التفسير بالرأي

لا تعليق
محرم الحرام 1446 هـ
94
0

التفسير بالرأي

 

عُدّ أحد المناهج التفسيرية حين الحديث عن مناهج التفسير، وقد عرفت فيما تقدم، أن عدّ ذلك لا يخلو عن مسامحة، لأن المفروض أن النظر لخصوص المناهج التفسيرية الصحيحة. ولا يعترض بمنهج التفسير العلمي، لبطلان كثير من التفسيرات التي تضمنها بعد بطلان النظريات التي حملت الآيات القرآنية عليها، لأنه يدفع، بكفاية صحة شيء من التفسير المذكور. وعلى أي حال، فالأمر سهل.

وقد تضمنت النصوص الواردة عن المعصومين(ع) النهي عن تفسير القرآن الكريم بالرأي، بل تضمن بعضها عدّ ذلك من الافتراء على الله تعالى كذباً، فقد ورد عن رسول الله(ص) أنه قال: من فسر القرآن برأيه، فقد افترى على الله كذباً. بل تضمن بعضها بيان عقوبته، فقد جاء في الرواية عن أبي عبد الله الصادق(ع) أنه قال: من فسر القرآن برأيه إن أصاب لم يؤجر، وإن أخطأ خرّ أبعد من السماء.

حقيقة التفسير بالرأي:

وقد وقع الخلاف بين الأعلام في تحديد المقصود من تفسير القرآن بالرأي، فوجدت أقوال في ذلك:

أحدها: ما ذكره الطبري من أن المقصود منه تفسير الأمور التي يكون الإحاطة بها منحصراً في بيان رسول الله(ص) لها برأيه، وذلك مثل بيان كيفية الصلاة مثلاً، فإن القرآن الكريم لم يتعرض لبيان كيفيتها، فيكون بيان الكيفية منحصراً في خصوص رسول الله(ص)، فيترك الإنسان بيان رسول الله(ص)، ويعمد إلى تفسير الصلاة من عند نفسه.

ولا يبعد عدّ مصداق هذا القول القرآنيون الذي يدعون الاستغناء عن السنة الشريفة، ويكتفون فقط بالاستناد للقرآن الكريم، فإنهم سوف يعولون على تحديد المقصود من الآيات الشريفة دونما نظر ولا ملاحظة لما تضمنته السنة الشريفة، لما عرفت من أنهم لا يعولون على شيء منها.

ثانيها: ما مال إليه بعض الأعاظم(قده)، من أن المقصود بالتفسير بالرأي هو تفسير القرآن الكريم من دون مراجعة إلى روايات الأئمة المعصومين(ع)، وذلك بأن يرتب أثراً على خصوص الآية الشريفة دون ملاحظة النصوص والتي قد توجب تقيـيدها مثلاً، أو توجب تخصيصها، ومثال ذلك قوله تعالى:- (فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر)، حيث دلت الآية المباركة على وجوب القضاء على المسافر مطلقاً، سواء سافر قبل الزوال، أم بعده، فيعمل على وفق الآية دون مراجعة النصوص والتي قد تكون مشتملة على التفصيل بين من سافر قبل الزوال، فعليه القضاء، ومن سافر بعد الزوال، فلا قضاء عليه.

ثالثها: ما أحتمله القرطبي في تفسيره، وهو يظهر من الفيض الكاشاني(ره)، في تفسيره الصافي، وهو الاستقلال والاستبداد بالرأي، بأن يتكل المفسر في تفسير القرآن على رأيه، إما لميله وهواه إليه، أو لغروره بفهمه ورأيه واستغنائه عن الاستمداد من الروايات ومذاق الشارع. ومن أمثلة ذلك أن يخضع المفسر القرآن الكريم لعقيدته، فيفسره وفق ما يتبنى من عقيدة، فيفسر بعض الآيات الظاهرة في الجبر مثلاً للدلالة على هذه العقيدة، أو يفسر الآيات الظاهرة في التجسيم على ذلك انتصاراً لعقيدته التي يعتقد.

وقد أشار أمير المؤمنين(ع) إلى خطورة هذا المنهج عند حديثه عن الأعمال التي يقوم بها سيدي ولي النعمة(عج)، قال: يعطف الهوى على الهدى، إذا عطفوا الهدى على الهوى، ويعطف الرأي على القرآن إذا عطفوا القرآن[1].

رابعها: ما أختاره بعض الأعلام(قده)، من أن التفسير بالرأي هو تفسير القرآن من دون استعانة بالغير، والمقصود من الغير هو خصوص القرآن الكريم، ولا يشمل السنة. ويمكن التمثيل لذلك بأن يُعمد إلى تفسير الآيات المتشابهة في القرآن الكريم من دون حملها على الآيات المحكمة، بل يقتصر على ما يتبادر إلى الذهن فهماً لها وما تهواه النفس.

داعي عدم جواز التفسير بالرأي:

ثم إن الداعي للبناء على عدم جواز التفسير بالرأي يعود لأن ذلك خلاف مراد المتكلم، حيث ينسب إليه ما لم يكن قاصداً بيانه، وتوضيح ذلك: إن للعقلاء منهجاً متبعاً في فهم الكلام الصادر عن المتكلم وذلك بملاحظة ما أقامه من قرائن دخيلة في فهم مراده ما يمنع من ترتيب الأثر على كلامه إلا بملاحظتها، وقد سار الله سبحانه وتعالى في كلامه على طريقة العقلاء، لأنه رئيس العقلاء، بل سيدهم، خصوصاً وأنه لم يذكر طريقة خاصة يختص بها دونهم، وهذا يستدعي أن يكون تفسير القرآن الكريم على وفق القانون والضابطة التي جعلها الباري سبحانه من خلال ملاحظة القرائن ذات العلاقة بتحديد المقصود من الكلام. والمفروض أن التفسير بالرأي أجنبي عن ذلك، لأن الفرض أن المفسر لم يعمد إلى ملاحظة تلك القرائن، إذ أنه لو لاحظها فلن يكون من التفسير بالرأي[2].

العمل بظواهر القرآن:

ربما تصور البعض أن هناك تنافياً بين ما جرت عليه سيرة العقلاء في العمل بظواهر الكتاب العزيز في الآيات الجلية الواضحة والتي لا تحتاج تفسيراً وبياناً وإيضاحاً، وبين الآيات التي تضمنت النهي عن تفسير القرآن الكريم بالرأي. وقد يجعل من نماذج ذلك الموارد التي تحمل فيها الآية القرآنية على خلاف ظاهرها، فإن ذلك يجعل الأمر من صغريات المعنى الثالث للتفسير بالرأي، لأن المفروض أن المفسر يستبد برأيه انطلاقاً من هوى النفس، أو تأثرٍ بثقافة أو غير ذلك، مع أن المفسر يدعي أن ما صدر منه لا يخرج عن كونه عملاً بظاهر الآية الشريفة.

وبالجملة، إن العمل وفق ظواهر الآيات الشريفة يتنافى والنصوص المتضمنة للنهي عن التفسير بالرأي.

ويندفع التصور المذكور بملاحظة المقصود من تفسير القرآن بالرأي، فإن ملاحظة الأقوال المتقدمة في بيان ذلك، تمنع من عدّ ما ذكر تفسيراً للقرآن الكريم بالرأي، لأن التفسير عبارة عن الإسفار عن الشيء والبيان والإيضاح، وليس ما ذكر كذلك، بل هو من التأويل، وهو أجنبي تماماً عن التفسير بالرأي.

وبعبارة أوضح، إن حمل اللفظ على ظاهره لا يحتاج تفسيراً، لأن التفسير هو كشف القناع، والظاهر من اللفظ ليس مستوراً حتى يكشف.

وحتى لو سلم أن حمل اللفظ على ظاهره من التفسير، إلا أنه ليس من التفسير بالرأي والذي تضمنت النصوص النهي عنه، لأنه تفسير بما يفهمه العرف من اللفظ وفق ما يحوط به من القرائن المتصلة والمنفصلة. وقد أشار لهذا المعنى الإمام الصادق(ع) حيث قال: إنما هلك الناس في المتشابه، لأنهم لم يقفوا على معناه، ولم يعرفوا حقيقته، فوضعوا له تأويلاً من عند أنفسهم بآرائهم، واستغنوا بذلك عن مسألة الأوصياء فيعرفونهم[3].

ويساعد على ما ذكرناه من عدم عدّ العمل بظواهر الآيات الشريفة تفسيراً بالرأي، ما تضمنته النصوص من الأمر بالرجوع إلى الكتاب، والعمل بما فيه، فإن هذا لا ينسجم إلا مع البناء على حجية ظواهر الكتاب الكريم، والعمل على طبقها[4].

 

[1] شرح ابن ميثم ج 3 ص 168.

[2] ويكفي هذا المعنى لأن يكون مانعاً من مشروعية التفسير بالرأي حتى لو لم يتم شيء من النصوص الواردة في النهي عن ذلك.

[3] وسائل الشيعة ج 27 ب 13 ص 201.

[4] المناهج التفسيرية ص 60-67، حاكمية القرآن ص 207-209(بتصرف).

تعليقات الفيسبوك

التعليقات مغلقة