المجالس العاشورائية

لا تعليق
كلمات و بحوث الجمعة
161
0

قال الإمام أبو عبد الله الصادق(ع): أحيوا أمرنا، رحم الله من أحيى أمرنا.

عندما يأمر المعصوم(ع) بإحياء أمرهم المتمثل في إحياء الدين والرسالة، لابد وأن تكون هناك وسائل وسبل يتحقق الإحياء من خلالها، بحيث أن المؤمنين خارجاً يستندون إليها لتحقيق ذلك، فما هي تلك الوسائل التي يمكن من خلالها إحياء الدين والرسالة؟

إن أبرز وسيلة يمكن الاستناد إليها في إحياء الدين والرسالة، إن لم نقل بكونها منحصرة فيها لجامعيتها، هي الشعائر الحسينية، لكون الإمام الحسين(ع)-وفقاً للنصوص الصحيحة والصريحة الواردة من طريق الفريقين-امتداداً حقيقياً لجده رسول الله(ص)، وأنه القائم بإعادة رسالته السماوية إلى خطها المستقيم.

تقسيم الشعائر:

هذا ولنشر في البداية إلى تقسيم الشعائر العاشورائية، حيث يمكن تقسيمها إلى ثلاثة تقسيمات:

الأول: الشعائر التي تدخل النفس من خلال الوجد والألم والحزن، الذي يعايش التجربة الحسينية في كل أبعادها لتحدث تغيـيراً في النفس، كالبكاء والتباكي، وجعل الزمن العاشورائي زمن حزن، وقد أشير لهذا في النصوص الشريفة، وعرضت له فيها صوراً مختلفة، فمنها ما ورد عن إمامنا الرضا(ع) في تصويره لكيفية تعاطي الإمام الكاظم(ع) مع أيام محرم الحرام، وبالخصوص يوم عاشوراء، قال(ع): كان أبي(ع) إذا دخل شهر المحرم لا يرى ضاحكاً، وكانت الكآبة تغلب عليه حتى تمضي عشرة أيام.

وقريب من هذا أيضاً ما يحكى عن الإمام الصادق(ع) من ضرورة اجتناب الملاذ في يوم عاشوراء، باجتناب الإنسان أي شراب أو طعام، فضلاً عن ممارسة أي لذة وتحقيق أي رغبة، بل تقام فيه سنن المصاب، من لبس السواد، والبكاء، وتلاوة المصيـبة الحسينية، والتعازي المشتركة، والإمساك عن الطعام والشراب إلى زوال الشمس، ويكون التغذي عندها على غذاء أصحاب المصيـبة، من لبن وتمر، وما شابهها من أطعمة تناسب أجواء المصيـبة. قال(ع): وإن استطعت أن لا تنشر يومك في حاجة فافعل، فإنه يوم نحس لا تقضى فيه حاجة مؤمن، وإن قضيت لم تبارك له فيها، ولا يرى فيها رشداً، ولا يدخرن أحدكم لمنـزله فيه شيئاً.

الثاني: الشعائر التي يمارسها أهل الولاء، فتشكل الهوية الجمعية الحاضرة للبدء بعملية النهوض الحسيني والدفاع عن القضايا الإسلامية المحقة. وذلك من خلال زيارة المكان باعتباره معلماً من معالم إحياء الأمر الإلهي لآل محمد(ص).

الثالث: الشعائر التي يعمل أهل الولاء على نشرها بين الناس لإحداث عملية التغيـير. ويتم من خلالها تعريف الآخر بتعاليم وقيم النهضة الحسينية، وبث الأهداف التي قام من أجلها بين الأمم.

هذا وقد يعتقد البعض أن العلاقة بين هذه الأقسام الثلاثة علاقة تراتبية، بحيث يكون كل قسم منها مترتباً على الآخر، لكنه في اعتقاده هذا قد جانب الصواب، لأن الصحيح أن العلاقة بين هذه الأقسام الثلاثة علاقة تكميلية تفاعلية.

هذا ولو أردنا الحديث عن كل واحد من هذه الأقسام لكان يحتاج إلى بحث مستقل، لما ينطوي كل واحد منها على أمور عديدة، بحاجة لبيان ودراسة، لكننا نسلط الضوء على خصوص القسم الثالث من هذه الأقسام.

أسلوب التبليغ:

ومقتضى ما ذكرناه من التركيز على القسم الثالث من أقسام الشعائر، فلابد إذاً من الإلتفات إلى أمر غاية في الأهمية، وهو لزوم التفريق في أساليب العمل وإيصال الرسالة الإلهية إلى الناس، لأنه يمكننا تقسيم المتلقين في الأوساط الاجتماعية، بل المجتمعات إلى قسمين:

الأول: المجتمعات المؤمنة بالله سبحانه، وبنبوة نبيه محمد(ص)، وبرسالة الإسلام.

الثاني: المجتمعات التي لم تهتدِ بهدي الإسلام أساساً، بل ربما بعدُ لم تعرفه.

ومن الطبيعي أن تختلف لغة الخطاب الحسيني لهاتين الفئتين فلا تكون بأسلوب ومنهج واحد، فالقسم الأول منهما يحتاج إلى تطبيق فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ردعاً لأي انحراف قد يقع في المجتمع الإسلامي، وتقويماً لأي اعوجاج يصيـبه. وهذا المعنى يتجلى واضحاً في الخطابات الحسينية التي صاحبت الحركة المباركة له(ع)، فإنه ومنذ خروجه من المدينة، وكذا في خطاباته أثناء توجهه للعراق كان يؤكد على أنه خرج: طلباً للأمر بالمعروف والنهي عن والمنكر، وللإصلاح في أمة جده(ص).

وهذا بخلافه بالنسبة للقسم الثاني، فإنهم بحاجة إلى عرض الدين والمعتقد، وبيان الأسس والتعاليم المنطوية فيه، وما يتضمنه. وهذا ما تضمنـته النهضة الحسينية، لأننا نعتقد أنها تحمل كل خصوصيات روح المنهج الإسلامي، ومضامين أحكامه وأهدافه، وهذا ما كان يؤكده ويشير له أئمتنا(ع) في تأكيدهم على الشعائر، وضرورة نقلها لكل بيت وبلد وإمارة[1]، وذلك لأن المخاطب ليس الشيعة وحدهم، بل سيكون الخطاب أوسع ليشمل حتى غير المسلمين.

شروط تأدية الخطاب الحسيني:

ووفقاً لما تقدم من تقسيم المتلقي للبلاغ والخطاب الحسيني يلزم توفر شروط في ذلك الخطاب حتى يترتب الغرض المقصود لنجاحه وتأدية غرضه، ويمكن حصر ذلك في شرطين أساسيـين، وهما:

1-حقانية الرسالة، والإيمان بكونها كذلك، وأنها منـتصرة لا محالة لكونها حقاً، والصراع بينها كحق وبين الباطل إنما هو ابتلاء رسالي يهدف منه تقوية عضد أهل الحق والإيمان.

2-موافقة الرسالة للوجدان الإنساني، ومصادقتها مع العقلانية لتقدر على إقناع الناس.

وتوفر الشرط الأول في الإمام الحسين(ع) لا يحتاج إثباتاً إذ أنه الحق الذي يتبع، ولذا نجد التركيز في الخطابات الصادرة منه(ع) على الشرط الثاني، وهذا يستلزم إقتداء أصحاب الخطاب الحسيني بسيد الشهداء(ع) بأن يقدموا للناس ما يتوافق ووجدانهم الإنساني، وما يوجب قناعتهم بحقانية وصدقية قضايانا والنهضة الحسينية التي نؤمن بها.

مواصفات الخطاب الحسيني:

وما دمنا قد أشرنا إلى الشروط المعتبر توفرها أثناء تأدية الخطاب الحسيني، فينبغي أن نشير إلى شروط الخطاب الحسيني نفسه حتى يتحقق منه ما يرتجى تحصيله، فإنه وإن كان بالطريقة التي هو عليها محققاً للغرض، لكنه ووفقاً لما ذكرنا من تعدد حالة المتلقين، بحسب ما يملكونه من معرفة بواقع القضية الحسينية، يلزم أن تتوفر في الخطاب الأمور التالية:

1-السعي الدؤوب لتطوير الأساليب والأعمال الصالحة التي توفر الأرضية لتحقيق الأهداف المقصودة للنهضة الحسينية، على أن تكون هذه الأساليب متوافقة والجانب الشرعي، بمعنى أن لا تكون بعيدة عن الشرع الشريف وحدوده.

وهذا يستلزم أن يستفاد من الوسائل الحديثة في عملية عرض القضية الحسينية بأحدث أسلوب وخير وسيلة، فيطور أسلوب أداء الصوت، وعرض الصورة، كما يمكن الاستفادة من الوسائل الحديثة كالعمل المسرحي، والأعمال التلفزيونية، فلا ضير أن تعرض القضية الحسينية من خلال عمل مسرحي، أو عمل تمثيلي يمكن من خلاله تعريف الحضور بحقيقة النهضة الحسينية، والأهداف التي قام أبو عبد الله(ع)، من أجلها. ولا ينحصر الأمر في خصوص ما ذكرنا، بل يمكن التعدي إلى وسائل أخرى قد يكون الخطاب الحسيني بصورة كتاب يقدم، أو ما شابه، نعم ما يهمنا هو ما سبق وأكدنا عليه من لزوم خضوع جميع هذه التطويرات للجانب الشرعي، وأنها موافقة لتعاليمه.

وبالجملة، نحن نحتاج إلى عملية تطوير للآليات التي تستخدم في تقديم الخطاب العاشورائي.

2-أن يعرض الخطاب الحسيني القضية الحسينية بصورة موحدة، ولا نعني بتوحد العرض للنهضة الحسينية كون جميع الخطابات على مستوى واحد، فإنه هذا لا يستقيم لتفاوت المتحدثين من حيث المستوى، وإنما نقصد من وحدة الخطاب أن لا تتعدد القراءات للقضية الحسينية، بحيث لا تقدم قراءتان لنهضة الحسين متغايرتان، بحيث يقرأ الأول الحسين(ع) على أنه أول من دعى إلى الوحدة الإسلامية بين المسلمين، وكانت غايته توحيد الكلمة وجمع الشمل ووحدة الصف، بينما يقرأ آخر الحسين(ع) على أنه كان يرفض الطرف الآخر ويدعو للقيام عليه، وإثبات عدم حقانيته وأنه على خطأ، بل ربما كان كافراً وأمثال ذلك.

ولا يخفى أن تعدد القراءة مدعاة إلى عدم وضوح الفكرة عند المتلقي، ومن ثمّ اختلال الهدف المرجو تحقيقه، بل عدم قناعة المتلقي بما يود إبلاغه وإخباره به، فضلاً عن عدم إيمانه به حينئذٍ.

3-مصداقية المبلغ للخطاب الحسيني بحيث لا يتكلف في القول من خلال حديثه بما لا يعلم، لأن في ذلك تجهيلاً للناس عن معرفة الصواب.

4-احترام عقل المتلقي من خلال عدم اعتقاد المبلغ علوه عليه وإحاطته بأمور أكثر منه، فيكون في مستوى أعلى من مستواه، وهذا ما يمكن تسميته التواضع العلمي، وليقتدي في المقام بأبي عبد الله الحسين(ع) الذي جاء يـبلغ لقضيته، وكيف أنه عندما دعى الناس للخروج معه، لم يستثنِ نفسه الشريفة، ولا أهل بيته(ع). نعم كونه متواضعاً مع المتلقي لا يعني افتقاره لعنصر الجرأة والقدرة على أخذ القرار، والقابلية للتحرك والمواجهة.

مركزية المجالس العاشورائية:

ثم إن جميع ما تقدم يكشف وبصورة جلية واضحة ما للمجالس العاشورائية من مركزية أساسية في إبراز الشعائر الحسينية ومراسمها بالصورة المعروفة، بل إن جميع المراسم المستحدثة اليوم إنما هي فرع تلك المجالس الأصلية والأساسية. وعلى أي حال، فإن المجالس العاشورائية تقوم على ثلاثة عناصر أساسية:

الأول: الخطيب الحسيني.

الثاني: الجماعة المستمعة.

الثالث: مضمون الموضوع الحسيني.

الخطيب الحسيني:

وهو الشخص الذي يقوم بالخطابة، فيتحدث عن النهضة الحسينية ومن خلال صور متعددة يبرز فيها هذه النهضة ويقدم من خلالها دروساً ذات جوانب متعددة، قد تكون تربوية، فكرية، عقدية، فقهية، تاريخية، ثقافية، اجتماعية، وغير ذلك.

ويعتبر في هذا الخطيب توفر شروط:

1-القدرة على الإقناع، وذلك من خلال أسلوب العرض، وإيحاءات الكلام، مضافاً للحركات المرافقة للكلام ونغمات الصوت، أو ترافق حركة اليد مع الكلام، وما شابه[2].

2-تلبسه بما يقدمه للناس حقاً وحقيقة، فلا يتصور من الخطيب أن ينجح في دعوة الناس للمداومة على أداء النوافل وهو من لا يعتني بها، أو يكون من الداعين لقراءة القرآن، وهو لا يلتـزم بذلك، أو يدعوه للتصدق والإحسان للفقراء، وهو أبعد ما يكون عن ذلك، أو يطالبهم بحسن العشرة مع العيال وحسن الخلق مع الزوجة، وهو فظ غليظ، وهكذا.

3-امتلاكه لثقافة معمقة، تقوم على:

أ-العمق في معرفة الروح للقيم الإسلامية العليا، مما ورد في القرآن الكريم، وجاء في السنة الشريفة.

ب-تحسسه واقع الناس، وحاجاتهم والمشاكل التي يتعرضون لها، مع كونه على دراية بواقعهم النفسي والاجتماعي والثقافي، ذلك لأنهم الجهة التي يوجه الخطيب لها خطابه.

ج-تنوع المعارف والمدارك، وتعدد أساليب العرض، لأن عرض الفكرة وبأساليب مختلفة له أكبر الأثر على تحقق الغرض، والوصول إلى الهدف.

د-دقة المعلومات الملقاة للمستمع، لأن النهضة الحسينية تمثل مدرسة ترتبط بجميع جوانب الحياة البشرية، سواء في الأبعاد القيمية والعقدية، والأحكام الشرعية، وأمثال ذلك.

هـ-التركيز على الجانب العاطفي، وهي إحدى الميز التي امتازت بها القضية الحسينية، وهو أحد الجوانب الأساسية فيها، ما لم يكن الأصل فيها.

ويعدّ تجفيف منابع العواطف الجياشة في القضية العاشورائية من أكبر الأخطار على النهضة المباركة للإمام الحسين(ع).

و-لزوم معرفته بموقع الإمام الحسين(ع)، ودوره في حركة الرسالة الإسلامية النبوية، ومعرفة القيم التي قامت هذه النهضة الحسينية، وكذا الأهداف التي أرادها الإمام(ع)، مضافاً للأساليب التي انتهجها(ع).

4-التطوير الدائم لإمكانات الخطيب الثقافية والعلمية والمعرفة بأحوال الزمان والبعد الروحي، من دون توقف، لأن توقف تطور الخطيب في جوانبه المتعددة مدعاة لسأم المتلقي وملله، خصوصاً مع إحاطته بتكرار الخطيب.

5-وضوح الهدف الذي من أجله تحيى الشعائر الحسينية لدى الخطيب، فلو كان الخطيب يعتقد أن دوره ينحصر في خصوص إبكاء المستمع ليس إلا، لا يكون محققاً لهدف أهل البيت(ع) في الحث على أقامة الشعائر الحسينية.

الجماعة المستمعة:

وهم الذين يوفقون للحضور إلى المجالس العاشورائية، وربما يعتقد الكثير من هؤلاء أنه براني عن المسؤولية في إحياء الشعيرة، أو أن دوره ينحصر في خصوص المشاركة في الحضور في المجالس.

لكنه فهم ساذج، بل خاطئ، ضرورة أن هؤلاء ليسوا برانيـين عن المجلس، بل هم أصحاب علاقة وعضوية متفاعلة ومؤسسة للمجلس.

ومقتضى أنهم غير برانيـين عن ذلك، يعني ثبوت مسؤولية ملاقاة عليهم بحيث يكون لهم دور وفاعلية فيما يطرح من خلال التقيـيم وملاحظة حسن الأداء وجودة الطرح، ومدى الاستفادة منه.

ومن الطبيعي أنهم يشترط فيهم شروطاً أهمها التوبة لله سبحانه، وإعلان التـزام خط الإمام الحسين(ع)، ومواصلة أهدافه وقيمه التي خرج من أجلها وقام بنهضته المباركة.

الموضوع الحسيني:

وهو عبارة عن الموضوع الذي يلقيه الخطيب على المستمع، يأتي فيه بتعريف للنهضة الحسينية، وبيان الأهداف التي خرج الحسين(ع)، وقام بنهضته المباركة، وهذا يعني أنه ينبغي أن يمتلك الخطيب قدرة على إبراز الجوانب المعرفية في النهضة المباركة، من خلال إبراز الجوانب العقدية، والتربوية والفكرية وما شابه.

وهذا يلقي بالمسؤولية على الخطيب الحسيني في تقديم ما يصلح للناس، وينفع في شؤونهم[3].

—————————————————————

[1] ولذا كلنا طموح لأن يلتفت الأخوة القائمون على قنواتنا الفضائية الشيعية التي تطل على العالم أجمع، ويطالعها الناس في كل مكان أن تعاد فيها صياغة بعض الطروحات التي تطرح فيها، وتعاد الهيكلية التنظيمية لها رغبة في إيصال الإمام الحسين(ع) إلى أكبر قدر ممكن منهم دونما تنازل منا عن شيء من مبادئنا وقيمنا وشعائرنا.

[2] سمعت من أحد الأصدقاء أن خطيباً كان يتحدث على المنبر فذكر مثال بالبطيخ وأشار إلى صغر حجمه، وذكر الباذنجان وحرك يده بصورة توحي بأنه شيء كبير جداً، فهذا ما نعنيه بحركات اليد وموافقتها للكلام.

[3] المصادر: الشعائر الحسينية من المظلومية إلى النهوض، الشعائر الحسينية، سيرة الحسين، بعض الحوارات مع جملة من الخطباء، والفضلاء.

تعليقات الفيسبوك

التعليقات مغلقة