س:أريد شرحاً مفصلاً حول التقية،مع بيان موارد العمل بها،وكل ما يتعلق بذلك؟…
ج:لقد كانت التقية شعاراً لآل البيت(ع)دفعاً للضرر عنهم،وعن أتباعهم،وحقنا لدمائهم،واستصلاحاً لحال المسلمين،وجمعاً لكلمتهم ولماً لشعثهم.
وما زالت سمة تعرف بها الأمامية دون غيرها،من الطوائف والأمم،وكل إنسان إذا أحس بالخطر على نفسه أو ماله بسبب نشر معتقده أو التظاهر به،لابد أن يتكتم ويتقي في مواضع الخطر.
وهذا أمر تقتضيه فطرة العقول،ومن المعلوم أن الأمامية وأئمتهم لاقوا من ضروب المحن وصنوف الضيق على حرياتهم في جميع العهود،مالم تلاقه أية طائفة أو أمة أخرى،فاضطروا في أكثر عهودهم إلى استعمال التقية،بمكاتمة المخالفين لهم وترك مظاهرتهم،وستر اعتقاداتهم وأعمالهم المختصة بهم عنهم،لما كان يعقب ذلك من الضرر في الدين والدنيا،ولهذا السبب امتازوا بالتقية وعرفوا بها دون سواهم.
وللتقية أحكام من حيث وجوبها وعدم وجوبها بحسب اختلاف مواقع خوف الضرر، مذكورة في أبوابها في كتب العلماء الفقهية،وليست هي بواجبة على كل حال،بل قد يجوز أو يجب خلافها في بعض الأحوال،كما إذا كان في إظهار الحق والتظاهر به نصرة للدين،وخدمة للإسلام،وجهاد في سبيله،فإنه عند ذلك يستهان بالأموال ولا تعز النفوس.
وقد تحرم التقية في الأعمال التي تستوجب قتل النفوس المحترمة،أو رواجاً للباطل أو فساداً في الدين أو ضرراً بالغاً على المسلمين بإضلالهم أو إفشاء الظلم والجور فيهم.
وعلى كل حال ليس معنى التقية عند الأمامية أنها تجعل منهم جمعية سرية لغاية الهدم والتخريب كما يريد أن يصورها بعض أعدائهم غير المتورعين في إدراك الأمور على وجهها،ولا يكلفون أنفسهم فهم الرأي الصحيح عندنا،كما أنه ليس معناها أنها تجعل الدين وأحكامه سراً من الأسرار،ولا يجوز أن يذاع لمن لا يدين به،كيف وكتب الأمامية ومؤلفاتهم فيما يخص الفقه والأحكام ومباحث الكلام والمعتقدات،قد ملأت الخافقين وتجاوزت الحد الذي ينـتظر من أية أمة تدين بدينها.
إن عقيدتنا في التقية قد استغلها من أراد التشنيع على الأمامية،فجعلوها من جملة المطاعن فيهم،وكأنهم كان لا يشفى غليلهم إلا أن تقدم رقابهم إلى السيوف،لإستئصالهم عن أخرهم في تلك العصور التي يكفي فيها أن يقال هذا رجل شيعي ليلاقي حتفه على يد أعداء آل البيت،من الأمويـين،والعباسيـين،بل العثمانيـين.
هذا ومما يدل على مشروعية التقية،عدة آيات من القرآن الكريم:
منها:قوله تعالى:- (إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان)سورة النحل الآية رقم 106.وقد نزلت هذه الآية في عمار بن ياسر الذي التجأ إلى التظاهر بالكفر خوفاً من أعداء الإسلام.
ومنها: قوله تعالى:- (إلا أن تـتقوا منهم تقاة)سورة آل عمران الآية رقم 28.
ومنها:قوله تعالى:- (وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه)سورة المؤمن الآية رقم 28.
ثم إن التقية،قد تكون من باب خوف الضرر،كما أشرنا لذلك،بأن كان الإنسان يخاف على نفسه أو على عرضه أو على ماله،أو ما يتعلق به،أو على نفس غيره من المؤمنين،أو على حوزة الإسلام.
وقد تكون التقية مداراة من دون خوف وضرر فعلي،بأن يكون المقصود منها هو جلب مودة العامة والتحبيب بيننا وبينهم.
وأما موارد العمل بها،فنقول:
إن التقية محكومة بالأحكام الخمسة،فالواجب منها ما كان لدفع الضرر الواجب فعلاً،وأمثلته كثيرة،ففي كل مورد شعر المكلف فيه بحصول الضرر وترتبه عليه،وجب عليه العمل بالتقية،كالوضوء وفقاً للعامة إذا كان مورد ضرر عليه لو توضأ بوضوء الخاصة،وكالسجود على ما لا يصح السجود عليه،وما شابه ذلك.
والمستحب كل ما كان فيه التحرز عن معارض الضرر،بأن يكون تركه مفضياً تدريجاً إلى حصول الضرر كترك المداراة مع العامة وهجرهم في المعاشرة في بلادهم،فإنه ينجر غالباً إلى حصول المباينة الموجبة لتضرره منهم.
وأما المباح:فما كان التحرز عن الضرر وفعله مساوياً في نظر الشارع،كالتقية في إظهار كلمة الكفر على ما قيل،ويدل عليه الخبر الوارد في رجلين أخذا بالكوفة وأمرا بسب أمير المؤمنين(ع).
والمكروه،فما كان تركها وتحمل الضرر أولى من فعله،كما ذكر بعضهم في إظهار كلمة الكفر،وأن الأولى تركها ممن يقتدي به الناس إعلاء لكلمة الإسلام،والمراد بالمكروه حينئذٍ ما يكون ضده أفضل.
والمحرم منها:ما كان في الدماء،وفي كل مورد كان الضرر مأموناً منه،وتحرم أيضاً إذا كان العمل بها موجباً لفساد في الدين،وكذا إذا كان العمل بالتقية يستلزم هدم المذهب الجعفري،فإنها تحرم،وكذا إذا كان العمل بها يستلزم ذهاب ضروري من ضروريات المذهب،كما لو أراد المنحرفون الطغاة تغيـير أحكام الإرث،أو الطلاق،أو الصلاة،أو الحج،أو غيرها،من أصول الأحكام فضلاً عن أصول الدين،أو المذهب.
هذا وليعلم أن التقية الواجبة تبيح كل محظور من فعل الحرام أو ترك الواجب.