الهدفية في الحياة

لا تعليق
كلمات و بحوث الجمعة
451
1

يعيش كثير من الناس في هذه الحياة دون أن يكون لديهم هدف يسعون إلى تحقيقه والوصول إليهم، فتجد الفرد منهم يحيى حياته من أجل أن يأكل ويشرب وينام، من دون أن يملك هماً أو يفكر في شيء آخر، حتى أنه عندما يقوم بأداء دور من الأدوار، أو عمل من الأعمال، لا يكون ذلك منه لغاية أو هدف يسعى لتحقيقه والوصول إليه، وإنما يكون ذلك أمر إلزامي يؤديه ليحصل منه على الطعام والشراب اللذان يمثلان همه وشغله الشاغل، فهناك بعض المعلمين مثلاً لا يملكون حس رسالة التعليم، فتراه يمارس وظيفته دون أن يكون له هدف واضح يسعى لتحقيقه والوصول إليه، وكذا الموظف في وظيفته لا يعيش الهدف الذي ينبغي أن يحقق، ومثل ذلك بعض الأمهات فإنها لا تعيش هدف إعداد جيل صالح يسعى لخدمة مجتمعه، والرقي به لما هو أفضل، ويكون عنصراً في أطروحة الإعداد لإقامة دولة العدل الشامل على يدي صاحب الناحية المقدسة(روحي لتراب حافر جواده الفداء)، بل قد يكون بعض رجال الدين يعانون من هذا أيضاً، فلا يملك هدفاً يعي لتحقيقه، والوصول إليه.

وقد يبرر البعض عدو وجود أهداف واضحة وجلية عند بعض الأفراد، حتى وإن كانوا على مستوى من العلم، ويملكون شهادات عالية، بأنه لا يوجد في الشريعة الإسلامية ما يدعو لكون الإنسان صاحب هدف، فإن أقصى ما يستفاد منها التـزام المكلف بوظيفته الشرعية، وأدائه للواجبات الموجهة إليه، واجتنابه عما نُهي عنه، ولا يطلب منه أكثر من ذلك.

وهذه الدعوى في غير محلها، فإن الرجوع للشريعة السمحاء يفيد خلاف ذلك، ويؤكد على لزوم وجود هدف عند الإنسان، يعيشه، ويسعى لتحقيقه، وإلا أوجب ذلك انتفاء صفة الإيمان عنه.

الهدفية في الشريعة:

ومما يدل على اعتناء الشريعة السمحاء بلزوم وجود هدف عند كل إنسان، وأن ذلك إحدى الصفات التي يمتاز بها المؤمن على غيره، بل ذلك مما مدح الله سبحانه وتعالى المؤمنين جراء اتصافهم بها، قوله تعالى:- (والذين هم عن اللغو معرضون)[1]، ويتضح هذا المعنى من خلال الإحاطة بالمقصود باللغو في الآية الشريفة، ومن خلال الالتفات إلى سبب الإعراض.

حقيقة اللغو:

إن الحديث حول مفهوم اللغو ينبغي أن يكون من جهات متعددة، لأنه قد أشير إليه في كلمات أهل اللغة، كما أن المفسرين تحدثوا عنه، وكذلك تضمنت النصوص بياناً له، وهذا يستوجب الإحاطة بما ورد عنه في تلك الموارد، ولو بنحو الإجمال كي ما يتضح أنه في الجميع كان بمعنى واحد، أنه في كل مورد من الموارد له حقيقة مغايرة للمورد الآخر.

اللغو في اللغة:

جاء في لسان العرب: أنه السَقط، وما لا يعتد به من كلام وغيره، ولا يحصل منه على فائدة ولا نفع[2].

ولا يذهب عليك أنه لم يحصر اللغو في خصوص الكلام، ذلك أنه جعله كلاماً أو غيره، وقد ذكر أن الضابطة فيه كونه لا يعتد به، ولا يحصل منه على فائدة، ولا يكون له نفع.

وجاء في معجم مقايـيس اللغة: اللغو: يدل على الشيء، لا يعتد به.

ولم يختلف حال ما ذكره ابن فارس عما جاء في كلام ابن منظور، إذ أنهما اتفقا على أن اللغو كل ما لا يعتد به، ومن الواضح جداً أن منشأ عدم الاعتداد والاعتناء يعود لكون الصادر لا يعول عليه، ولا يعتنى به، لأنه لا قيمة له.

ولا يخفى أن الشيء إنما يفقد قيمته إذا كان عبثياً، أو كان أمراً زائداً، أو كان فضلة، فتدبر.

والحاصل، إن المستفاد من كلمات أهل اللغة، أن المقصود منه كل ما لا يعتد به، ويقع من دون روية وفكر، وعليه سوف يندرج تحت التعريف المذكور ويكون من مصاديقه العديد من الأفكار الفاسدة والرؤى المنحرفة، كالدعوة إلى الحرية المطلقة، والدعوة إلى التجديد في الدين بقول مطلق، وهكذا.

وطبقاً لما يظهر من كلمات أهل اللغة، لن ينحصر اللغو في كلام أو عمل أو موضوع خارجي، وسوف تكون له مصاديق متعددة:

منها: الكلام غير المفيد.

ومنها: كل عمل لم يترتب عليه نفع.

ومنها: كل لهو أو باطل.

ومنها: اليمين إذا وقعت من دون عقد قلب وتصميم، كما لو صدرت خطأ أو حال الغضب، أو لجاجاً، أو غيرها[3].

ومن خلال ما تقدم، يتضح أن المقصود من اللغو في كلماتهم، هو كل فعل يقدم الإنسان عليه من دون أن يكون مرتجياً منه غاية، أو لهدف يصبو لتحقيقه، وهذا يعني أن أي عمل من الأعمال يقوم بها الإنسان دون أن يكون له هدف فيها، أو منها، فإنها سوف تكون مندرجة تحت مفهوم اللغو، فكثرة الكلام التي تصدر من الأفراد في المجالس والتي لا يكون لها هدف أو فائدة ترتجى، تكون لغو، وحضور الإنسان في مكان ما من دون أن يكون له هدف منه، يصدق عليه أنه لغو، وكذا كل عمل يقوم به الإنسان من دون أن يكون محدداً له منه هدفاً، فإنه يندرج تحت عنوان اللغوية، فتدبر.

أقوال المفسرين:

ولما كان للمفسرين حديث حول اللغو، ولكلامهم مدخلية في الوصول للنتيجة التي نتوخى الوصول إليها، يلزم ملاحظة أنهم يتوافقون وما ذكره علماء اللغة، أم أن لهم رؤية أخرى تغاير الحقيقة التي أفادها اللغويون.

وكيف ما كان، فقد تعددت الأقوال التفسيرية في تحديد المقصود من اللغو، وبيان حقيقته، مع أن بعض ما ذكروه لا يعدّ تفسيرا وبياناً للحقيقة، وإنما هو عرض لبعض المصاديق أو الآثار.

وعلى أي حال، فقد ذكرت أقوال عديدة في بيانه وتعرفه: فقد قال ابن عباس أن المقصود منه الباطل.

ولا يذهب عليك أنه وفقاً لهذا المعنى سوف يكون مختصاً بكل ما يكون مرفوضاً من الناحية الشرعية، فيختص بالأمور المرتبطة بالشريعة. اللهم إلا أن يكون نظره للباطل بمعناه اللغوي والعرفي، وهو كل ما يكون مرفوضاً، فسيكون متوافقاً وما جاء في كلمات أهل اللغة، وهو غير بعيد، فتأمل.

وأختار الحسن في تفسيره أنه جميع المعاصي، وهذا واضح في كونه أخص مما ذكره أهل اللغة، ومثل ذلك ما أختاره السدي، من أن المقصود منه الكذب، وكذلك قول مقاتل بأنه الشتم، معللاً ذلك بأن كفار مكة كانوا يشتمون رسول الله(ص)، وأصحابه، فنهوا عن إجابتهم. وهناك أقوال أخرى ذكرت في الكتب التفسيرية، يمكن ملاحظتها، لمن أراد الاستزادة.

وذكر شيخنا الطبرسي(ره)، أن اللغو في الحقيقة هو كل قول أو فعل لا فائدة فيه يعتد به، فذلك قبيح محظور يجب الإعراض عنه[4].

وهو بهذا اليان يتوافق مع ما ذكره علماء اللغة في تحديد هوية اللغو، وبيان حقيقته، فتدبر.

وبالجملة، إنه لا يظهر مما ورد في كلمات المفسرين وجود حقيقة أخرى مغايرة لما عليه علماء اللغة في بيان حقيقته، نعم بعض تلك الأقوال لم تعرض لبيان الحقيقة، وإنما عمدت إلى ذكر بعض المصاديق، أو عمدت إلى ذكر بعضا لآثار المترتبة، فلاحظ.

وهذا يعني أن النتيجة في كليهما واحدة، وهي تفيد لزوم أن لا يصدر فعل من الإنسان إلا ويكون عنده هدف يرتجيه، بل يلزم أن يكون لكل إنسان في حياته اليومية في هذه الدنيا، هدف يسعى للوصول إليه.

اللغو في النصوص:

بقي أن يعرض لما تضمنته النصوص حول حقيقة اللغو، خصوصاً وأنه قد يظهر من بعضها مغايرة لما تضمنته كلمات أهل اللغة، وأقوال المفسرين، فقد ورد عن أبي عبد الله(ع) في تفسيره، أنه قال: أن يتقول الرجل عليك بالباطل، أو يأتيك بما ليس فيك، فتعرض عنه لله[5].

ومن الواضح جداً أن هذا التعريف له على لسان الإمام(ع) أضيق دائرة مما ذكره اللغويون، وعليه، هل يبنى على اختصاصه بما ذكر، وبالتالي يلتـزم بوجود حقيقة شرعية للغو، تغاير حقيقته اللغوية، أم يكون التعريف المذكور تعريفاً تقريبياً غايته بيان الحقيقة، بذكر بعض مصاديقها؟ احتمالان: أظهرهما الثاني، بقرينة النصوص الأخرى والتي تضمنت عرضاً لمصاديق أخرى غير ما تضمنه الخبر محل البحث.

كالنصوص التي تضمنت تفسيره بالغناء والملاهي[6]، ومثل ذلك ما ورد في كتاب التفسير المنسوب لعلي بن إبراهيم القمي[7]، وهو ظاهر ما روي عن الإمام الرضا(ع)، فقد ورد أن محمد بن أبي عباد وكان مشتهراً بالسماع وشرب النبيذ، قال: سألت الرضا(ع) عن السماع؟ فقال: لأهل الحجاز رأي فيه هو في حيز الباطل واللهو، أما سمعت قول الله عز وجل يقول:- (وإذا مروا باللغو مروا كراماً)[8].

منشأ الإعراض:

ولا يذهب عليك أن الموجب للإعراض عن اللغو هو ثبوت صفة الإيمان التي تستوجب أن يكون المؤمن داخلاً في دائرة نفوذ القرآن، وهذا لا يتحقق إلا بشروط، أولها: تحكيم القرآن في كافة شؤونه ومجالات حياته، وجعله ميزاناً له يميز بين الحق والباطل، وفصلاً بين الصحيح والفاسد.

وقد تحصل مما تقدم، أن المقصود من اللغو في الآية الشريفة هو العبث، وعدم الهدفية في الحياة الدنيا، وهي أن يعيش الإنسان من دون أن يكون له هدف يسعى لتحقيقه، فالمعلم يحتاج أن يكون هدفه من قيامه بوظيفة التعليم رفع الجهل من مجتمعه، وبث المعرفة في وسطه، والرقي بالمستوى الثقافي له، والطبيب يكون هدفه هو القضاء على جميع الأمراض، ورفع مستوى الوعي بين الأفراد في كيفية الحفاظ على أنفسهم من الإصابة بالأمراض، وعالم الدين، هدفه إعداد المجتمع ليبلغ مرحلة المجتمع الصالح الذي يمهد لظهور دولة العدل الإلهي المطلق، على يدي صاحب الناحية المقدسة(روحي لتراب حافر جواده الفداء)، وكذا الطالب في دراسته يكون هدفه بلوغه أعلى المستويات رفعة لسمعة بلده، والأم هدفها إنشاء أبناء صالحين يصلحون لقيادة المجتمع، وهكذا.

ومنه يتضح أنه لابد وأن يحدد كل إنسان في حياته هدفاً يسعى لتحقيقه والوصول إليه، لأن الإنسان الذي يحيى من دون هدفه تـتمنى الملائكة أنه لم يخلق، فقد ورد عن النبي الأكرم(ص) أنه قال: ما من يوم طلع فجره، ولا ليلة غاب شفقها إلا ملكان يتجاوبان بأربعة أصوات: يقول أحدهما: يا ليت هذا الخلق لم يُخلقوا، ويقول الآخر يا ليتهم إذ خُلقوا علموا لما خُلقوا، فيقول الآخر: ويا ليتهم إذ لم يعلموا لما خُلقوا، تجالسوا فتذاكروا ما علموا، فيقول الآخر: ويا ليتهم إذ لم يعملوا بما علموا تابوا مما عملوا. فإن الموجب لتمني الملائكة عدم خلق هؤلاء الخلق يعود لأن وجودهم من دون أن يكون لهم هدف يسعون لتحقيقهم، فإنهم لم يعلموا السبب الذي خلقهم الله تعالى من أجلهم، ونتيجة عدم إحاطتهم بهدف الخلقة، لم يعلموا، ومع عدم علمهم، لم يكن لهم هدف الوصول للسبب من خلال البحث والمذاكرة، وهكذا.

والحاصل، لا مناص أن يعيش الإنسان في حياته من دون أن يحدد له هدفاً يسعى لتحقيقه، خصوصاً وأن الإنسان الذي يحدد له ذلك يشعر بوجود قيمة لحياته، لأنه يعيش من أجل ذلك، وأما الإنسان الذي لا يكون له هدف في حياته، فهو كمن يعيش من دون أمل، فأنظر المريض الذي أبلغ أنه لا أمل له في الشفاء والبرء من المرض، كيف يعيش، فإن الإنسان الذي ليس له هدف في حياته، فهو يعيش من دون أمل.

أسباب فقدان الهدفية:

وعندما نود معرفة الأسباب التي تدعو الإنسان إلى اللغو، ولا تجعله يعرض عنه، ما يوجب فقدانه الهدفية، نجد عدة أمور، نشير إلى بعضها:

منها: الجهل: وهو قسمان، فقد يكون جهلاً بسيطاً، وهذا هو الموجود غالباً عند عامة الناس، الناشئ من الغفلة التي من أجلها قد خلق الباري سبحانه وتعالى الخلق، أو الغفلة عن مراقبة الله سبحانه وتعالى ووجوده.

وقد يكون الجهل جهلاً مركباً، ينشأ من اختلال الطريقة وفساد العقيدة، والعصبية والافتراء على الله تعالى[9].

وكيف ما كان، فإن مما لا ريب فيه أن الموجب لفقدان الهدفية في الحياة يعود لجهل الإنسان بأهمية ذلك، فمن لا يعرف مصلحته من الطبيعي جداً أن تختلط عليه الأمور، والأوراق خارجاً، وتلتبس عليه، وهذا يوجب أن يكون الشخص ذا معرفة حتى لا تلتبس عليه اللوابس والأمور، فلو أن الطالب الذي يذهب للمدرسة، أمتلك هدفاً تمثل في أن علمه ونجاحه سوف يكون سبباً مساعداً على رقي مجتمعه، ورفعته، لكان ذلك موجباً أن يبذل جهداً مضاعفاً في النجاح والتفوق، ولو أن الموظف علم أن ما ينجزه من عمل يعد سبباً رئيسياً في عدّ مجتمعه من المجتمعات النامية، والرائدة، فلن يتقاعس أبداً، ولن يقصر في أداء الدور المناط به على أكمل وجه، وهكذا كل فرد من الأفراد، لو علم أهمية الدور المناط به، وأحاط بقيمة وجود الهدف الذي يسعى لتحقيقه، لكانت الأمور بصورة أخرى، إلا أن جهل من ذكرنا بأهمية وجود هدف عند كل واحد منهم، توجب حصول الحالة التي نحن عليها، وتبلور الواقع الحياتي الموجود خارجاً، فلاحظ.

والحاصل، إن للجهل أثراً كبيراً جداً في عدم اعتناء الأفراد بوجود هدف، أو أهداف عندهم، لأنهم لا يعلمون ما لذلك من أهمية قصوى في التغيـير والنجاح، فلاحظ.

ومنها: الظلم: خصوصاً إذا كان ظلماً للنفس، فإن ظلم الإنسان لنفسه أحد الأسباب الموجبة لفقدانه الهدفية في حياته، فالإنسان العاصي والمرتكب للذنوب من الطبيعي أن لا يكون محيطاً بالهدف الذي من أجله قد خلقه الله سبحانه وتعالى، لأن الكثيرين يعتقدون أن الله سبحانه وتعالى لم يخلقنا من أجل هدف يسعى إليه، أو أن الهدف الذي قد خلقنا من أجله ليس واضحا عنده، مع أن المستفاد من الأدلة الشرعية أن الموجب لخلقنا أن الله تعالى أراد لنا الكمال، ولهذا خلقنا، فالله تعالى، لم يخلقنا من أجل أن ندخل النا، وإنما خلقنا سبحانه من أجل الجنة، ولهذا لو لم يظلم الإنسان نفس، وأحاط بالهدف الذي خلق من أجله وهو دخول الجنة، فمن الواضح جداً أنه لن يعصي الله تعالى، وعلى العكس تماما فقدان الهدف، وعدم وضوحه لعدم الإحاطة بدواعي الخلقة وموجباتها، أوجب أن يعيش الإنسان دون هدف يصبو للوصول إليه.

ومنها: اليأس: وهو ينتج من عدة موجبات، فقد يكون ناشئاً جراء الخوف من الفشل والدخول في التجربة، لأن مقتضى وجود هدف عند الإنسان يستدعي أن يقوم بالسعي إلى تحقيقه، إلا أن الخوف من عدم الوصول إليه، والفشل في ذلك، يولد عند الإنسان يأس من حصول الأهداف وتحقيقها.

وقد ينشأ اليأس من المعوقات الخارجية، والتي تتحكم فيها عوامل عددية، فقد يكون للوسط الاجتماعي دور، وبالذات إذا كان المجتمع يبرز عملية الاحباط غالباً، ولا يساعد على التفاؤل والرغبية في النجاح، أو تكون العامل هو البعد الإداري والطريقة التي يتم من خلالها إدارة الأمور، أو للدولة مدخلية في ذلك.

وبالجملة، قد تتحكم مجموعة معوقات في تولد اليأس عند بعض الأفراد، وبالتالي تمنع من أن يجعلوا لأنفسهم أهدافاً يصبون لتحقيقها، والوصول إليها.

ومنها: فقدان مقومات تحقق الأهداف:

ونعني بذلك أن أي موضوع من الموضوعات يحتاج إلى مقدمات يبتني ويقوم عليها، فلو لم تتوفر لن يتحقق عندها، فالتربية على سبيل المثال تحتاج إلى وجود مقومات عند المربي حتى تتحقق على أرض الواقع.

والنهوض بالبعد المعرفي وإزالة غمامة الجهل من المجتمع يلزم أن تتوفر لدى المعلم الأسس التي يحصل ذلك من خلالها، وهكذا، وهذا ما نعبر عنه بالمقومات التي يتوقف حصول الأهداف ووجودها عليها، فكل من لم يكن ممتلكاً لهذا المقومات، لا يمكن أن يكون له أهداف، فالأب الذي يفتقد الأسس الأولى لعملية التربية، من الطبيعي لن يكون له هدف إنشاء مجتمع صالح من خلال تربية أبنائه، والمعلم في مدرسته، لما كان مفتقداً لأساسيات رفع الجهل، وبث العلم، فسوف يفتقر لوجود هدف عنده، وكذا الموظف، وهكذا.

الأهداف الإنسانية:

يتفاوت عناصر البشر في أهدافهم، وتتعدد رؤاهم حيالها، فقد يكون لبعض الأفراد أهداف تربوية، ويكون لآخر أهداف سياسية، ويكون لثالث أهداف اجتماعية، وآخر قد تكون أهداف اقتصادية، ويجمع جميع هذه العناوين وغيرها الأهداف الدنيوية، ويقابلها أن تكون الأهداف التي عند الإنسان أهداف أخروية، فلاحظ.

كما أن هذه الأهداف تختلف من حيث المدة، فقد تكون للإنسان أهداف صغيرة، يمكن تحقيقها خلال ساعة أو ساعات محدودة، أو خلال يوم، أو خلال اسبوع، وقد تكون أهدافه متوسطة، وقد تكون أهدافه عليا.

فأما أهدافه الصغيرة، فهي ما يحدد الإنسان فعله في اليوم أو الأسبوع، أو الشهر. وأما الأهداف المتوسطة، فهي ما له دخل في حياته المستقبلية، كاختيار العمل، والزواج، والمنـزل، وهكذا.

وأما الأهداف العليا، فهي الغايات الأساسية التي خلق الإنسان من أجلها، ومن تلك الأهداف العليا:

التقرب إلى الله سبحانه وتعالى:

وذلك رغبة في الوصول إلى الله سبحانه وتعالى، وقد ورد في المناجاة الشعبانية: إلهي هب كمال الانقطاع إليك، وانر أبصار قلوبنا بضياء نرها إليك، وجاء في دعاء كميل: واجعلني من أحسن عبيدك نصيباً عندك، وأقربهم منـزلة منك، وأخصهم زلفة لديك.

وقد جاء في بعض وصايا النبي(ص) لأبي ذر، قال: إن استطعت أن لا تأكل ولا تشرب إلا لله فافعل.

ولا يخفى أن الوصول إلى الله تعالى، يتوقف على أن يتصف الإنسان بصفاته سبحانه وتعالى، وتحقيقه الخلافة الإلهية في الأرض، ليبلغ مرحلة الفناء في الذات المقدسة.

ومنها: التشبه بأولياء الله عز وجل:

وهذا يعني أن يكون للإنسان قدوة يسعى للوصول إلى ما سعى إليه، فهناك العديد من الشباب اليوم، قد جعلوا هدفهم أن يصلوا لما وصل إليه بعض اللاعبين، أو بعض الفنانين، حتى تجدهم يتأثرون بطريقة كلامهم، فيحاكوهم فيها، كما تراهم يقلدونهم في بعض الخصوصيات المرتبطة بهم، بينما ينبغي أن يكون الهدف هو التشبه بأولياء الله تعالى، فقد ورد عن أمير المؤمنين(ع) أنه قال: واقتدوا بهدي نبيكم فإنه أفضل الهدى واستنوا بسنته فإنها أهدى السنن. فهدف أمير المؤمنين(ع) الأعلى كان الاقتداء برسول الله(ص)، والسير على نهجه العمل بهديه، وهذا ربما برر ما ذكرته المصادر من التاريخية من تبعية الإمام علي(ع) للنبي(ص) تبع الفصيل إلى أمه، وأنه كان يحاكيه في كل ما يصدر عنه حتى في طعامه وشرابه، فقد روى عقبة بن علقمة قال: دخلت على علي(ع) فإذا بين يديه لبن قد آذتني حموضته وكسرة يابسة، فقلت: يا أمير المؤمنين أتأكل مثل هذا؟ فقال(ع): كان رسول الله(ص) يأكل أيبس من هذا، ويلبس أخشن من هذا، وأخاف إن لم آخذ به أن لا ألحق به.

ولا يذهب عليك أن التشبه بأولياء الله تعالى، يوجب أن يكون هدف الإنسان اتصافه بالصفات التي وصفهم القرآن الكريم بها، من وجود صفة أهل الإيمان، وأهل التقوى، والأبرار، والصديقين، والمجاهدين، والعلماء، وهكذا.

ومنها: الوصول إلى أعلى الدرجات:

فإن الوصول إلى أعلى الدرجات هو الهدف الذي ينبغي أن يسعى كل مؤمن لتحقيقه والوصول إليه، وقد أشير لهذا في قوله تعالى:- (والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماماً)[10]، فإن طلب جعله إماماً للمؤمنين، يشير إلى أن هدفه كان الوصول إلى أعلى الدرجات، وجاء في دعاء الافتتاح: اللهم إنا نرغب إليك في دولة كريمة تعز بها الإسلام وأهله-إلى أن قال-وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك والقادة إلى سبيلك. فقد تضمن هذا المقطع أيضاً وجود هدف عالٍ يسعى الداعي للوصول إليه، وهو كونه أحد الدعاة في دولة الحق والعدل الإلهي، وأنه من الذين يقودون المؤمنين إلى سبيل الله تعالى.

ومن المعلوم أنه لن ينحصر الوصول إلى أعلى الدرجات في عالم الدنيا، وإن كان ذلك في دولة العدل الإلهي، بل إنه يشمل عالم الآخرة، وهذا يلزم أن يكون هدف المؤمن أن يصل أيضاً إلى أعلى درجات الفردوس في يوم القيامة، فقد ورد في الدعاء: اللهم أصلح لي ديني فإنه عصمة أمري، وأصلح لي آخرتي فإنها دار مقري، وإليها من مجاورة اللئام مفري. وقد كان الإمام زين العابدين يقول عند قراءته لقوله تعالى:- (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين): اللهم ارفعني في أعلى درجات هذه الندبة، وأعني بعزم الإرادة، وهبني حسن المستعقب من نفسي.

ومن الأهداف الكاشفة عن وجود الرغبة عند الإنسان في الوصول إلى أعلى الدرجات، هدفه أن يكون مجاوراً للمصطفى، وآله الطاهرين(ع) في الفردوس الأعلى.

كيفية تحقيق الأهداف:

يبقى عندنا أن نشير في ختام البحث، إلى أن الطريق لتحقيق الأهداف يتوقف على وجود منهجية وخطة عمل يسعى من خلالها للوصول إلى ذلك، وهذا يتوقف على التالي:

أولاً: أن يكون الهدف الذي يسعى الإنسان لتحقيقه واضحاً عنده، لأنه لا يمكن للإنسان أن يسعى إلى شيء لا يعرفه، وقد ورد في الحديث: من عرف مستقره سعى إليه.

ثانياً: الاهتمام بتقديم الأولويات، وعدم المساواة بين الأشياء، فإن من الواضح أن الوقت لن يسع لتحقيق جميع الأشياء دفعة واحدة، وفي وقت احد، ما يعني أن هناك تقديماً لبعض الأمور على بعضها الآخر، وهنا يكون التقديم مبنياً على أولويات، وما يكون أكثر أهمية له التقديم على غيره.

وما ذكرناه من العمد إلى ملاحظة الأولويات، فيقدم الأهم منها على المهم، منهج عقلائي يسير عليه العقلاء في كافة شؤونهم وأمورهم، ولذا نجد أنهم يعمدون إلى جدولة ما يريدون فعله، ويجعلون الترتيب وفق ما لكل واحد من الأعمال من أهمية، وأولوية، وهذا المعنى يمكن استفادته أيضاً من بعض النصوص، فقد ورد عن أمير المؤمنين(ع) أنه قال: إن رأيك لا يتسع لكل شيء ففرغه للمهم.

[1] سورة المؤمنون الآية رقم

[2] لسان العرب

[3] التحقيق في كلمات القرآن ج 10 مادة لغو(بتصرف).

[4] مجمع البيان ج ص

[5] نور الثقلين ج 5 ص 73.

[6] المصدر السابق.

[7] المصدر السابق ص 74..

[8] المصدر السابق ص 74.

[9] مواهب الرحمن ج 5 ص 199.

[10] سورة الفرقان الآية رقم 74.

تعليقات الفيسبوك

التعليقات مغلقة