ذكر السيد اليزدي(قده) صاحب العروة، أنه لا يعتبر في صيام شهر رمضان تجديد النية لكل يوم منه، بل يكفي من الإنسان الإتيان بنية واحدة في مطلع الشهر، وتكفي النية المأتي بها حينئذٍ لصيام بقية الشهر، نعم الأحوط استحباباً تكرار النية وتجديدها لكل يوم بعدما يكون قد نوى الصيام للشهر بأكمله.
وما ذكره(قده)هو الموافق للمنقول عن المرتضى والشيخ وأبي الصلاح وسلار وابن إدريس وابن حمزة وعن العلامة في المنـتهى الإجماع عليه. وقال مشهور المتأخرين بلزوم النية لكل يوم من أيام شهر رمضان فلا يكتفى فيه بنية واحدة.
هذا ولما كانت المسألة من المسائل المعنونة في كلمات الأصحاب فلا بأس بنقل جملة من كلماتهم:
قال الشيخ المفيد في المقنعة: فيجب على المكلف الصيام أن يعتقده(يعقده)قبل دخول وقته تقرباً إلى الله جل اسمه بذلك، وإخلاصاً له على ما قدمناه في المقال، فإذا اعتقد(عقد)قبل الفجر من أول يوم من شهر رمضان صيام الشهر بأسره أجزأه ذلك في صيام الشهر بأجمعه، وأغناه في الفرض عن تجديد نية في كل يوم على الاستقبال، فإن جدد النية في كل يوم قبل فجره كان بذلك متطوعاً فعلاً فيه فضل يستحق عليه الثواب، وإن لم يجدد نية بعد ما سلف له لجملة الشهر فلا حرج عليه كما بيناه[1].
أقول: المستفاد من كلامه(قده) كفاية نية واحدة للشهر بأكمله، نعم الأفضل له تجديد النية لكل يوم من أيام شهر رمضان المبارك.
وقال السيد المرتضى في الانتصار: ومما ظن انفراد الإمامية به: القول بأن نية واحدة في أول شهر رمضان تكفي للشهر كله، ولا يجب تجديد النية لكل يوم، ومالك يوافق على هذا المذهب، وإن خالف باقي الفقهاء فيه.
والحجة في ذلك: إجماع الطائفة، وأيضاً فإن النية تؤثر في الشهر كله، لأن حرمته حرمة واحدة، كما أثرت في اليوم الواحد لما وقعت في ابتدائه[2].
أقول: تعرض(ره) إلى بيان الاكتفاء بنية واحدة للشهر بأكمله، وأشار إلى أن هذا الرأي ليس من منفردات الإمامية، بل وافقهم على ذلك مالك، وإن خالفهم بقية فقهاء المذاهب الأخرى، ثم عمد إلى ذكر الحجة التي استند لها فقهاء الطائفة في إثبات كفاية نية واحدة للشهر بأكمله، فذكر دليلين:
الأول: الإجماع.
الثاني: إن النية لما كانت في أول الليلة كافية لصوم اليوم الذي يليها، فإن نية أول ليلة تكفي أيضاً للشهر بأكمله.فلاحظ.
قال الشيخ في الخلاف: ويجزي في صوم رمضان نية واحدة من أول الشهر إلى آخره، وبه قال مالك، وقال الشافعي: لابد من أن ينوي لكل يوم من ليله، سواء وجب ذلك شرعاً أو نذراً، كصيام شهر رمضان والنذر والكفارات، وسواء تعلق بزمان بعينه كصوم رمضان، أو نذر زمان بعينه، أو كان في الذمة كالنذور المطلقة، والقضاء والكفارات، وبه قال مالك واحمد، إلا أن مالكاً قال: إذا نوى شهر رمضان في أول ليلة للشهر كله أجزأه[3].
أقول: تضمن كلامه بيان الاكتفاء بنية واحدة للشهر الشريف، وموافقة مالك لمقالة الشيعة الإمامية، والخلاف في ذلك من الشافعي، وأنه يشترط نية لكل يوم يوم من شهر رمضان.
وقال في النهاية: والنية واجبة في الصيام، ويكفي في نية صيام الشهر كله أن ينوي في أول الشهر، ويعزم على أن يصوم الشهر كله، وإن جدد النية في كل يوم على الاستيناف كان أفضل، فإن لم يفعلها، لم يكن عليه شيء[4].
وقال في المبسوط: ويجزيه أن ينوي ليلة الشهر صيام الشهر كله، وإن جددها كل ليلة كان أفضل[5].
وقال السيد في الغنية: ونية واحدة في أول شهر رمضان تكفي لجميعه، وتجديدها لكل يوم أفضل، بدليل الإجماع المشار إليه، ولأن حرمة الشهر حرمة واحدة، فأثرت في جميعه النية الواقعة في ابتدائه، كما أثرت في جميع اليوم إذا وقعت في ابتدائه[6].
أقول: لقد جعل(ره) الدليل على مدعاه من كفاية نية واحدة للشهر بأكمله، هو ما جاء في كلمات السيد المرتضى(ره)، وقد عرفت فيما تقدم أنهما أمران، فلاحظ.
وقال سلار في ذكر أحكام صوم شهر رمضان: والنية، نية القربة، ونية واحدة كافية في صيام الشهر كله[7].
وقال الحلبي في الكافي: ويجزيه أن ينوي ليلة الشهر قبل طلوع الفجر صيامه، وتجديد النية لكل يوم قبل طلوع فجره أفضل[8].
وقال العلامة في المختلف: ذهب الشيخان، والسيد المرتضى، وسلار، أبو الصلاح إلى أن شهر رمضان يكفي فيه نية واحدة من أوله، والأقرب المنع.
لنا: أن صوم كل يوم عبادة، وكل عبادة تفتقر إلى نية. احتج الشيخان بالإجماع، وقال السيد المرتضى في المسائل الرسية: تغني النية الواحدة في ابتداء شهر رمضان عن تجديدها في كل ليلة، وهو المذهب الصحيح الذي عليه إجماع الامامية، ولا خلاف بينهم فيه، ولا رووا خلافه.
ثم اعترض على نفسه، بأنه كيف تجزئ النية في جميع الشهر وهي متقدمة في أول ليلة منه؟
وأجاب: بأنها تؤثر في الشهر كله كما تؤثر في اليوم كله، وإن وقعت في ابتداء ليلته، ولو شرطت مقارنة النية للصوم لما جاز ذلك مع الإجماع على جوازه، ولو اشترط في تروك الأفعال في زمان الصوم مقارنة النية لها لوجب تجديد النية في كل حال من زمان كل يوم من شهر رمضان، لأنه في هذه الأحوال كلها تارك لا يوجب كونه مفطراً.
وقد علمنا أن استمرار النية في طول النهار غير واجب، وأن النية قبل طلوع الفجر كافية مؤثرة في كون تروكه المستمرة طول النهار صوماً، فكذا القول في النية الواحدة إذا فرضنا لجميع شهر رمضان أنها مؤثرة شرعاً في صيام جميع أيامه، وإن تقدمت.
والجواب: بمنع الإجماع.
قال في الانتصار بعد الاحتجاج بالإجماع من الطائفة: إن النية تؤثر في الشهر كله، لأن حرمته حرمة واحدة، كما أثرت في اليوم الواحد لما وقعت في ابتدائه.
وهذا قول ضعيف، لأنا نمنع وحدة حرمته، ولا شك في أن صوم كل يوم مستقل بنفسه قائم بذاته، لا تعلق له باليوم الذي بعده، وتتعدد الكفارة بتعدد إفطار أيامه، ثم إنه قياس محض مع قيام الفارق بين الأصل والفرع، فإن اليوم الواحد عبادة واحدة وانقسامها بانقسام أجزاء زمانها لا يوجب تعددها، كالصلاة التي يكفي في إيقاعها النية الواحدة من أولها، ولا يوجب لكل فعل نية على حدة، بخلاف الأيام المتعددة فإنها عبادات متغايرة، ولا تعلق لبعضها ببعض، ولا يـبطل بعضها ببطلان بعض، فظهر الفرق[9].
أقول: تضمن كلامه(ره) الإشارة إلى قول القدماء من أصحابنا، واستعرض دليلهم الذي استندوا إليه، فجعل دليل المفيد والشيخ هو الإجماع، وكذا المرتضى في المسائل الرسية، مضافاً لما سبق منا ذكره في تعقيب كلامه(ره) الوارد في الانتصار.
ثم أشار إلى الإشكال الذي اعترض به المرتضى(ره) على نفسه، وجوابه.
وأخيراً ناقش ما استدلوا به، فرد الإجماع، ورد دليل المرتضى في الانتصار، وحاصل أجوبته عن دليله.
1-المنع من وحدة حرمة الشهر، لأنه لا ربط لصوم يوم بصوم يوم آخر، بل صوم كل يوم مستقل بنفسه، قائم بذاته لا تعلق له باليوم الذي بعده، واستشهد لذلك بتعدد الكفارة في تعدد إفطار كل يوم.
2-أشار إلى أن ما صدر من المرتضى(ره) قياس مع الفارق بين الأصل والفرع، ووجه الفرق هو: إن اليوم الواحد عبادة واحدة، وانقسامها بانقسام أجزاء زمانها، لا يوجب تعددها كالصلاة. وهذا بخلاف الأيام المتعددة، فإنها عبادات متغايرة، لا تعلق لبعضها ببعض، ولا يـبطل بعضها ببطلان بعض.
ولنكتفي بما ذكرناها من كلمات، ولنلحظ ما جاء في الاستدلال على المسألة، خصوصاً وأنه قد اتضح أنها ذات قولين:
الأول: الاكتفاء بنية واحدة للشهر بأكمله، وهو قول قدماء الأصحاب.
الثاني: البناء على عدم كفاية نية واحدة للشهر بأكمله، وهو ما بنى عليه المتأخرون.
ويبدوا أن أول من خالف في ذلك هو العلامة(ره).
أدلة المتأخرين:
استدل القائلون باعتبار النية لكل يوم من أيام شهر رمضان:
1-إن النية عبارة عن الإخطار الإلتفاتي التفصيلي عند فجر كل يوم.
وفيه: إن هذا المعنى المذكور للنية لا دليل عليه من نقل ولا عقل. بل الصحيح أن النية عبارة عن الداعي والإخطار الإرتكازي، وعليه فيكتفى بمجرد تحقق ذلك.
2-النبوي المعروف: لا صيام لمن لم يـبيت النية[10]. وتقريب الاستدلال به أن يقال: مقتضى الإطلاق المستفاد من النص هو لزوم النية لكل يوم يوم من أيام الشهر، إذ أن الحديث يقرر نفي الصوم لكل من لم تكن عنده، وهذا يستلزم تجديد النية لكل يوم من أيام الشهر، فيثبت المطلوب.
وفيه: بعد رفع اليد عن عدم تماميته سنداً، كما أن الجبر فيه ليس متحققاً، بأنه مشير إلى عدم تحقق الصوم بدون نية لا أنه يشترط في تحقق الصوم الإتيان بالنية في كل ليلة، على أنه قد يقال بأنه ليس في مقام البيان من هذه الجهة.
وبعبارة أخرى إنما يصح الاستدلال بالحديث المذكور لو كان في مقام البيان من جميع الجهات كي ما ينعقد له إطلاق، أما لو كان في مقام بيان أنه يعتبر إيجاد النية في شهر رمضان، مع عدم تعرض منه لكونها تعتبر لكل يوم منه، أو تكفي نية واحدة للشهر بأكمله، فلن يصلح للدليلية على المدعى، ولا ريب في كون الحديث ناظراً للمعنى الثاني، ولا أقل من احتمال ذلك فيه مما يوجب وجود إجمال في النص يستوجب الامتناع عن التمسك به للمدعى.
3-ما جاء عن الشهيد الثاني (قده) وحاصله:
إن شهر رمضان عبادة وحدانية تحتاج إلى نية واحدة فيشكل تفكيك نية العبادة الواحدة وتقسيمها على أجزاء العبادة[11].
وأورد عليه بعض الأساطين(قده)، بأنه يمكن التفكيك بين الأيام في الطاعة والمعصية فإن ذلك من لوازم العبادة ولتعدد الثواب والعقاب أيضاً[12]. وهو في محله لا إشكال فيه.
واستدل للقول الثاني:
1-الإجماع المدعى من قبل السيدين والشيخ في الخلاف[13].
وهو كما ترى حيث أنه إن لم يكن معلوم المدرك فلا أقل من احتماله مما يمنع من الركون إليه وإحراز كونه إجماعاً تعبدياً يكشف عن رأي المعصوم.
على أنه لا يخفى أن مثل هكذا إجماع يعاني من مشكلة أخرى غير ما ذكرناه، وهي ملاحظة ناقل الإجماع، وهما السيدان والشيخ(ره) وهم ممن لا يرى حجية الإجماع من باب الإجماع الدخولي، بل يلتـزمون بحجيته من باب قاعدة اللطف، وهو غير تام في أصل الدليل.
2-إن صوم رمضان كله عبادة واحدة، والتفكيك في العبادة الواحدة غير عزيز كما لايخفى.
3-التمسك بأصالة البراءة في المورد الذي يشك فيه في اعتبار قيد زائد لدوران المسألة بين الأقل والأكثر فتجري البراءة عن الأكثر وهو اعتبار إيقاعها لكل ليلة.
4-كفاية الداعي الإرتكازي في النية، ولذا لا ريب في صدور كل منه وجداناً.
وفيه: إن اللازم مما ذكر، الحكم بصحة الصيام ولو وقع قبل ستة أشهر مثلاً لتوفر الداعي وهو مما يصعب الالتزام به، فتأمل.
5- التمسك بقوله تعالى:- (فمن شهد منكم الشهر فليصمه)[14]. وتقريب الاستدلال بها:
إن المستفاد منها هو وجوب الصوم على كل من شهد الشهر بنحو الواجب التعليقي لوجود أوامر عديدة تعلقت بأيام متعددة كل منها واجب على سبيل الانحلال الحقيقي.
فتحصل إلى هنا أن الصحيح هو القول الثاني ولكن لما كان القول الأول أوفق بقواعد الاحتياط كانت مراعاته أولى وأجدى والله سبحانه وتعالى العالم العاصم.
——————————————————————————–
[1] المقنعة ص 302.
[2] الانتصار ص 182.
[3] الخلاف ج 2 ص 163 كتاب الصوم المسألة 3.
[4] النهاية ص 151.
[5] المبسوط ج 1 ص 276.
[6] غنية النـزوع ج 1 ص 138.
[7] المراسم ص 96.
[8] الكافي ص 181.
[9] المختلف ج 3 ص 373-375.
[10] مستدرك الوسائل ب2 من أبواب وجوب الصوم ونيته ح 1.
[11] مسالك الأفهام ج 2 ص 11.
[12] مستمسك العروة الوثقى ج 8 ص 220.
[13] رسائل المرتضى ج 3 ص 53.الخلاف ج ص
[14] سورة البقرة آية رقم