المناهج التفسيرية
يعتبر القرآن الكريم معجزة النبي الأكرم محمد(ص) الخالدة، وهو دستور حياة للبشرية جمعاء، وحتى يتسنى للناس العمل بما تضمنه من تعاليم وتوجيهات، لابد وأن يحيط الإنسان بتلك التعاليم ويعرفها، وطريق ذلك هو فهم آياته المباركة، وآياته الشريفة متفاوتة من حيث الوضوح، فإن بعضها لا تحتاج بياناً ولا إيضاحاً، وبعضها يحتاج ذلك، وطريق الإحاطة بالآيات التي تحتاج بياناً وإيضاحاً هو الإحاطة بتفسير القرآن الكريم، وهذا يكشف عن مدى الحاجة لهذا العمل وأهميته، بل ضروريته.
الحاجة إلى تفسير القرآن الكريم:
التفسير بحسب كلمات أهل اللغة يعني الإسفار، والإفصاح والإظهار، وأما عند أهل الاصطلاح، فقد ذكرت له معاني متعددة، من أحسنها أنه: تبيـين دلالات الآيات القرآنية على مراد الله تعالى. وإن شئت فقل، التفسير: هو إزالة الخفاء عن دلالة الآية على المعنى المقصود.
وقد دل القرآن الكريم على حاجته إلى التفسير والتبيـين، إذ يقول تعالى:- (وأنزلنا إليك الذكر لتبيـين للناس ما نزل إليهم)، فإن قوله سبحانه:- (لتبيـن)، إشارة إلى أن القرآن الكريم يحتاج تبيـيناً بعد قراءة النبي(ص) إياه على الأمة.
ولو لم نقل بحاجة جميع آيات القرآن الكريم لذلك، فلا أقل من حاجة جملة من آياته المباركة إلى عملية الإيضاح والتفسير، وهذا يكشف عن الحاجة لهذا العلم، بل وضرورته.
ويكون التفسير للقرآن الكريم إما من خلال القرآن نفسه، بحيث تكون الآية المباركة مفسرة لآية أخرى، أو يكون من خلال السنة الشريفة، وهي كل ما صدر عن المعصوم(ع)، من قول أو فعل أو امضاء وإقرار.
ويدل على حاجة القرآن الكريم للتبيـين أمور:
الأول: اعتبار سبب نزول الآية القرآنية قرينة حالية يعتمد عليها المتكلم في إلقاء كلامه بحيث لو رفعنا اليد عنه، واقتصرنا على الآية الشريفة فقط، فسوف تكون الآية حينئذٍ مجملة، ويمكن تقريب ذلك بمثال: قال تعالى:- (وعلى الثلاثة الذي خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم)، فإن المستفاد من الآية حكايتها عن أشخاص تخلفوا عن الجهاد، فضاقت الأرض عليهم بما رحبت. لكن تبقى التساؤلات التالية: من هم هؤلاء الثلاثة؟، ولماذا تخلفوا عن الجهاد، ولأي سبب ضاقت الأرض والأنفس عليهم، وما هو المراد من هذا الضيق، ثم ماذا حدث حتى انقلبوا وظنوا أنه لا ملجأ من الله إلا إليه سبحانه؟ وغير ذلك من الأسئلة.
ومن الواضح جداً أنه ما لم يتم الإحاطة بإجابات الأسئلة المذكورة، فإنه سوف تبقى الآية الشريفة مجملة، ولن يمكن الاستفادة منها، لعدم الدراية بأي شيء مما يرتبط بها، وإنما سوف يكون الحاصل مجرد فهم للألفاظ والمفردات، وهذا ما يوجب الحاجة إلى علم التفسير.
الثاني: لا يختلف اثنان في اشتمال القرآن الكريم على مجموعة من المفاهيم المجملة كمفهوم الصلاة، والصوم والحج، والخمس، وغير ذلك، والطريق إلى شرح هذه المفاهيم وبيان المقصود منها هو السنة الشريفة، فلابد من الرجوع إليها لتفسير هذه المجملات، وبيان المقصود منها.
الثالث: لقد نص القرآن الكريم على أن من ضمن آياته متشابهات لم يتضح المراد منها في بدء النظر، قال تعالى:- (منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات)، بل قد يكون المتبادر منها في بدء الأمر غير ما أراد الله تعالى، وإنما يعلم المراد منها بإرجاعها إلى المحكمات حتى تفسر بها.
إن قلت: إن حاجة القرآن الكريم للتفسير تنافي قوله تعالى:- (ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر)، فإن توصيف القرآن الكريم باليسر وبأنه لسان عربي، يكشفان عن عدم حاجته إلى الإيضاح والتبيـين.
قلت: ينتفي الإشكال المذكور حال الإحاطة بالمقصود من توصيف القرآن الكريم باليسر، فإن الإشكال إنما يرد لو كان المقصود منه عبارة عن الوضوح للمراد وسهولة الفهم لكل آياته الشريفة، مع أن الأمر ليس كذلك، فإن المقصود من كونه يسيراً بمعنى خلوه من كل تعقيد، بخلاف ما كان يجده العرب في كلمات الكهنة والتي كانت مركبة من السجع والكلمات الغريبة، أضف إلى ذلك أن القرآن الكريم خالٍ من الأحاجي والألغاز[1].
المناهج التفسيرية:
وبعد الإحاطة بحقيقة التفسير، ومدى الحاجة إليه، ينصرف البحث للحديث حول المناهج التفسيرية الموجودة تفسيراً للكتاب العزيز، فإن المراجع يجد مناهج متعددة في هذا المجال.
ونقصد بالمنهج في تفسير القرآن الكريم، الطريقة التي يتبعها كل من يتصدى لعملية التفسير، والأدوات والوسائل التي يستعملها للوصول إلى نتيجة في كشف الستر عن وجه الآيات الشريفة، وأنه يعتمد مثلاً على العقل أداة للتفسير، أو يعتمد على النقل للوصول إلى ذلك.
وحتى النقل ليس منهجاً واحداً، فإنه قد يتخذ النقل منهجاً ويعمد إلى تفسير القرآن الكريم من خلال القرآن الكريم نفسه، فيفسر الآية بآية أخرى، أو أن يعول في عملية التفسير بالنقل على السنة الشريفة، فيجعلها المحور في تفسير القرآن الكريم، أو سوف يعول على كليهما، فلا يقتصر في تفسيره للقرآن الكريم على خصوص القرآن فقط، أو خصوص السنة، ما يعني المحورية للأمرين معاً على نحو العرض، فيمكن الاعتماد على أي منهما شاء[2].
وكيف ما كان، فهناك مناهج متعددة في تفسير القرآن الكريم، نشير لبعضها: المنهج الروائي، ومنهج التفسير العقلي، ومنهج التفسير العلمي التجريبي، ومنهج تفسير القرآن بالقرآن، ومنهج التفسير الجامع.
وقد يعدّ واحداً من مناهج التفسير للقرآن الكريم منهج تفسير القرآن بالرأي، وإنما يصح عدّه منهجاً لو كان الحديث عن مطلق البيان للآيات الشريفة.
المنهج الروائي:
ويعبر عنه أيضاً بالتفسير بالمأثور، وهو الذي يعتمد على تفسير القرآن الكريم بالنصوص الواردة عن المعصومين(ع)، ويعتبر هذا المنهج من التفاسير القديمة، بل ربما كان هو الحاكم طيلة الثلاثة قرون الأولى من الهجرة النبوية.
وقد وقع الاختلاف في اعتبار هذا المنهج تفسيراً اصطلاحياً أم هو مجرد شعبة من شعب الحديث، فكما أن هناك روايات فقهية، وروايات عقدية، وروايات أخلاقية، هناك روايات تفسيرية أيضاً.
وعلى أي حال، يعاني هذا المنهج من محدودية النصوص الواردة للتفسير، فإن الواصل لا يكفي حتى لتفسير نصف القرآن الكريم، هذا مع غض النظر عن ملاحظة أسناد هذه النصوص، وكيفية اعتبارها.
المنهج العقلي الاجتهادي:
وهو الذي يعتمد فيه المفسر على الأدلة والقواعد العقلية أكثر مما يعتمد على الأدلة النقلية. ومع ما في هذا المنهج من جهة إبداع وقوة علمية، إلا أنه محفوف بالمخاطر، بتفسير الآية بخلاف المقصود منها، ولهذا كثيراً ما يستخدمه من يريد تلبية أغراضه وأهدافه، فيعمد إلى لي الآية الشريفة ليحملها على ما يناسب هواه ورغبته.
المنهج العلمي التجريبي:
وهو الذي يسعى إلى إثبات القضايا من خلال التجربة والمشاهدة والحس، ولهذا لم يعدّ للقضايا الغيبية موضعاً للبحث عندهم، لأنها ليست قابلة للتجربة والمشاهدة.
ويعمد أصحاب هذا المنهج إلى حمل النظريات العلمية على القرآن الكريم، وقد أثبتت الأيام بطلانها جملة منها، وهنا تكمن الخطورة في هذا المنهج.
ومن أهم الكتب التفسيرية التي عرفت باتباع هذا المنهج كتاب الجواهر في تفسير القرآن للشيخ الطنطاوي، أحد علماء الأزهر.
منهج تفسير القرآن بالقرآن:
وهو أول وأقدم وأهم المناهج التفسيرية[3] وأرفعها شأناً، والمقصود منه أن تكون النصوص القرآنية يفسر بعضها بعضاً، ويمكن تقريب ذلك بمثال:
قال تعالى:- (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن)، فقد دلت الآية المباركة على نزول القرآن الكريم في شهر رمضان المبارك، ولكن يأتي سؤال: هل أن نزول القرآن الكريم في شهر رمضان المبارك، كان نزولاً دفعياً، بحيث نزل مرة واحدة، أو أن نزوله كان نزولاً تدريجياً، فنـزل القرآن على دفعات طيلة ليالي شهر رمضان، ولم يكن نزوله مرة واحدة؟ ويجاب عن ذلك من خلال قوله تعالى:- (إنا أنزلناه في ليلة مباركة)، فتدل الآية الكريمة على أن نزول القرآن الكريم كان في ليلة واحدة، ولم يكن متدرجاً في ليالي متعددة.
ومجرد تحديد كيفية نزول القرآن الكريم، وأنه في ليلة واحدة، لا يقطع السؤال، إذ يأتي سؤال آخر عندها، وهو: ما هي تلك الليلة التي نزل القرآن الكريم فيها، فهل كانت ليلة في بداية الشهر الكريم، أم كانت ليلة في منتصفه، أم كانت ليلة في آخره؟ ويجاب عن ذلك من خلال نص قرآني ثالث، حيث يقول الحق سبحانه:- (إنا أنزلناه في ليلة القدر)، فتبين هذه الآية هوية الليلة التي نزل القرآن الكريم فيها، وهي ليلة القدر من شهر رمضان المبارك. ويتحصل من خلال ضم الآيات الثلاث لبعضها البعض، رفع الغموض الموجود في الآية الأولى من خلال ضم الآيتين الثانية والثالثة في المثال، ليتضح عندها كيفية نزول القرآن الكريم في شهر رمضان المبارك، وتحديد زمان نزوله.
وقد اعتمد هذا المنهج في العملية التفسيرية للقرآن الكريم، علماء الفريقين، فمن علماء الطائفة المحقة، يبرز: الشيخ الطوسي، والشيخ الطبرسي، وبعض الأعاظم(ره)، وهو منسوب أيضاً لبعض أعلام التفسير(ره)[4]، وإن كان في النسبة تأمل كما سوف يتضح إن شاء الله تعالى. ومن علماء المسلمين، يبرز كل من الطبري، والفخر الرازاي، وغيرهما.
التفسير بالجامع:
وهو الذي يعتمد فيه أصحابه لتفسير القرآن الكريم على الآيات الشريفة، وعلى الروايات الواردة عن المعصومين(ع)، بحيث لا يمكن الاقتصار في العملية التفسيرية على خصوص الآيات القرآنية فقط، بل لابد من ملاحظة النصوص المعصومية. نعم يبقى الكلام في كيفية هذه الملاحظة، فهل تكون على نحو المدارية، بحيث يكون الأصل في التفسير هو ملاحظة الآيات القرآنية الكريمة، وتكون السنة بمثابة المحيط والملاحظ والحافظ للعملية التفسيرية، فلا تمثل عنصراً أساساً، كما هو مسلك بعض أعلام التفسير(ره)، في تفسيره[5]، أم أن المقام مقام استقلالية، بحيث تكون الرواية التفسيرية في عرض القرآن، فكما يمكن أن يفسر بالقرآن، فإنه يمكن الاستناد للرواية، فيعمد لكليهما، ويكون كل منهما عاملاً للتفسير، كما يظهر ذلك من تفسير بعض الأساتذة(حفظه الله)[6]، احتمالان في المقام، وهذا يعتمد بصورة أساس على منزلة الرواية في العملية التفسيرية، وهذا ما سوف نشير إليه في ما يأتي إن شاء الله[7].
[1] المناهج التفسيرية ص 11-15(بتصرف).
[2] المصدر السابق ص 73.
[3] قد تقدم منا توصيف المنهج الروائي، بأنه من المناهج التفسيرية القديمة، ولا يعني ذلك أسبقيته على منهج تفسير القرآن بالقرآن، بل الظاهر أسبقية هذا المنهج على المنهج الروائي من حيث التعاطي والتعامل.
[4] نقصد بذلك السيد العلامة الطباطبائي(ره) في تفسيره القيم الميزان، فإن له(ره) منهجاً مختلفاً، سوف نشير إليه حين عرض منهج التفسير الجامع.
[5] نقصد بذلك السيد العلامة الطباطبائي(قده) في تفسيره القيم الميزان.
[6] ربما يقف القارئ على وجود هذا المنهج بهذه الكيفية في كلمات الأستاذ المرجع الديني الكبير الشيخ مكارم الشيرازي(حفظه الله) في تفسيره الرائع الأمثل في تفسير القرآن المنزل.
[7] المناهج التفسيرية ص 73-158، حاكمية القرآن ص 163-188(بتصرف).