ذكورية الشريعة(4)
تعدد الزوجات
ومن النقاط التي تمسك بها أصحاب تهمة ذكورية الشريعة، مشروعية تعدد الزوجات بالنسبة للرجل، اعتماداً على قوله تعالى:- (فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع)، فإن المستفاد منها مشروعية ارتباط الرجل بأكثر من زوجة، فيمكنه أن يتزوج من اثنتين، أو ثلاث، أو أربع، ولا يقتصر على الزواج بواحدة فقط، فيمكنه أن يجمع بين أكثر من واحدة على ذمته في وقت واحد.
وقد أشار إلى ذلك بعض الأعيان(ره)، في تفسيره، فذكر تحت عنوان بحث اجتماعي: الآيات الشريفة المتقدمة تدل على إباحة تعدد الزوجات في الإسلام، وهذا الموضوع طالما اعترض أعداء الإسلام عليه، واتخذوه نحو قدح فيه، وقد استنكرت الجاهلية المعاصرة تعدد الزوجات واعتبرته من عوائق التقدم الحضاري، وأن التعدد خلاف المصلحة، بل موجب لسلب السعادة، ونحن في هذا البحث نذكر جملة مما ذكره أعداء الإسلام من المناقشات والإشكالات على هذا الموضوع، ثم الجواب عنها، ثم نعالج الموضوع على ضوء ما ورد في الكتاب في هذا المضمار[1].
ثم إنه(ره) ذكر أربعة إشكالات عبر عنها بأنها أهم الإشكالات التي أوردوها على هذا التشريع الإلهي، وعمد إلى الإجابة عنها[2].
وقد ذكر نفس الإشكالات الأربعة العلامة الطباطبائي(ره) دون تغيـير إلا في عدّ الإشكال الثالث في كلام بعض الأعيان(ره) رابعاً في كلامه(قده)[3].
وجاء في موسوعة الفقه الإسلامي، تحت عنوان: تعدد الزوجات:
تعرض موضوع تعدد الزوجات إلى مجموعة من الإشكالات والاعتراضات، وواجه الإسلام نقداً لاذعاً وهجمة شرسة من خصومه-لا سيما الغربيون-بإباحته لتعدد الزوجات، بأنه ظلم للمرأة، وجناية عليها، وأنه منافٍ لحقوقها، وأنه يعتبر كل أربع نساء معادلة لرجل واحد[4].
ولا بأس قبل عرض كيفية الاستدلال بالآية الشريفة من الإشارة إلى المحتملات الثبوتية الواردة في تفسيرها، والتي أشير إليها في كلام غير واحد من المفسرين، فقد جاء في كلام بعض الأعيان(قده): والآية تحتمل صوراً:
الأولى: أن يكون المراد التزويج من اليتيمات-اللواتي لهن مال، واحدة كانت أو متعددة-وكان التزويج موجباً لتحقق القسط بين اليتامى في أنفسهن وأموالهن، فلا ريب في جواز هذه الصورة وصحتها، وحينئذٍ لا إشكال في ارتباط صدر الآية الشريفة مع ذيلها[5].
الثانية: التـزويج بيتيمة ليس لها مال مع تحقق القسط من قبل الرجل بنفسه في التزويج، سواء تعددت الزوجات منهن أم لم تتعدد، وحكمها حكم الصورة الأولى.
الثالثة: التـزويج باليتيمات مع خوف عدم القسط، سواء كان التزويج بواحدة منهن، أو بمتعددة، وإن كان الخوف في صورة التعدد أشد، والآية الشريفة تنفي هذه الصورة.
الرابعة: التـزويج بامرأة ذات أب وعندها يتيم.
الخامسة: ما إذا كانت اليتيمات في معرض الزواج، وكانت نساء من غيرهن في معرض الزواج أيضاً، ويخاف الإنسان إن تزوج من اليتيمات أن لا يقسط بينهن، فيدعهن ويتـزوج من سواهن، وهذه الصورة هي المشهورة بين المفسرين.
السادسة: أن تكون الآية المباركة في مقام الإرشاد، ودفع التوهم، أي أنكم لو خفتم من التـزويج باليتيمات، ولأجله منعتموهن من التـزويج بأنفسكم، أو بغيركم، فإنهن حلال لكم ولغيركم، فإن الله تعالى يرشدكم إلى ذلك.
وهذه الصور الثبوتية تتوافق مع ذيل الآية الشريفة، وهو:- (فانكحوا ما طاب لكم من النساء).
وأما في مقام الإثبات والظهور، فيجتمع مع أكثر الصور، وإن كانت الخامسة مشهورة بين المفسرين، كما قلنا.
وظهر مما ذكرنا فساد ما ذهب إليه بعض المفسرين، من عدم ارتباط صدر الآية الشريفة بذيلها، وقد عرفت كمال الربط بينهما[6].
ولا يذهب عليك مدى الفرق المتصورة بين الصورتين الخامسة والسادسة، ذلك أن الخامسة منها والتي عبر عنها(ره) بالمشهورة بين المفسرين، سوف يتضح احتياجها للتقدير، بخلافه لو بني على الصورة السادسة، فإنها لن تكون كذلك، وإن جعلها(ره) ضيقها عندما خصها باليتيمات، وربما كان موضوعها أبعد ذلك، كما سيتضح.
والذي يهمنا أن هناك احتمالاً ثبوتياً متصوراً في مدلول الآية الشريفة ينسجم وذيلها بدعوى من سمعت، يخالف ما فهمه المشهور منها.
وقد أشار إلى هذه الاحتمالات في تفسير الآية المباركة العلامة الطباطبائي(ره)، وظاهر تعبيره(قده) أنها احتمالات إثباتية، وليست ثبوتية، قال(رض): وقد قيل في معنى الآية أمور أخر غير ما مر على ما ذكر في مطولات التفاسير، وهي مثيرة:
منها: أنه كان الرجل منهم يتـزوج بالأربع والخمس وأكثر، ويقول: ما يمنعني أن أتزوج كما تزوج فلان، فإن فنى ماله مال إلى مال اليتيم الذي في حجره، فنهاهم الله عن أن يتجاوزوا الأربع لئلا يحتاجوا إلى أخذ مال اليتيم ظلماً.
ومنها: أنهم كانوا يشددون في أمر اليتامى ولا يشددون في أمر النساء فيتزوجون منهن عدداً كثيراً ولا يعدلون بينهن، فقال تعالى: إن كنتم تخافون أمر اليتامى فخافوا في النساء فانكحوا منهن واحدة إلى أربع.
ومنها: أنهم كانوا يتحرجون من ولاية اليتامى وأكل أموالهم، فقال سبحانه: إن كنتم تحرجتم من ذلك، فكذلك تحرجوا من الزنا فانكحوا ما طاب لكم من النساء.
ومنها: أن المعنى إن خفتم أن لا تقسطوا في اليتيمة المرباة في حجوركم فانكحوا ما طاب لكم من النساء مما أحل لكم من يتامى قرباتكم مثنى وثلاث ورباع.
ومنها: أن المعنى إن كنتم تتحرجون عن واكلة اليتامى فتحرجوا من الجمع بين النساء، وأن لا تعدلوا بينهن ولا تتزوجوا منهن إلا من تأمنون معه الجور[7].
ومن الواضح أن الاحتمال الرابع في كلامه(ره) المنقول في التفاسير المطولة مغاير لما هو المشهور عندهم في تفسير الآية، ذلك أن مفاده حصر التعدد في الزواج من اليتيمات، كما هو واضح.
وكيف ما كان، فإنه الاستدلال بالآية الشريفة وفق مختار المشهور يقوم على تقدير كلمة النكاح المحذوفة في الآية، والمستدل عليها من خلال قوله تعالى:- (فانكحوا)، ليكون معنى الآية: فإن خفتم ألا تعدلوا حال تزوجتم اليتيمات، فعليكم بالزواج من غيرهن من النساء، فيمكنكم أن تتزوجوا من تشاؤون منهن، اثنتين، أو ثلاث، أو أربع.
ولا يذهب عليك، أن تمامية الاستدلال المذكور تقوم على عدم وجود احتمال آخر في الآية من جهة، ومن جهة أخرى القبول بالتقدير المذكور.
الأصل في النظرية الإسلامية:
وقبل البحث عن دلالة الآية الشريفة على دعوى القائلين بذكورية الشريعة، لابد من تأسيس الأصل في النظرية الإسلامية حول تعدد الزوجات، فإن المحتملات في ذلك ثلاثة:
الأول: البناء على أن الأصل الأولي هو التعدد، بملاحظة سيرة الرسول الأكرم محمد(ص)، وكذا الأئمة الأطهار(ع) من بعده.
الثاني: الالتزام بأن الأصل الأولي هو الوحدة، وليس التعدد، فلا يحق للرجل أن يتـزوج إلا بزوجة واحدة فقط. ولا يضر بذلك بلوغ عدد زوجات رسول الله(ص) تسعاً، لأن ذلك خصوصية له(ص) خاصة به، فلا ينافي ذلك كون الأصل الأولي هو الوحدة.
الثالث: القول بعدم وجود أصل أولي يمكن الرجوع إليه في البين في تحديد أن مقتضى الأصل هو الوحدة، أو التعدد[8].
ثم إنه لو بني على المحتمل الأول، فهل إن التعدد من الأحكام الأولية، فيكون نظير بقية الأحكام التي بني عليها الإسلام مثلاً، فكما بني على الصلاة والصوم، يقال ببنائه على التعدد في الزوجات، أو الأحكام الولائية الصادرة من ولي الأمر مثلاً لظروف اقتضت ذلك، ومع تغير الظروف الموضوعية المحيطة، فيمكن لولي الأمر أن يعمد لتغيـيره، ويحكم بخلافه[9].
ومع التسليم بكونه حكماً أولياً، وليس حكماً ثانوياً، فهل يعد من الأحكام الشرعية الثابتة التي لا تقبل التغير والتبدل، أو أنه من الأحكام التي يمكن البناء على تغيرها، وفقاً لمجموعة من الظروف والمعطيات، وانطلاقاً من تأريخانية الأحكام الشرعية.
ومع البناء على كون الحكم المذكور حكماً أولياً، فهل يمكن الالتزام باستحباب التعدد، فيستحب للرجل أن يتـزوج المرأة الثانية والثالثة والرابعة، وأن الاستحباب المذكور في شأن النكاح لا يتحقق بمجرد الزواج من زوجة واحدة، أم يقصر الأمر على خصوص المشروعية فقط.
ثم إنه بعد الفراغ عما تقدم، فإن القول بمشروعية تعدد الزيجات، مقيد بشروط لابد من توفرها في الزوج ككونه قادراً على الإنفاق على كافة الزوجات وأبنائهم بالسوية وفق قانون العدل مثلاً، أم أنه لا يعتبر شيء من الشروط في ذلك، بل يكفي للبناء على مشروعية التعدد وجود الرغبة عند الرجل في أن يأخذ زوجة أخرى فيقدم على ذلك.
وتظهر الثمرة في ما لو بني على أخذ بعض الشروط في الزوج الذي يشرع له تعدد الزوجات، أنه لو كان فاقداً لتلك الشروط المعتبرة، بني على بطلان عقده، لا أنه ارتكب حراماً فقط.
وبكلمة أخرى، يترتب على ذلك الحكم الوضعي، لا أن المترتب هو خصوص الحكم التكليفي.
ويمكن استظهار هذا المعنى من بعض الأعيان(قده)، قال: ومن توجه الخطاب إلى العموم(فإن خفتم ألا تعدلوا)، يستفاد أن التعدد لابد أن يحدث في المجتمع الذي يسوده العدل، بحيث يتـزوج رجل واحد عدة نساء في ظل العدل والإنصاف، يسودهم الإخاء والمحبة، فإذا توفرت تلك الشروط جاز التعدد، وإلا كانت الوحدة أفضل[10]. لأن تقيـيده المشروعية بالعدل، يكشف عن عدمها حال انتفاءه، وهذا بمثابة الحكم الثانوي الثابت على الحكم الأولي لو جعل هو التعدد، بل قد يقرر أن الحكم الأولي هو عدم الوحدة بلحاظ الطبيعة الإنسانية، والتعدد حكم ثانوي يكون حال قدرة الإنسان على العدل.
وبالجملة، ظاهر التعبير المذكور هو تقيـيد المشروعية بحالة العدل لا مطلقاً.
ومثله جاء في الميزان أيضاً، فقد قال(قده): وأما الإسلام فلم يشرع تعدد الزوجات على نحو الإيجاب والفرض على كل رجل، وإنما نظر في طبيعة الأفراد، وما ربما يعرضهم من العوارض الحادثة، واعتبر الصلاح القاطع في ذلك، ثم استقصى مفاسد التكثير ومحاذيره، وأحصاها فأباح عند ذلك التعدد حفظاً لمصلحة المجتمع الإنساني، وقيده بما يرتفع مع جميع هذه المفاسد الشنيعة وهو وثوق الرجل بأنه سيقسط بينهن ويعدل فمن وثق من نفسه بذلك ووفق له فهو الذي أباح له الدين تعدد الزوجات، وأما هؤلاء الذين لا عناية لهم بسعادة أنفسهم وأهليهم وأولادهم ولا كرامة عندهم إلا ترضية بطونهم وفروجهم، ولا مفهوم للمرأة عندهم إلا أنها مخلوقة في سبيل شهوة الرجل ولذته، فلا شأن للإسلام فيهم، ولا يجوز لهم إلا الازدواج بواحدة لو جاز لهم ذلك والحال هذه[11].
ولو بني على اعتبار توفر الشروط فيه، فالظاهر أن ذلك من العناوين النوعية التي تستدعي أن يكون ملاحظة توفرها فيه من عدمه إما بنظر العرف، أو بنظر جهة مختصة يفترض أن يعينها الفقيه الجامع لشرائط الفتيا، ولذا لو قرر العرف أو الجهة المعنية فقدانه للشروط، ترتبت الثمرة المذكورة.
وقفة مع دلالة الآية:
والتقريب الذي تقدم ذكره في بيان دلالة الآية الشريفة هو الموجود في كلمات أغلب المفسرين، لو لم يكن جميعهم، والذي دعاهم للتقدير المذكور، هو أن الآية الشريفة تنطوي على شرط وهو قوله تعالى:- (وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى)، وجزاء، وهو قوله سبحانه:- (فانكحوا)، ومن المعروف أنه لابد من وجود علاقة ارتباط بينهما، مفادها ترتب الجزاء على الشرط، وعند النظر الأولي للآية لا يجد القارئ ارتباطاً بين جملة الشرط والجزاء، ويساعد على ذلك ملاحظة الآيات التي وقعت الآية محل البحث ضمنها، فإن الآية السابقة عليها، تتحدث عن أموال اليتامى، قال تعالى:- (وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوباً كبيراً)[12]. ومثل ذلك ما جاء بعدها، قال سبحانه: (وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم)[13].
وقد أشار لهذا غير واحد من المفسرين، فقد ذكر ابن عاشور مثلاً في التحرير والتنوير: اشتمال هذه الآية على كلمة(اليتامى)يؤذن بمناسبتها للآية السابقة، بيد أن الأمر بنكاح النساء وعددهن في جواب شرط الخوف من عدم العدل في اليتامى مما خفي وجهه على كثير من علماء سلف الأمة، إذ لا تظهر مناسبة أي ملازمة بين الشرط وجوابه[14]. وكلامه واضح في عدم وضوح الارتباط بين الشرط والجزاء المذكورين في الآية الشريفة، وأن هذا كان موضع بحث عند المفسرين.
ثم ذكر ما يوجب تحقق الارتباط بين الشرط والجزاء، قال: واعلم أن في الآية إيجازاً بديعاً إذ أطلق فيها لفظ اليتامى في الشرط وقوبل بلفظ النساء في الجزاء فعلم السامع أن اليتامى هنا يتيمة هي صنف من اليتامى في قوله السابق:- (وآتوا اليتامى أموالهم)، وعلم أن بين عدم القسط في يتامى النساء وبين الأمر بنكاح النساء ارتباطاً لا محالة وإلا لكان الشرط عبثاً[15]. وما أفاده عمد إلى الاستعانة بالعهد الذكري ليكون المقصود من الجمع هو اليتيمات، وهو غريب جداً، لأن يتامى جمع تكسير، والمفروض أن اليتيمة تجمع كما عرفت على يتيمات، وهو جمع المؤنث السالم.
ولأجل[16] التغلب على عدم الارتباط المتصور بين الشرط والجزاء في الآية الشريفة، عمد هؤلاء الأعلام إلى تقدير فيها، فذكروا بأن هناك محذوفاً وهو النكاح وليس الأموال، ليكون معنى الآية الشريفة: وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى عند نكاحهم، وجعلوا القرينة على الوصول للمقدر المحذوف من خلال قوله تعالى في الجزاء:- (فانكحوا)، وسوف يكون مدلول الآية عندها هكذا:
إذا كان الإنسان معتقداً عدم قدرته على العدالة في اليتامى عند نكاحهم، فلا ينبغي له الزواج منهم، وعليه أن يتزوج غيرهن من النساء غير اليتيمات.
قال العلامة الطباطبائي(ره) في الميزان: فالشرطية، أعني قوله: إن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء، في معنى قولنا: إن لم تطب لكم اليتامى للخوف من عدم القسط فلا تنكحوهن وانكحوا نساءاً غيرهن، فقوله: فانكحوا ساد مسد الجزاء الحقيقي، وقوله: ما طاب لكم، يغني عن ذكر وصف النساء أعني لفظ غيرهن، وقد قيل: ما طاب لكم، ولم يقل: من طاب لكم، إشارة إلى العدد الذي سيفصله بقوله: مثنى وثلاث ألخ…، ووضع قوله: إن خفتم أن لا تقسطوا موضع عدم طيب النفس من وضع السبب موضع المسبب مع الإشعار بالمسبب في الجزاء بقوله: ما طاب لكم[17].
ولو لاحظنا سنجد أن ما عمله أعلام التفسير في الآية الشريفة يتمثل في أمور ثلاثة:
الأول: تقدير كلمة النكاح فيها كي ما يتحقق الارتباط بين الشرط والجزاء.
الثاني: تفسير كلمة اليتامى الواردة في الآية الشريفة بخصوص الفتيات اليتيمات.
الثالث: تفسير كلمة النساء الواردة فيها بالنساء الأجنبيات.
ووفقاً لما تقدم، سوف تكون الآية الشريفة دالة على مشروعية تعدد الزوجات، عمدة ما كان أنها تفيد أنه حال عدم قدرة الإنسان على العدل بين الزوجات اليتيمات، أو التي بعضهن يتيمات، فلا يحق له الزواج منهن، وعليه أن يتزوج من غيرهن.
وهذا يستدعي أن لا يكون للشرط المذكور في الآية الشريفة مفهوم، كما أشار لذلك القرطبي في تفسيره، لأنه لو كان لها مفهوم، فلن يكون مفادها أصلاً موضوعياً دالاً على شرعية تعدد الزوجات.
علاج المشهور لشبهة تعدد الزوجات:
ووفقاً لهذا التفسير الصادر من المشهورين، تأتي الشبهة محل البحث، ولذا عمد غير واحد من الأعلام والباحثين للإجابة عنها، نشير لبعض تلك الإجابات:
جواب صاحب الميزان:
منها: ما أجاب به العلامة الطباطبائي(ره)، من أن الإشكال المذكور ممنوع، لما بنينا عليه في بعض المباحث السابقة عند الكلام في حقوق المرأة في الإسلام: أنه لم يحترم النساء ولم يراع حقوقهن كل المراعاة أي سنة من السنن الدينية أو الدنيوية من قديمها وحديثها بمثل ما احترمهن الإسلام.
وأما تجويز تعدد الزوجات للرجل فليس بمبني على ما ذكر من إبطال الوزن الاجتماعي وإمالة حقوقهن والاستخفاف بموقفهن في الحياة وإنما هو مبني على جهات من المصالح تقدم بعضها[18].
وقال(ره) أيضاً: وأقوى ما تشبث به مخالفوا سنة التعدد من علماء الغرب وزوقوه في أعين الناظرين ما هو مشهور في بيوت المسلمين تلك البيوت المشتملة على زوجات عديدة: ضرتان، أو ضرائر فإن هذه البيوت لا تحتوي على حياة صالحة ولا عيشة هنيئة، لا تلبث الضرتان من أول يوم حلتا البيت دون أن تأخذا في التحاسد حتى أنهم سموا الحسد بداء الضرائر، وعندئذٍ تنقلب جميع العواطف والإحساسات الرقيقة التي جبلت عليها النساء من الحب ولين الجانب والرقة والرأفة والشفقة والنصح وحفظ الغيب، والوفاء والمودة والرحمة والخلاص بالنسبة إلى الزوج وأولاه من غير الزوجة وبيته وجميع ما يتعلق به إلى أضدادها، فينقلب البيت الذي هو سكن للإنسان يستريح فيه من تعب الحياة اليومي وتألم الروح والجسم من مشاق الأعمال والجهد في المكسب معركة قتال يستباح فيها النفس والعرض والمال والجاه، لا يؤمن فيه من شيء لشيء، ويتكدر فيه صفو العيش وترتحل لذة الحياة، ويحل محلها الضرب والشتم والسب واللعن والسعاية والنميمة والرقابة والمكر والمكيدة، واختلاف الأولاد وتشاجرهم، وربما انجر الأمر إلى هم الزوجة بإهلاك الزوج، وقتل بعض الأولاد بعضاً أو أباهم، وتتبدل القرابة بينهم إلى الأوتار التي تسحب في الأعقاب سفك الدماء وهلاك النسل وفساد البيت، أضف إلى ذلك ما يسري من ذلك إلى المجتمع من الشقاء وفساد الأخلاق والقسوة والظلم والبغي والفحشاء وانسلاب الأمن والوثوق وخاصة إذا اضيف إلى ذلك جواز الطلاق فإن تعدد الزوجات والطلاق ينشئان في المجتمع رجالاً ذواقين مترفين لا هم لهم إلا اتباع الشهوات والحرص والتولع على أخذ هذه وترك تلك، ورفع واحدة ووضع أخرى، وليس فيه إلا تضيـيع نصف المجتمع وإشفاؤه وهو قبيل النساء، وبذلك يفسد النصف الآخر[19].
وعقب(رض) على هذا الكلام بقوله: وهو حق غير أنه يرد على المسلمين لا على الإسلام، وتعاليمه، ومتى عمل المسلمون بحقيقة ما ألقته إليهم تعاليم الإسلام حتى يؤخذ بالمفاسد التي أعقبته أعمالهم؟ وقد فقدوا منذ قرون الحكومة الصالحة التي تربي الناس بالتعاليم الدينية الشريفة، بل كان أسبق الناس إلى هتك الأستار التي أسدلها الدين ونقض قوانينه وإبطال حدوده هي طبقة الحكام والولاة على المسلمين، والناس على دين ملوكهم[20].
جواب بعض الأعيان:
منها: ما أجاب به بعض الأعيان(ره)، على الإشكال الثالث من الإشكالات التي ذكرها، وهو: أن تعدد الزوجات استهانة لحرمة النساء في المجتمع، فإن معادلة الأربع من النساء بالواحد من الرجال تعريض لحقوقهن للخطر، وإعراض عن عواطفهن.
وقد أجاب عنه(رض): أن ما ذكروه من أن تعدد الزوجات تضيـيع لحقوق النساء، وعدم الاحترام لعواطفهن باطل، لما ذكرناه مراراً من أن الإسلام أعطى لكل ذي حق حقه، وأنه احترم النساء وراعى حقوقهن بما لم يكن في ملة أخرى، ويتبين ذلك بوضوح عند معرفة منـزلة النساء في المجتمعات الأخرى غير المجتمع الاسلامي.
هذا مضافاً إلى أن تعدد الزوجات لم يكن تضيـيعاً لحقوق أحد، فإن الإسلام في تشريعه هذا كان ينظر إلى أبعد من ذلك[21].
موسوعة الفقه الاسلامي:
وعمد القائمون على موسوعة الفقه الإسلامي[22] للجواب عن ذلك من خلال طريقين:
الأول: بيان عدم انفراد الإسلام بالالتزام بتعدد الزوجات، بل هو عمل مشروع في جميع الأديان السابقة، ومقر في القوانين الوضعية.
الثاني: تبرير تشريع تعدد الزوجات من خلال عرض الأسباب التي أدت إلى ذلك.
جاء في الموسوعة: وأجيب عن ذلك، بأن الإسلام لم يكن المشرّع الأول لتعدد الزوجات، بل شرعته الأديان السماوية السابقة، وأقرّته القوانين الوضعية قبل الإسلام، فإنه كان سنة جارية في غالب الأمم القديمة فكان الرجل منهم يتزوج العشرة والعشرين.
إذاً مسألة تعدد الزوجات لم تكن من مبدعات الإسلام، غاية ما في الأمر أن الإسلام أقرّ تعدد الزوجات وأمضاه لكن حدده بالأربع بشرط العدالة والمساواة بين الزوجات.
وتوجد عدة أمور يمكن أن تكون هي السبب في تشريع تعدد الزوجات، وهي:
الأول: أن عدد النساء أكثر من عدد الرجال على مرّ العصور، وذلك يعود إلى عدة أسباب يكفي أن تكون مجوزاً ومسوغاً لتعدد الزوجات:
منها: أن الرجال أكثر تعرضاً للوفيات من النساء، وذلك لممارستهم الأعمال الشاقة والخطيرة المؤدية إلى ذلك.
ومنها: أن الرجال أقل مقاومة للأمراض من النساء مما يجعلهم أقل عدداً منهن.
ومنها: أن الحروب الدائرة بشكل مستمر تجعل نسبة الرجال أقل من النساء. فإذا كان النساء أكثر بأضعاف لزم تشريع التعدد تفادياً لمشاكل العنوسة وآثارها التدميرية على المجتمع.
الثاني: أن بعض الحالات في الرجال تعتبر من أعظم المشاكل وأكثر الأزمات استفحالاً لولا جواز تعدد الزوجات، ومن تلك الحالات:
أ: إن أعمار الرجال من الناحية الجنسية أطول من النساء، فإنهن يفقدن القدرة الجنسية والقدرة على الإنجاب في سنّ معيّن من العمر لا تجاوز الخمسين، في حين يبقى ذلك في الرجال مدة أطول بكثير. كما أنهن يعانين من موانع جنسية في أيام الحيض وبعض أيام الحمل والوضع والإرضاع، بخلاف الرجال، وهذا يستوجب أن تكون له أكثر من زوجة.
ب: إصابة المرأة بالعقم والحرمان من نعمة النسل والإنجاب.
ج: إصابة المرأة بمرض جسمي تعجز من خلاله عن أداء واجبها الزوجي، ولا تستطيع أن تلبي رغبات الزوج.
ولا يبقى أمام هؤلاء الرجال حل ومخرج من هذه الحالات إلا اختيار أحد الطرق التالية:
1-أن يطلق زوجته ويأتي بزوجة جديدة، فيدع زوجته تقاسي شدائد الحياة ووحشة الانفراد.
2-أن يقنع كل رجل بزوجة واحدة فقط، ويبقى العدد الإضافي من النساء بلا أزواج، وفي نفس الوقت يبقى هو يمارس علاقات غير مشروعة مع امرأة أخرى.
3-السماح بتعدد الزوجات ضمن الشروط والقيود المقررة في الشرع.
ولا إشكال في أن الأخير هو أفضل الحلول وأنجع المخارج.
الثالث: أن المرأة تفقد زوجها وهي في مقتبل العمر وترغب في الزواج ولا يتيسر لها أن تجلب اهتمام نظر الرجال إلى نفسها كزوجة أولى، هذه المرأة إذا لم يكن قانون تعدد الزوجات مشرعاً فهذا يعني بقاء كثير من النساء من أمثالها بلا أزواج، وهو ما له تأثيرات سلبية كثيرة على المجتمع ككل[23].
جواب بعض الباحثين:
وجعل بعض الباحثين مبرر التعدد الطبيعة التكوينية للرجل، فذكر أنه لا يقوى على مقاومة رغبته الملحة في الممارسة الجنسية، والزوجة الواحدة قد لا تلبي عنده عنفوان هذه الرغبة إما لشدتها وإما لضعف زوجته عن الاستجابة لمستوى رغبته أو لابتلائها بمرض يحول دون قدرتها عن الاستجابة له. على أن المرأة القادرة على ذلك يمنعها الحيض عن الاستجابة، والذي قد يطول إلى عشرة، وهو أمر لا يطاق عند البعض، كما أنها تبتلى بآلام الحمل وبعد ذلك آلام الولادة والتي تحتاج معها إلى مدة قد تطول إلى أكثر من الشهر لكي تستعيد عافيتها وهو أمر لا يطاق عند الكثير أو القليل.
هذا وللجمال والغنوجة نصيب ليس باليسير، فقد تكون الزوجة الأولى محرومة منهما أو فعل الزمن والحمل والولادة أو الأحداث والطوارئ فعله في جمالها، على أن رغبة الرجل في التعدد تقتضيها طبيعته بقطع النظر عن كل المبررات.
ثم عرض(وفقه الله) خيارات ثلاثة، وهي:
الأول: ترويض الرجل فإن لم ينفع، فالضغط عليه حتى لا يعدد ولا يمارس المعاشرة الجنسية خارج إطار الزوجية.
الثاني: هو حظر التعدد والسماح بالمعاشرة الجنسية خارج إطار الشرعية.
الثالث: هو السماح بالتعدد وفق ضوابط تحمي المرأة من الظلم وتضمن لها جميع الحقوق الزوجية.
وأختار أن السبيل الأنجع والأكثر واقعية هو الخيار الثالث لمعالجة هذه الحاجة الملحة، وذكر مبرراته لاختياره، وأنه السبيل الأنجع والأكثر واقعية[24].
ومن الواضح أن الأجوبة المذكورة في الكلمات سواء ما ذكرناه، أم ما لم نذكره متداخلة مع بعضها البعض.
وأما تقيـيمها، ومدى قدرتها على دفع الإشكال والشبهة الموجهة للإسلام، فأترك ملاحظة ذلك للقارئ العزيز ليقرر ذلك، بحيث يستغنى عن الحاجة إلى جواب آخر، أو يلزم ملاحظة مدلول الآية الشريفة والنظر في دلالتها فلربما يتصور فيها محتمل آخر يكون مانعاً من دلالتها على مشروعية التعدد بقول مطلق، وبالتالي لا يكون للاستناد إلى الآية لعرض الشبهة مجال أصلاً.
احتمال آخر في معنى الآية:
ومن الواضح، أن تمامية التقريب الناجم من التقدير المذكور تتم حال عدم توفر احتمال آخر في الآية الشريفة يفيد معنى آخر غيره.
والذي يمكن استظهاره من الآية الشريفة خصوصاً بملاحظة السياق الذي وردت فيه، ودون حاجة إلى تقدير كلمة النكاح، كما فعله المفسرون، إنها بصدد علاج قضية اجتماعية مفادها، أنه حال وجود امرأة عندها أيتام يحتاجون عناية ورعاية، فمن أجل العناية بهؤلاء الأيتام والقيام برعايتهم وإدارة شؤونهم، فإنه يجوز لكم الزواج من إمهاتهم، ولو كانت زوجة ثانية أو زوجة ثالثة أو زوجة رابعة، وهذا يعني أن تعد الزوجات لغرض القيام بمسؤولية رعاية الأيتام والحفاظ على أموالهم وإدارة شؤونهم.
نعم يعتبر في مشروعية الإقدام على هذه الخطوة كون الشخص المقدم عليها يملك القدرة على القيام بمسوؤلية إدارة عائلتين مثلاً من كافة النواحي المادية والاجتماعية، وما شابه ذلك.
وبعبارة أخرى، تعد الآية الشريفة واحدة من مصاديق الأطروحة الإسلامية في عملية التكافل الاجتماعي، وحفظ أفراد المجتمع ممن يحتاجون إلى ذلك من الضعفاء كالأيتام والأرامل، ويظهر هذا جلياً من قوله تعالى:- (وآتوا اليتامى أموالهم)، فإن التعبير المذكور يشير إلى المسؤولية الملقاة على عاتق الكافل لليتيم والوظيفة المناطة به، والتي تتمثل في رعاية شؤونه وبصورة كاملة، فإذا استغنى وبلغ الرشد، وانتفت حاجته لمن يقوم بمسؤوليته، لأنه قد وصل إلى مرحلة يستطيع فيها الاعتماد على نفسه، ويملك القدرة على إدارة شؤونه، والقيام بمسؤولياته، فعندها يعطى أمواله ليتصرف فيها كيف ما يشاء.
وقد أشار لعلاقة الآية الشريفة بما قبلها بعض الأعيان(ره)، حيث قال: وارتباط هذه الآيات الشريفة بما قبلها هو أن القيام بشؤون الأيتام وغيرها مما تقدم من أهم مصاديق التقوى[25].
وقريب من ذلك جاء في التحرير والتنوير، فقد قال: والآية ليست هي المثبتة لمشروعية النكاح، لأن الأمر فيها معلق على حالة الخوف من الجور في اليتامى، فالظاهر أن الأمر فيها للإرشاد[26].
وبناءاً على هذا الاحتمال لن يكون في الآية الشريفة دلالة على مشروعية تعدد الزيجات مطلقاً ومتى أراد الرجل ذلك وأشتهى، وإنما سوف تكون العملية المذكورة مقيدة بمن أراد أن يتصدى لكفالة الأيتام، والقيام بمسؤولياتهم، وإدارة شؤونهم من حيث التربية والتعليم وما شابه ذلك، لأن الرجل الأجنبي قد يجد في نفسه حزازة من القيام بشؤون اليتامى وتدبير أمورهم، وإدارة شؤونهم، فجاء العلاج بالزواج من أمهاتهم، كي لا يكون هناك ما يمنع من القيام بهذه المسؤولية.
ويساعد على القبول بهذا الاحتمال ابتداء الآية الشريفة بالزوجة الثانية، وليس الأولى، وهذا ما يصعب جوابه وفقاً للاحتمال الأول، بخلافه على هذا الاحتمال، لأن الغالب أن يكون المتصدي لإدارة شؤون الأيتام متزوجاً من امرأة لذا سوف تكون أم الأيتام الزوجة الثانية، وقد تكون له زوجتان من أمهات الأيتام، لأنه يتكفل أولادهن، وقد يكن ثلاث نساء، بالإضافة إلى زوجته الأولى.
ويؤيد ذلك ما ذكر من سبب نزول للآية الشريفة، ففي الميزان: أن أهل الجاهلية من العرب-وكانوا لا يخلون في غالب الأوقات عن الحروب والمقاتل والغيلة والغارة، وكان يكثر فيهم حوادث القتل-كان يكثر فيهم الأيتام، وكانت الصناديد والأقوياء منهم يأخذون إليهم يتامى النساء وأموالهن فيتزوجون بهن ويأكلون أموالهن إلى أموالهم، ثم لا يقسطون فيهن وربما أخرجوهن بعد أكل ما لهن فيصرن عاطلات ذوات مسكنة لا مال لهن يرتزقن به، لا راغب فيهن فيتزوج بهن وينفق عليهن[27].
ومنه يتضح منشأ الدعوة في الآية إلى القسط والعدل، والذي فهمه المفسرون أنهم عدل وقسط بين الزوجات الأربع مثلاً اللاتي تزوج بهن الرجل، وذكرت تفسيرات في ذلك لمعنى العدل المراد فيها، فإن المقصود به القسط والعدل في أموال اليتامى، بحيث أنه لا يسوغ لمن تزوج من أم اليتامى أن يستعمل أموالهم في الإنفاق على أمهم التي تزوجها، لأنها أصبحت مسؤولة منه، وهو المسؤول عنها ينفق عليها من أمواله، وليس من أموالهم، ويدل على ما ذكرناه من أن العدل الوارد ذكره في الآية مالي وليس عدلاً عاطفياً، ورود كلمة ألا تعولوا، فإنها لا تنسجم والتفسير الوارد ذكره في كلمات المفسرين، وهذا بخلافه على هذا الاحتمال.
والمتحصل، أن الاحتمال الثاني في الآية الشريفة، يفيد عدم مشروعية تعدد الزوجات مطلقاً، وإنما حصر ذلك حال وجود حاجة اجتماعية تتمثل مثلاً في رعاية الأيتام وحفظهم والقيام بشؤونهم وتلبية احتياجات أمهم، شرط أن يكون قادراً من الناحية المالية على القيام بنفقة البيت الثاني، لأنه غالباً ما يكون له بيت أول، وليس له الحق في الاستفادة من أموال الأيتام في الإنفاق على أمهم وعليهم بعد زواجه منها[28].
وهذا يعني، أنه لابد من كون الزوجة الثانية أو الثالثة مثلاً أرملة ذات أطفال، فلا يجوز الزواج من الأرملة التي لا أطفال لها، فضلاً عن الأرملة البكر التي فقدت زوجها لتكون زوجة ثانية، أو ثالثة.
وقد حكي هذا القول عن محمد محمد المدني[29]، وحاصل ما ذكره يتلخص في ما يلي:
1-إن العرب في الجاهلية كانوا يستضعفون اليتامى والنساء، وكانوا يحرمون المرأة والصبي من الميراث.
2-جاء الإسلام بإبطال ذلك كله وجعل لليتامى حقوقاً وازال عنهم الخوف.
3-كان الرجل ربما تحرج من ولاية شؤن اليتامى، وقد يكون مضطراً في سبيل رعايتهم إلى أن يداخلهم، وفيهم فتيات، أو يرى أمهاتهم الأيامى وهو يدخل عليهم ويخرج، وذلك فيه من الحرج ما فيه، حيث لا تؤمن الدواعي النفسية من رجل يدخل على أيم من النسوة وبناتها، وله الحق بحكم وصايته أن يراهن ويتحدث إليهن، ويجلس معهن، فإذا أراد أن يبتعد عن ذلك وأن يصد عن نفسه عوامل الفتنة بالابتعاد، أو بتقليل الزيارة والتعرف، فإنه سيكون مقصراً غير قائم لليتامى بالقسط على الوجه الذي أمره الله به.
4-وفي مثل هذا الوضع نزلت هذه الآية التي أباح الله فيها الزواج بأكثر من واحدة، ويتمكن الرجل عندئذٍ إذا كان متزوجاً بواحدة أن يضم إليها امرأة أخرى فيتزوج من إحدى اليتيمات، أو يتزوج الأم نفسها، وبذلك يصبح دخوله هذا البيت دخولاً مأمون العاقبة.
5-إن الربط بين جواز التعدد والخشية من عدم القيام بأمور اليتامى لا يعني أن هذا هو الشرط الوحيد لجواز تعدد الزوجات، وإنما يتحقق جواز سائر الحالات بالقياس به، فمتى ما توفر غرض عقلاني يدعو إلى ذلك جاز تعدد الزوجات، مثل ظروف الحرب ومرض المرأة وما شابه ذلك.
6-وهذا كله مشروط بشرط آخر وهو أن يأمن الزوج عدم الجور[30].
محاكمة المحتملين:
وبعد عرض المحتملين الذين يستظهرا من الآية الشريفة، لابد من العمد إلى ترجيح أحدهما على الآخر لكونه أوضح ظهوراً، وهذا يستدعي ملاحظة الموانع الموجبة لرفع اليد عن أحدهما، خصوصاً وأنك قد عرفت أن الاحتمال الأول، وهو الذي اختاره مشهور المفسرين، لو لم يكن جميعهم، قد ذكرت له موجبات الحمل عليه، من خلال ملاحظة الارتباط بين الجزاء والشرط الذي استدعى التقدير، ومن ثمّ تفسير اليتامى باليتيمات، والنساء بالنساء الأجنبيات، ومنع ثبوت مفهوم للشرط.
ويمنع من القبول بهذا الاحتمال اعتماده على التقدير لكلمة النكاح، والتي ترتب عليها تفسير كلمة اليتامى باليتيمات، وكلمة النساء بالأجنبيات، لأن ملاحظة سياق الآيات القرآنية الحافة بالآية محل البحث سواء ما تقدمها، أم ما جاء بعدها، يفيد أن الموضوع فيها جميعاً هو أموال اليتامى، وليس نكاحهم، وبالتالي يلزم أن يكون المقدر في الآية محل البحث هو أموالهم، وليس نكاحهم، وعليه، لا موجب لتخصيص كلمة اليتامى الواردة في الآية الشريفة والتي هي جمع يشمل الذكور والإناث، بخصوص الفتيات اليتيمات، كما لا معنى لحمل النساء المذكورة في الآية على النساء الأجنبيات ما يجعل ذكرهن في الآية أمراً أجنبياً عن الموضوع الذي هي بصدد الحديث عنه، بل سوف يكون المقصود بهن أمهات اليتامى، قال تعالى:- (وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوباً كبيراً* وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا) إلى أن قال تعالى:- (وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم ولا تأكلوها إسرافاً وبداراً أن يكبروا ومن كان غنياً فليستعفف ومن كان فقيراً فليأكل بالمعروف فإذا دفعتهم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم وكفى بالله حسيباً)[31].
وكما أنه لا موجب لتقدير كلمة النكاح في الآية الشريفة، كذلك لا موجب لتخصيص كلمة اليتامى الواردة فيها باليتيمات إلا تقدير كلمة النكاح، لأنه لو بقيت كلمة اليتامى على عمومها الشامل للذكر والأنثى استدعى ذلك جواز نكاح الذكور، وهو باطل بالضرورة الفقهية وإجماع المسلمين، لذا خصت الكلمة المذكورة بهن، ومع انتفاء القرينة الموجبة للتخصيص، تبقى الكلمة على عموميتها وشموليتها الشاملة للذكور والإناث من اليتامى.
على أنه لو سلم بما ذكره المفسرون في بيان الآية الشريفة ودلالتها على مشروعية تعدد الزوجات، فإنه لن يكون بينها وبين الآيات الشريفة التي وقعت في سياقها أدنى علاقة ولا ارتباط، ذلك أن موضوع الآيات الحافة بها هو أموال اليتامى ورعاية شؤونهم، وموضوع الآية محل البحث مشروعية تعدد الزوجات، وفي الزواج من أمهاتهم مضافاً للعناية بالأولاد، والرعاية بأمهم أيضاً، وتعويضها ما فاتها من شؤون الحياة الزوجية.
ويمنع ثالثاً من قبول ما ذكره المفسرون في دلالتها على مشروعية تعدد الزوجات مطلقاً، اشتمالها على الأمر، وهو قوله تعالى:- (فانكحوا)، فإنه فعل أمر، وهو ظاهر في الوجوب كما قرر في محله، وهذا يقتضي أنه يجب على كل واحد من الرجال أن يتزوج أربع زوجات، وهذا ما لا يقول به أحد، بل الضرورة الفقهية على خلافه.
ولهذا عمد المفسرون للتغلب على ذلك، بحمل الأمر على الإباحة، بدعوى أنه أمر وارد في مقام نفي توهم الحظر، وما يكون كذلك يكون ظاهراً في الإباحة لا الوجوب.
ولا يذهب عليك، أن هذا حمل للفظ على خلاف ظاهره، وهو بحاجة إلى قرينة وليس في البين قرينة يمكن التعويل عليها، نعم قد يدعى أن القرينة في البين خارجية، وهي الضرورة الفقهية المذكورة، وهو وإن كان حسناً لكنه ليس واضحاً.
والصحيح بقاءه على حاله في ظهوره في الوجوب، نعم ليس الوجوب موجهاً للأفراد بنحو كل فرد فرد، وإنما هو وجوب نوعي موجه للمجتمع جميعاً[32].
لا يقال: إن السياق وإن كان حجة عقلائية، إلا أن ذلك فرع إحراز نزول الآيات القرآنية جميعها في مورد واحد، وهذا لا يحرز إلا حال وجد نص من المعصومين.
فإنه يقال: يكفي لإحراز وحدة السياق عدم الإشارة إلى تعدد وقت نزول الآيات القرآنية في كلمات المفسرين، إذ لو كان هناك تعدد في وقت النـزول لأشير لذلك في كلماتهم، لأنهم عادة يشيرون لكل ما يرتبط بالآية الشريفة، والذي من ضمنهم ملاحظة وقت نزولها.
تنبيه مهم:
ولا ينبغي أن تقاس النتيجة التي وصلنا إليها في دلالة الآية الشريفة ببعض الآراء المطروحة على الساحة الفكرية، كرأي الإصلاحي التونسي الطاهر الحداد في كتابه امرأتنا في الشريعة والمجتمع، لأن رأيه مبني على أن تعدد الزوجات من العادات الاجتماعية، وليست من العناوين الدينية، وقد تعامل الإسلام معها كما تعامل مع مسألة الرق والعبيد، وفقاً للوضع القائم، وإن كان قد حبب للناس الإعتاق، وأكد على فضائل تحرير الأرقاء. قال في شأن تعدد الزوجات:
ليس لي أن أقول بتعدد الزوجات في الإسلام، لأنني لم أر للإسلام أثرا فيه، وإنما هو سيئة من سيئات الجاهلية الأولى التي جاهدها الإسلام طبق سياسته التدريجية. وكان عامة العرب يعددون نساءهم بلا حد لاستعمالهن في خدمة الأرض استغناء بهن عن الأجراء، وخدمة البيت والاستمتاع، فجاء الإسلام ووضع حدا لذلك (أمسك أربعا وفارق سائرهن)، ثم تدرج إلى اشتراط العدل بالتسوية بينهن، وجعل الخوف من عدم العدل كتحققه، كما في الآية (فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع، فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم…) تحذيرا لهم من عاقبة التعدد، ثم عبر عن تعذر الوفاء بشرط العدل بينهن مهما بذل فيه من الحرص (ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم).
[1] مواهب الرحمن ج 7 ص 293.
[2] المصدر السابق ص 293-294.
[3] الميزان في تفسير القرآن ج 4 ص 184.
[4] موسوعة الفقه الإسلامي ج 17 ص 119.
[5] يشير(ره) إلى إشكال ذكره بعض المفسرين، وسوف نشير إليه في طيات البحث، وقد ذكر(ره) في نهاية كلامه الذي سوف ننقله أن بينهما تمام الارتباط.
[6] مواهب الرحمن ج 7 ص 263.
[7] الميزان في تفسير القرآن ج 4 ص 167.
[8] قد يتوهم بعضهم أن بعض الأعيان(ره) يعدّ القول بالتعدد هو الأصل الأولي، وينشأ ذلك من قوله في مطلع تفسير الآيات الأول من سرة النساء: هذه الآيات الكريمة مشتملة على أصول نظامية فطرية متينة، ترتبط بحياة الأسرة والمجتمع-إلى أن قال-الرابع: مما تقدم من الأصول، كيفية القسط والمعاشرة بين نفس اليتامى. وهو في غير محله، لأن مقصوده من الأصل في المورد يغاير ما عنيناه من التعبير بالأصل.
[9] ويكون هذا نظير ما يذكر عن الشيخ محمد عبده، فإنه بعدما ذكر أن التوسع في إتاحة التعدد قد يفضي إلى خراب البيوت، وتفكك الأسر، أفتى أنه يجوز للحاكم في هذا العصر منعه، ويستثنى من منعه موارد الضرورة، جاء ذلك في أوراق نشرها صاحب المنار رشيد رضا.
وقد جاء ذلك في جواب على سؤال وجه إليه، فذكر في الجواب، أنه يشترط في التعدد أولاً التحقق من العدل، وهو مفقود حتماً، ولو وجد فإنه واحد من المليون، فلا يصح أن يتخذ قاعدة، ومتى غلب الفساد على النفوس، وصار من المرجح ألا يعدل الرجال في زوجاتهم، جاز للحاكم أو للعالم أن يمنع من التعدد مطلقاً مراعاة للأغلب.
وثانياً: قد غلب سوء معاملة الرجال لزوجاتهم عند التعدد، وحرمانهم من حقوقهن في النفقة والراحة، ولهذا يجوز للحاكم وللقائم على الشرع أن يمنع دفعاً للفساد الغالب.
وثالثاُ: قد ظهر أن منشأ الفساد والعداوة بين الأولاد هو اختلاف أمهاتهم، فإن كل واحد يتربى على بغض الآخر، فلا يبلغ الأولاد أشدهم إلا وقد صار كل منهم من أشد الأعداء للآخر، ويستمر النزاع بينهم إلى يخربوا بيوتهم بأيديهم، وأيدي الظالمين، ولهذا يجوز للحاكم أو لصاحب الدين أن يمنع تعدد الزوجات صيانة للبيوت عن الفساد.
وعلق صاحب تفسير المنار على الفتوى المذكور مشيراً لمستندها، فذكر أنه مبني على قاعدة جواز منع كل مباح ثبت ضرر استعمال لدى أولي الأمر.
[10] مواهب الرحمن ج 7 ص 298.
[11] الميزان في تفسير القرآن ج 4 ص 191.
[12] سورة النساء الآية رقم 2.
[13] سورة النساء الآية رقم 6.
[14] التحرير والتنوير ج 2 ص 222.
[15] المصدر السابق.
[16] تضمنت كلمات غير واحد من الأعلام علاج المشكلة المذكورة بجعل الآية محل البحث من الآيات المتشابهات، فلاحظ ما ذكره المحدث الطبرسي(ره) في الاحتجاج، وكذا الفيض الكاشاني(قده) في تفسيره الصافي عند الحديث عن هذه الآية.
[17] الميزان في تفسير القرآن ج 4 ص 167.
[18] الميزان في تفسير القرآن ج 4 ص 189-190.
[19] الميزان في تفسير القرآن ج 4 ص 190-191.
[20] المصدر السابق.
[21] مواهب الرحمن ج 7 ص 295.
[22] اعتمد القائمون على الموسوعة في الجواب على مصادر متعددة، كالميزان للعلامة الطباطبائي(ره)، والأمثل للأستاذ الشيخ مكارم الشيرازي(دام ظله).
[23] موسوعة الفقه الإسلامي ج 17 ص 119-121.
[24] مقالات حول حقوق المرأة ص 101-103.
[25] مواهب الرحمن ج 7 ص 260.
[26] التحرير والتنوير ج 2 ص 224.
[27] الميزان في تفسير القرآن ج 4 ص 166.
[28] بنى على هذا الرأي الدكتور محمد شحرور في كتابه فقه المرأة، وقد ألتـزم به أيضاً بعض الأساتذة(وفقه الله) في درسه، وقد عرفت في ما تقدم، وجود هذا المعنى احتمالاً ثبوتياً كما نص على ذلك بعض الأعيان(ره)، وهو أحد الأقوال التفسيرية في المطولات كما ذكر ذلك صاحب الميزان(ره)، وسوف نشير إلى من تبناه أيضاً قبل المذكورين.
[29] كاتب ومفكر مصري، وأحد الأساتذة المعروفين في مدارس الأزهر، ولد في سبتمبر سنة 1907 م وتوفي سنة 1968 م.
[30] نحو فقه للمرأة يواكب الحياة ص 89-90، عن رسالة الإسلام السنة العاشرة العدد الرابع ص 425-430.
[31] سورة النساء الآيات رقم 2، 3، 6.
[32] ثم إن في البين بحثاً قد أشار له المفسرون وهو تحديد عدد الزوجات اللاتي يمكن للإنسان الزواج بهن، والمعروف تحديد عددهن بالأربع، لتفسيرهم قوله تعالى:- (مثنى وثلاث ورباع)، بالثنتين، والثلاث والأربع، ومن ثمّ قالوا بأنه لا يجوز للرجل الزواج بأكثر من أربع نساء بالعقد الدائم، لكن هناك تفسير آخر تضمنته كلمات بعض المفسرين، مفاده أن الآية الشريفة ليست في صدد تحديد عدد الزوجات اللاتي يتزوج بهن، وإنما هي بصدد الإشارة إلى الكثرة دون تحديد لعدد معين، وذلك لأن كلمة مثنى وثلاث ورباع، لا يقصد منها الأعداد اثنان وثلاثة وأربعة، وهذا موافق لما تضمنته مصادر كتب اللغة.
ولما كان البحث عن ذلك خارجاً عما نحن بصدد الحديث عنه، لذا لم نعرض له، ويمكن للقارئ العزيز متابعة ما تضمنته كلمات أهل التفسير، وما اشتملت عليه كلمات أهل اللغة. نعم ما ينبغي التنبيه عليه أنه بناءاً على القبول بعدم كون الآية الشريفة بصدد التحديد في عدد معين، ووفقاً لما أخترنا في دلالة الآية الشريفة من حصر مشروعية التعدد من أجل التكافل الاجتماعي بغرض القيام بكفالة أيتام المرأة الأرملة رغبة في القيام بشؤونهم، ومسؤولياتهم، بالإضافة إليها، فإن التحديد بعدد معين، سوف يكون بيد الحاكم الشرعي، فليس الأمر مفتوحاً على مصراعيه، وهذا يشير إلى وجود نحو من الأحكام الولائية في المقام، والتفصيل أكثر يطلب من بحث كتاب النكاح في الفقه.