حديث المنـزلة
يعتبر حديث المنزلة، وهو قول النبي الأكرم محمد(ص) لأمير المؤمنين علي(ع): أنت مني بمنـزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي. واحداً من النصوص المتضمنة منقبة من مناقب أمير المؤمنين(ع)، ومن المعلوم أن كل منقبة خاصة له(ع) تجعله الأشبه برسول الله(ص)، فتكون الخلافة متعينة فيه، لأنه الأفضل والأقرب وكلما انضمت إلى المنقبة الموجودة منقبة أخرى شكلت المنقبة الثانية قرينة إضافية، فتزداد قوة الاحتمال حتى يصل إلى درجة لا يعتد معها باحتمال الخلاف.
وقد أتخذ جمع من علماء الجمهور منهجاً في التعاطي مع مناقب أمير المؤمنين(ع) ومناقبه، يقوم على أمرين:
الأول: منع أصالة الصدور، ويكون من خلال أحد سبل على نحو الطولية، فيلجأ للسبيل الثاني حال عدم جدوائية السبيل الأول:
أحدها: تكذيب الحديث، بنقده من حيث السند، وتضعيفه.
ثانيها: اعتباره من الأحاديث الموضوعة والمكذوبة.
ثالثها: التشكيك فيه، وهذا أضعف المراتب التي يلجأ إليها.
نعم لو كان الحديث مشهوراً بين المسلمين، أو موضع اتفاق بينهم، أو متواتراً، كان ذلك مانعاً لهم من منع أصالة صدوره.
الثاني: منع أصالة الظهور، وذلك بنقد الحديث متناً ومضموناً عن طريق التلاعب في دلالته الجلية الواضحة بصرفها عن معناها الحقيقي.
ومع عدم القدرة على ذلك، فإنه يعمد إلى التقليل من أهمية الدلالة بنفي الخصوصية عن أمير المؤمنين(ع)، واعتبار المضمون عاماً يشترك معه فيه بقية الصحابة وهكذا، كما سمعت ذلك عند الحديث عن آية الولاية. ويكون ذلك عادة من خلال إيهام القارئ من خلال نص قرآني، أو حديث.
ولم يختلف حال حديث المنـزلة الذي يستدل به على إثبات النص الشرعي على منصب الإمامة والخلافة للأئمة الأطهار(ع)، عن بقية النصوص المتضمنة لمناقب أمير المؤمنين(ع)، وفضائله، نعم لم يعمد للمناقشة في صدوره، والتشكيك في اعتباره من حيث السند، لأنه مورد تسالم علماء الإسلام، بل لا يبعد عدّه من النصوص مقطوعة الصدور، فقد رواه الشيخان في صحيحهما، وهذا كافٍ لحكم المسلمين بصحته، كما أخرجه غيرهما أيضاً، فقد ذكر في سنن أبي داوود، والترمذي، وابن ماجة، ومسند أحمد بن حنبل، وابن حجر والسيوطي، وغيرهم.
وأما في مصادر الخاصة، فقد ذكر السيد هاشم البحراني(ره) في كتابه غاية المرام سبعين حديثاً.
وقد رواه أكثر من عشرين صحابي، وهم:
1-أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(ع).
2-عمر بن الخطاب.
3-عبد الله بن عباس.
4-عبد الله بن مسعود.
5-جابر بن عبد الله الأنصاري.
6-سعد بن أبي وقاص.
7-أبو سعيد الخدري.
8-أبو هريرة الدوسي[1].
دلالة الحديث:
وفي حديث المنـزلة جانبان من البحث، جانب دلالته على منقبة خاصة لأمير المؤمنين(ع)، دون بقية الصحابة، وجانب دلالته على خلافته لرسول الله(ص)، ومجرد إنكار دلالة الحديث على الجانب الثاني، لا يوجب منع دلالته على الجانب الأول، وهذا يشير إلى اختلاف البحث في كل منهما عن الآخر.
ومن الواضح أن ما يرتبط بمحل البحث هو الجانب الثاني دون الأول منهما، وهو موضع الخلاف بين المسلمين كما هو معلوم.
وحتى يتضح مدلول الحديث لابد من الرجوع للقرآن الكريم لمعرفة حدود منـزلة هارون من موسى(ع)، والإحاطة بكل ما كان لهارون(ع)، ليكون ثابتاً لأمير المؤمنين(ع).
خصائص هارون في القرآن:
ويمكن الوقوف على الخصائص الثابتة لهارون(ع) من خلال قوله تعالى:- (اذهب إلى فرعون إنه طغى* قال رب اشرح لي صدري* ويسر لي أمري* احلل عقدة من لساني* يفقهوا قولي* اجعل لي وزيراً من أهلي* هارون أخي* اشدد به أزري* وأشركه في أمري* كي نسبحك كثيراً* ونذكرك كثيراً* إنك كنت بنا بصيراً* قال قد أوتيت سؤلك يا موسى)[2]. لأنها قد تضمنت مجموعة من الخصائص والمنازل الثابتة لهارون(ع)، وهي: الوزارة، والأخوة، وشد الأزر، والإشراك في أمر نبي الله موسى(ع)، والتسبيح والذكر لله تعالى كثيراً.
منزلة الوزارة:
وقد أشير إليه مرتين في القرآن الكريم، إحداهما في سورة طه كما سمعت، والأخرى في قوله تعالى:- (ولقد آتينا موسى الكتاب وجعلنا معه أخاه هارون وزيراً)[3]. والوزير هو الذي يحمل الحمل الثقيل، وقد سمي بذلك لأنه يحمل ثقل حمل الملك، وقيل أنه من الوَزَر بالفتح، بمعنى الجبل الذي يلتجأ إليه، وسمى بذلك لأن الملك يلتجأ إليه في آرائه وأحكامه.
ولما كان الحمل الذي كلف به نبي الله موسى(ع) كثير الجوانب متباعد الأطراف، لا يسعه(ع) القيام به وحده، بل يحتاج معيناً معه، سأل الله تعالى أن يجعل له وزيراً من أهله يشاركه في ذلك.
وهذه الوزارة الثابتة لهارون(ع) بنص القرآن الكريم، ثابتة لأمير المؤمنين(ع) بمقتضى حديث المنـزلة، وهذا ما أشار إليه ابن أبي الحديث المعتـزلي، في شرح النهج، قال: ويدل على أنه وزير رسول الله(ص) من نص الكتاب والسنة، قول الله تعالى:- (واجعل لي وزيراً من أهلي* هارون أخي* اشدد به أزري* وأشركه في أمري)، وقال النبي(ص) في الخبر المجمع عل روايته بين سائر فرق الإسلام: أنت مني بمنـزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي. فأثبت له جميع مراتب هارون عن موسى، فإذن هو وزير رسول الله(ص)[4].
منـزلة الأخوة:
وكما صرح القرآن الكريم، بأخوة هارون(ع) لموسى(ع)، فقد جعل رسول الله(ص) هذه المنـزلة لأمير المؤمنين(ع) أيضاً، من خلال مواطن كثيرة نص فيها رسول الله(ص) على ذلك، أحدها حديث المنـزلة، ما يكشف عن تحقق المشاكلة الروحية والمماثلة العلمية، والخلقية والعملية بينهما(ع)، وأنها قد بلغت أعلى مستوياتها، فعلي(ع) أقرب الناس إلى أفضل البرية محمد(ص).
منـزلة شدّ الأزر:
وكما طلب موسى(ع) من ربه أن يشد أزره بأخيه هارون(ع)، وقد أعطي ذلك، فقد تضمنت النصوص سؤال رسول الله(ص) ربه شد أزره، وقد استجاب الله تعالى له كما استجاب لنبيه موسى(ع)، وقد شد عضد رسول الله(ص) بأخيه أمير المؤمنين(ع)، ويستفاد هذا المعنى أيضاً من حديث المنـزلة.
منـزلة الإصلاح:
وهذه المنـزلة ثابتة لأمير المؤمنين(ع) في أمة محمد(ص) كما كانت ثابتة لهارون(ع) في أمة موسى(ع)، وكما مارس هارون ذلك في أمة موسى بسبب نيابته عنه(ع)، فكذلك يمارس أمير المؤمنين(ع) ذلك أيضاً في أمة النبي(ص) لأنه نائبه.
منـزلة الشراكة في الأمر:
إن المستفاد من الياء الواردة في قوله تعالى:- (أشركه في أمري)، أن هناك أمراً مختصاً بنبي الله موسى(ع)، وليس هارون(ع) شريكاً فيه، لذا طلب موسى(ع) من الله تعالى أن يشاركه هارون فيه، ويستفاد هذا من ياء الاختصاص الواردة في قوله تعالى:- (أمري)، لأنه لا معنى أن يكون الأمر مشتركاً بينهما ويؤتى بياء الاختصاص، فضلاً عن أن يسأل موسى(ع) ربه الشراكة لهارون وهو شريك معه.
ولابد أن يكون ما سأل موسى(ع) ربه إشراك هارون(ع) فيه أمراً لا يملكه هارون(ع)، وإلا كان سؤاله لغوياً لأنه تحصيل للحاصل، وهو ما يجل عنه نبي الله موسى(ع)، وهذا يعني أنه أمر آخر غير النبوة.
وقد فسره صاحب الميزان(ره)، بأنه تبليغ الدين، أو تبليغ شيء من أجزائه بعد بلوغه بتوسط النبي، قال(ره): هو تبليغ ما بلغه من ربه بادي مرة، فهو الذي يخصه ولا يشاركه فيه أحد سواه، ولا له أن يستنيب فيه غيره. وأما تبليغ الدين أو شيء من أجزائه بعد بلوغه بتوسط النبي فليس مما يختص بالنبي، بل هو وظيفة كل من آمن به ممن يعلم شيئاً من الدين، وعلى العالم أن يـبلغ الجاهل، وعلى الشاهد أن يبلغ الغائب، ولا معنى لسؤال إشراك أخيه معه في أمر لا يخصه بل يعمه وأخاه وكل من آمن به من الإرشاد والتعليم والبيان والتبليغ، فتبين أن معنى إشراكه في أمره أن يقوم بتبليغ بعض ما يوحى إليه من ربه عنه وسائر ما يختص به من عند الله كافتراض الطاعة وحجية الكلمة[5].
ومقتضى حديث المنـزلة أن يكون هذا الإشراك الثابت لهارون(ع) ثابتاً لأمير المؤمنين(ع)، وكما لم يطلب موسى إشراك هارون في النبوة، لن تكون النبوة ثابتة أيضاً لأمير المؤمنين(ع)، بل قد نص حديث المنـزلة على استثنائها. ويساعد على ثبوت الشراكة قول النبي(ص) لعلي(ع): علي مني وأنا من علي، ولا يؤدي عني إلا أنا أو علي. فمع أن قوله(ص): عني، يشير إلى اختصاصه بالوحي، وأنه الوحيد الذي يتلقاه، إلا أن تبليغه قد يكون بواسطته، وقد يكون من خلال أمير المؤمنين(ع)، وهو مقتضى قوله(ص): ولا يؤدي عن إلا أنا أو علي.
وبالجملة، إن مقتضى حديث المنـزلة، وحديث التأدية، أن لعلي(ع) الشراكة في التبليغ الابتدائي للوحي، وهذا هو المقصود من التصديق الوارد في قوله تعالى:- (وأخي هارون هو أفصح مني لساناً فأرسله معي ردءاً يصدقني)[6].
ومن النماذج لذلك قيام أمير المؤمنين(ع) بتبليغ الآيات العشر من سورة براءة، كما دل على ذلك الحديث الصحيح سنداً، والصريح دلالة، المتفق عليه بين علماء المسلمين، ففي مسند أحمد عن ابن عباس: ثم بعث فلاناً بسورة التوبة، فبعث علياً خلفه فأخذها منه، قال: لا يذهب بها إلا رجل مني وأنا منه[7].
ومن المعلوم أنه(ص) لم يبلغ الآيات العشر من سورة براءة، ما يعني إن ما قام به أمير المؤمنين(ع) إبلاغاً ابتدائياً، ولهذا نزل الوحي يأمر رسول الله(ص) أن يرد أبا بكر عن القيام بهذه المهمة، ويوكلها لأمير المؤمنين(ع).
ولا يبعد أن إرسال رسول الله(ص) أبا بكر بالمهمة، غرضه بيان منقبة خاصة ومنـزلة لأمير المؤمنين(ع)، بأنه لا يتصدى لإبلاغ الوحي إلا النبي(ص)، أو من يقوم مقامه، وهو الإمام علي بن أبي طالب(ع)، لأنه شريكه في مهمة إبلاغ الوحي ابتداءاً.
وببعث رسول الله(ص) أبا بكر ثم إرجاعه، وبعث علي(ع) بعده يتضح مدى الخصوصية الثابتة له(ع)، لأنه لو بعثه ابتداءاً لقال المنافقون أنه كان أمامه، فأرسله بها، ولن يظهر ما له من خصوصية في المقام، لذا بعث رسول الله(ص) أبا بكر، ثم أرجعه، ودفع الكتاب والأمر بالتبليغ لأمير المؤمنين(ع).
ولصاحب الميزان(ره) كلام بديع جداً في الرد على من أشكل على حادثة براءة ودلالتها على شراكة أمير المؤمنين(ع) للنبي(ص) في إبلاغ الوحي الابتدائي، يحسن مراجعته[8].
عصمة أمير المؤمنين:
على أنه يستفاد من منـزلة الشراكة في الأمر عصمة أمير المؤمنين(ع)، كعصمة رسول الله(ص)، ذلك أن المسلمين متفقون على أن رسول الله(ص) حال تبليغه الوحي معصوم من الخطأ والسهو النسيان، حذراً من عدم تحقق الغرض الذي بعث من أجله، ومقتضى أن أمير المؤمنين(ع) شريك له كما سمعت، يستدعي أن يكون معصوماً أيضاً عن السهو والخطأ والنسيان، لأن المفروض أن أمير المؤمنين(ع) يؤدي عن رسول الله(ص)، وحتى لا ينتقض الغرض الذي بعث رسول الله(ص) لابد أن يكون المؤدي عنه لخصوص التبليغ الابتدائي للوحي لا يختلف عنه من حيث عدم الاشتباه والخطأ والنسيان، وإلا انتفى الغرض الذي قد بعث رسول الله(ص) من أجله.
ووفقاً لما تقدم، من ثبوت منـزلة الشراكة لأمير المؤمنين(ع)، والعصمة كما لرسول الله(ص)، سوف يكون قوله(ع) مقدماً على قول غيره من الصحابة.
شراكة الأئمة الأطهار في الأمر:
والظاهر عدم اختصاص الإمام علي بن أبي طالب(ع) بالشراكة في الأمر دون بقية الأئمة الطاهرين(ع)، بل هم شركاء في الأمر أيضاً مثل أمير المؤمنين(ع)، لأن هناك بعض التعاليم والقضايا الوحيانية لم تبلغ بعد لأن الدين لم يبلغ دفعة واحدة، بل كان التبليغ وفق مقتضيات تستدعي ذلك، وهم الذين كانوا يعمدون لإبلاغها وفق توفر الظروف الموضوعية، حتى أن هناك أحكاماً سوف يبلغها المولى ولي النعمة(عج)، وهذا يثبت شراكتهم(ع) في الأمر كأمير المؤمنين(ع)، لأنهم سوف يقومون بإبلاغ بعض الأمور الوحيانية عن رسول الله(ص).
وقد أشير لهذا في النصوص الشريفة، فقد سأل رجل أبا عبد الله(ع) عن مسألة، فأجابه فيها، فقال الرجل: أرأيت إن كان كذا وكذا ما يكون القول فيها؟ فقال: مه! ما أجبتك فيه من شيء فهو عن رسول الله(ص) لسنا من: (أرأيت) في شيء[9].
وجاء عنه(ع) أيضاً: إنا لو كنا نفتي الناس برأينا وهوانا لكنا من الهالكين، ولكنها آثار رسول الله وأصل علم نتوارثه كابر عن كابر[10].
وأما الوظائف المشتركة لرسول الله(ص)، كالمرجعية السياسية، والتي تعني إقامته تعاليم الدين بنفسه الشريفة، والمرجعية الدينية، وهي تعني علاج اختلافات الأمة، فإنهما وإن كانتا مشتركة بينه(ص)، وبين بقية الأمة، إلا أن أولى الناس بهما بعد رسول الله(ص) هو أمير المؤمنين(ع)، لأنه أقرب الناس إلى رسول الله(ص)، وأشبههم به.
دلالة الحديث على الخلافة:
ومع وجود أبحاث متعددة يمكن استخلاصها من حديث المنـزلة، إلا أنه حذراً من الإطالة نكتفي بما أوردناه، ونشير لتقريب دلالته على الاستخلاف بعد رسول الله(ص)، وأنه نص شرعي دال على ذلك، ويمكن ذلك من خلال ملاحظة ما ثبت لهارون(ع) بنص القرآن الكريم، ذلك أن المستفاد من قوله تعالى:- (وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين)[11]، خلافة هارون(ع) لموسى(ع) صراحة، فإن مقتضى ثبوت هذه المنـزلة له(ع) تستدعي أن تكون ثابتة لأمير المؤمنين(ع) أيضاً، لأن له جميع ما كان ثابتاً لهارون(ع) من موسى(ع).
وإن شئت فقل إن أحد المنازل الثابتة لهارون(ع) بن القرآن الكريم هو منصب الخلافة لموسى(ع)، ومقتضى ثبوت ما كان ثابتاً لهارون(ع) لأمير المؤمنين(ع)، أن يكون منصب خلافة رسول الله(ص) ثابتاً له(ع).
فالخلافة الثابتة لهارون(ع) لم تكن خلافة عادية كخلافة سائر الناس، بل كانت خلافة شريك لشريك أقوى، فكذلك أمير المؤمنين(ع) لدلالة الحديث أن كل ما كان لهارون(ع) من منازل ومراتب فهو ثابت لعلي(ع).
ويمكن عرض دلالته على المدعى من خلال تشكيل قياس منطقي من الشكل الأول:
كبراه: كل ما كان للنبي(ص)، فهو لأمير المؤمنين(ع)، ما عدا النبوة.
وصغراه: الإمامة والولاية ثابتة للنبي(ص).
النتيجة: إن الإمامة والولاية ثابتتان لأمير المؤمنين(ع).
ويمكن تقريبه أيضاً بنحو آخر:
الكبرى: كل ما كان ثابتاً لهارون(ع) فهو ثابت لأمير المؤمنين(ع).
الصغرى: إن الإمامة والولاية والخلافة ثابتة لهارون(ع).
النتيجة: إن الإمامة والولاية والخلافة ثابتة للإمام علي(ع).
والحاصل، إن مدلول الحديث وبمقتضى أداة الحصر يفيد أن جميع المقامات الثابتة لهارون(ع) فهي ثابتة لعلي(ع)، ما عدا النبوة.
مناقشة دلالة الحديث:
وقد منع بعض المسلمين دلالة حديث المنـزلة على ثبوت الخلافة السياسية لأمير المؤمنين(ع)، وذكروا إشكالات، أجاب عنها أعلامنا، نشير لأهمها:
الأول: بعد التسليم بدلالة الحديث على الاستخلاف، إلا أنه لا يثبت خلافة الإمام علي(ع)، بعد النبي(ص)، لأن خلافة هارون(ع) كانت في حياة موسى(ع)، لأنه قد مات في حياة أخيه، كما قيل، ولما كان هارون مشبهاً به، وعلي(ع) مشبهاً تكون خلافته مثل خلافته، فتختص بحياة النبي(ص)، وهو الذي فعله(ص) عندما استخلفه على المدينة في غزوة تبوك، فالثابت هو الخلافة المؤقتة لعلي(ع).
وبعبارة أخرى، لما كان نبي الله هارون(ع) قد توفي قبل نبي الله موسى(ع) فسوف تكون خلافته له مخصوصة بحياته، وعليه لو دل حديث المنـزلة على الاستخلاف، فإنه يدل على خلافة الإمام علي(ع) للنبي(ص) ما دام على قيد الحياة، وعدم خلافته له بعد رحيله عن عالم الدنيا.
وأجيب عنه، أولاً: لا ريب ولا إشكال في أنه لو بقي هارون(ع) على قيد الحياة، لكان هو الخليفة بعد نبي الله موسى(ع)، ولا مجال لأن يقال بخلاف ذلك، لأن هذا هو مقتضى المنصب الثابت له(ع) بنص القرآن الكريم كما سمعت، وهذا يعني أن الاستخلاف الثابت لهارون(ع) لم يكن مؤقتاً بفترة زمنية محددة، بل كان مطلقاً، لولا وجود المانع وهو وفاة هارون(ع)، وهذا بنفسه جارٍ في شأن أمير المؤمنين(ع)، فإنه لا يوجد في البين ما يوجب تحديد مدة الاستخلاف بزمان ما، ولا مرحلة معينة، سيما وأنه لا يوجد مانع من البناء على الشمولية والإطلاق.
وإن شئت، فقل: أنه خلاف ظاهر الآيات الشريفة التي عدّت واحدة من المنازل الثابتة لهارون(ع) خلافته لموسى(ع)، وهي مطلقة لم تحدد ذلك بمدة زمنية معينة، ما يعني أنه(ع) لو بقي على قيد الحياة كان خليفة موسى(ع) بعد رحلته عن عالم الدنيا.
وليس في حديث المنـزلة ما يخصص استخلاف الإمام أمير المؤمنين(ع) بعد رسول الله(ص) بفترة زمنية محددة، كغزوة تبوك، أو على جماعة خاصة كأهل المدينة، بل هو مطلق، يفيد سعة في دائرة الاستخلاف دون تحديد زماني ولا مكاني لذلك.
ثانياً: إن مقتضى كلمة(بعدي) الواردة في قوله(ص): إلا أنه لا نبي بعدي، ثبوت كل ما كان لهارون(ع) من موسى(ع) بعده، ومن المعلوم أن مما كان لهارون(ع) الخلافة، فتكون ثابتة للمشبه وهو أمير المؤمنين(ع).
الثاني: إن الخلافة التي كانت لهارون(ع) مختصة بحال غياب موسى(ع) وليس مطلقاً، فيلزم أن تكون الخلافة الثابتة للإمام علي(ع) مختصة أيضاً بحال غياب رسول الله(ص) عن المدينة، وليس مطلقاً.
وقد أجيب عن ذلك، بأنه قد ثبت في الأصول، بأن المورد لا يخصص الوارد، فصدور الحديث في ظرف خاص في غزوة تبوك، لا يجعله خاصاً بذلك اليوم فقط.
مع أن هناك قرينة منفصلة تساعد على العموم وهي تعدد صدور الحديث في أكثر من موقف.
منع دلالة الحديث:
وقد شكك في دلالة الحديث على منقبة لأمير المؤمنين(ع)، بل قد جعلوه أقرب للذم له(ع) من المدح، وتمسكوا بموانع تمنع من ظهوره في المدح والدلالة على المنقبة، نشير لاثنين منها:
الأول: تفسيره بما يجعله أقرب إلى الذم:
من الواضح أنه حتى يكون للاستخلاف قيمة ويكشف عن منقبة للمستخلف ليكون مورد مدح، إذا كان المستخلف سوف يمارس جملة من الأعمال التي يستدعيها قيامه بالاستخلاف، أما لو لم يكن هناك ما يدعو لقيامه بشيء من الأعمال حتى التنظيمية بسبب عدم قابلية المستخلف عليهم للقيام بما يستدعي حاجتهم لذلك، إما لكونهم من العجزة الذين لا يملكون قدرة على القيام بأي شيء، أو لكونهم نساء وأطفالاً، أو منافقين، فسوف يكون الاستخلاف عندها عادياً، ولن يكون ظاهراً في المدح، بل سوف يكون ظاهراً في الذم، لأنه منعه من الخروج للجهاد، وخلفه على عمل لا يحتاج إلى من يقوم به، ويمكن لأي أحد أن يفعله. وهذا هو حال استخلاف الإمام أمير المؤمنين(ع) على المدينة، فإنه لم يكن لوجوده أدنى حاجة لعدم قابلية المستخلف عليهم لذلك.
ويشهد لذلك أمور ثلاثة:
أولها: بكاء أمير المؤمنين(ع) عندما خلفه الرسول(ص) في المدينة، فإنه يكشف عن علمه بخلو هذا الاستخلاف من كل مزية توجب مكانة خاصة ومنـزلة مرموقة، بل يدل على استشعاره بالنقص والتوهين عندما يترك في المدينة مع النساء والصبيان والعجزة.
ثانيها: إن المعروف من عادة الملوك والحكام، أنهم عندما يقومون بغزوة أو حرب يأخذون معهم كل من يحتاجون إلى مشورته، والانتفاع برأيه ولسانه ويده وسيفه، ويخلفون وراءهم من يكون وجوده عبئاً عليهم، فلا يأخذوه معهم لأنه يحول بينهم وبين ما يرغبون الوصول إليه، ولهذا خلف رسول الله(ص) علياً خلفه في المدينة المنورة، لأنه لم يكن محتاجاً له ليشاوره في شيء، أو ليستفيد من لسانه ويده وسيفه. وهذا يجعل استخلافه على المدينة ذماً له، وليس منقبة ومدحاً.
ثالثها: إن الحديث محل البحث لا يدل على منقبة لأمير المؤمنين(ع)، وإنما أقصى ما يظهر منه دفعه لمثلبة ومنقصة محتملة فيه، لأن الحديث قد صدر جواباً من رسول الله(ص) على مقالة المنافقين الذين قالوا أنه قد استخلفه لبغضه إياه.
وقد أجيب عن المانع المذكور، أولاً: بمنع الشاهد الأول لظهور الاستخلاف في المقام ظاهراً في الذم، فقد خلت رواية الشيخين للحديث من بكاء أمير المؤمنين(ع)، ومع اختلاف المصادر الروائية، يعمد لترجيح بعضها على بعض، بل عدّ علماء الجمهور وجود زيادة في خبر على ما تضمنه الصحيحان قدحاً في الخبر المشتمل على الزيادة.
ثانياً: بعد التسليم بحصول البكاء من أمير المؤمنين(ع)، فإنه لم يكن لشعوره(ع) بالنقص كما توهمه المستشكلون، وإنما كان داعيه للبكاء هو غيابه عن رسول الله(ص) في هذه المعركة المصيرية وهو الذي كان معه في جميع مشاهده السابقة، لذا شعر بالحزن والألم.
نعم لا ينكر أن أمير المؤمنين(ع) بادر مسرعاً إلى رسول الله(ص) على ثلاثة أميال من المدينة، ونقل إليه ما يبثه المنافقون من شائعات حول إبقائه في المدينة، وذلك من أجل إبطال هذه الشائعات المغرضة، ومبيناً الهدف الذي من أجله قد استخلفه(ص) على المدية، بأنه منه بمنـزلة هارون من موسى.
وأما الشاهد الثاني، فإن ما ذكر صحيحاً في الجملة، لا بالجملة، لذا لا يعني ذلك عدم أهمية الاستخلاف، فإن المقدم على حرب لا يأمن الخديعة والحيلة، سواء من الداخل، فيقوم بعض الموجودين بالانقلاب على الدولة، ويعمدوا إلى إسقاطها، أم من الخارج، ونعني بهم الأعداء المتربصين. فيختار عادة إلى من يقوم مقامه أفضل القوم حنكة ودراية بشؤون السياسة والحرب والقتال وحسن التصرف والإدارة.
وأما الشاهد الثالث فيكفي لدفعه، ما تضمنته بعض النصوص من قوله(ص) إليه: إنما استخلفتك لأمانتك عندي، فيكون يكون هذا دفع منقصة ومثلبة فقط، وهو(ص) يصرح بأن أحد موجبات الاستخلاف، كونه(ع) أميناً عده(ص).
الثاني: عدم دلالته على منقبة تفضله على غيره:
بعد التسليم بدلالة الحديث على منقبة لأمير المؤمنين(ع)، إلا أنها منقبة عادية، ولا تدل على أفضليته، بل ولا على مساواته لمن استخلفهم قبله.
ويجاب عن ذلك، بأن تحديد نوعية الاستخلاف وأهميته، وأنه استخلاف عادي، أو مهم جداً، تتضح بملاحظة من خرج مع رسول الله(ص)، ومن بقي في المدينة المنورة خلفه، فإن الخارجين معه أغلبهم الفئة الصالحة من المؤمنين، وبينهم بعض المنافقين الذين أرادوا اغتيال رسول الله(ص)، وقتله. وأما الباقون في المدينة فهم المنافقون والعصاة الذين كانوا يتربصون بالإسلام ونبيه(ص) الدوائر، وقد كانوا ينتظرون خلو العاصمة الاسلامية من قائدها ورجالها حتى يضربوا ضربتهم وينقلبوا عسكرياً ليقضوا على الدولة الإسلامية والدعوة. وهذا ما لم ينكره المستشكلون أنفسهم خصوصاً وأنه قد نص على تخلفهم علماء السيرة والتاريخ. وهذا يشير إلى مدى أهمية الاستخلاف، وضرورته، وأنه لابد أن يكون المستخلف متصفاً بمجموعة من الصفات والملكات تؤهله للقيام بهذا الدور الخطير[12].
[1] ويمكن ملاحظة ما أفاده بعض الأساتذة(حفظه الله) في كتابه نفحات الأزهار ج 17 من ص 26 إلى 181.
[2] سورة طه الآيات رقم 24036.
[3] سورة الفرقان الآية رقم 35.
[4] شرح نهج البلاغة ج 13 ص 211.
[5] الميزان في تفسير القرآن ج 14 ص 147.
[6] سورة القصص الآية رقم 34.
[7] مسند أحمد ج 3 ح 3602 ص 331.
[8] الميزان في تفسير القرآن ج 9 ص 171.
[9] الكافي ج 1 باب الرأي والبدع ح 21 ص 58.
[10] بصائر الدرجات
[11] سورة الأعراف الآية رقم 142.
[12] مطارحات في الإمامة ص 211-350(بتصرف) نفحات الأزهار ج 17، ج 18.