الإنسان بين الإصلاح والإفساد

لا تعليق
كلمات و بحوث الجمعة
68
0

[b]
قال تعالى:- (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون)[1].

إن كل قارئ للقرآن الكريم يتوق أن يعرف الرؤية الإلهية حول الإنسان، وأنها رؤية سلبية كما يتصور البعض، لما جاء فيه من أنه مخلوق مخالف للتشريعات، وللشيطان عليه سلطان وسيطرة، وهو أحد جنوده، وبالتالي خلقت النار ليكون فيها، أم أن النظرة السماوية حوله هي نظرة إيجابية، وما خلق الله سبحانه الجنة إلا من أجله.

لا ريب أن العودة للقرآن الكريم تفيد أن هناك رؤيتين أشير إليهما فيه، تضمنت الأولى الحديث عن البعد السلبي المشتمل عليه العنصر البشري، وكانت الرؤية الثانية بمثابة الوسيلة التي يمكن من خلالها علاج ذلك البعد السلبي عنده.

وإن شئت فقل، كأن الباري سبحانه قد أشار في الكتاب العزيز أن وجود الناحية السلبية عند الإنسان، لا يعني أن ذلك أمراً غير قابل للعلاج والإصلاح، وأنه لا مجال فيه للتصحيح، بل إن هناك ما يمكن الاستناد إليه لتحصيل العلاج وتحقيقه.

هذا ولنشر لبيان الرؤيتين اللتين تضمنهما القرآن الكريم، وبيان كيفية التعاطي معهما.

ملازمة الإفساد وسفك الدماء للطبيعة الإنسانية:

أما الرؤية الأولى التي أشير إليها في القرآن الكريم حول الإنسان، فهي انطوائه على صفتين تعتبران من لوازم وجوده الطبيعي، وهما صفة الإفساد، وصفة سفك الدماء، قال تعالى:- (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك)، ومن الواضح أن هذا المقطع القرآني يتضمن حديثاً بينه سبحانه وتعالى وبين ملائكته، وقد كان موضوع الحوار هو الخليفة المرتقب للأرض، ذلك أنه تعالى قد أبلغ ملائكته بقوله:- (إني جاعل في الأرض خليفة)، وقد جاء الجواب من الملائكة بصيغة الاستفهام الاستنكاري والاستغراب من عملية الاستخلاف.

ولا يخفى أن منشأ استنكارهم لم يكن هو عملية الاستخلاف نفسها، وإنما كان منشأ ذلك هو الاستنكار من الخليفة، لذلك قدموا موجباً لاستغرابهم واستنكارهم عليه، فقالوا:- (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء)، وفي نفس الوقت عرضوا المقومات التي يمتلكونها والتي تميزهم عنه، فقالوا:- (ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك)، وقد كانت الإجابة الإلهية على هذا الاستنكار هي:- (إني أعلم ما لا تعملون).

وفي هذا الحوار السماوي نقطة جديرة بالتأمل والدراسة، لعل كتب التفسير قد افتقدت إليها، ذلك أن القارئ لهذا الحوار في كتب التفسير يجد أن المفسرين قد ركزوا على السبب الذي دعى الملائكة للاستفهام الاستنكاري، وكيف عرف الملائكة أن الخليفة سوف يكون من المفسدين في الأرض؟ وسوف نشير إلى ذلك إجمالاً، إلا أن ما يهم ذكره هو ما جاء من وصف على لسان الملائكة للخليفة، وأنه يتصف بصفتين، ولم نجد من الباري سبحانه وتعالى أدنى رفض أو اعتراض على ما وسم به خليفته، بل ظاهر التعبير القرآني، هو القبول والتأيـيد لما جاء في كلام المستنكرين، نعم أشير إلى أن هناك علماً لم يطلع عليه الملائكة، إلا أن هذا لا ينفي ما ذكر في كلامهم.

ولا يخفى أنه وفقاً لما ذكر يخطر في الذهن سؤال مهم، مؤداه: عندما يقال بأن الخليفة يفسد في الأرض، ويسفك الدماء، فهل يكشف ذلك عن أن الأرض قبل تحقق عملية الاستخلاف فيها لم تكن متضمنة لذلك، وإنما كانت مكاناً آمناً، تسوده المحبة والسلام، والهدوء، فلا خراب فيه ولا فساد ولا دماء، بل كله طمأنينة ومحبة.

إن الإجابة عن هذا، يمكن استفادتها من خلال ما جاء في تحليلات المفسرين لمنشأ الاستفهام الاستنكاري في كلام الملائكة، وسوف نشير إليه إن شاء الله إجمالاً.
وكيف كان، إن المستفاد من المقطع القرآني المذكور والحوار الذي كان بين الله تعالى وملائكته، أن هذا الخليفة يحتوي على صفتين وهما صفة الإفساد وصفة سفك الدماء، وأن هاتين الصفتين من الأمور الملازمة لطبيعته، بحيث لا يتصور انفكاكه عنهما، فلا يتصور له وجود من دون وجودهما فيه، نعم قد لا تظهران في الخارج، لكنهما موجودتان عنده.

ولعل الموجب لتوفر هاتين الصفتين عند هذا المخلوق يعود إلى ما يملكه من مقومات خاصة امتاز بها على بقية الموجودات الأخرى، فإن من المعروف امتيازه عن بقية الموجودات بالقدرة على الاختيار، والإرادة، قال تعالى:- (إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً)[2]، فإن تعبير القرآن الكريم بالكفور، يتضمن إشارة واضحة إلى ما ينطوي عليه هذا المخلوق البشري من صفتي الإفساد وسفك الدماء، فلاحظ.

على أن مقتضى كون الإنسان مخلوقاً مركباً من مجموعة من الصفات والملكات، كملكة العقل، وملكة الشهوة وملكة الغضب يستوجب وجود هاتين الصفتين، عنده.
وقد تحصل مما تقدم، أن الإنسان مخلوق ممتلك لصفتي الفساد وسفك الدماء، وأنهما من لوازمه وجوده[3].
ولا يخفى أن وجود هاتين الصفتين، أوجب أن ينظر إلى الإنسان على أنه مخلوق سلبي، وبالتالي خلق الله تعالى النار من أجله، وأنه جندي من جنود الشيطان، وأداة من أدواته التي يستغلها في تمرير أفعاله.

مع أن للقرآن الكريم أطروحة عمد من خلالها إلى معالجة هذه الحالة المتأصلة في الوجود البشري، وسنشير لذلك إن شاء الله تعالى.

معرفة الملائكة بالحقيقة البشرية:

هذا ولنختم الحديث حول هذا الجانب من خلال عرض موجز لما جاء في كلمات غير واحد من أهل التفسير، لبيان منشأ معرفة الملائكة بالحقيقة الإنسانية، وأنه يتصف بصفتي الإفساد وسفك الدماء، ما دعى إلى صدور الاستنكار منهم على الباري سبحانه وتعالى.

وقد تضمنت كلماتهم ذكر أسباب عدة، حتى جعلها بعضهم خمسة عشر وجهاً، ومن المعلوم أن تعدادها جميعاً، يوجب طولاً لا يسعه هذا المختصر، ولذا نقتصر على ذكر بعض منها، ويمكن للقارئ العزيز مراجعة ذلك في كتب التفسير[4]:

منها: إنه سبحانه وتعالى لما خلق آدم(ع)، لم ينـزله إلى الأرض مباشرة، وإنما أبقاه فترة من الزمان يعيش مع الملائكة، وخلال تلك الفترة تعرف الملائكة عليه، فوجدوه مخلوقاً مركباً من مجموعة العناصر المتضادة، فقد وجدوا أنه يشتمل على ملكة العقل، وملكة الشهوة وملكة الغضب، وغير ذلك من الملكات، وقد كانوا على دراية ومعرفة أن من يمتلك هذه الصفات لابد وأن يكون مفسداً وسفاكاً للدماء، لذلك استنكروا عليه سبحانه.

ومن الواضح أن هذا الوجه إنما هو تخمين وتصور من الملائكة، فهم يتصورون أن يكون هذا المخلوق المتصف بهذه الصفات، مفسداً وسفاكاً للدماء، وكأنه ترتيب لنتيجة على مقدمات مسبقة، لا أنهم كانوا عالمين وعارفين بحقيقة الموضوع، كما هو واضح.

ولا يخفاك أن مثل هذا الوجه، لا يتناسب وظاهر الآية الشريفة، فإن الظاهر منها أنهم يخبرون عن واقع موجود في الخارج، لا أنهم يخبرون عن علم ومعرفة، وليس عن حدس وتصور، فلاحظ.

ومنها: إن للملائكة علماً إجمالياً بواقع الإنسان وأحواله، ومن ذلك العلم الإجمالي معرفته بأنه مخلوق من طبعه الإفساد وسفك الدماء، وليس منفكاً عن ذلك، لذلك صدر منهم هذا الاستنكار.

والفرق بين هذا الوجه وسابقه أن هذا يقرر وجود معرفة مسبقة وعلم، لا أن الموضوع تصور واحتمال، وتخمين كما هو حال الوجه الأول، وهذا الوجه يتناسب وظاهر الآية الشريفة، لكن يبقى أنه لم يقدم الإجابة على التساؤل المطروح، وهو كيف علموا، وما هو مصدر علمهم بهذه الحقيقة.

ومنها: إن منشأ ما صدر منهم يعود لما جاء في لسان الخبر الإلهي، ذلك أنه تعالى قد أبلغهم أنه سوف يجعل له خليفة في الأرض، وهذا القيد الاحترازي من خلال كلمة الأرض هو الذى دعاهم إلى قول ما قالوا، توضيح ذلك:

لقد علم الملائكة أن الخليفة الإلهي مخلوق من التراب، وقد زود بغريزة الحرص ونيل كل شيء، وبالتالي فهو يسعى إلى السيطرة على جميع الأشياء التي حوله بما فيها المخلوق الماثل له في كل شيء، ومن المعلوم أن العالم الذي يعيش فيه هذا الخليفة هو عالم مادي، لا يستطيع أن يشبع صفة الحرص الموجودة لديه، وذلك لأن المادة محدودة، فتكون مركزاً للتنافس والنـزاع، لذا سوف تحصل عملية الإفساد وسفك الدماء.

ولا يخفى أن هذا الوجه لا يختلف عن الوجه الأول، ضرورة أنه يعود إلى مجرد التخمين وتشكيل المقدمات لتحصل من خلالها نتائج، وهذا بعيد كما قلنا عن ظاهر الآية الشريفة، فلاحظ.

ومنها: أن يكون منشأ علمهم يعود إلى التجربة السابقة التي عاشوها مع الإنسان السابق على هذا الخليفة المنتخب، فقد تنازعوا وسفكوا الدماء، وأفسدوا في الأرض، وقد استند أصحاب هذا الوجه إلى النصوص:

منها: ما ورد عن عيسى بن أبي حمزة المدائني أنه قال: قال رجل لأبي عبد الله(ع) جعلت فداك، إن الناس يزعمون أن الدنيا عمرها سبعة آلاف سنة؟ فقال: ليس كما يقولون، إن الله خلق لها خمسين ألف عام فتركها قاعاً قفراً خاوية عشرة آلاف عام، ثم بدا له بداء، فخلق فيها خلقاً ليس من الجن ولا من الملائكة، وقدّر لهم عشرة آلاف عام، فلما قربت آجالهم أفسدوا فيها، فدمر الله عليهم تدميراً، ثم تركها قاعاً قفراً خاوية عشرة آلاف عام، ثم خلق فيها الجن، وقدّر لهم عشرة آلاف عام فيها، فلما قربت آجالهم أفسدوا فيها وسفكوا الدماء، وهو قول الملائكة(أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء)كما سفكت بنو الجان فأهلكهم الله، ثم بدا لله فخلق آدم وقرر له عشرة آلاف وقد مضى من ذلك سبعة آلاف عام ومائتان، وأنتم في آخر الزمان[5].

ولا يخفى أنه لو كنا والنص المذكور، لحكمنا بكونه أجنبياً، فإنه ليس بصدد الحديث عن المخلوق البشري، بل هو بصدد الحديث عن كيفية ابتداء الخلق على الأرض، وبيان أن المفسدين والسافكين للدماء هم الجان، وأين هذا مما نحن فيه؟!

ومنها: ما ورد عن الإمام الباقر(ع) أنه قال: خلق الله عز وجل في الأرض منذ خلقها سبعة عالمين ليس هم من ولد آدم، خلقهم من أديم الأرض فأسكنهم فيها واحداً بعد واحد مع عالمه ثم خلق الله عز وجل آدم أبا البشر وخلق ذريته منه[6].

ولا يختلف حال هذا الحديث عن سابقه، فإنه لا يدل على أن هناك إفساداً وسفكاً للدماء، حتى من المخلوقين السابقين على آدم(ع)، بل أقصى ما يفيده الحديث هو الإِشارة إلى تأريخ بداية خلق الأرض والكائنات التي وجدت عليها.

نعم يمكن الاستناد إلى ما روي عن الإمام الصادق(ع) أنه قال: ما عَلِم الملائكة بقولهم(أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء)لولا أنه قد كانوا رأوا من يفسد فيها ويسفك الدماء[7].

نعم لا يستفاد منه أن الذي رأوه هو من جنس الخليفة، فيكون بشراً، أم أنه من الجن كما أشير إليه في نصوص أخرى.
والحاصل، إن القبول بهذا الوجه أيضاً صعب جداً، خصوصاً وأنه لا يوجد بين النصوص ما يمكن الركون إليه في إثبات ذلك.

السبيل لعلاج المرض البشري:

ولما كان الإنسان مخلوقاً لا ينفك وجوده عن الإفساد وسفك الدماء، عمد الباري سبحانه وتعالى إلى تفعيل الأبعاد الأخرى الموجودة عند الإنسان، إذ كما نعلم أنه مخلوق مركب من مجموعة من الصفات والملكات، وعلى رأس تلك الملكات التي عمد الله تعالى لتحريكها عند الإنسان هي ملكة العقل، فعرض الأسلوب الأمثل لعلاج وجود هاتين الصفتين الموجودتين عند خليفته في الأرض، والتي أثارت استنكار واستغراب ملائكته، وذلك من خلال إجابته للملائكة بقوله تعالى:- (إني أعلم ما لا تعلمون)، فإن هذا التعبير الإلهي قد اختزن العلاج الأمثل والأكمل لهذه المشكلة الموجودة عند الإنسان.

وقد تمثل العلاج الإلهي في جعل المخلوق البشري المحور الأساس للحياة، وأساس الكون، والمجتمع، وقد زوده سبحانه وتعالى بمجموعة من القابليات والامتيازات التي اختص بها دون بقية الموجودات، فجعلت له امتيازاً عليها، وقد تمثلت تلك الامتيازات في أمور:

الأول: الخلافة في الأرض، ولم يجعل هذا لأحد سواه من الموجودات، قال تعالى:- (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة)[8]، وقد كان المقصود بالخليفة المجعول فيها هو الإنسان.

وقد واجه هذا الاستخلاف استنكاراً من الملائكة لتصورهم عدم أهلية المستخلف للاستخلاف، بل ربما كانوا الأجدر منه بذلك، ولذا قالوا:- (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء)، وقد كان الجواب الإلهي بأن الخليفة المنتخب للأرض يملك ما لم يتوفر عندكم، وقد أشار الباري سبحانه إلى وجود ذلك الامتياز الذي أعطيه الخليفة ولم يعطه الملائكة، من خلال قوله تعالى:- (فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين)، وقد كانت إجابتهم بعدم القدرة على ذلك لعدم تعليمه سبحانه وتعالى إياهم، فأبرز لهم سبحانه امتياز الخليفة، فقال تعالى:- (قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم)، بامتلاكه صفة العلم التي يفتقدونها.

معنى الاستخلاف في الأرض:

هذا ويوجد في الخلافة المقصودة في الآية الشريفة احتمالان:

أحدهما: أن يكون المقصود منها الخلافة التكوينية، وبالتالي تكون الوظيفة المناطة به هي: القيام بمسؤولية إعمار الأرض، وإدارة شؤونها، والحركة والسلوك فيها، ولعله يستفاد هذا المعنى من قوله تعالى:- (هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور)[9].

ثانيهما: أن يكون المقصود منها الخلافة التشريعية، وبالتالي تكون الغاية من الاستخلاف تحقيق الأمور التالية:

1-القيام بإدارة شؤون الأرض والتصرف فيها.
2- أن يقوم بإدارة شؤون نفسه.
3- أن يسعى إلى إدارة الكون المحيط به.

ويجمع الكل، قوله تعالى:- (يا داوود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله)[10].
الثاني: تكريمه وتفضيله على كثير من المخلوقات، ويستفاد هذا المعنى من موردين في القرآن الكريم: الأول منهما ما تضمن الدلالة على ذلك صراحة، وهو قوله تعالى:- (ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيـبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً)[11]، فإن المستفاد من الآية الشريفة أن هناك أمرين أختص الله سبحانه وتعالى الإنسان دون بقية الموجودات، وهما: التكريم، والتفضيل.

وقد وقع الخلاف بين المفسرين في الصفتين اللتين ميز بهما الإنسان على بقية الموجودات، فاختلفوا في تحديد منشأ التكريم، وما هو الشيء الذي كرم به الخليفة الأرضي على كثير من الموجودات، وذكرت في ذلك أراء، والظاهر أن المقصود بذلك امتلاكه صفة العقل، فهو مكرم بوجودها على بقية الموجودات، فلاحظ. كما اختلفوا أيضاً في أن التفضيل على بعض من خلقنا يدخل فيه الملائكة ليكون الإنسان أفضل منهم أم لا، وهذا بحث يوكل لمحله.

والحاصل، إن المستفاد من الآية الشريفة أن هناك أمرين أختص الله سبحانه وتعالى الإنسان دون بقية الموجودات، وهما: التكريم، والتفضيل.
ثانيهما: ما يستظهر منه ذلك، وهو أمره سبحانه وتعالى الملائكة بالسجود لآدم(ع)، فإن من الطبيعي أن هذا الأمر بالسجود كاشف عن حالة من الانقياد والاتباع والخضوع للمسجود له، وهذا يثبت أفضليته عليهم، فإنه لو لم يكن كذلك لم يكن هناك وجه لأمرهم بالسجود إليه.

الثالث: حمل الأمانة، إذ خصه تعالى بذلك دون بقية المخلوقات، يقول سبحانه:- (إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً)[12]، وقد خص سبحانه ذكر الجبال للإشارة إلى عظم ما خص به هذا الخليفة، فإن الجبال مع قوتها وضخامتها، وما تملك من القدرة والرسوخ بحيث أن ثبات الأرض واستقرارها بواسطتها، إلا أنها قد عجزت عن حمل تلك الأمانة، ولم يعجز الإنسان عنها، وما ذلك إلا لما يملكه من تميز عليها وعلى بقية الموجودات الأخرى، فلاحظ.

الرابع: تسخير الموجودات إليه، فهو يملك القدرة على التصرف فيها، ويستفاد هذا من قوله تعالى:- (الله الذي سخر لكم البحر لتجري فيه الفلك بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون* وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون)[13]، ولا يخفى أن في بيان حقيقة التسخير محتملان:

الأول: أن يكون التسخير المقصود في هذه الآية وأضرابها من الآيات القرآنية الخلافة المجعولة منه سبحانه وتعالى للخليفة إذا حملنا الاستخلاف فيها على الخلافة التكوينية، لأن الخليفة بما يملكه من عقل وقدرة وإرادة سوف يقوم بعملية التسخير ليجعل جميع الموجودات رهن أمره وإشارته.

الثاني: أن يكون التسخير شيئاً آخر، إما للالتزام بأن الخلافة المجعولة من قبله سبحانه وتعالى خلافة تشريعية، وليست خلافة تكوينية، أو يلتـزم بأن المقصود منه أمر أبعد من القدرة على الإدارة، بحيث تكون الأشياء الموجودة خارجاً منقادة إلى هذا الموجود بنفسها لما ألهمها الله تعالى وأمرها بذلك، حتى لو كان المقصود من الخلافة المجعولة خلافة تكوينية، فلاحظ.

الخامس: أنه محور التغيـير الكوني، فقد ربط سبحانه وتعالى التغيـيرات الحياتية في الكون بالتغيـيرات التي تطرأ عليه، ومحتواه الداخلي، الروحي والنفسي، وهذه صفة وخصوصية تميز بها على بقية الموجودات ليصبح هو المحور لهذه الموجودات.

ومن المعلوم أن التغيـيرات الكونية ترتبط بالتغيـيرات الاجتماعية في حياة الخليفة، ولا ريب أن التغيـيرات الاجتماعية مرتبطة بالنواحي النفسية للإنسان، يقول سبحانه وتعالى:- (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)[14]، وأوضح منها في العلاقة الوطيدة بين التغيـيرات الكونية وبين النواحي النفسية للإنسان، قوله تعالى:- (ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون)[15]، فالمجتمع الذي تسوده التقوى والأبعاد الإيمانية، يكون محطاً لنـزول الخيرات والبركات، وعلى العكس تماماً ذلك المجتمع الذي يسوده الفسق والفجور والفساد، فإنه يمنع من أي نعمة إلهية، أو خير رباني.

وقد تحصل مما مر أن الإنسان هو المحور الأساس في هذا الكون، بما فيه من سماوات وأرض، ومخلوقات، سماوية أم أرضية، حيوانية أم نباتية[16].

خاتمة:

ثم إنه بناءً على ما تقدم يتضح أن حالة الاستنكار الاجتماعي المتكرر لجملة من المظاهر السلبية الموجودة في المجتمعات اليوم، وهي مجموعة من الجرائم المستنكرة، كجرائم السرقة، وجرائم القتل، وغير ذلك، من خلال إبراز أن ذلك من الأمور الدخيلة على أوساطنا الاجتماعية، ليس على ما ينبغي، إذ قد عرفت فيما تقدم أن الإفساد وسفك الدماء من اللوازم الطبيعية للوجود البشري، والتي لا ينفك عنها، ولكن هذا لا يبرر وجودها في مجتمعاتنا كما هو واضح.

نعم اللازم هو التركيز على إبراز الحلول والعلاجات التي أشير إليها في القرآن الكريم، وذلك من خلال التركيز على أن الإنسان هو أساس الكون، وأنه العنصر المؤثر فيه، وأنه خليفة الله تعالى في الأرض، وأنه الذي فضله الله تعالى على كثير ممن خلق، وغير ذلك.

وهذا يعني العمد إلى كيفية عرض السبل والوسائل التي يتم بواسطتها إخماد هاتين الصفتين الموجودتين عنده، وتحويلهما إلى صفتين متنحيتين، وليستا صفتين بارزتين، فلاحظ.
هذا وقد يكون الاستهجان الاجتماعي والتذمر من وجود هذه الظواهر السلبية، وعدها ظواهر دخيلة على المجتمع اليوم، ناظراً إلى ما ذكرناه، بحيث يقصد ممن كلامهم أن مجتمعنا كان بالأمس مجتمعاً يبرز فيه العنصر الإيماني، وهو الذي تضمن السيطرة على الصفتين الموجودتين عند الإنسان، إلا أنه قد اختلف الوضع اليوم، فلم يعد هناك ما يحقق ذلك. وهذا يجعلنا نعمد إلى إعادة دراسة الواقع الاجتماعي المعاش والبحث عن الأسباب التي أدت إلى وصول المجتمع إلى مثل هذه الحالة.

ولا يخفى أنه على أي المحتملين المذكورين لحالة الاستهجان الاجتماعي، وأياً كان مقصود المستهجنين، إلا أن ذلك كله لا ينفي وجود خلل في الوسط يحتاج إلى تفكير جدي وعميق للبحث عن أسبابه، والعمد إلى وضع الحلول لعلاجه، حتى لا يستشري هذا المرض، ويتمادى، فيسيطر على جميع أجزاء المجتمع، وتكون النهاية المؤلمة، نسأل الله تعالى أن يجنب مجتمعنا الإيماني، والمجتمعات الدينية والإنسانية مثل هذه الظواهر السلبية، إنه سميع مجيب.

[1] سورة البقرة الآية رقم 30.
[2] سورة الآية رقم
[3] مجلة رسالة الثقلين العدد الرابع والعشرين ص 31(بتصرف).
[4] يمكن ملاحظة الميزان في تفسير القرآن ج 1 ص 115، الأمثل في تفسير القرآن المنـزل ج 1 ص 138.
[5] تفسير العياشي ج 1 ص 31 ح 8.
[6] الخصال ج 2 ص 358 ح 45.
[7] تفسير العياشي ج 1 ص 29 ح 4.
[8] سورة البقرة الآية رقم 30.
[9] سورة الملك الآية رقم 15.
[10] سورة ص الآية رقم 26.
[11] سورة الإسراء الآية رقم 70.
[12] سورة الأحزاب الآية رقم 72.
[13] سورة الجاثية الآيتان رقم 12-13.
[14] سورة الرعد الآية رقم 11.
[15] سورة الأعراف الآية رقم 96.
[16] المجتمع الإنساني في القرآن الكريم ص15-20(بشيء من التصرف)[/b]

تعليقات الفيسبوك

التعليقات مغلقة