي التاسع والعشرين منه، لأنه لو كان المراد منه يوم الشك من شهر رمضان، لكان لابد من صيامه إلا مع قيام البينة على رؤية هلال شوال، فلا يكون يوم شك عندئذٍ، فكيف يقول أبو العباس للإمام(ع): ليس هذا من أيامك، أي أنه من أيام فطري وليس من أيام فطرك.

وبالجملة، إنه لما كان المعروف عن الإمام(ع) أنه يصوم يوم الشك في آخر شعبان بنية شعبان، وكان اليوم الذي دخل فيه على أبي العباس هو يوم شك لعدم ثبوت هلال شهر رمضان عند الخليفة، قال للإمام(ع) ما قال. مع أنه لو كان يوم شك في نهاية شهر رمضان، كان على الخليفة أيضاً أن يصوم لعدم ثبوت هلال شوال حسب الفرض، فكيف جاز له أن يفطر ويقول للإمام(ع): ليس هذا من أيامك.

وكيف ما كان، فإن دلالة المعتبرة على المدعى من تشدد الخليفة في أمر الهلال واضحة، لأن مفادها تأخر ثبوت هلال شهر رمضان عند الخليفة عن ثبوته عند الإمام(ع)، فإنه لو كان الخليفة متساهلاً في أمر ثبوت الهلال، لاكتفى في ثبوته بشهادة بعض من رآه والتي تتوفر عادة في مثل ذلك، ولا سيما مع ثبوتها عند الإمام(ع)، فلم يكن يضطر(ع) إلى الإفطار عنده تقية.

ثم جعلت أمور الهلال بعد ذلك في يد القاضي أبي يوسف، وهو من أبرز تلامذة أبي حنيفة، وقد كان متشدداً في ثبوت الهلال في الصحو، فقد ذكر القاساني الحنفي: إنه إن كانت السماء مصحية لا تقبل الشهادة برؤية الهلال ما لم يشهد جماعة يقع العلم للقاضي بشهادتهم، وقدّر أبو يوسف عدد الجماعة بعدد القسامة خمسين رجلاً. والظاهر أن هذا لم يكن مختصات أبي يوسف وأتباع أبي حنيفة، بل كان يقول به آخرون أيضاً، فقد حكى ذلك ابن عبد البر عن جمع من أصحاب مالك، وغيرهم: أنه لا يقبل في الصحو إلا الجم الغفير والعدد الكثير، وإنما يقبل الرجلان في علة الغيم وشبهه.

ويؤكد حالة التشدد التي كان عليها أمر هلال ذي الحجة في العصر العباسي ما حكاه ابن عبد الحكم المصري قائلاً: رأيت أهل مكة يذهبون في هلال الموسم في الحج مذهباً لا ندري من أين أخذوه، إنهم لا يقبلون في الشهادة في هلال الموسم إلا أربعين رجلاً، وقيل عنهم خمسين.

وقد عقب على كلامه، أحد فقهاء المالكية، وهو سند بقوله: وعندي أنهم رأوا شأن الحج من أعظم العبادات البدنية، وأعظم الحقوق يعتبر فيه خمسون رجلاً وهو القسامة في الدم.

ولا يبعد أن عدم اعتمادهم في ثبوت هلال الموسم إلا على شهادة عدد كبير من المستهلين لم يكن لخصوصية في هلال ذي الحجة، بل من جهة عدم قبول شهادة اثنين برؤية الهلال في حال الصحو وخلو السماء من العلة.

ومهما يكن، فإنه شاهد قوي على مدى التشدد في أمر الهلال، ولا أقل هلال ذي الحجة في العصر العباسي.

وبعد سقوط الدولة العباسية كانت السيطرة على مكة المكرمة بيد الحكام الفاطميـين، وابتدأت عندها حكومة الأشراف، وقد كانوا مختلفين من حيث الانتماء المذهبي، إذ كان بعضهم على مذهب الشيعة الزيدية، وكان آخرون على مذهب الشافعي، وقد كانت مناصب القضاء وإمارة الحج، وإمامة المسجد الحرام، ونحوها موزعة بين أتباع مختلف المذاهب، ولا سيما المالكية والشافعية والزيدية، حسب اختلاف الأزمنة والأحوال.

نعم كان المذهب الحنفي هو صاحب الحظوة الكبيرة في عهد الدولة العثمانية من هذه المناصب كلها، لأن الأتراك العثمانيـين، كانوا من الأحناف، إلا أنه يصعب التحقق من طبيعة الآليات التي كانت متبعة خلال المدة المذكورة في تحديد وقت الوقوفين، وإن كان أغلب الظن لا يبعد أن تكون مختلفة إلى حد ما حسب اختلاف أمزجة أمراء الحج والقضاة. ويؤكد عدم انضباط الأمور في تلك المدة ما حكاه ابن طولون من أنه في سنة ثلاث وعشرين وتسعمائة ثبت عند القاضي زين العابدين الرومي كون يوم الثلاثاء يوم عرفة بشهادة خمسة أنفس على رؤية هلال ذي الحجة ولم يكن في السماء غيم، فأنكرتُ عليه إثبات هذا الشهر بهذا القدر، فإن مذهبه مذهب أبي حنيفة في ذلك، وأنه لابد من شهادة جمع واختلفوا في عدتهم، فأقل ما قيل إنهم ثلاثون.

ولكن من الواضح أن ما كان عليه الحال بعد عصر المعصومين(ع) مما لا مساس له بما هو محل الكلام من السيرة العملية التي يراد الاستناد إليها في الحكم بكفاية متابعة العامة في الموقفين، لأن المعتبر من السيرة ما كان في عصر المعصومين(ع)، ولا أثر لما كان بعد ذلك.

القسم الثاني: فساد القضاة واستحلال الشهود للزور والكذب بدواع مادية وتدخل الحكام في الأمر لأغراض سياسية.

ومن هذا ما كان يحصل في العهد العثماني وقبله أيضاً، ولعله يحصل في زماننا هذا كذلك، من سعي القضاة لجعل وقوف عرفة في يوم الجمعة لينالوا بذلك التكريم الحكومي، لأنهم رووا أن يوم الجمعة أفضل الأيام إلا يوم عرفة وإن وافق يوم الجمعة فهو أفضل من سبعين حجة في غير يوم الجمعة، ورووا أيضاً أنه إذا كان يوم عرفة في يوم الجمعة غفر الله لجميع أهل الموقف، وقد اشتهر عندهم وصف الحج بالأكبر إذا كانت الوقفة في يوم الجمعة.

وقد أوجب ذلك كثرة شهادات الزور في بعض السنين، لأجل أن يكون الموقف يوم الجمعة فينال القضاة والشهود التكريم من قبل الحكومة. والشواهد على هذا موجودة في مصادر الفريقين، يمكن ملاحظتها[5].

ثم إن الفاضل المعاصر(دام موفقاً) بعدما استعرض الشواهد التي تمت الإشارة إليها، قال: وهذه الأمور وغيرها مما يوجب تقدم الموقف الرسمي على الموقف الشرعي في هذه الأزمنة ربما لم تكن في عصر المعصومين(ع)، أو على الأقل لم تكن بهذه السعة الموجودة في هذا الوقت، فلا سبيل إذاً إلى البناء على سعة الاختلاف بين الموقفين الرسمي والشرعي في عصرهم(ع) على النحو الذي يوجد في عصرنا الحاضر بسبب الأمور المذكورة ونحوها[6].

وخلاصة ما أفاده(وفقه الله) بطوله، هو عدم الجزم بأن الموجود اليوم هو ذات ما كان موجوداً في عصر المعصومين(ع)ن وعليه، لا مجال للبناء على استقرار السيرة التي يراد الاستناد إليها للبناء على إجزاء الوقوف معهم في عصر المعصومين(ع)، وإحراز عدم الردع عنها.

ولا يخفى أن تمامية الجواب المذكور، تعتمد على التسليم بوجود تشدد من السلطة الحاكمة في أمر ثبوت الهلال، والاستشهاد لذلك ببعض الشواهد التي ذكرها بعض أساطين العصر من المحققين(دامت أيام بركاته)، وأشار إليها أيضاً الفاضل المعاصر(دام موفقاً)، وللتأمل في الدعوى المذكورة مجال، فإنه يلاحظ على دعوى التشدد في أمر الهلال التي أصر عليها المستشكل على السيرة، بأنها لا تختلف عن دعوى التساهل التي وسم بها القائلين بثبوتها، فإنه  على كليهما لا يحرز المكلف الوقوف في اليوم التاسع من ذي الحجة، بل دعوى التشدد المنجر عادة إلى المخالفة أولى بالاعتماد على السيرة، لأنه قد يكون غالباً مع العلم بأن يوم عرفة هو اليوم السابق على وقوفهم، فيفيد عدم ورود نص في المقام، ولم يتضمن التاريخ ولا النصوص الإشارة من قريب أو بعيد إلى أن الأئمة(ع) أو اتباعهم قد وقفوا في اليوم السابق على الموقف الرسمي للسلطة الحاكمة على مدى مائتي عام حتى مع العلم بالخلاف فضلاً عن الشك فيه، فلا يكون ما ذكر مانعاً من صحة الاعتماد على السيرة في صحة الوقوف معهم في صورة المخالفة القطعية، فضلاً عن صورة الشك في المخالفة.

وأما بالنسبة للاستشهاد بقضية سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، والذي قد وقف بعدما ردت شهادة جماعته، فإنه لم يشتمل المصدر الذي تعرض لذكر هذه الواقعة الإشارة من قريب أو بعيد على أن منشأ رد الشهادة يعود لتشدد السلطة الحاكمة في أمر الهلال، فيكون ما ذكره(دامت أيام بركاته) لا يخرج عن كونه مجرد احتمال، ويقابله احتمالات أخرى، مثل أن يكون الداعي لرد شهادته أمراً سياسياً،  أو يكون موجب ذلك لموقف خاص بين أمير الحج، وسالم بن عبد الله بن عمر، ومع عدم الجزم بظهور منشأ الرد في تشدد السلطة الحاكمة في أمر الهلال، فلن يصلح هذا الشاهد لإثبات الدعوى.

وبعبارة أخرى، إن ما ذكره(دامت أيام بركاته)، لا يخرج عن كونه مجرد احتمال، وليس في البين شيء صريح دال على ذلك، ومن الواضح أن مجرد الاحتمال لا يكفي لإثبات الدعوى. ويساعد على ما ذكر ملاحظة حال أمير الحاج في ذلك العام.

وأما الاستشهاد برأي أبي يوسف تلميذ أبي حنيفة، وأنه كان يعتبر في ثبوت الهلال خمسين شاهداً حال كون الجو صحواً، ففي غير محله، لأن البحث ليس في عالم الفتوى، وإنما في مقام التطبيق، فحتى يصح الاستشهاد بما ذكر، لابد وأن يحرز أنهم في الخارج كانوا يعتمدون على هذا الجانب في مقام إثبات الهلال، وحتى يثبت ذلك لابد من ذكر شاهد يدل على أنهم كانوا يلتـزمون بذلك في مقام العمل، وأما مجرد فتواه، وإن كانت متشددة إلا أن ذلك لا يعني أن عمله كذلك، لأنه ما أكثر ما يحصل الاختلاف بين الفتوى والعمل.

ويساعد على ما ذكرناه، مراجعة سيرة أبي يوسف الذي كان يقوم بشرعنة أفعال الحكام والخلفاء في ذلك الزمان،

وإعطاء ما يقومون به صبغة شرعية، حتى أنه كان يسيء للإمام موسى(ع)، ويستهزئ به، فقد ورد أن هارون الرشيد أمر أبا يوسف أن يسأل الإمام الكاظم(ع)، فقال له: ما تقول في التظليل للمحرم؟ قال(ع): لا يصح. قال: فيضرب الخباء في الأرض، ويدخل البيت؟ قال(ع): نعم. قال: فما الفرق بين الموضعين؟ قال(ع): ما تقول في الطامث، أتقضي الصلاة؟ قال أبو يوسف: لا. قال(ع): أتقضي الصوم؟ قال: نعم، قال(ع): ولم؟ قال: هكذا جاء، قال(ع): وهكذا جاء.

وأما قضية أبي العباس السفاح، فقد عرفت إصرار الفاضل المعاصر(دام موفقاً) على أن يكون مدلول الخبر هو يوم الشك من شهر شعبان، وأنه قد ثبت الهلال عند الإمام(ع) وأنه أول أيام شهر رمضان المبارك. ويكون الاستدلال بها على هذا الأساس، يكشف عن عدم ثبوت الهلال عند السلطة الحاكمة وثبوته عند الإمام(ع) عن مدى تشدد السلطة في أمر الهلال.

ومع ما تقدم منا في الجواب عنه سابقاً، وأن أمرها يدور بين الزيادة والنقيصة، وأن الاستناد إليها يستدعي ترجيح أحد النقلين على الآخر، مع أنه لا يوجد ما يوجب ترجيحه والاستناد إليه، المانع من صلاحيته للاستشهاد به.

فإنه يمكن أن يجاب بما تقدمت الإشارة إليه سابقاً أيضاً، من أنها ظاهرة أيضاً في نهاية شهر رمضان وأن اليوم الذي أكل فيه أبو العباس كان يوم العيد، وليس يوم الشك من شهر شعبان. ويساعد على ذلك متن نفس الرواية والذي تضمن التصريح بشهر رمضان المبارك، فكان الإمام(ع) صائماً لأنه لم يثبت لديه أن هذا اليوم هو أول أيام شهر شوال، بل هو آخر أيام شهر رمضان، وقد ثبت عند السلطة أنه أول أيام شهر شوال، ووفقاً لهذا الاحتمال سوف تكون الرواية شاهداً على خلاف دعوى بعض أساطين العصر من المحققين(دامت أيام بركاته)، ونجله الفاضل المعاصر(دام موفقاً)، وهو تساهل السلطة الحاكمة وتسامحها في أمر الهلال.

والانصاف، أن ما ذكرناه هو الأظهر من متن الخبر، فقد جاء فيه: إني دخلت عليه وقد شك الناس في الصوم، وهو والله من شهر رمضان. فسلمت عليه، فقال يا أبا عبد الله أصمت اليوم؟ فقلت: لا والمائدة بين يديه، قال: فادن فكل، فدنوت فأكلت، وقلت: الصوم معك والفطر معك[7]. وليس في هذه العبارة ما يوجب ترجيح أحد المحتملين على الآخر، فكما يحتمل أن يكون الشك في الصوم في مطلع شهر رمضان، فيكون يوم الشك من شعبان، يحتمل أيضاً أن يكون منشأ الشك هو اليوم الأخير من شهر رمضان، مع أن الثاني يرجحه بقية متن الخبر: فقال الرجل لأبي عبد الله(ع): تفطر يوماً من شهر رمضان؟ فقال: لأن أفطر يوماً فأقضيه أحب إليّ من أن يضرب عنقي. فإن هذا لا يلتئم مع كون اليوم هو يوم الشك من شهر شعبان، لتصريح الإمام(ع) أنه من شهر رمضان في البداية، وهذا ما أوجب سؤال السائل واعتراضه، وحمل ذلك على تقدم الثبوت عند الإمام(ع)  دون السلطة الحاكمة بعيد جداً.

وأما الاستناد إلى دعوى أن الأصحاب لم يسألوا الإمام(ع) عن حالة احتمال المخالفة، وهذا يكشف عن أنهم كانوا يعيشون حالة الموافقة الجزمية، فيدفعه: أن عدم السؤال منهم كما يحتمل أن يكون راجعاً لما ذكر، فإنه يحتمل أيضاً أن يكن ناشئاً مع افتراض احتمال وجود المخالفة، إلا أنه لما كان الأئمة الأطهار(ع) يقفون وفقاً لما عليه السلطة، ورأى الأصحاب جواً واضحاً في هذا الجانب، لذا لم يجدوا موجباً للسؤال والاستفسار منهم(ع) بعد وضوح الموقف العملي من قبلهم(ع).

ويتحصل مما تقدم، أنه لا يوجد ما يمنع من الاستناد للسيرة العملية القطعية المدعاة في كلام من سمعت من أعلام الطائفة للدلالة على كفاية الوقوف مع قاضي المسلمين يوم الثامن من شهر ذي الحجة، من دون فرق بين صورة القطع بالخلاف، واحتمال الموافقة، وسوف يأتي مزيد بيان لذلك إن شاء الله.

 

 

 

[1] وسائل الشيعة ج 10 ب 57 من أبواب ما يمسك عنه الصائم ح 5 ص 132.

[2] لاحظ المغني ج 3 ص 93.

[3] سورة يونس الآية رقم 5.

[4] سورة البقرة الآية رقم 189.

[5] بحوث في شرح مناسك الحج ج 18 ص 384-386.

[6] بحوث في شرح مناسك الحج ج 18 ص 374-387(بشيء من التصرف).

[7] وسائل الشيعة ج 10 ب 57 من أبواب ما يمسك عنه الصائم ووقت الإمساك ح 4 ص 131-132.

تعليقات الفيسبوك

التعليقات مغلقة