المسجد جامعة المعرفة

لا تعليق
محرم الحرام 1446 هـ
163
0

المسجد جامعة المعرفة

إن حضارة كل مجتمع من المجتمعات يتوارثها الأجيال جيلاً بعد آخر من خلال قنوات، تنقل تلك الحضارة من خلالها للجيل اللاحق عن الجيل السابق، فتنقل القيم والأفكار والرؤى والأعراف والآداب والأخلاق والتقاليد وما شابه ذلك.

ومتى ما كانت القنوات الناقلة للحضارة سليمة كان ذلك سبباً موجباً لسرعة عملية الانتقال، كما أن خرابها يكون سبباً موجباً لقطع الصلة بين الأجيال.

ومن أهم القنوات التي تذكر في الوسط الإسلامي في هذا المجال ثلاث:

الأولى: البيت.

الثانية: المدرسة.

الثالثة: المسجد.

ومن الواضح دور البيت في زرع قيم المجتمع ومبادئه وأخلاقه، وأفكاره في الأولاد، ويقوم بهذا العمل الأبوان. والمقصود من المدرسة، ذلك المركز الثقافي الذي ينهل منه الأولاد معارفهم، ويبنون من خلاله ثقافتهم.

وأما المسجد، فليس المقصود منه ما يتصوره البعض من أنه مكان العبادة فقط، وإن كان الناس مقصرين في هذا الجانب أيضاً، بل هو أوسع من ذلك. وهو ما سوف نسلط الضوء عليه من القنوات الثلاثة في هذه الكلمة المختصرة.

المسجد في النص الديني:

مع أن المسجد قد أشير إليه في بعض الآيات القرآنية مثل قوله تعالى:- (إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله)، إلا أننا سوف نقتصر على ما تضمنته النصوص الواردة عن أهل البيت(ع) في الحديث عن ذلك.

وعلى أي حال، فإن المراجع للنصوص الواردة عن الأئمة الأطهار(ع)، يقف على موقعية المسجد في الرؤية الإسلامية، ومدى العناية والاهتمام به:

فقد روى الصدوق(ره)ا[1] أن في التوراة مكتوباً: إن بيوتي في الأرض المساجد، فطوبى لمن تطهر في بيته ثم زارني في بيتي، وحق على المزور أن يكرم الزائر. ونجد أن النص قد تضمن وصف المسجد بأنه بيت الله سبحانه وتعالى، وأن الذهاب إليه، زيارة لله تبارك وتعالى في بيته، وعليك أن تتصور ماذا تعني زيارة بيت الله في بيته؟ ولنقربها بمثال: لو وفقت بعد تحقق الظهور المبارك لسيدي ولي النعمة(عج) أن تزوره في بيته، كيف سوف تكون تلك الزيارة؟ فما بالك وأن المزور هو الباري سبحانه وتعالى. كما أشار في النهاية إلى ثبوت حق لكل من يقصد المسجد على الله تعالى، ومن الجميل أنه سبحانه لم يحدد نوعية هذا الحق، وأنه مادي، أو معنوي، ولو كان مادياً، فهل يكون منحصراً بعالم الدنيا، أو لا، وهكذا.

ومنها: ما رواه الصدوق(ره)، بسنده عن أمير المؤمنين(ع) أنه قال: جاء أعرابي إلى النبي(ص)، فسأله عن شرّ بقاع الأرض، وخير بقاع الأرض، فقال(ص): وخير البقاع المساجد، وأحبهم إلى الله أولهم دخولاً وآخرهم خروجاً منها. وقد دل النص على أمرين:

الأول: أن خير بقاع الأرض هي المساجد، وهذا يشير لمدى أهمية المسجد في الرؤية الإسلامية.

الثاني: أن أحب الناس إلى الله هو أول من يدخل إلى المسجد، وآخر من يخرج منه.

ومما يؤسف له أنه لم يعد الحديث اليوم عن أول الداخلين، وآخر الخارجين، بل صار الحديث عن أصل الحضور في المسجد، حيث لم نعد نرى حضوراً واضحاً، إذ قل الحاضرون إلى المساجد وبصورة ملحوظة، ولعل هذا يبشر بظاهرة غير محمودة في قادم الأيام، ولذا ينبغي الحذر من ذلك من الآن، والعمد إلى معالجة الأمر بما يكون مناسباً.

ومنها: ما جاء عن أمير المؤمنين(ع)، أنه قال: الجلسة في الجامع خير لي من الجلسة في الجنة، لأن الجنة فيها رضا نفسي، والجامع فيه رضا ربي. ولا يختلف اثنان في أن المقدم هو رضا الله سبحانه وتعالى على رضا النفس، ما يدعو إلى ضرورة وجود الإنسان في المسجد، وبقائه فيه.

وكما بينت النصوص أهمية المسجد، تعرضت أيضاً إلى فضل الذهاب إليه، وما يحصل عليه الذاهب للمسجد من الأجر والثواب. فقد روى أبو العباس البقباق، عن أبي عبد الله(ع) قال: يا فضل، لا يرجع صاحب المسجد بأقل من إحدى ثلاث خصال: إما دعاء يدعو به يدخله الله به الجنة، وإما دعاء يدعو به فيصرف الله بلاء الدنيا، وإما أخ يستفيده في الله. وقد دل النص على أمر مهم جداً، حيث عدّ المسجد واحداً من الأماكن التي يستجاب الدعاء فيها.

وروى الإمام الصادق عن أبيه(ع)، قال: قال رسول الله(ص): من كان القرآن حديثه، والمسجد بيته، بنى الله له بيتاً في الجنة. وليس المقصود من كون المسجد بيتاً له اتخاذه مكان سكنى، وإنما هو إشارة إلى مقدار ما يقضيه الإنسان من الوقت في المسجد، بحيث يكون هو أول الداخلين إليه، وآخر الخارجين منه، فيطول مكثه فيه، بحيث يخيل للرائي من طول مكثه وبقائه في المسجد أن المسجد بيته، وليس له مأوى سواه يأوي إليه.

وجاء عن رسول الله(ص) أنه قال: من مشى إلى مسجد من مساجد الله فله بكل خطوة خطاها حتى يرجع إلى منـزله عشر حسنات، ومحى عنه عشر سيئات، ورفع له عشر درجات.

وجاء عنه(ص) أيضاً أنه قال: والله ما من مسلم يتوضأ، فيحسن الوضوء، ثم يأتي المسجد، فيصلي فيه ركعتين، ثم يستغفر الله، إلا غفر الله له.

والظاهر أن المقصود من إحسان الوضوء، أي أداء الوضوء مشتملاً على المستحبات.

وقد تعددت النصوص الحاثة على إقامة الصلاة في المسجد فرادى، وما لذلك من الأجر والثواب، فضلاً عما إذا كانت الصلاة جماعة.

وقد هدد رسول الله(ص)، ومن بعده أمير المؤمنين(ع) الممتنعين عن حضور صلاة الجماعة في المسجد بدون عذر، ودعيا إلى مقاطعة الممتنعين عن الحضور مقاطعة اجتماعية.

الرؤية الإسلامية للمسجد:

إن ملاحظة النصوص المتقدمة، وغيرها مما تضمنته كتب الفريقين من الحديث حول المسجد، يبرز بصورة جلية واضحة الرؤية الإسلامية للمسجد، ويشير لدوره وأهميته، لأن النصوص لا تحصر دوره وأهميته في خصوص كونه مركزاً للعبادة فقط، بل إن المسجد في الإسلام جامعة معرفية، لأنه مركز للتوجيه الفكري والأخلاقي، والتعاون على أعمال البر والخير، ويظهر ذلك من النصوص التي تحدثت عنه، فقد ورد عن أمير المؤمنين(ع) أنه قال: من اختلف إلى المسجد، أصاب إحدى ثمان:

1-أخاً مستفاداً في الله.

2-أو علماً مستطرفاً.

3-أو آية محكمة.

4-أو رحمة منتظرة.

5-أو كلمة ترده عن ردى.

6-أو يسمع إلى كلمة تدل على الهدى.

7-أو يترك ذنباً خشية.

8-أو حياءً[2].

وعند مراجعة التاريخ، سواءٌ في عصر رسول الله(ص) أم من جاء بعده، تقف على أن المسجد كان مدرسة فكر وثقافة ومنبر تهذيب وتربية.

ولما للمسجد من أهمية نجد أن أول عمل قام به رسول الله(ص) حال وصوله المدينة المنورة، هو بناء المسجد، وهذا العمل له دلالاته وأهميته. ويكفينا أنه أراد التوفيق بين أطياف المجتمع الجديد، من خلال خلق التعايش بين المهاجرين والأنصار مع ما بينهما من الاختلاف في الجوانب النفسية والمعيشية والمعنوية، ليصبحوا كالجسد الواحد، وقد كان أفضل من يقوم بهذا الدور هو المسجد.

وبالجملة، إن المسجد هو الجامعة المعرفية التي تقوم بعملية التثقيف الفكري والمعرفي، وليس هو مجدر دار للعبادة فقط.

المسجد في واقعنا اليوم:

ثم إنه بعد الإحاطة بدور المسجد وأهميته، كما عرفت ذلك من خلال ملاحظة النصوص ومدى دلالتها على ذلك، يبقى السؤال والذي يحتاج جواباً عن وجود المسجد ودوره في حياة كل فرد منا، وهل توجد له أهمية وعناية لدينا أو لا؟

لا ريب أن تثبيت دور المسجد وإبراز أهميته في نفوس النشأ يتوقف على توفر عوامل وحوافز رئيسة، لعل أهمها أمرين:

الأول: دور الأسرة:

فإنه متى كان الوالدان عنصر تشجيع وتحفيز للولد من أجل الذهاب للمسجد، فضلاً عما لو كانا يصطحبانه معهما ولو في بعض الأوقات، فإن ذلك يترك أثره على نفس الطفل، ويجعله يتعرف مدى أهمية هذا العنصر، ليلقى اهتماماً عنده، وعلى عكس ذلك ما إذا لم يهتم الأبوان بجانب التحفيز والتشجيع على الذهاب إلى المسجد، ولم يشجعا الولد على الذهاب إليه، فضلاً عن أن يصطحب الأب مثلاً ولده معه إلى المسجد، لأنه ليس من المرتادين له أصلاً، فسوف لن يلقى المسجد عناية واهتماماً عند الطفل، ولن ينشأ منذ البداية على معرفة مدى أهمية المسجد.

الثاني: خلق الاهتمام بالمسجد في نفوسهم:

ويحصل هذا الاهتمام من خلال خلق الجو الخاص للطفل منذ البداية ويتم ذلك من حضوره الفعلي في حياته، عندما يجد والداه يحفزانه على الذهاب إليه، ويشجعانه على ذلك، بل يجد الوالدين ملازمين على الحضور في المسجد، ويولى ذلك عناية خاصة، بمراعاة الملبس وغير ذلك، ما يوجب لفت انظار الطفل وانتباهه إلى أهمية هذا الشيء، فيزرع في عقله الباطن مدى أهميته، وضرورة العناية به، فيلتزم بذلك، ويشب وتشب هذه الفكرة معه.

 

[1] الظاهر أن هذا حديث قدسي.

[2] يعني يترك الذنب من باب الحياء من الآخرين، لأن صدور الذنب منه، وقد رأوه من حضار المسجد، يوجب خدشة شخصيته وقيمته الإجتماعية، فيكون ذلك باعثاً له لترك الذنب حياء.

تعليقات الفيسبوك

التعليقات مغلقة