ذُكرت عدة تعاريف للإخلاص في كلمات أهل كل فن فللعرفاء تعريف له كما أن لأهل اللغة تعريفا ولأهل الإخلاص تعريفا ثالثا .
وقد يستخلص من مجموع تلك التعاريف أن الإخلاص عبارة عن تخليص الشيء من الأوساخ والقاذورات وذلك الشيء يضم العمل أو النية والقصد أو الفكر والرأي والعقيدة أو الخلق .
أقسام الإخلاص :
ينقسم الإخلاص إلى قسمين :
الأول : إخلاص الدين وإطاعة الله سبحانه وتعالى : وقد أشار له في كتابه المجيد فقال عز من قائل ) ليعبدوا الله مخلصين له الدين ( [1]. وهذا القسم من مبادئ درجات الإيمان ومن اللازم على كل أحد تحصيله وتكون العبادة بدونه فاسدة وهو أحد مقدمات الوصول إلى القسم الثاني .
الثاني : إخلاص نفسه له :
وقد أشار له سبحانه في قوله ) إلا عباد الله المخلصين ([2] وقال أيضاً في سورة
يوسف ) كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين(.وفي سورة أخرى ) فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين ([3].
والدقة في آيات الكتاب المجيد تكشف عن وجود فارق بين القسمين كما ذكرنا حيث أن كلمة مخلص ” بكسر اللام ” وهي صيغة الفاعل تستعمل في مراحل تكامل الإنسان الأولى
وفي فترة بناء شخصيته كقوله تعالى ) فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين ([4].
أما كلمة مخلص ” بفتح اللام ” وهي صيغة المفعول فإنها تستعمل في المراحل العالية التي تحصل بعد مدة مديدة من جهاد النفس تلك المرحلة التي ييأس فيها الشيطان من نفوذ وسوسته إلى داخل الإنسان .
وبعبارة جامعة تكون النفس الإنسانية مؤمنا عليها ومحاطة بالعناية الإلهية قال تعالى ) قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين ([5] . فكأن إبليس بعد ما أقسم تنبه إلى حقيقة وهي أن هناك مجموعة من عباد الله مخلَصِين لا يمكن كسبهم بأي طريقة وإدخالهم تحت سيطرته فأعترف بعجزه في كسبهم وما ذلك إلا لأن الله أخلصهم له وجعلهم في منطقة أمنه .
وبالجملة لا ينال مقام المخلصين إلا من انتصر في الجهاد الأكبر وشمله اللطف الإلهي بإزالة كل شيء غير خالص من وجوده فلا تبقى فيه سوى النفس الطاهرة الخالصة .
ويعتبر هذا القسم من الإخلاص درجة الإسلام والإيمان وكما ذكرنا إنما يناله المؤيد من عند الله المشمول بالألطاف الربانية والموحد الحقيقي . وما لم يصل السالك إلى الله هذا العالم لا يتخلص من تراب الشرك قال تعالى ) وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون ([6].
أقسام إخلاص النفس :
وينقسم هذا القسم من الإخلاص إلى قسمين :
أولهما : الإخلاص التكويني الذاتي الذي يحصل في عالم التكوين والخلق الخالص الطاهر .
وهذا القسم خارج عن مرحلة الإختيار ولا يقع متعلقا لأمر أو نهي أو تكليف أبدا ويختص هذا القسم بالأنبياء والأوصياء والأولياء وعباد الله المخلصين . فإن هؤلاء خلقوا منذ اليوم الأول بفطرة خالصة طاهرة متنورة وهم معصومون من هذه الناحية .
ثانيهما : الإخلاص الحاصل نتيجة إخلاص العمل والنية والخلق والعقيدة . وهذا متعلق بالتكليف ويجب على كل شخص العزم على إخلاص وجوده بالمقدمات المعهودة وإنهاء مراحل الإخلاص .
الآثار المترتبة على هذا الإخلاص :
وقد أعطى الله سبحانه وتعالى لصاحب هذه الدرجة العالية من الإخلاص مناصب رفيعة وهي ثلاثة أمور ثابتة بنص الكتاب المجيد .
الأول : الإعفاء عن حساب المحشر الأفاقي والحضور في تلك الساحة . قال تعالى ) فإنهم لمحضرون إلا عباد الله المخلصين ([7].
فإن هذا المقطع من الآيات ينفي حضور المخلصين في محكمة العدل الإلهي والسر في عدم حضورهم لكونهم قد أدوا حسابهم بعبورهم القيامة العظمى الأنفسية فلا يحتاجون محاسبة أخرى.
الثاني : إن الثواب المعطى لكل شخص يكون في مقابل عمله وفعله فلا يزيد عليه إلا أن عباد الله المخلصين يعطون فوق ثواب أعمالهم فإن الكرامة والألطاف بهم هي وراء شكل أعمالهم قال تعالى )وما تجزون إلا ما كنتم تعملون إلا عباد الله المخلصين ([8]. فهذه الطائفة لا تحاسب على أعمالها وإنما يعاملها الله سبحانه وتعالى بفضله وكرمه ويمنحها الثواب بغير حساب .
قال العلامة الطباطبائي في تفسيره القيم :
.. ومن المعلوم أن من كانت هذه صفته كان التذاذه وتنعمه غير ما يلتذ ويتنعم غيره وارتزاقه بغير ما يرتزق به سواه وإن شاركهم في ضروريات المأكل والمشرب ومن هنا يتأيد أن المراد بقوله ) أولئك لهم رزق معلوم ( الإشارة إلى أن رزقهم في الجنة وهم عباد مخلصون رزق خاص لا يشبه رزق غيرهم ولا يختلط بما يتمتع به من دونهم وإن اشتركا في الإسم [9].
الثالث : القرب من الذات المقدسة :
وإنما يبلغونها دون غيرهم لقيامهم بالثناء الإلهي بما يليق بالذات المقدسة قال تعالى ) سبحان الله عما يصفون إلا عباد الله المخلصين ([10].
ووصفهم له بذلك عن علم ومعرفة ودراية . ولمعرفة الوصف اللائق بالذات المقدسة لا بد من مراجعة من عرفه .
يقول أمير المؤمنين u : لا تناله الأوهام فتقدره ولا تتوهمه الفطن فتصوره ولا تدركه الحواس فتحسه ولا تلمسه الأيدي فتمسه ولا يتغير بحال ولا يتبدل في الأحوال ولا تبتليه الليالي والأيام ولا يغيره الضياء والظلام ولا يوصف بشيء من الأجزاء ولا بالجوارح والأعضاء ولا بعرض من الأعراض ولا بالغيرية والأبعاض ولا يقال له حـد ولا نهاية ولا غاية [11].
وجاء في الصحيفة الملكوتية لسيد الساجدين u : الحمد لله الأول بلا أول كان قبله والآخر بلا آخر يكون بعده قصرت عن رؤيته أبصار الناظرين وعجزت عن نعته أوهام الواصفين12.
وإنما يتحصل على هذه المقامات الثلاثة بسبب حصول حقيقة الإخلاص لأن السالك إذا خلص أعماله وأفكاره وقلبه ونفسه من كل أنواع الرذائل وأخلصها لله سبحانه وتعالى وانتهى إلى مرحلة الفناء والبقاء بالله ولم يقصد غيره في كل مجريات الأمور والحياة تكون أعماله محاسبة فلا يحتاج إلى محاسبة ثانية .
كما أن العاشق لا يعير اهتماما للمقدار الذي يقدمه له معشوقه لأنه يرى كل عمل يعمله له فهكذا السالك العاشق لا يهتم ابدا بالثواب والجزاء على عباداته وطاعاته بل كل أعماله لله وفي سبيله وما يحصل عليه من جزاء وأجر إنما هو بصفة لطف وكرم وفضل ورحمة لأن الهدايا على مقدار مهديها .
وثناء المخلصين البالغين عالم الملكوت والقدس من أثر تنور الباطن وصفاء القلب الناتج عن طي مراحل السلوك وإخلاص النفس فيكون الثناء والذكر الصادر منهم قائما على أساس المعرفة .
نيل مرتبة الخلوص :
والوصول لهذه الصفة وبلوغها والكينونة في هذا العالم تحتاج إلى إيجاد أمر مهم جدا وهو القتل في سبيل الله فما دام العبد لم يقتل في سبيل الله لا يدخل عوالم الإخلاص لله ومرادنا من القتل عبارة عن قطع الروح عن البدن كما أن الموت عبارة عن انقطاعها وهناك فردان لقطع هذه العلاقة :
الأول : قطعها بالسيف الظاهر .
الثاني : قطعها وقتلها بالسيف الباطن .
إن الجهاد هو حرب العدو ومكافحته ولما كانت نفس الإنسان أكبر وأنفذ وأقوى أعدائه كان جهادها أكبر مجاهدة وقد قيل : أعدى عدوك نفسك . فقتل النفس بالقوة الإلهية المعنوية أكبر وافضل من قتل العدو الظاهري .
اللهم اجعلنا من عبادك المخلصين بحق محمد وآله الطيبين الطاهرين صلواتك عليهم أجمعين والحمد لله رب العالمين .
—————————————————–
[1] سورة البينة الآية رقم 5.
[2] سورة يوسف الآية رقم 24.
[3] سورة ص الآية رقم 83.
[4] سورة العنكبوت الآية رقم 65.
[5] سورة ص الآية رقم 83.
[6] سورة يوسف الآية رقم 106
[7] سورة الصافات الآية رقم 127.
[8] سورة الصافات الآية رقم 40.
[9] الميزان في تفسير القرآن ج 17 ص 137.
[10] سورة الصافات الآية رقم 160.
[11] نهج البلاغة الخطبة رقم 186.
12 الصحيفة السجادية ، الدعاء الأول .