علم المعصوم بين الإطلاق والإشاءة(1)
لا خلاف بين علماء الطائفة(رض) في علم النبي الأكرم(ص) والأئمة الأطهار(ع) بالغيب، فإن اليقين الملكوتي والذي كان حاصلاً لخليل الرحمن إبراهيم(ع) حاصل للنبي والأئمة(ع) من بعده، وهذا يستدعي أن يكون علمهم حضوري، وليس حصولياً، وأنهم يعلمون كل شيء. نعم وقع الخلاف بين الأعلام في كون هذا العلم الحضوري الموجود عندهم مطلق، بمعنى أنه ليس معلقاً على شيء، وليس مقيداً بشيء، بل إن علمهم(ع) حاضر فعلي غير مقيد بالمشيئة، أو أنه معلق على الإشاءة والإرادة، فيكون المقصود أنهم(ع) متى أرادوا أن يعلموا علموا، ومتى لم يريدوا ذلك ينتفي ذلك عنهم.
نظريتان في المقام:
وقد وجدت نظريتان بين الأعلام:
الأولى: وهي ما أختاره مشهور علماء الطائفة، من البناء على أن علم المعصوم(ع) بالغيب مطلق، وليس معلقاً على شيء، ولا مقيداً به.
الثانية: وهو ما أختاره كل من الشيخ الحر في كتابه الفوائد الطوسية، والمحقق الأشتياني في كتابه القضاء، والشيخ المظفر في كتابه عقائد الإمامية، والسيد الكلبيكاني في كتابه القضاء، والسيد محمد كلانتر(ره)، وآخرون، من الالتـزام بأن علمه(ع) معلق على الإشاءة والإرادة.
وربما ذكر وجود نظرية ثالثة في المقام، يمثلها المتوقفون الذين لم يجزموا بكون علم المعصوم(ع) مطلقاً، ولم ينفوا أن يكون علمه(ع) إشائياً إرادياً.
ومن الواضح أنه ووفقاً للنظرية الأولى، سوف يكون معنى أن علمهم(ع) حاضر ومطلق، هو حصول انكشاف أو حضور الأشياء بماهياتها أو بوجودها عند المعصوم(ع) انكشافاً وحضوراً فعلياً، وعدم توقفه على شيء آخر من إرادة أو غيرها. وهذا بخلافه على النظرية الثانية، فإنها تقرر أن انكشاف علمهم(ع) أو حضور الأشياء بماهياتها أو بوجوداتها متوقف على الإرادة عند المعصوم(ع).
تحديد المريد في النظرية الثانية:
ثم إنه وقع الخلاف بين أصحاب النظرية الثانية، في تحديد الإشاءة والإرادة المعلق عليها علم المعصوم(ع)، فوجد اتجاهان:
الأول: الإشاءة والإرادة الإلهية:
وقد ذهب أصحاب الاتجاه الأول إلى أن الإشاءة المعلق عليها علم المعصوم(ع)، هي إشاءة الله سبحانه وتعالى، وإرادته، فإذا شاء الله عز وجل وأراد أن يعلموا أعلمهم، وإن لم يشأ ذلك، لا يجدون للعلم الغيبي سبيلاً.
وقد يشير لعدم تمامية هذا الاتجاه، خلو المصادر والكتب التي تعرضت للحديث عن علم المعصوم(ع) من الإشارة إليه، فضلاً عن مناقشته، ولعل ذلك يعود إلى وضوح بطلانه، لأنه لا يعطي أيما خصوصية للمعصوم(ع) بقية الناس.
أدلة الاتجاه الأول:
ومع وضوح بطلان هذا الاتجاه، إلا أنه توجد طائفتان من النصوص تصلحان مستنداً له:
فمن القرآن الكريم، قوله تعالى:- (ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم)[1]، وتقريب دلالتها من خلال تصريحها بتوقف الإرادة والتي هي بمعنى العلم على مشيئة الله تبارك وتعالى، فلو لم يشأ الله عز وجل، لن يعلم الإمام(ع) شيئاً أبداً.
ولا يخفى ما فيه، ضرورة أن الآية الشريفة ليست بصدد نفي حصول المشيئة بذلك، وإنما هي تتكلم عن قدرة الله تبارك وتعالى على إراءة هؤلاء المنافقين بأعيانهم.
ويمكن الاستناد لبعض الروايات، كرواية أبي الربيع الشامي، عن أبي عبد الله(ع) قال: إن الإمام إذا شاء أن يعلم علم[2]. وتقريب دلالتها تبتني على تفسير إشاءة الإمام الواردة فيها وفي غيرها من النصوص بمشيئة الله تعالى، إذ لا يتصور أن يشاء المعصوم(ع) شيئاً إلا إذا شاء الله تبارك وتعالى ذلك، ولا يمكن أن يريد الإمام(ع) شيئاً إلا ما يريده الله تعالى وفقاً لقوله تعالى:- (وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين)، لنفيها مشيئة كل إنسان دون مشيئة الله تعالى.
ويلاحظ عليه، أولاً: بما عرفت قبل قليل من أن لازم ما ذكر عدم الفرق بين المعصومين(ع)، وبين عامة الناس في العلم، وهذا خلاف صريح الأدلة من وجود اصطفاء واجتباء لبعض الناس ما يعني امتلاكهم خصوصيات تلازم هذا الاصطفاء والاجتباء.
ثانياً: إن الآية التي جعلها المستدل شاهداً لتقريب دلالة النصوص أجنبية عن المقام، ذلك أنها بصدد الحديث عن القدرة الإلهية، وعدم تفويضه سبحانه وتعالى الأمر إلى الخلق مطلقاً، لتوقف كل إرادة على إرادته تبارك وتعالى، وأين هذا مما نحن فيه.
ثالثاً: على فرض التسليم بظهور النص في ما ذكر، فإنه مخالف لصريح النصوص الدالة على أن علم المعصوم(ع)، متوقف على مشيئة الله سبحانه، وسوف تأتي الإشارة إليها حال الحديث عن الاتجاه الثاني في هذه النظرية.
ومنها: ما رواه معمر بن خلاد، قال: سأل أبا الحسن(ع) رجلٌ من أهل فارس، فقال: أتعلمون الغيب؟ فقال: قال أبو جعفر(ع): يبسط لنا العلم فنعلم ويقبض عنا فلا نعلم، وقال: سر الله عز وجل أسره إلى جبرئيل(ع) وأسره جبرئيل إلى محمد(ص)، وأسره محمد إلى من شاء الله.
ومنها: ما رواه سدير الصيرفي، قال: سمعت حمران بن أعين يسأل أبا جعفر(ع) عن قول الله عز وجل:- (بديع السماوات والأرض)، قال أبو جعفر(ع): إن الله عز وجل ابتدع الأشياء كلها بعلمه على غير مثال كان قبله، فابتدع السماوات والأرضين، ولم يكن قبلهن سماوات ولا أرضون، أما تسمع لقوله تعالى:- (وكان عرشه على الماء)، فقال له حمران: أرأريت قوله جل ذكره:- (عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً)، فقال أبو جعفر(ع):- (إلا من ارتضى من رسول)، وكان والله محمد ممن ارتضاه، وأما قوله(عالم الغيب)، فإن الله عز وجل عالم بما غاب عن خلقه فيما يقدر من شيء، ويقضيه في علمه قبل أن يخلقه، وقبل أن يفضيه إلى الملائكة، فذلك يا حمران، علم موقوف عنده إليه فيه المشيئة، فيقضيه إذا أراد، ويبدو له فيه فلا يمضيه، فأما العلم الذي يقدره الله عز وجل فيقضيه ويمضيه فهو العلم الذي انتهى إلى رسوله الله(ص) ثم إلينا[3].
وهما واضحتا الدلالة في أن العلم الحاصل عند المعصوم(ع) ليس مطلقاً، وإنما يعطاه في بعض الآنات، ما يعني أنه متوقف على مشيئة المعطي وإرادته، الذي هو الله تبارك وتعالى، فيثبت المطلوب.
ويمنع من القبول بالروايتين ملاحظة ذيلهما، فإن قوله(ع) في الرواية الأولى: وأسره جبرئيل إلى محمد(ص)، وكذا قوله(ع) في ذيل الرواية الثانية: فأما العلم الذي يقدره الله عز وجل فيقضيه ويمضيه فهو العلم الذي انتهى إلى رسوله الله(ص) ثم إلينا. يدل على إطلاق علم المعصوم(ع)، وعدم تعلقه على شيء، لأن ما أسره الأمين جبرئيل(ع) للنبي الأكرم محمد(ص) لم يكن موقوفاً ولا معلقاً على شيء أبداً. وكذا ما انتهى إلى رسول الله(ص)، إذ لا يعبر عما يكون غير حاصل لتعليقه على شيء، بأنه قد انتهى.
الثاني: إشاءة المعصوم:
ويرى أصحاب هذا الاتجاه أن الإشاءة للمعصوم(ع)، فمتى شاء أن يعلم علم، إكراماً له من الله تعالى، وإذا لم يشأ ذلك، فإنه يحجب عنه. وهذا هو مراد القائلين من علماء الطائفة(رض) الذين سمعت نسبة النظرية الثانية إليهم. وسوف يأتي مستند أصحاب هذا الاتجاه حال التعرض لأدلة النظرية الثانية إن شاءا لله.
الثمرة المترتبة على النظريتين:
ويترتب على الخلاف الحاصل في حقيقة علم المعصوم(ع)، وأنه مطلق، أو إشائي مجموعة من الثمرات، نشير لشيء منها:
الأولى: إن البناء على النظرية الأولى، وهي التي تقرر أن علم المعصوم(ع) مطلق، يستدعي مواجهة كثير من الإشكالات التي تنافيها، ما يوجب لجوء القائل بها إلى توجيه بعض مواقف الأئمة(ع)، وما صدر عنهم من قول أو فعل، وهذا بخلاف ما لو بني على النظرية الثانية، فإنه سوف تنحل كثير من الإشكالات العالقة في الأذهان، ومن نماذج ذلك، إقدام المعصوم(ع) على تناول السم، فإنه مع البناء على النظرية الأولى، سوف يكون المورد من إلقاء النفس في التهلكة، لأن الفرض أنه عالم باشتمال الطعام الذي يتناوله على السم، ومع ذلك يقدم على تناوله، بخلافه لو بني على النظرية الثانية، فإنه يمكن البناء على أنه لم يشأ العلم بما يحويه الطعام من سم، فلا يكون عالماً باشتماله عليه.
وقد أشار بعض الأعاظم(ره) إلى أنه يمكن أن يجعل البناء على النظرية الثانية من موارد علاج تناول الإمام الرضا(ع) للبيضة التي قامر غلامه عليها، قال(قده): ويمكن أن يقال: إن الاعتراض على الرواية مبني على كون علم الأئمة(ع) بالموضوعات حاضراً عندهم، من غير توقف على الإرادة، وقد دلت عليه جملة من الروايات، كما أن علمهم بالأحكام كذلك، وأما بناء على أن علمهم بالموضوعات تابع لإرادتهم، واختيارهم، كما دلت عليه جملة أخرى من الروايات، فلا يتوجه الاشكال على الرواية، لإمكان صدور الفعل عنهم(ع) جهلاً قبل الإرادة، ولكن الذي يسهل الخطب أن البحث في علم الإمام(ع) من المباحث الغامضة، والأولى رد علم ذلك إلى أهله[4].
الثانية: إن مقتضى البناء على النظرية الأولى يستدعي الالتـزام بأنه متى صدر نفي من العصوم(ع) لوجود شيء ما حاضر عنده، كشف ذلك عن عدم وجوده أصلاً، لأن هذا هو مقتضى أنه(ع) عالم علماً مطلقاً، وهذا بخلاف ما لو بني على النظرية الثانية، فإن أقصى ما يفيد النفي هو حدود ما شاء أن يعلمه لا مطلقاً، وتظهر الآثار في اللوازم المترتبة على ذلك الإخبار، ففي قول الإمام الحسين(ع) ليلة العاشر من المحرم في شأن أصحابه وأهل بيته(ع): فإني لا أعلم أصحاباً أوفى ولا خيراً من أصحابي، ولا أهل بيت أبر ولا أوصل من أهل بيتي. فإن البناء على النظرية الأولى يستدعي الالتـزام بأن أبطال كربلاء أفضل من على الأرض مطلقاً، بخلاف ما لو بني على النظرية الثانية، فإن أقصى ما يظهر هو البناء على أنهم أفضل أهل زمانهم.
الثالثة: إن مقتضى البناء على النظرية الأولى يكون كل ما ينتخبه المعصوم(ع) ويقدم عليه هو الأفضل والأعلى رتبة ودرجة من غيره، لأن المفروض أنه يفعل ذلك عن علم وإحاطة تامة بكافة الأمور، فسكوت أمير المؤمنين(ع) عن المواجهة العسكرية مع أصحاب السقيفة تكون هي الخيار الأفضل والأصح في ذلك الوقت، وإقدام الإمام الحسن(ع) على الصلح، يكون هو الخيار الأنسب والأصح في ذلك، كما أن نهضة الإمام الحسين(ع) كذلك، وحتى تناول المعصوم(ع) الطعام المسموم يكون هو الخيار الأنسب والأفضل، وهذا بخلاف ما لو بني على النظرية الثانية، فإنه لا يجزم بكون(ع) عالماً بأفضلية ما انتخبه من الفعل إلا أن يدل دليل على ذلك.
الرابعة: ما أشار إليه بعض الأعيان(قده) وحاصله، إن مقتضى البناء على النظرية الأولى يساعد على توسعة دائرة الحجية للإمضاء للسيرة العقلائية لتشمل المسائل الحادثة في زمن الغيبة المظلمة، والتي لم تكن معاصرة لزمان الحضور، من خلال سكوت المعصوم(ع)، لأنه(ع) لو كان حاضراً وقت حدوثها وكانت منافية لتعاليم الشرع الحنيف لن يسكت عنها، بل سوف يواجهها كما واجهوا(ع) القياس في الدين، وغيره من المسائل، فما لم يردع عنها، يستكشف الإمضاء، فتكون حجة معتبرة. قال(قده): وأما الأمر الثاني، أي عدم ردعهم عن هذا الارتكاز كاشف عن رضاهم بذلك، فهو أيضاً واضح، ضرورة أن ارتكازية رجوع الجاهل في كل شيء إلى عالمه، معلومة لكل أحد، وإن الأئمة(ع) قد علموا بأن علماء الشيعة في زمان الغيبة، وحرمانهم عن الوصول إلى الإمام، لا محيص لهم من الرجوع إلى كتب الأخبار والأصول والجوامع، كما أخبروا بذلك، ولا محالة يرجع عوام الشيعة إلى علمائهم بحسب الارتكاز والبناء العقلائي المعلوم لكل أحد، فلولا ارتضاؤهم بذلك لكان عليهم الردع، إذ لا فرق بين السيرة المتصلة بزمانهم، وغيرها، مما علموا وأخبروا بوقوع الناس فيه، فإنهم أخبروا عن وقوع الغيبة الطويلة، وأن كفيل أيتام آل محمد(ص) علماؤهم، وأنه سيأتي زمان هرج ومرج، يحتاج العلماء إلى كتب أصحابهم، فأمروا بضبط الأحاديث وثبتها في الكتب[5].
نعم لو بني على النظرية الثانية، فإنه لا يمكن ترتيب الأثر المذكور كما هو واضح، لأن من المحتمل أنهم لم يشاؤوا العلم بما يكون من المسائل المتأخرة عن عصرهم ولذا لم يعلموا بها، فلا يمكن الاستناد إلى سكوتهم لإثبات حجية هذه المسائل المتأخرة عن عصرهم(ع).
الخامسة: إن مقتضى الالتـزام بالنظرية الأولى يستدعي البناء على سعة دائرة تكليفهم(ع)، وشمولها لكل العصور والأزمنة حتى المتأخرة عنهم، بحيث يجب عليهم(ع) انطلاقاً من أنهم أصحاب رسالة وحماة للشريعة، أن يشيروا لكل ما له دخالة في دورهم، فكل شيء يحصل من وجوده أو عدمه ضرر في الدين، يتعين عليهم أن يعلموا الناس به، كما هو ديدنهم في الإخبار عن بعض الأمور التي تحدث فيما يأتي بعدهم من الأزمنة مثلاً، كقول رسول الله(ص): يأتي زمان على أمتي، أمراؤهم يكونون على الجور، وعلماؤهم على الطمع، وعبادهم على الرياء، وتجارهم على أكل الربا، ونساؤهم على زينة الدنيا، وغلمانهم في التزويج، فعند ذلك كساد أمتي ككساد الأسواق، وليس فيها مستام، أمواتهم آيسون في قبورهم من خيرهم، ولا يعيشون الأخيار فيهم، فإن في ذلك الزمان الهرب خير من القيام[6].
وهذا بخلافه على النظرية الثانية، لعدم لزوم ذلك، إذ يحتمل أنهم(ع) لم يشاؤوا أن يعلموا، ولم يريدوا ذلك.
أدلة النظريتين:
وقد تمسك أصحاب كل نظرية بأدلة يثبتون من خلالها مختارهم، فاستند القائلون بالنظرية الثانية إلى مجموعة من الروايات، وهي لا تخرج عن كونها أخبار آحاد، مضافاً إلى إمكان الخدشة في أسنادها وفق بعض المباني الرجالية:
منها: ما رواه أبو الربيع الشامي، عن أبي عبد الله الصادق(ع) أنه قال: إن الإمام إذا شاء أن يعلم علم[7]. وقد روى أبو الربيع ذات الرواية عن الإمام الصادق(ع) باختلاف، هو أن الإمام(ع) إذا شاء أن يعلم أعلم[8]. والظاهر أنهما رواية واحدة وليستا روايتين، وإنما وقع الاختلاف بينهما في شيء من اللفظ نتيجة النقل بالمعنى، ومجرد وجود طريق آخر للرواية الثانية لا يعني اختلافها.
ويمكن أن تناقش الرواية الأولى سنداً على بعض المباني الرجالية بوجود سهل بن زياد، وهو مختلف فيه، والمشهور على تضعيفه، كما أن أبا الربيع الشامي، لم يوثق. كما أن الرواية الثانية وقع في طريقها بدر بن الوليد، وفي سندها أبو الربيع، وقد عرفت أنه لم يوثق.
ومنها: ما رواه أبو عبيدة المدائني، عن أبي عبد الله(ع) قال: إذا أراد الإمام أن يعلم شيئاً أعلمه الله ذلك[9]. وراوي الخبر وهو أبو عبيدة مجهول الحال، كما أن موسى بن جعفر الواقع في سندها، مردد بين ثلاثة وهم الحائري، أو البغدادي، أو الكوفي، وكلهم قد ضعفهم الشيخ(ره). نعم يحتمل قوياً أن يكون موسى بن جعفر هو البغدادي لأنه الذي يروي عنه عمران بن موسى.
ومنها: ما رواه عمار الساباطي، قال: سألت أبا عبد الله(ع)، عن الإمام يعلم الغيب؟ فقال: لا، ولكن إذا أراد أن يعلم الشيء أعلمه الله ذلك[10]. ومع أن هذه الرواية معتبرة سنداً إذ ليس في طريقها من يناقش في وثاقته على ما يبدو، إلا أن مشكلتها في راويها وهو عمار، فإنه وإن كان ثقة، إلا أن جملة من الأعلام لا يعتمد على منفرداته، لأنه ليس ضابطاً، بسبب أعجميته. نعم مع وجود شواهد موافق لما نقل، يمكن البناء على اعتبار ما نقل، والظاهر أن النصوص الثلاثة الأول تصلح أن تكون مؤيداً لما حكاه عمار، وبالتالي يصلح للدلالة على المطلوب.
ثم إنه لو بني على اعتبار النصوص المتقدمة، فإنها لا تصلح أيضاً لإثبات المدعى ذلك أنها لا تخرج عن كونها خبر آحاد، والمفروض أن قضية علم المعصوم(ع)، من العقائد الأصلية التي يعتبر فيها العلم، فلابد وأن تكون النصوص الدالة على متواترة، وإلا فلا.
كما أنه يمكن منع دلالة بعضها على المدعى، ذلك أن المقصود من قوله(ع): أعلمه الله، كما في خبر المدائني، هو الإشارة إلى أن علم المعصوم(ع) مستمد ومأخوذ من الله تعالى، وليس من عند نفسه، حتى لا يتوهم أحد أن علمهم في مقابل علم الله عز وجل. ويساعد على ذلك ما ورد عن معمر بن خلاد، قال: سأل أبا الحسن رجل من فارس، فقال له: أتعلمون الغيب؟ فقال: يبسط الله لنا العلم فنعلم، ويقبض عنا فلا نعلم[11].
وما ذكرناه في خبر المدائني، من حيث منع دلالته على المدعى، يجري أيضاً في موثقة الساباطي، على أساس أن موضوعها ليس نفي علم المعصوم(ع) بالغيب المطلق، وإنما هي بصدد رفع شبهة أن يكون علم المعصوم(ع) مستقلاً عن الله تعالى، ومن غير تعليم من الله عز وجل، فأراد التأكيد على ما تضمنه غير واحد من النصوص، من الإشارة إلى مصدر علم المعصوم، وأنه يكون بإلهام، وتحديث، وموروث من رسول الله(ص). وقد أشار لهذا المحقق الشعراني(ره) في تعليقته على شرح الملا صالح المازنداني(قده)، قال: وأما من نفي علم الغيب عن الإنسان أو عن الأئمة والأنبياء، فمراده نفي العلم ذاتاً بغير تعليم من الله تعالى، ومن أثبت، فمراده علمهم بالتعليم والإلهام. وهذا ثابت لجميع أفراد الإنسان ويختلف بحسب اختلاف النفوس كمالاً ونقصاً وقلة وكثرة ووضوحاً وإبهاماً وإجمالاً وتفصيلاً وصريحاً وتمثيلاً ويقظة ونوماً، وغير ذلك، والأئمة والأنبياء(ع) كانوا يعلمون ما يعلمون بتعليم الله تعالى إلهامه، وقال أمير المؤمنين(ع): إنما هو تعلم من ذي علم، بعد أن سأله رجل عن علمه بالغيب[12].
على أنه قد يقال بعدم وجود منافاة بين هذه النصوص وبين ما دل على أن علمه(ع) مطلق فعلي، وليس إشائي وبالقوة، لأن ثبوت علمه(ع) بالفعل لا ينافي ما تضمنته هذه النصوص من أنه متى شاء علم، على أساس أن كل العلوم موجودة ومتوفرة عنده(ع)، وفيه، فمتى شاء استحضرها، ومتى لم يشأ لم يستحضرها، نظير قوة الخيال عند الإنسان، فإن علمه بالشيء المعين موجود عنده بالفعل، فإذا أراد أن يستحضر صورة معينة من خزائنه فعل، وإن لم يرد ذلك لم يستحضر.
وعليه، لا منافاة بين أن يكون الانسان عالماً بشيء بالفعل، ومع ذلك يمكنه أن لا يتوجه إليه، ولو شاء أن يحضره من خزائنه، فهو قادر على ذلك.
ومقتضى ما ذكر ليس نفي وجود العلم المطلق الفعلي عند المعصوم(ع)، وإنما المنفي هو استحضار ما هو موجود عنده بالفعل، فلا يكون معنى هذه النصوص أن علمه بالقوة، وفرق بين الموردين.
[1] سورة الآية رقم
[2] أصول الكافي ج 1 باب أن الأئمة(ع) إذا شاؤوا أن يعلموا علموا ح 3 ص 258.
[3] أصول الكافي ج 1 باب نادر فيه ذكر الغيب ح 2 ص 256.
[4] مصباح الفقاهة ج 1 ص 583.
[5] الاجتهاد والتقليد للإمام الخميني(قده) ص 82.
[6] مستدرك الوسائل ج 11 ص 376.
[7] أصول الكافي ج 1 باب أن الأئمة(ع) إذا شاؤوا أن يعلموا علموا ح 1 ص 258.
[8] المصدر السابق ح 2.
[9] المصدر السابق ح 3.
[10] المصدر السابق باب نادر فيه ذكر الغيب ح 4 ص 257.
[11] أصول الكافي ج 1 باب نادر فيه ذكر الغيب ح 1 ص 256.
[12] شرح الكافي للملا صالح المازندراني ج 6 ص 30 حاشية رقم 1.