مدخل:
من المعلوم لدى كل أحد التغير الدائم والمستمر في عالم المادة بل ذكر بعض الفلاسفة والحكماء أن ذلك من اللوازم الذاتية للمادة لا ينفك عنها بحال من الأحوال.
ولما كان الإنسان فردا من هذا العالم المادي فمن الطبيعي أن يشمله هذا التغير في جميع مظاهر حياته على شكل ونمط وسائل المعيشة وكذلك على صعيد العلاقات الجديدة سواء كانت في حدود الأفراد أم في المجتمعات.
وهذا الذي ذكرناه استدعى حصول ظاهرتين جديدتين يلزم على الفقه الإسلامي أن يقوم بعلاجها.
وبعبارة أخرى إن التطور والتقدم الحضاري في جميع مجالات الحياة وهو ما نعبر عنه بالتغيير جعل الفقه يواجه قضيتين نجمتا من ذلك في بعض الأمور الداعية لبيان حكمها الشرعي.
وهاتان الظاهرتان هما:
الأولى: طروء التغير على بعض الموضوعات التي كانت موجودة في الماضي وذلك إما في الأحوال أو الشرائط مما دعى إلى تغير قيودها ومن أمثلة ذلك الشطرنج إذ بعد ما كان يلعب به على قطعة خشبية مثلاً وبأدوات تحرك باليد صار يلعب به على جهاز الكمبيوتر فهل يبقى الحكم الشرعي المنطبق عليه هناك نفسه ينطبق عليه هنا؟؟
ومنها: بيع الدم أو غيره من الأعيان النجسة حيث لم تكن لها مالية في السابق ولا قيمة فكان يحرم جعلها عوضا واليوم ثبت لها منفعة عقلائية مما يعني ثبوت مالية لها فهل يتغير الحكم؟؟
الثانية: ظهور موضوعات جديدة للأحكام الشرعية لم تكن موجودة من قبل، كالتلقيح الصناعي والتأمين بأقسامه والمعاملات البنكية وغير ذلك.
ومنها أيضاً الأوراق النقدية حيث أنها لم تكن موجودة في عصر الشارع لأن المتعارف في ذلك العصر كان التعامل بالدرهم والدينار- أي الذهب والفضة المسكوكين- وبتطور الحياة واتساع حاجات البشر أوجب اعتبار الأوراق النقدية مالاً وعليه فهل يتعلق بها زكاة أم لا؟؟
ومن الواضح أن هذا التغير الحاصل بما سبق بيانه يستدعي بيان الحكم الشرعي من قبل الفقيه.
وهنا نواجه تساؤلاً وهو :
هل أن فقه أهل البيت له القابلية والقدرة على معالجة هذه الأمور وأمثالها مما هو رهين التقدم الزمني أم لا؟؟
ينبغي قبل بيان الجواب على ذلك أن نذكر مقدمة فنقول:
إن مما نعتقده أن شريعتنا الإسلامية تمتاز بعدة امتيازات كالعالمية أي أنها لكل العالم والاستمرار والشمولية لكل جوانب الحياة فإنها لم تتأطر بزمان ولا مكان معينين ولا تختص بطبقة من الناس ولا بخصوص قوم أو جنس ما لأن النبي قد بعث إلى الناس كافة وفي شتى أقطار الأرض عربيهم وأعجميهم ودعوته للناس عامة وهي تستوعب جميع جوانب الحياة وتقدم الحلول لجميع مشكلاتها.
ودليلنا على ذلك مضافاً إلى الدليل العقلي ومضافاً إلى طبيعة الشريعة وقوانينها النصوص الكثيرة سيما ما ورد في القرآن الكريم ويمكننا تصنيفها إلى طوائف ثلاث:
الأولى: الآيات التي صرحت بأن الرسالة عامة لكل زمان ومكان:
فمنها: قوله تعالى:) يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً(.1
ومنها قوله تعالى:)كتاب أنزلناه لتخرج الناس من الظلمات إلى النور(.2
ومنها قوله تعالى:)تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا(.3
بل يمكننا التمسك بجميع الآيات التي ورد فيها الخطاب بلفظ يا أيها الناس وهي كثيرة لشمولها لجميع الناس إلى يوم القيامة في مختلف أنحاء المعمورة.
بل لو ثبت وجود سكان على الكواكب الأخرى لكان القول بشمولها لهم غير بعيد.
الثانية: الآيات الدالة على خاتمية الرسالة الإسلامية وأن النبي هو خاتم الأنبياء والمرسلين:
فمنها قوله تعالى:)ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين(.4
وهذه الطائفة أوضح من سابقتها لإفادة العموم في الشريعة ونفي اختصاصها بزمان معين.
الثالثة: الآيات الدالة على كمال الدين وتمامية الشريعة وأنها مستوعبة لجميع الأحكام التي ينبغي أن تشرع :
فمنها قوله تعالى:)اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا(.5
والحاصل: أن المستفاد من مجموع هذه الطوائف الثلاث هو أن الشريعة قادرة على تلبية احتياجات البشر التشريعية وتغطية كل ساحة الحياة في أي مقطع زمني وفي أية بقعة مكانية من أقطار الأرض سواءا في المسائل العبادية والروحية أم المسائل التربوية والأخلاقية أم المسائل الاقتصادية أم المسائل الحقوقية وسواء تعلقت بالفرد أو المجتمع أو الدولة.
وإلا لو وجدت مسائل من مسائل الحياة لم تقدم الشريعة السمحاء جوابا لها كان ذلك اعترافا ضمنيا بنقص الدين وعدم تماميته لا سمح الله.
إن قلت: إن عدم معرفة بعض الأحكام الشرعية لتجدد موضوعاتها يعود لنفس المكلفين إذ أنه من جملة العطايا الإلهية التي قد حرموا منها نتيجة غيبة المولى الإمام المنتظر u التي حصلت بسبب تقصير البشر أنفسهم.
وعلى هذا فلا نقص في الشريعة بل النقص نشأ من قبل المكلف لكونه أوجد المانع الذي حال دون وصوله إلى الحكم الشرعي.
قلت: إن هذا يتم لو كانت الأحكام الشرعية محصورة في خصوص الأحكام الواقعية حيث أنها مجهولة بغيبة الإمام الحجة u.
لكن لا زالت هناك الأحكام الظاهرية التي يتعبدنا الشارع المقدس بها ويمكننا الوصول إليها حتى في عصر الغيبة لأنه لا أحد يقول بخلو واقعة من الوقائع عن حكم ظاهري.
وعلى هذا فلا بد من معرفة هذه الأحكام الشرعية للموضوعات المستجدة نتيجة تقدم الزمن وتطوره.
ثم إننا مأمورون في عصر الغيبة بمراجعة الفقهاء ورواة الحديث لما جاء في التوقيع المبارك : وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله.6
ومقتضى الرجوع للفقهاء بيانهم للحكم وهذا يعني أنه لا بد من وجود حكم لكل مسألة ولو جديدة حتى يرجع للفقهاء وإلا كان هذا الأمر لغوا.
بعد هذه المقدمة نبدأ في الإجابة عن السؤال السابق فنقول:
تختلف منهجية التعامل مع المستجدات من المسائل بين فقه أهل البيت وبين بقية المذاهب الإسلامية الأخرى ويتضح ذلك من خلال ملاحظة منهجية الاستنباط عند فقهاء المذهب الشيعي وأدلته وملاحظة ذلك عند فقهاء المذاهب الإسلامية الأخرى ، ولنركز على خصوص ما هو متعلق بمحل بحثنا فنقول:
إذا وجدنا مسألة جديدة في موضوعها بالبيان السابق فكيف يمكننا أن نعالجها من الناحية الفقهية ؟
أما المذاهب الإسلامية الأخرى فإنها تعتمد في الإفتاء في مثل هذه المسائل على مثل القياس والاستحسان وسد الذرائع ولا بأس بالإشارة إلى معاني هذه الأمور:
القياس: وهو إثبات حكم في محل بعلة لثبوته في محل آخر بتلك العلة . والمحل الأول وهو المقيس يسمى نوعا ويسمى المحل الثاني وهو المقيس عليه أصلا وتسمى العلة المشتركة جامعا.
الاستحسان: وهو محل خلاف بينهم في تحديد معناه إذ عرف بأنه الأخذ بالسماحة وانتقاء ما فيه الراحة ، وعرف أنه الأخذ بالسعة وابتغاء الدعة ، وعرف أنه ترك القياس والأخذ بما هو أوفق للناس.
سد الذرائع: الذريعة ما كان وسيلة وطريقا إلى الشيء وسدها يحصل بهذا المعنى: أن الرب تعالى إذا حرم شيئا وله طرق ووسائل تفضي إليه فإنه يحرمها ويمنع منها تحقيقا لتحريمه وتثبيتا له ومنعا أن يقرب حماه ولو أباح الوسائل والذرائع المفضية إليه لكان ذلك نقضا للتحريم وإغراء النفوس به.
ثم إن منشأ اعتمادهم على مثل هذه الأمور يعود لمفهوم الاجتهاد عندهم إذ هو على ثلاثة أقسام:
الأول: الاجتهاد البياني وهو استنباط الحكم الشرعي من النصوص.
الثاني: الاجتهاد بمعنى تشريع الحكم وجعله فيما لا نص فيه فإن المجتهد في هكذا موارد يعمل رأيه الخاص وفهمه في تشخيص الحكم الشرعي إما على أساس القياس الظني أو على أساس مبدأ الاستحسان أو على أساس مبدأ المصالح المرسلة أو على أساس مبدأ سد الذرائع ويكون هذا الحكم المجعول من قبله بمنزلة حكم الله سبحانه وذلك بمقتضى قولهم بالتصويب.
وهذا المعنى ممنوع لأن الظن لا يغني من الحق شيئا وإنما لجأوا إلى ذلك لقلة المصادر والنصوص المتوفرة لديهم وحيث حرموا أنفسهم الانتهال من أهل البيت وما صدر منهم ، وقعوا فيما وقعوا فيه.
الثالث: الاجتهاد في مقابل النص ومن أمثلته المعروفة تحريم عمر للمتعة وهذا كسابقه لا يقبله الشيعة الإمامية لأنه ليس من حق المجتهد التشريع وإنما عليه بذل وسعه للوصول إلى الحكم الواقعي المجعول من خلال ملاحظة الأدلة.
وأما الشيعة فإنهم يعالجون هذه المسائل من النصوص الخاصة والعامة إن وجدت وأيضا بالقواعد الكلية المستفادة من الأدلة المعتبرة ، فلا يتمسكوا بشيء من الظنون لأن الاجتهاد عندنا هو استنباط الحكم الشرعي الفرعي من الأدلة المعتبرة.
ثم إن الشيء الثابت بالأدلة أن لكل واقعة حكما في الشريعة الإسلامية ، علمنا به أم لم نعلم.
وهذه الأحكام الواقعية كانت مودعة عند رسول الله وبعده عند أوصيائه المعصومين فالحوادث الواقعة لا تخلو من حكم واقعي ، وإذا لم نظفر بالحكم الواقعي فإنه يمكننا التعبد حينئذ بحكم ظاهري قطعا ، لأنه قد ثبت عندنا أن الفقيه إما يعلم الحكم الواقعي أو يظن به ظنا معتبرا دلت على اعتباره الأدلة القطعية أو يشك.
وفي حالة الشك عليه أن يرجع إلى أحد الأصول العملية المعتبرة ، أعني البراءة والاحتياط والتخيير والاستصحاب ، وهذه الأصول حاصرة لموارد الشك فلا يتخلف عنها شيء.
ونتيجة هذا أنه لا يوجد عندنا فراغ قانوني في الشريعة الإسلامية لا واقعا ولا ظاهرا ووظيفة المجتهد هي اكتشاف وتشخيص الحكم الموجود في الشريعة.
إلى هنا أظن أن الجواب عن السؤال المتقدم صار واضحا وأن فقه أهل البيت لا يقف عاجزا أمام مستجدات العصر ومتطلباته بل هو يواكب التقدم الحضاري ولديه العلاجات الفقهية الصحيحة لكل شيء جديد.
هذا ويمكننا أن نضيف لما تقدم أمورا ثلاثة يمكن من خلالها معالجة الأمور المستجدة مما يكون من متطلبات العصر:
الأول: معرفة القضية التي انصب الحكم عليها:
لأن القضايا على نوعين: خارجية وحقيقية.
فالقضايا الخارجية هي التي يكون الحكم فيها ثابتا على الأفراد الموجودة في الخارج .
وأما الحقيقية فالحكم فيها تابع لموضوعاتها التي يقدر وجودها في الحال أو في الماضي أو في المستقبل ، وقد لا يكون لها مصداق فعلا في الخارج ، إلا أن الحكم صادق.
والظاهر أن أغلب الأحكام الشرعية الواردة بصورة القضايا سواء كانت بصورة الإخبار كقوله : المؤمنون عند شروطهم.7
أو الإنشاء كقوله تعالى:)أوفوا بالعقود(.8
واردة بنحو القضية الحقيقية فلا تنحصر في المصاديق التي كانت موجودة في عصر الأئمة بل تشمل جميع المصاديق التي توجد لها في كل زمان ومكان إلا إذا قام دليل على خروجها واستثنائها ، وبالخصوص الآيات القرآنية للتصريح بأنها لجميع العالمين إلى يوم القيامة.
من هنا نقول: إن قصر الصلاة للمسافر اليوم أمر لازم حتى وإن كان بالوسائل السريعة لعدم كون القضية الدالة على القصر خارجية لتختص بتلك الأسفار التي كانت في الأزمنة القديمة ، نعم لو قام دليل على الاختصاص بها رفعنا اليد عما قلناه لكنه لم يقم قطعا.
ولا يخفى أنه يمكن من خلال هذه الكبرى علاج كثير من المسائل المستحدثة والمستجدة التي يواجهها المكلف نتيجة تطور العصر ، ولا بأس أن نشير لبعض النماذج:
1-مسألة التأمين: لما كان التأمين عقدا من العقود يمكننا استفادة جوازه وحليته من خلال القاعدة العامة المستفادة من قوله تعالى:)أوفوا بالعقود(.9
2-إجراء العقد بالهاتف فقد يقال بتصحيحه لنفس النكتة السابقة.
3-الإيداعات البنكية بجميع أقسامها حيث خرجها فقهاؤنا على القرض ورتبوا عليها أحكامه.
4-صناديق الاستثمار البنكي ويمكن علاجها على أنها مضاربة بعد تحقق الشروط المعتبرة فيها.
الثاني: إن إطلاقات الأدلة اللفظية تشمل كل مصاديق موضوع الحكم الشرعي ولا تنحصر في خصوص المصاديق التي كانت في فترة صدور النص أو ما يقاربها ، وعليه تكون الإطلاقات شاملة حتى المصاديق المستجدة في عصرنا ومن خلال هذه الكبرى يعلم حال كثير من مستجدات العصر ، وعلى سبيل المثال مسألتي الترقيع والتشريح.
الثالث: إن كثيرا من المسائل المستجدة تندرج تحت العناوين الثانوية فمثلا حرمة أكل لحم الميتة من الواضحات التي لا تشكيك فيها ، إلا أن هذه الحرمة ترتفع في حالة الاضطرار وهذا ما يعبر عنه بالحكم الثانوي مقابل الحكم الأولي وهو حرمة أكلها.
أقسام العناوين الثانوية:
وهي تنقسم إلى عدة أقسام نشير لبعض منها:
1-الاضطرار كما في مثالنا السابق أعني اضطراره لأكل لحم الميتة.
2-الضرر على النفس كما في مسألة تناول العقاقير المانعة لنزول الدورة الشهرية إذ حكمها الجواز إلا مع ترتب الضرر فإنه يكون محرما.
3-الإضرار بالغير.
4-العسر والحرج الشديد كما إذا لم يكن في صيام المرأة الحامل ضرر إلا أن في ذلك مشقة شديدة لا تتحمل عادة.
ويمكننا علاج بعض المسائل المستجدة من خلال العناوين الثانوية لأن المصاديق هي المتغيرة وإن كانت العناوين ثابتة على كليتها.
أقسام العناوين الثانوية:
تنقسم العناوين الثانوية إلى قسمين:
1-ما هو مبني على الضرورات فيكون مقدراً بقدرها ولا يجوز أن يتعدى عن موردها ، مثال ذلك جواز أكل الميتة للمضطر ، وهذا القسم يكون مخصوصا بحالته الزمانية أو المكانية أو كليهما.
2-ما لا يكون مخصوصا بزمان أو مكان بل هو باقٍ مدى الدهور والعصور.
ثم إنه في القسم الأول لا يكون للفقيه تعيين حدود الموضوع بل هو على المكلف.
نعم قد يقوم الفقيه بتطبيق الحكم الاضطراري على موضوعه من باب الولاية على المسلمين فيحكم حكما خاصا على موضوع خاص ومن ذلك قضية السيد السند العلامة الشيرازي في تحريم شرب التنباك وأنه بحكم المحاربة لإمام العصر u حيث طبق الموضوع من باب حكم الفقيه والولاية الإلهية.
ومن المعلوم أن الضرورات أمور قسرية استثنائية لا تدوم وإنما يحتاج إليها في فترة من الزمن خاصة وإن كان قد يتفاوت طولا وقصرا.
وبعبارة أخرى تدور الأحكام الثانوية مدار وجود موضوعاتها فإذا انتفت ، انتفت وموضوع الضرورة والاضطرار أمر عارضي غالبا ما ينتفي بعد مضي زمن ولا يبقى مدى الزمان.
والحمد لله رب العالمين
——————————————————————————–
1 سورة الأعراف الآية رقم 158
2 سورة إبراهيم الآية رقم 1
3 سورة الفرقان الآية رقم 1
4 سورة الأحزاب الآية رقم 4
5 سورة المائدة الآية رقم 3
6 الوسائل ب11 من أبواب القضاء ح9
7 الخلاف ج1 ص318
8 سورة المائدة الآية رقم 1
9 سورة المائدة الآية رقم 1