(دراسة في شرح و تبسيط المصطلحات الفقهية )
1- مدخل:
لقد جاء النبي(ص) بشريعة متكاملة، هدفها سعادة البشرية من خلال تنظيم حياة الفرد والمجتمع وفق مجموعة من القوانين والنظم.
وقد اشتملت الشريعة المطهرة على جميع الأحكام المتعلقة بالمكلف في كافة أمور حياته، ووزعتها على أحكام خمسة هي:
الواجب: وهو ما يجب فعله ويترتب على تركه العقاب.
الحرام: وهو ما يجب تركه ويعاقب المكلف على فعله.
المستحب: وهو ما يحسن فعله ولا يعاقب على تركه.
المكروه: وهو ما يحسن تركه، لكنه لا يعاقب إذا فعله.
المباح: وهو ما يتساوى فعله وتركه، بمعنى أنهما يكونا على درجة واحدة في الأهمية، فلا يثاب المكلف على فعله، ولا يعاقب على تركه.
فإذا وصل المكلف سن التكليف، وكان مستجمعاً لشروط التكليف الأخرى من القدرة والعقل، لزمه التعرف على هذه الأحكام، والعمل على طبقها.
تعريف الشريعة:
ويمكننا أن نعرف الشريعة: بأنها كل حكم أخذ من القرآن الكريم، أو من الأحاديث المروية عن النبي(ص)، أو أهل بيته الطاهرين(ع)، أو أخذ مما ثبت جواز الاعتماد عليه في استنباط الأحكام من الأصول والقواعد الفقهية.
طرق معرفة الشريعة:
تنقسم الأحكام الشرعية من جهة العلم بها والتعرف عليها إلى قسمين:
الأول: الأحكام الضرورية: وهي المعروفة باليقينية لدى المسلمين كافة، بنحو لا يحتاج العلم بها إلى بذل الجهد والنظر والإطلاع واستخدام القواعد والأصول، وذلك مثل: وجوب الصلاة والزكاة والصوم والحج وغيرها، أو مثل: حرمة الزنا والقتل والغيـبة ونحوها.
الثاني: سائر الأحكام الشرعية الأخرى: وهي التي تحتاج لبذل الجهد في معرفتها، من خلال استخدام العلوم والقواعد التي تيسر للمسلم الوصول إلى تحديد نوع أحكامها، وذلك من قبيل الأحكام التفصيلية لعموم العبادات والمعاملات.
ثم إن المكلف بالشريعة المطهرة، لابد له من سلوك أحد طرق ثلاثة:
1-الاجتهاد.
2-الاحتياط.
3-التقليد.
من أجل تحقيق طاعة الله سبحانه، والخروج عن عهدة التكليف.
ثم إن الحديث عن كل واحد من هذه الأمور الثلاثة، يحتاج بسطاً في القول، لا يسعه هذا المختصر، لكن يمكن للقارئ المراجعة للكتب الفقهية المطولة.
نعم نحن من باب ما لا يسقط الميسور بالمعسور، نـتحدث عن كل واحد منها بنحو موجز، بما يدخل في صميم حديثنا.
الاجتهاد:
وهو عبارة عن بذل الجهد في معرفة الأحكام الشرعية والإحاطة بها، من خلال أدلتها المقررة.
وهو يحتاج إلى مرتبة عالية من العلم، والتفرغ لطلبه واكتسابه، إذ القادرون عليه قليلون، وهذا يستوجب لجوء عامة الناس غير القادرين عليه، إلى أحد الطريقين الآخرين.
الاحتياط:
لا يخفى أنه قد وقع الاختلاف بين المجتهدين في تحديد العديد من الأحكام الشرعية، وذلك بسبب ما طرأ على تفسير القرآن الكريم ورواية أحاديث النبي(ص) وأهل بيته الطاهرين(ع)، من عوامل أدت إلى ضياع بعض النصوص أو غموضها، أو وضع بعض الأحاديث كذباً، أو غير ذلك.
فقَبِل الإسلام هذا الاختلاف، واعتبر رأي كل مجتهد حجة يمكن للمكلفين العمل به والسير على طبقه ضمن شروط.
لكنه حرصاً على إصابة الحكم المطلوب واقعاً، قد حثّ كلاً من المجتهد والمقلد على العمل بما اصطلح عليه بالاحتياط عند اختلاف الرأي.
والاحتياط : هو الحرص على الأخذ بالرأي الجامع بين الآراء المختلفة، وذلك كمن يجمع في صلاته بين القصر والتمام عند اختلاف المجتهدين، في تحديد المسافة الشرعية التي توجب القصر، إذ يفتي أحدهما بالقصر بينما يفتي الآخر بالتمام.
أو التـزام جانب الترك، عند إفتاء أحد المجتهدين بالإباحة، والآخر بالحرمة، كما في التدخين الابتدائي، إذ يفتي أحد المجتهدين بإباحة شرب التدخين للمبتدئين، بينما نجد فقيهاً آخر يفتي بحرمة شرب التدخين للمبتدئين.
أو التـزام جانب العمل، عند إفتاء أحد المجتهدين باللزوم، والآخر بالإباحة، كما في لزوم الحلق بالنسبة لمن يحج لأول مرة، حجة الإسلام، فهناك من يقول بأنه مخير بين الحلق والتقصير، بمعنى أن الحلق له جائز، بينما نجد فقيهاً آخر يقول بلزوم الحلق عليه.
لكن العمل بالاحتياط يحتاج إلى اطلاع واسع على الأحكام الشرعية وإحاطة ببعض الأمور الدقيقة، مما يجعل الاحتياط على غير الخبير صعباً، بل قد يوقعه في ما ينافي الاحتياط، مثلاً:
إذا اختار المكلف في الركعتين الأخيرتين من الصلاة ما ينافي الإتيان بالتسبيحات الأربع ثلاث مرات، من باب الاحتياط بدل قولها مرة واحدة، فإنه قد يضيق معه الوقت بنحو يستوجب العملُ بالاحتياط وقوعَ جزء من الصلاة خارج الوقت.
فالعمل بالاحتياط هنا ينافي الاحتياط كما هو واضح، ولذا وظيفته حينئذٍ هنا في ترك الاحتياط واللجوء إلى أحد الطريقين الآخرين.
التقليد:
وعندما لا يكون المكلف مجتهداً ولا محتاطاً يجب عليه الركون إلى الطريق الثالث وهو التقليد، فيقلد مجتهداً جامعاً للشرائط.
وللفقهاء أعلى الله مقامهم كلمات مخـتلفة في تعريف التقليد، يمكن مراجعتها في الكتب الفقهية المطولة.
ويخـتص التقليد بالفتاوى المتعلقة بالأحكام، فللمكلف أن يخالف مرجعه فيما يراه من الموضوعات، فمثلاً يُلزم المكلف بتقليد المرجع في حكمه بحرمة الخمر ونجاسته، لكن لا يُلزم بالاعتقاد بأن السائل الموجود في هذه القنينة خمر، أو لا.
ولذا لو اعتبره المرجع خمراً ولم يعتبره المكلف كذلك، لم يكن المكلف ملزماً برأي المرجع في كونه خمراً وجاز له شربه.
نعم يستـثنى من ذلك الموضوعات المستنبطة، كالصلاة والصوم والوطن والمعدن والغناء، ونحوها، فإنه يجوز فيها التقليد، لأن لها آثاراً شرعية ابتلائية، يعجز المكلف العادي عن الاحتجاج بها.
وعليه تبقى الموضوعات العرفية كإطلاق الماء وإضافته، أو خمرية هذا السائل الموجود في القنينة، ليست مورداً للتقليد، لعدم الأثر الشرعي للتقليد فيها.
طرق تحصيل الفتوى:
ثم بعدما اعتمد المكلف طريق التقليد، فإن عليه أن يلتـزم بفتاوى من يقلد، ويمكنه الحصول عليها من خلال أحد طرق ثلاثة:
1-أن يسمع حكم المسألة من المجتهد نفسه.
2-أن يخبره بفتوى المجتهد عادلان، أو شخص يثق بنقله.
3-أن يرجع إلى الرسالة العملية التي فيها فتوى المجتهد، ويطمئن بصحتها.
الرسالة العملية:
الرسالة العملية هي التعبير السائد عن الكتاب الذي يشتمل على فتاوى مرجع التقليد، ويغلب عليها الطابع العملي، لا العلمي، لأن المطلوب الأساس فيها هو وقوف المقلدين على فتاوى مقلديهم للعمل بها، ولتكيـيف حياتهم وفقاً للأحكام الشرعية المتلقاة عن طريق الفقهاء.
وقد ابتدأ تأليف الرسائل العملية من قبل الفقهاء منذ بدايات عصر الغيـبة الكبرى، فألف العديد من علمائنا في ذلك الوقت كتباً فقهية تحوي آرائهم وفتاوهم، حيث كانوا المرجع للأمة بعد غيـبة المعصوم(ع).
فكتب الشيخ الكليني كتابه الكافي، الذي يمكن عده الرسالة العملية التي كانت في عصره لمقلديه.
وكتب ابن الجنيد الفقه الأحمدي، وكان يمثل رسالته العملية، كما كتب ابن أبي عقيل المستمسك بحبل آل الرسول، وقد كان الحاج إذا قدم المدينة يطلبه، وهذا يشير إلى عملهم به كفتاوى فقهية، وكتب أيضاً والد الشيخ الصدوق رسالته إلى ولده.
ولما وصلت النوبة لشيخنا الصدوق(قده) كتب كتابه من لا يحضره الفقيه، على غرار كتاب من لا يحضره الطبيب، وجعل كل ما جاء فيه حجة بينه وبين ربه.
وبعد ذلك كتب شيخنا المفيد، ومن بعده تلميذه المرتضى، وتلميذه شيخ الطائفة.
حتى تبلورت الرسالة العملية بشكل متكامل تقريـباً في عصر المحقق الحلي(ره) حينما كتب موسوعته الفقهية الكبرى شرائع الإسلام، التي كانت محط نظر العديد من فقهائنا، وإلى يومنا هذا.
ومن بعده كتب تلميذه الجليل العلامة الحلي(ره)عدة رسائل عملية، أشهرها تبصرة المتعلمين.
وكتب بعد ذلك الشهيد الأول(قده) أيضاً، كتاب اللمعة، كرسالة عملية، ومثلها كان البيان أيضاً.
ومضت الأيام، حتى وصلت النوبة لفقيه الطائفة، السيد محمد كاظم اليزدي(قده) صاحب كتاب العروة الوثقى، فكتب كتابه القيم، الذي صار محط أنظار الفقهاء من بعده وإلى يومنا هذا، بل عليه المعتمد من قبل العديد من الفقهاء في كتابة رسائلهم العملية في باب العبادات، لكنه للأسف لم يكتب لهذا الكتاب الإكمال، حيث أن السيد(ره)لم يوفق لإكماله.
وعلى أيٍ من بعد السيد اليزدي، تقريـباً صار كل فقيه يكتب رسالة عملية مستقلة، فكتب السيد أبو الحسن الأصفهاني(قده)رسالته العملية المعروفة، بوسيلة النجاة، كما كتب السيد محسن الحكيم(ره) رسالته المعروفة بمنهاج الصالحين.
وصار هذان الكتابان، من بعد رحيل مؤلفيهما محط النظر للفقهاء المتأخرين عنهما، فصار كل فقيه يعلق على أحدهما بما يتوافق مع رأيه، مع شيء من التغيـير والتبديل في الجملة.
لكن الكتابين احتفاظهما بلغتهما التي كتبا بها في عهد مؤلفيهما، كما بقيا يشتملان على تلك العبائر المتداولة في ذلك الوقت، فلم يقم أحد بتغيـير شيء مما جاء فيهما، كما هو الحال أيضاً بالنسبة للعروة الوثقى، إلا الشيء اليسير.
هذا ولا زالت الرسالة العملية هي الطريقة الشائعة في إيصال الفتوى للمقلدين، إذ يعتبرها المكلف الحجة بينه وبين ربه.
ومن الواضح أن الرجوع إلى الرسالة العملية للمجتهد لمعرفة فتواه، هو أيسر الطرق لعامة المقلدين.