الوقوف في عرفات مع المسلمين(4)

لا تعليق
خواطر حوزوية
10
0

الوقوف في عرفات مع المسلمين(4)

 

الاستدلال بخبر أبي الجارود:

ثانيها: خبر أبي الجارود، قال: سألت أبا جعفر(ع): إنا شككنا سنة في عام من تلك الأعوام في الأضحى، فلما دخلت على أبي جعفر(ع) وكان بعض أصحابنا يضحي، فقال: الفطر يوم يفطر الناس، والأضحى يوم يضحي الناس، والصوم يوم يصوم الناس[1]. ودلالته على المدعى بلحاظ أنه(ع)، قد أمر أن يكون الصوم والفطر وكذا الأضحى مع عامة المسلمين، فلا يكون للشيعة شيء خاص بهم دون بقية المسلمين، فتكون الرواية دالة على ضرورة متابعة المسلمين في ثبوت الهلال.

ومن الواضح أن هذا بلحاظ تنـزيل يوم الصوم عند المسلمين أنه أول أيام شهر رمضان المبارك واقعاً، وكذا تنـزيل يوم فطرهم منـزلة يوم عيد الفطر واقعاً، وكذا يوم الأضحى، وعليه سوف يكون الوقوف معهم في يوم الثامن منـزلاً منـزلة الوقوف في يوم التاسع من شهر ذي الحجة واقعاً، وهذا يوجب الإجزاء.

والكلام فيها سنداً ودلالة:

مناقشة رواية أبي الجارود سنداً:

أما من حيث السند، فقد يناقش فيها من جهتين:

الأولى: ما أشار إليه الفاضل المعاصر(دام موفقاً) من شبهة الإرسال في الرواية، ذلك أن عبد الله بن المغيرة من الطبقة السادسة، وأبو الجارود من الطبقة الرابعة، ومن المستبعد عادة أن يروي أصحاب الطبقة السادسة عن أصحاب الطبقة الرابعة من دون واسطة.

وقد يجاب عن ذلك بأمرين:

الأول: إن لرواية عبد الله بن المغيرة عن أبي الجارود نظائر، فقد تضمنت الأسانيد رواية محمد بن أبي عمير، والحسن بن محبوب وصفوان بن يحيى، وعثمان بن عيسى، ومحمد بن سنان، عن أبي الجارود. وجميع من قد سمعت من الطبقة السادسة، فلا محذور في رواية من يكون من الطبقة السادسة عمن يكون من الطبقة الرابعة خصوصاً إذا كان الراوي الذي من الطبقة السادسة معمراً أدرك من كان في الطبقة السادسة، فيدرك أبا الجارود مثلاً في أول شبابه.

إلا أن رواية محمد ابن أبي عمير، والحسن بن محبوب، وصفوان، عن أبي الجارود، بدون واسطة، لم ترد إلا في موضع واحد لكل منهم، فالأول جاء في أمالي الصدوق(قده)، مع أن الوارد في موارد أخرى روايته مع الواسطة، والثاني جاء في موضع من الكافي، والوارد في موارد عديدة روايته عنه مع الواسطة، وهو محمد بن سليمان، والثالث قد جاء في تفسير القمي، ووردت روايته عنه بواسطة أبي أسامة زيد الشحام، في المحاسن. نعم عثمان بن عيسى قد تكررت روايته عن أبي الجارود، ويمكن توجيه ذلك بأنه من كبار الطبقة السادسة، فيكون أسبق طبقة من المذكورين، فقد روى عن أبي حمزة الثمالي المتوفى سنة 150 هـ، وقد نص النجاشي(ره) على أنه لم يكن يتهم في روايته عنه، بخلاف الحسن بن محبوب الذي اتهم في روايته عنه. ويساعد على ذلك ما جاء في رجال الكشي، من أنه كان شيخاً عمّر تسعين سنة، وإن كان الموجود في النسخة ستين، لكن الظاهر أن الصحيح تسعين، فإنه لا يقال لمن عاش ستين سنة أنه قد عمر، وأنه معمر.

والحاصل، لما كان عثمان بن عيسى من كبار الطبقة السادسة، فلا بعد في روايته عن أبي الجارود من دون واسطة.

والظاهر أن هذا بعينه يمكن الالتـزام به في شأن عبد الله بن المغيرة، فيكون ذلك نافياً لوجود شبهة إرسال في المقام.

الثاني: إن الجزم بكون أبي الجارود من أصحاب الطبقة الرابعة محل تأمل، فقد ذكر البخاري أن وفاته كانت ما بين الخمسين ومائة إلى الستين، وقد نص ابن حجر أنه قد مات بعد المائة والخمسين، ومعدل وفيات الطبقة السادسة هو سنة مائتين واثنتين وعشرين، فلا غرابة في إدراك من كان قد عمر أزيد من ثمانين سنة منهم لأبي الجارود في أوائل شبابه، وبالفعل تجد في بعض رواة المسلمين عن أبي الجارود من هكذا حاله، وهو محمد بن سنان العوفي، وقد ذكره الذهبي في عداد من روى عنه الرجال، ونص على أنه مات سنة مائتين وثلاثة وعشرين في عشر التسعين.

الثانية: وجود أبي الجارود، وهو زياد بن المنذر، وقد ذكره الشيخ(ره) في الفهرست، والرجال، كما ذكره النجاشي(قده) في فهرسته، إلا أنهما لم ينصا عليه بشيء في بيان حاله من حيث التوثيق أو الضعف. نعم قد يوثق

لوقوعه في الرسالة العددية للشيخ المفيد(ره)، وهو أحد التوثيقات العامة.

وفيه، أولاً: إن العبارة المذكورة محمولة على التغليب وليست محمولة على الشهادة بوثاقة الجميع.

ثانياً: من المسلم ثبوت كتاب بعنوان الرسالة العددية للشيخ المفيد(ره)، كما نص على ذلك النجاشي(قده) في ترجمته، إلا أننا نشك في أن الموجود بأيدينا هي ذات رسالة المفيد(قده)، وأنه لم يحصل فيها تحريف وتصحيف بالزيادة أو النقيصة.

وبكلمة ثانية، إن في البين شكاً في كون الرسالة المطبوعة والموجودة بأيدينا والتي تضمنت هذه العبارة لم يحصل فيها تحريف وتصحيف بزيادة أو نقيصة، وأنها نفس ما ألفه الشيخ المفيد(قده).

ومن المعلوم أن الرسالة العددية ليست من الكتب المشهورة المعروفة والمتداولة، وهذا يعني أن احراز نسبتها إلى مؤلفها بحاجة إلى طريق إلى ذات النسخة الموجودة عنده، وليس مجرد طريق إلى أصل الكتاب، فلو وجد الكتاب مطبوعاً دون وجود طريق إلى ذات نسخة المؤلف واتحادها مع النسخة المطبوعة، فإنه يشك في ثبوت النسبة، وفي سلامة النسخة من التحريف والتصحيف، سواء بالزيادة أم بالنقيصة. نعم مثل هذا الإشكال لا يجري في شأن الكتب المعروفة والمتداولة بالأيدي.

كما يمكن استكشاف وثاقته من خلال ما جاء في رجال ابن الغضائري(ره)، في شأنه حيث قال: حديثه في حديث أصحابنا أكثر منه في الزيدية، وأصحابنا يكرهون ما رواه محمد بن سنان عنه، ويعتمدون ما رواه محمد بن بكر الأرحبي[2]. فإنه لو لم يكن أبو الجارود ثقة لما عمد الأصحاب إلى العمل برواياته المنقولة بواسطة محمد بن بكر الأرحبي، واسقاط ما وراه محمد بن سنان عنه، لأن غير الثقة لا يؤخذ بحديثه مطلقاً أياً ما كان الراوي، فكشف التفريق المذكور عن وثاقة الرجل، وإنما يتوقف في المنقول عنه بسبب الناقل.

ولا يخفى أن القبول بالوجه المذكور فرع التسليم بثبوت نسبة كتاب الرجال لابن الغضائري(ره)، وأما مع البناء على عدم الثبوت كما عليه بعض الأعاظم(ره)، فلن يكون للوجه المذكور معنى.

على أنه لو بني على ثبوت نسبة الكتاب له، فإنه يمنع من الاستناد للوجه المذكور، احتمال أن يكون منشأ التعويل على مرويات أبي الجارود المنقولة بواسطة الأرحبي توفر موجبات الصدور فيها من خلال الوثوق لا من خلال وثاقة الرواة الواقعين في أسنادها، فتأمل.

مناقشة دلالة خبر أبي الجارود:

وقد أجيب عن دلالة خبر أبي الجارود بجوابين:

الأول: ما ذكره بعض أساطين العصر من المحققين(دامت أيام بركاته)، وفصله أكثر الفاضل المعاصر(دام موفقاً)، من عدم ظهور كلمة الناس في الخبر في خصوص المسلمين المقابلين للشيعة، بل المقصود منهم في الخبر الأعم الشامل للمسلمين، ولأبناء الطائفة المحقة، ويشهد لذلك موارد متعددة قد استعملت فيها كلمة الناس في هذا المعنى الأعم.

والحاصل، إنه حتى يلتـزم بأن المقصود من لفظة الناس في الخبر خصوص المسلمين دون الشيعة لابد من وجود قرينة واضحة توجب صرف ظهور اللفظ في ذلك. وهي مفقودة في المقام.

بل يمكن البناء على أن هناك جهتين توجبان ترجيح أن المقصود به هو عامة المسلمين الشامل للشيعة، وليس خصوص المسلمين المقابل لهم:

الأولى: النص المروي من طريق الجمهور، عن النبي(ص)، عن عائشة، وهو قريب من النص محل البحث، فقد قالت: قال رسول الله(ص): الفطر يوم يفطر الناس والأضحى يوم تضحي الناس. وهي تشكل قرينة مانعة من حمل لفظة الناس الواردة في رواية أبي الجارود على خصوص المسلمين غير الشيعة، لأنه مع تطابق المروي من طرقنا وطرقهم، فإنه يقرب جداً أن تكون رواية واحدة، ويضعف احتمال المغايرة في المعنى.

الثانية: ما رواه الشيخ بإسناده عن أبي الجارود، زياد بن المنذر العبدي، قال: سمعت أبا جعفر محمد بن علي(ع) يقول: صم حين يصوم الناس، وأفطر حين يفطر الناس، فإن الله عز وجل جعل الأهلة مواقيت. فإن المراد من الناس في هذا الخبر هو عامة المسلمين، وليس خصوص المسلمين المقابلين للشيعة، بقرينة ذيل الخبر، وهو قوله(ع): فإن الله عز وجل جعل الأهلة مواقيت، فإنه إشارة إلى قوله تعالى:- (يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج)، ومن الواضح أن المراد بالناس في الآية الشريفة هم عامة الناس، فلا يناسب أن يكون المراد بالناس في رواية أبي الجارود محل البحث، هو بعضهم أعني المسلمين غير الشيعة.

مضافاً إلى أن هناك تقارباً كبيراً بين رواية أبي الجارود محل البحث، وبين رواية الشيخ(ره) التي قد سمعت، والراوي لهما واحد وهو أبو الجارود، نعم الأولى وردت عن طريق عبد الله بن المغيرة، والثانية بطريق محمد بن سنان، ومن القريب جداً أن تكونا رواية واحدة نقلت بلفظين بينهما بعض الاختلاف، وعمدته عدم نقل راوي الأولى للتعليل المذكور في ذيل الثانية اختصاراً، فلا يكون المراد بالناس في الأولى إلا عامة المسلمين من الفريقين، كما هو الظاهر من الرواية الثانية[3].

وكأن المجيب يقرر أن الأصل في لفظة الناس الواردة في النصوص أنها تستعمل في المعنى الأعم، ولا تكون ظاهرة في الأخص الذي هو خصوص المسلمين إلا حال وجود قرينة موجبة لحمل اللفظ على ذلك.

ويلاحظ عليه: إنه بعد التسليم بما ذكر، وأن الأصل في لفظ الناس في النصوص ظهورها في المعنى الأعم الشامل لأهل الولاء ولبقية المسلمين، فإن في الخبر قرينة لفظية تساعد على تخصيص مفردة الناس الواردة فيه في خصوص المسلمين دون الشيعة، وهي قول أبي الجارود: وكان بعض أصحابنا يضحي، فإنه يقابل ما ذكره من لفظة الناس، فيكون ذكر ذلك بمثابة القرينة على أن المقصود من الناس في الخبر هو خصوص المسلمين المقابل للشيعة.

وقد كان جواب الإمام(ع) بمثابة رفع التعجب الحاصل عند أبي الجارود، في إقدام بعض أصحابه على التضحية، مع أن الظاهر أن اليوم ليس يوم تضحية.

وهذا الحاصل بين الشيعة والذي يشير إليه أبو الجارود يكشف عن أن المقصود بلفظة الناس الواردة في الخبر هي خصوص المسلمين، وليس المعنى الأعم.

الثاني: إن في مدلول خبر أبي الجارود محتملات ثلاثة:

الأول: أن يكون المراد به كون بناء الناس على حلول عيد الأضحى مثلاً أمارة على قيام الحجة على حلوله، فيختص بما إذا لم يعلم خلافه.

الثاني: أن يكون المراد تنـزيل ما يبني الناس على أنه يوم العيد منـزلة العيد الواقعي عند مخالفته له فيما إذا كان بناؤهم عليه اتباعاً للميزان الشرعي في تحديد أول الشهر.

الثالث: أن يكون المراد تنـزيل ما يبني الناس على أنه يوم العيد منـزلة العيد الواقعي عند مخالفته له، بلا فرق بين كون بنائهم اتباعاً للميزان الشرعي في تحديد أول الشهر أو لا.

ولا يخفى أن تمامية الاستدلال بالخبر تعتمد على أن يكون المقصود منه هو خصوص الاحتمال الثالث من الاحتمالات المذكورة، وهو وإن كان يترجح على الاحتمال الأول لظهور العناوين المأخوذة في ألسنة النصوص في الموضوعية، إلا أنه يعارضه أن التنـزيل على خلاف الأصل، مضافاً إلى ما تقدم من رواية محمد بن سنان عن أبي الجارود.

ويرجح الاحتمال الثالث على الاحتمال الثاني، أنه مطابق للإطلاق لو سلم انعقاده، ولكن مناسبات الحكم والموضوع تمنع من ذلك. فإن مقتضى مناسبات الحكم والموضوع تقضي أن يكون المراد تنـزيل اليوم الذي يبني الناس على أنه يوم عيد الأضحى مثلاً منـزلة العيد الواقعي إذا كان بناؤهم عليه اتباعاً للميزان المقبول شرعاً، ولكن احتمل كونه مخالفاً للواقع، كما لو احتمل تأخره عن العيد الواقعي من جهة عدم تيسر رؤية الهلال في مساء يوم التاسع والعشرين من شهر ذي القعدة بسبب الغيوم ونحوها، أو احتمل تقدمه على العيد الواقعي من جهة اشتباه من دخلوا البلد وشهدوا برؤية الهلال فتم اعتماد شهادتهم، لوجود العلة المانعة من الرؤية في سماء البلد، فإن في مثل ذلك لا يستبعد تنـزيل الشارع المقدس اليوم الذي يبني الناس على كونه عيداً منـزلة العيد الواقعي، فتترتب عليه أحكامه وإن انكشف الخلاف لاحقاً.

ويبعد جداً شمول الخبر لمثل ما عليه الواقع اليوم والذي هو محل الابتلاء غالباً، لمخالفة الموجود خارجاً للميزان الشرعي، ولو من جهة استناده إلى شهادة منبعثة من مكان يحرز عدم قابلية الهلال فيه للرؤية، فالظاهر عدم إطلاق الخبر لمثله.

ومع وجود ما يمنع من القبول بالاحتمال الثالث، فيصعب حمل خبر أبي الجارود عليه، وهذا مانع من صلاحيته للاستدلال.

نعم الظاهر أن مدلول خبر أبي الجارود هو الاحتمال الأول، وهو أن الإمام(ع) بصدد بيان أن عامة الناس إذا ضحوا أو صاموا أو أفطروا، كان ذلك أمارة على تحقق الحجة على حلول عيد الأضحى أو دخول شهر رمضان، أو حلول عيد الفطر، ولا حاجة عندها إلى أن يتحقق المكلف بنفسه عن رؤية الهلال أو حصول الشياع أو قيام البينة على الرؤية، ولو لم يضح الناس أو لم يصوموا أو لم يفطروا فلا أمارة على تحقق الحجة بأحد ذينك النحوين على حلول عيد الأضحى، أو دخول شهر رمضان، أو حلول عيد الفطر، فلا يعتد ببعض الإدعاءات المتفردة بخلاف ذلك. ويساعد على إرادة هذا المعنى من خبر أبي الجارود، ما تضمنته رواية محمد بن سنان عن أبي الجارود، والتي سبقت الإشارة إليها، حيث جاء في ذيلها: فإن الله عز وجل جعل الأهلة مواقيت. فإن هذا التعليل مانع من البناء على كون مفاد خبر أبي الجارود محل البحث هو مطلق التنـزيل ولو كان على خلاف الميزان الشرعي لثبوت أول الشهر، وإلا لم يكن له معنى، لأنه لن يكون الهلال هو الميقات الذي به يحدد أول الشهر، بل سوف يكون المدار على تباني الناس على أن اليوم المعين هو أول الشهر بغض النظر عن ظهور الهلال في الأفق وعدمه.

وبالجملة، إنه لا مجال للبناء على الاحتمال الثالث من الاحتمالات المذكورة في دلالة خبر أبي الجارود، وهو البناء على التنـزيل الواقعي على اليوم الذي يبني الناس أنه يوم العيد، خلافاً للميزان الشرعي إلا في حال التقية، فما لم تقتض التقية ذلك، لم يجزء الاتيان بشيء من أعمال منى يوم العيد فيها.

ومع البناء على عدم القبول بكون مدلول خبر أبي الجارود هو الأمارية تبقى محتملات ثلاثة في الخبر:

أحدها: أن يحمل الخبر على خصوص ما إذا كان بناء الناس على أن ذلك اليوم عيد وفق الميزان الشرعي في تحديد أول الشهر، ولكن احتمل مخالفته للواقع. فيكون مقتضى تنـزيله منـزلة العيد الواقعي هو الاجتـزاء بما أتي فيه من صلاة العيد والأضحية ونحوهما حتى مع انكشاف الخلاف لاحقاً.

ثانيها: أن يحمل الخبر على خصوص مورد التقية، فإذا اقتضت التقية في منى أو غيرها من الأماكن اتباع الناس في أمر العيد والاتيان بأعماله كالصلاة وذبح الأضحية في اليوم الذي يضحون فيه وإن كان مخالفاً للميزان الشرعي اجتزئ بالعمل، وإلا لم يجتـزأ به.

هذا بناءً على أن المراد بكلمة(الناس) في الخبر هو عامة الناس وليس خصوص المسلمين مقابل الشيعة للقرينتين التي عرفت.

ثالثها: أن يحمل الخبر على التقية، فيكون قوله(ع): الفطر يوم يفطر الناس، والأضحى يوم يضحي الناس، والصوم يوم يصوم الناس، ناظراً إلى التقية من المسلمين، لإطباقهم نصاً وفتوى على ترتب أحكام الواقع على اليوم الذي يصوم أو يضحي أو يفطر فيه الناس وإن كان مخالفاً للواقع، فكلامه(ع): لم يكن مسوقاً لبيان حكم الله الواقعي حتى يعمل بمقتضاه وتكون الرواية حجة على الاجتزاء بمتابعة المخالفين في الموارد الثلاثة.

ولا مجال للاحتمال الأول منها، بناءً على ما يدعى من أن اتباع الناس للميزان الشرعي في تحديد أوائل الشهور أمر نادر الوقوع، لأن غالب الناس من المخالفين، وهم يتبعون الحكام والقضاة الذين لا يتبعون الضوابط الشرعية في معظم الحالات، وحمل الرواية على هذا الاحتمال يعني حمل المطلق على بعض الأفراد النادرة، وهو غير مقبول.

وعليه، سوف يدور الأمر بين الاحتمالين الآخرين، ومرجع الاحتمال الثاني إلى رفع اليد عن أصالة الإطلاق، كما أن مرجع الاحتمال الثالث إلى رفع اليد عن أصالة الجهة.

والذي يظهر من بعض اساطين العصر من المحققين(دامت أيام بركاته) عدم وجود ما يوجب ترجيح أحد هذين الاحتمالين على الآخر كما في بحثه حول قاعدة التقية، وعلى ذلك لا يتم الاستدلال بالرواية للقول بالإجزاء بمتابعة الناس في حال التقية، لأن مقتضى الاحتمال الأخير سقوط الرواية عن الحجية من جهة عدم كون الإمام(ع) في مقام بيان حكم الله الواقعي، بل في مقام بيان الاتقاء من الجمهور القائلين بالإجزاء.

إلا أنه يمكن المناقشة فيما ذكر، بأن أصالة الجهة تترجح على أصالة الإطلاق عند دوران الأمر بينهما، لأن رفع اليد عن أصالة الجهة أكثر مؤونة في نظر العرف من رفع اليد عن أصالة الإطلاق، فإذا قال المولى لخادمه في مجلس حضره العلماء: أكرم العالم، وعلم الخادم أنه لا يجب إكرام العالم الفاسق، إلا أنه تردد بين أن يكون مراد المولى هو وجوب إكرام العالم العادل، أو أن أصل إلقاء هذا الأمر في ذاك المجلس لم يكن بداعي بيان الواقع، أي جعل وجوب إكرام العالم العادل، بل بداعٍ آخر كالمداراة مع الحاضرين، لم يكن له أن يترك إكرام العالم العادل بدعوى أنه يدور الأمر بين رفع اليد عن أصالة الإطلاق ورفع اليد عن أصالة الجهة ولا ترجيح لأحدهما على الآخر، بل يتعين عليه البناء على كون أمر المولى مسوقاً لبيان وجوب إكرام العالم، نعم أقصى الأمر أنه لا إطلاق له ليشمل العالم الفاسق، أي رفع اليد عن أصالة الإطلاق دون أصالة الجهة.

بل يمكن أن يقال: إن سقوط أصالة الإطلاق في هذا المورد وأمثاله أمر مقطوع به على كل حال، فإنه إما أن يكون المراد هو وجوب إكرام خصوص العالم العادل، فلا إطلاق إذاً، أو أن الكلام لم يكن مسوقاً لبيان وجوب إكرام العالم، وإنما ذكر مداراة للحاضرين فلا محل للإطلاق، وهذا يعني أنه لا وجه يوجب رفع اليد عن أصالة الجهة.

وبالجملة، إن المقام ليس من صغريات الدوران بين أصالة الجهة وأصالة الاطلاق، لأن موردها الموجب لرفع أحدهما هو ما إذا كان مجرى إحداهما دليلاً مغايراً لمجرى الأخرى. أما مع اتحادهما في المجرى كما في المثال المذكور، فلا ينبغي الشك في جريان أصالة الجهة خاصة.

ووفقاً لما تقدم، يمكن أن يقال: إن قوله(ع): الأضحى يوم يضحي الناس، لما كان من قبيل المثال المتقدم، يتعين فيه البناء على سقوط أصالة الإطلاق، وحمل ما يستفاد منه من الاجتزاء بمتابعة الناس على خصوص حال التقية، ولا مجال فيه للتردد بين رفع اليد عنها، ورفع اليد عن أصالة الجهة بحمل صدور الكلام المذكور من الإمام(ع) على أنه من باب التقية، وبذلك يتم الاستدلال بالرواية على الاجتزاء بمتابعة الناس في يوم العيد حتى إذا كان ذلك مقتضى التقية منهم [4].

والمربوط من كلامه بمحل البحث، إنما هو منع دلالة خبر أبي الجارود على المحتمل الثالث، وهو البناء على كون مفاده تنـزيل ما يبني الناس على أنه يوم العيد منـزلة العيد الواقعي عند مخالفته له من دون فرق بين بنائهم في ذلك على متابعة الميزان الشرعي، في تحديد أول الشهر أو لا.

وقد تضمن كلامه(وفقه الله) أن المانع من حمل الخبر على هذا المعنى هو مناسبات الحكم والموضوع، لأن مفادها البناء على تنـزيل يوم العيد منـزلة العيد الواقعي حال مراعاة الميزان الشرعي في ذلك، فلا يمكن البناء على القبول بالتنـزيل المذكور لو كان على خلاف الميزان الشرعي كما هو مقتضى الاحتمال الثالث.

ولما كان الوجه الثاني يؤول ظاهراً لما أفاده بعض الأعلام(ره)، من أن مقتضى البناء على ثبوت التنـزيل، هو الالتـزام بترتيب الأثر.

فيجاب عنه أولاً: بأنه مناقض لما ذكره(دام موفقاً) من قوله: وبناء عليه يقال: إذا جعل الشارع المقدس لليوم الذي يبني الناس على أنه يوم عيد الأضحى متقدماً على العيد الواقعي أحكام العيد في الحج يكون مقتضى ذلك أن يكون لليوم الذي يسبقه أحكام يوم عرفة، ولليلته أحكام الليلة التي بعده، إذ لا يحتمل أن يجمع الشارع المقدس بين عدّ ذلك اليوم يوم عرفة ويوم العيد جميعاً بأن يجب على الحاج أن يقف فيه في عرفة في ما بين الزوال إلى الغروب وفي الليلة اللاحقة يلزمه الوقوف في المزدلفة، وفي الوقت نفسه يجب عليه أن يرمي الجمرة الكبرى في نهار ذلك اليوم، ويجوز له أن يذبح أو ينحر فيه هديه، ويحلق أو يقصر شعر رأسه.

هذا غير محتمل، بل لا محيص مع تنـزيل اليوم التاسع منـزلة العاشر إذا بنى الناس على ذلك في الحج، أن ينـزل اليوم الثامن منـزلة التاسع أيضاً كما يبني الناس عليه كذلك[5].

ثانياً: إن المستفاد من النص بحسب المتفاهم العرفي هو إعطاء الإمام(ع) ضابطة عامة كلية مفادها أنه في جميع المناسبات المهمة، ينبغي التقيد بالطابع العام، وذلك من خلال متابعة الرأي السائد حينئذٍ، وذكر العناوين الثلاثة كونها النماذج الأبرز والأوضح في الحياة الاجتماعية للمسلمين، وليس ذكرها لوجود خصوصية فيها، وعليه لن يكون ذكر الوقوف في عرفات مانعاً من دلالة الخبر على المطلوب، لأن الإمام(ع) لم يكن بصدد استقصاء كافة الأفراد والموارد.

والظاهر أن مفاد خبر أبي الجارود هو البناء على الأخذ بحكم الحاكم والالتـزام بقوله، فيكون مفاد الخبر أنه اليوم الذي يرى الناس صومه وإفطاره، ووجوب التضحية فيه، وهو اليوم الذي حكم فيه الحاكم وفقاً لمبنى علماء المسلمين، فعلى الشيعي متابعتهم في ذلك.

ولم يرد من الأئمة الأطهار(ع) رد لهذا الأمر، بل المستفاد من النصوص إمضاء هذا الحكم منهم، ويشهد لذلك مجموعة من النصوص:

منها: صحيح محمد بن قيس، عن أبي جعفر(ع)، قال: إذا شهد عند الإمام شاهدان أنهما رأيا الهلال منذ ثلاثين يوماً أمر الإمام بإفطار ذلك اليوم إذا كانا شهدا قبل زوال الشمس، وإن شهدا بعد زوال الشمس أمر الإمام بإفطار ذلك اليوم وأخر الصلاة إلى الغد فصلى بهم[6]. وقد دل الصحيح على أنه متى صدر أمر من الإمام بثبوت الهلال عنده، وجب على الرعية متابعته في ذلك، فيكون الأمر الصادر منهم ملزماً إليهم، لا أن الصادر منه مجرد أمر لا يلزم الرعية المتابعة فيه، فيلزمهم الإفطار، وليس مجرد الرخصة في ذلك. ويشهد لذلك ما تضمنه ذيل الخبر من أن الإمام يصلي بهم العيد بعد الأمر بالإفطار، ومن الواضح أن الصلاة فرع نفوذ الحكم بالهلال والعيد.

ومنها: خبر عيسى بن أبي منصور، أنه قال: كنت عند أبي عبد الله(ع) في اليوم الذي يشك فيه، فقال: يا غلام اذهب فانظر أصام السلطان أم لا؟ فذهب ثم عاد، فقال: لا، فدعا بالغذاء فتغذينا معه[7].

ومنها: مرسلة داود بن الحصين، عن رجل من أصحابه، عن أبي عبد الله(ع) أنه قال وهو بالحيرة في زمان أبي العباس: إني دخلت عليه وقد شك الناس في الصوم، وهو والله من شهر رمضان، فسلمت عليه، فقال: يا أبا عبد الله، أصمت اليوم؟ فقلت: لا، والمائدة بين يديه، قال: فادن فكل، قال: فدنوت فأكلت، قال: وقلت: الصوم معك، والفطر معك، فقال الرجل لأبي عبد الله(ع): تفطر يوماً من شهر رمضان؟ فقال: أي والله، أفطر يوماً من شهر رمضان أحب إلي من أن يضرب عنقي[8].

ومنها: خبر رفاعة عن رجل، عن أبي عبد الله(ع) قال: دخلت على أبي العباس بالحيرة، فقال: يا أبا عبد الله، ما تقول في الصيام اليوم؟ فقلت: ذاك إلى الإمام، إن صمت صمنا وإن أفطرت أفطرنا، فقال: يا غلام، علي بالمائدة، فأكلت معه وأنا أعلم والله أنه يوم من شهر رمضان، فكان إفطاري يوماً وقضاؤه أيسر علي من أن يضرب عنقي ولا يعبد الله[9].

ومنها: معتبرة خلاد بن عمارة قال: قال أبو عبد الله(ع): دخلت على أبي العباس في يوم شك وأنا أعلم أنه من شهر رمضان وهو يتغذى، فقال: يا أبا عبد الله، ليس هذا من أيامك، قلت: لم يا أمير المؤمنين؟ ما صومي إلا بصومك، ولا إفطاري إلا بإفطارك، قال: فقال: ادن، قال: فدنوت فأكلت، وأنا والله أعلم أنه من شهر رمضان[10].

ومنها: معتبرة عبد الحميد الأزدي قال: قلت لأبي عبد الله(ع): أكون في الجبل القرية فيها خمسمائة من الناس؟ فقال: إذا كان كذلك فصم لصيامهم وأفطر لفطرهم[11]. فإن فعل الناس كاشف عن تبعيتهم لإمام قريتهم الحاكم عليها، فيكون هذا الفعل الصادر منهم كاشفاً عن حجة على كل من يشك في ثبوت الهلال، وكذا الغريب القادم لتلك القرية.

وليس في النصوص ما يساعد على حمل الإمام الوارد فيها أنه الإمام المعصوم(ع)، بل بعضها صريح في كون المقصود به غيره. ويساعد على منع هذا الاستظهار أيضاً صعوبة الوصول إلى حكمه في تلك الأعصار لتباعد الأماكن، وعدم توفر وسائل الاتصال السهلة، فيكون الحكم الصادر عنه منحصراً في حدود بلد إقامته، ولا يمكن لبقية المسلمين الاطلاع على ذلك، وهذا يكشف عن كون المقصود بالإمام هو الحاكم في كل بلد بلد.

 

 

 

 

 

[1] وسائل الشيعة ج 10 ب ح 4 ص 293.

[2] رجال ابن الغضائري ص 61.

[3] بحوث في شرح مناسك الحج ج 18 ص 442-447.

[4] بحوث في شرح مناسك الحج ج 18 ص 448-457.

[5] بحوث في شرح مناسك الحج ج 18 ص 441.

[6]  وسائل الشيعة ج 10 ب 6 من أبواب أحكام شهر رمضان ح 1 ص

[7] وسائل الشيعة ج 10 ب 57 من أبواب ما يمسك عنه الصائم ح 1 ص

[8] المصدر السابق ح 4 ص

[9] المصدر السابق ح 5

[10] المصدر السابق ح 6

[11] وسائل الشيعة ج 10 ب 12 من أبواب أحكام شهر رمضان ح 3 ص 293.

تعليقات الفيسبوك

التعليقات مغلقة