هجر القرآن الكريم
يمثل القرآن الكريم المعجزة الخالدة للنبي الأكرم محمد(ص)، وهو دستور الحياة البشرية، وهذا يعني ضرورة شدة الارتباط وقوة العلاقة معه.
وعند التأمل في الواقع المعاش خارجاً، ومحاولة الإحاطة بمستوى العلاقة الموجودة بيننا وبين القرآن الكريم بعد فرض وجودها، فما هي علاقتنا بالقرآن الكريم، وما هو مستوى وجوده في حياتنا.
هجر القرآن وآثاره السلبية:
يبث النبي الأكرم(ص) شكواه لربه من أمته في كيفية تعاملهم مع كتاب ربهم، وهو القرآن، وأنهم قد هجروه، قال تعالى:- (وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجوراً). وهذا التعبير القرآني حكاية لما صدر عن رسول الله(ص)، يشير إلى أن الفعل الصادر منهم كان متعمداً، ولم يكن قد صدر منهم عن غفلة، كما أن المعرض عنه والمهجور معروف لديه، ويعلمون مدى أهميته، ويعون قيمته، وأنه دستور حياة بالنسبة إليهم، ومع ذلك فقد أعرضوا عنه.
حقيقة الهجر:
إن المستفاد من كلمات المفسرين وجود معنيـين محتملين في تحديد المقصود من الهجر:
الأول: البذاء والشتم، ووفقاً لهذا المعنى، سوف يكون معنى هجر القرآن، بسبابه وشتمه، ويكون ذلك بأن يتفوه المرء تجاهه بكلمات الهجر، كالسباب والشتم. وهذا المعنى بعيد تماماً عما نحن فيه.
الثاني: الإعراض، ويكون الإعراض عن القرآن الكريم بتركه إلى غيره، كما يقال: فلان هجر زوجته، يعني تركها وأعرض عنها.
ولما كانت الآية بصدد الحديث عن إعراض قوم رسول الله(ص)، عن القرآن الكريم، واتخاذهم موقفاً سبياً منه، كان المعنى الثاني من المعنيـين هو المتعين بحسب الظاهر.
الآثار السلبية لهجران القرآن:
ومن المعلوم أن لهجران القرآن الكريم مجموعة من الآثار السلبية نشير لبعضها:
منها: حرمان الإنسان من بركاته المعنوية والمعرفية في عالم الدنيا، ولعل مصداق ذلك ما يعيشه المجتمع اليوم من واقع متردٍ أخلاقياً وتشتت اجتماعي، وعدم استقرار روحي، فإن هذا كله يكشف عن هجراننا للقرآن الكريم، وإن كنا نتلوه على المنابر، وربما نعلقه على الصدور أيضا. وذلك لأن المعيار في عدم هجر القرآن، والأخذ به ليس في القيام بمجرد تلاوته، بل المعيار في ذلك هو ملاحظة واقعنا وأفعالنا، ومدى تأثير القرآن الكريم فيها، وتأثرها به.
منها: حرمان الإنسان من آثاره وبركاته في عالم الآخرة، فكما أن هجران القرآن الكريم يصيب الناس بالتردي في عالم الدنيا، فإن هجرانه أيضاً يصيبهم بالتردي في عالم الآخرة، وهذه نتيجة طبيعية للتردي في الدنيا، يقول تعالى:- (ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلاً).
مستويات هجر القرآن:
لا يخفى أن هجر القرآن الكريم ليس مستوى واحداً، بل إن لهجر القرآن الكريم مستويات مختلفة، وأنواعاً وأشكالاً متعددة يطول المقام لو أردنا عرضها بأكملها، إلا أنه يمكن الإحاطة بذلك متى عرفنا وظيفة القرآن الكريم، ودوره في حياة الناس.
وظيفة القرآن الكريم:
ذلك أن للقرآن الكريم وظائف ثلاث: وظيفة معرفية، ووظيفة روحية، ووظيفة سلوكية.
الوظيفة المعرفية:
من المعلوم أن القرآن الكريم يعدّ مصدراً رئيساً للعقيدة، ومن المفترض أن يكون جميع تصورات الإنسان المؤمن الاعتقادية مبنية على أساس القرآن الكريم وما تضمنته آياته، وأي تخطٍ أو تجاوز لهذه المرجعية القرآنية في البناء العقدي، يعدّ هجراناً للقرآن، بل هو أعلى درجات الهجران، وهذا ما وقع فيه الكثيرون من أبناء هذه الأمة حيث بنوا أفكارهم على مرجعية غير القرآن.
الوظيفة الروحية:
إذ يعدّ القرآن الكريم مصدراً للبناء الروحي، فالإنسان لا يحتاج فقط إلى معارف عقلية، بل يحتاج إلى ما يملأ القلب والوجدان، ويمنحه الأمن والاطمئنان. والطريق لتحقق هذا الغرض أعني ملأ القلب والروح بالأمن والاطمئنان، كما يملأ القلب، هو إحسان التعامل مع القرآن الكريم، وهذا يعني أنه متى أحسنا التعامل مع القرآن، كان ذلك سبباً رئيساً لملأ الروح والوجدان بذلك. فالتلاوة الصحيحة للقرآن الكريم تمنح التالي لآياته الكريمة الأمن والاستقرار على مستوى الفرد والمجتمع، قال تعالى:- (الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب).
الوظيفة السلوكية:
يعتبر أحد أهداف القرآن، وإحدى أهم وظائفه، أن تكون جميع سلوكيات الفرد والمجتمع مستقاة من القرآن الكريم، لما عرفت في مطلع البحث من أنه كتاب حياة، وكتاب تشريع، وكتاب الأخلاق، فلابد وأن تكون أخلاقنا وسلوكياتنا منسجمة مع ما تضمنه القرآن الكريم في هذا الجانب، وتستقى منه.
ومن خلال ما تقدم يتضح أن ما يصدر من بعض المسلمين من اختيارات خاطئة وسلوكيات منحرفة، هو تجسيد واضح جداً لهجرانهم القرآن الكريم[1].
أشكال من هجر القرآن الكريم:
ووفقاً لما تقدم، يمكن عرض شكلين لهجران القرآن الكريم:
الأول: هو الهجران الشكلي، وهو الذي يتمثل في إعراض المسلم عن القرآن الكريم من خلال عدم قراءته.
الثاني: الاعراض العملي والسلوكي، وهو الذي يكون من خلال تبني ما يخالف مبادئ القرآن.
ولما كان الإعراض من الشكل الأول واضحاً، فلا حاجة للبحث عنه، وسوف نركز على خصوص الشكل الثاني، حيث يجد المتابع صوراً متعددة لذلك، نشير لبعضها:
الصورة الأولى: تحجيم دور القرآن في حياة الإنسان:
ونعني بذلك هؤلاء الذين حصروا الاستفادة من القرآن الكريم في مجالات محدودة جداً من حياتهم، ولذلك نماذج:
الأول: الذي يتخذ القرآن الكريم طريقاً للتكسب، وباباً للارتزاق.
الثاني: الذين اتخذوه وسيلة للعلاج فقط، فإذا ضعف بصره، أو آلمته أسنانه، أو أمعاؤه، هرول إلى القرآن الكريم، يتلو بعض آيات معينة منه، لترتفع عنه بسببها هذه الآلام، أما في غير هكذا حال، فلا شأن له في القرآن الكريم أصلاً.
الثالث: الذين لا يفتحون القرآن الكريم إلا عند الاستخارة، أو حين السفر، أو عندما يموت أحد الأقرباء، وليس أكثر من ذلك.
ونحن لا ننتقد هذا النحو من الاستفادة من القرآن الكريم، وإنما ننتقد تحديد الاستفادة منه ضمن هذه الإطارات، فالقرآن كتاب حياة، ولذلك يجب الانتفاع منه في كل مجالات الحياة وليس في مجال أو مجالين.
الصورة الثانية: التلاوة السطحية:
وهم الذين يقرأون القرآن حروفاً بلا معنى، وكلمات بلا مفهوم، ولهذا لا يعملون بالقرآن كما هو المطلوب، لأنهم لا يفهمون القرآن، مع أن الفهم هو المقدمة الطبيعية للعمل بالشيء، وقد كان المسلمون الأوائل لا يقرأون آية من آيات الكتاب العزيز حتى يتفكروا في أبعادها المختلفة.
الصورة الثالثة: الاهتمامات الثانوية:
وهم الذين يهتمون ببعض الأمور، مثل: كم هي عدد آيات القرآن الكريم، وكم هي عدد حروفه، وكم مرة تكرر حرف الألف في آيات القرآن، وكم مرة تكرر حرف الباء، وأمثال ذلك.
وما هي أول آية نزلت في القرآن، وما هي آخر آية نزلت منه، وما هي أطول آية في القرآن، وأمثال ذلك من الأسئلة.
وقد يعنى بعضهم ببعض أشخاص القصص القرآني، في أمور جانبية، وليست أساسية، فيسأل عن لقمان، هل كان عبداً أم كان حراً؟ ويسأل عن نملة سليمان(ع)، هل كانت ذكراً أم أنثى، ويسأل من الذي تولى حلاقة آدم(ع) عندما أتم مناسك الحج، وأمثال ذلك من الأسئلة.
ومن الواضح أن هذه الأمور لا يوجب الإحاطة بها أيما فائدة للإنسان من قريب أ وبعيد، ذلك أن الإحاطة بها لا توجب دخول الجنة، كما أن الجهل بها لا يكون سبباً في دخول النار.
الصورة الرابعة: الفهم التجزئيي للقرآن:
ونقصد بذلك الذين يفصلون القرآن بعضه عن البعض الآخر، ويفهمونه وفق ذلك، فيفهمون كل آية من آياته وكأنها عالم مستقل بذاته من دون ربطها بالآيات الأخرى.
الصورة الخامسة: الفهم المصلحي للقرآن:
وهذا له نحوان:
الأول: فهم القرآن بنحو يكرس مصالح الفرد في الحياة ليبرر أهوائه وشهواته.
الثاني: الاقتصار على جانب معين من قيم القرآن وإهمال بقية الجوانب الأخرى، مثل استغلال بعض الرجال قوله تعالى:- (الرجال قوامون على النساء)، ليحتج بها في كل حين على المرأة[2].
الصورة السادسة: فصل القرآن الكريم في مقام العمل عن السنة:
وهذا ما يتبناه القرآنيون، الذين يقولون بأنه لا حاجة لشيء من السنة الشريفة الواردة عن المعصومين(ع)، وإنما يكتفى بخصوص القرآن.
ولا يخفى مدى خطورة هذا المنهج، والآثار السلبية المترتبة عليه، وهذا ما يحتاج إلى بحث مستقل، وقد تعرضنا إليه في مقال تحت عنوان القرآن وكفى، يمكن ملاحظته.
وأخيراً، قد يجعل من صور الهجران للقرآن الكريم عدم الإنصات إليه حال التلاوة من قبل الآخر حين تكون التلاوة مفتوحة للجميع كما في المجالس العامة.
[1] حاكمية القرآن ص7-11(بتصرف).
[2] التدبر في القرآن ج 1 ص 16-19(بتصرف).