مصحف فاطمة (عليها السلام)

لا تعليق
كلمات و بحوث الجمعة
329
1

قال أبو عبيدة، سأل بعض أصحابنا أبا عبد الله(ع) عن الجفر، فقال: هو جلد ثور مملوء علماً، قال له: فالجامعة؟ قال: تلك صحيفة طولها سبعون ذراعاً في عرض الأديم مثل فخذ الفالج فيها كل ما يحتاج الناس إليه، وليس من قضية إلا وهي فيها، حتى ارش الخدش.

قال: فمصحف فاطمة(ع)؟ قال: فسكت طويلاً، ثم قال: إنكم لتبحثون عما تريدون، وعما لا تريدون، إن فاطمة مكثت بعد رسول الله(ص) خمسة وسبعين يوماً وكان دخلها حزن شديد على أبيها وكان جبرئيل(ع) يأتيها فيحسن عزاءها على أبيها، ويطيب نفسها، ويخبرها عن أبيها ومكانه، ويخبرها بما يكون بعدها في ذريتها، وكان علي(ع) يكتب ذلك، فهذا مصحف فاطمة(ع)[1].

من العناوين التي ورد ذكرها في النصوص الشريفة، عنوان مصحف فاطمة(ع)، وقد أوجب ذكره فيها تشنيعاً على أتباع مدرسة أهل البيت(ع)، إذ استغله بعضهم ليلصقوا تهمة أو يؤكدوا ثبوتها بهم، وهي مسألة تحريف القرآن الكريم، وأن للشيعة مصحفاً آخر غير المصحف الموجود بأيدي المسلمين، وأنهم لا يعتقدون بهذا الموجود عندهم.

ولا ريب أن هذه التهمة الخطيرة تستوجب الوقوف أمامها، ودحضها، وإقامة البرهان على خلافها، ومن الطبيعي أن خير وسيلة لذلك العمد إلى بيان حقيقة  العنوان الذي تضمنته النصوص المباركة، فما هو مصحف فاطمة(ع)، وهل صحيح ما يدعيه المخالفون لمدرسة أهل البيت(ع)، وما يرمون به شيعتهم، وهل هو كتاب يتضمن قرآناً يختلف عما هو الموجود في أيدي المسلمين.

ولا يخفى أن الإجابة عن ذلك تتضح من خلال الإحاطة، بمصدر إملاء المصحف المذكور، وبيان المميزات التي يمتاز بها، والموضوعات التي تضمنها، ومن الذي تولى كتابته، وعندها يقرر صحة التهمة المنسوبة للشيعة من عدمها، فهنا محاور للبحث إذاً.

كاتب مصحف فاطمة:

إن أول ما ينبغي الحديث عنه هو تحديد من الذي تولى كتابة مصحف فاطمة، والمتصور في ذلك احتمالات ثلاثة:

الأول: أن يكون مصحفها قد نزل عليها بصورة كاملة من السماء دفعة واحدة.
الثاني: البناء على أنه كان ينزل عليها بصورة تدريجية، وكانت هي(ع) تتولى كتابته بنفسها.
الثالث: أن يكون هناك شخص ثالث قد تولى عملية كتابة ما كان ينـزل عليها.

وقبل تحديد الكاتب للمصحف، ينبغي إلفات نظر القارئ أن إلقاء شيء إلى السيدة الزهراء(ع) بواسطة الملائكة لا يعد بدعاً من القول، ولا يعد أمراً مستغرباً أو مستحيلاً، لأنه قد ثبت في محله أنها(ع) من محدثة، أي تحدثها الملائكة، ويلتـزم غيرنا من المسلمين ثبوت مثل هذا الأمر لبعض الصحابة.

وعلى أي حال، إذاً لا مانع من سماعها لصوت الملك، وبالتالي إمكانية إملاء المصحف عليها، لأنها محدثة.

هذا ولو أردنا دراسة المحتملات الثلاثة التي قدمناها، فإنني لم أجد بين النصوص الشريفة، ما يشير إلى أنها(ع) تولت كتابته بنفسها، بل في النصوص ما يشير إلى أنها قد شكت إلى أمير المؤمنين(ع) عدم قدرتها على الكتابة، لكونها منشغلة بحزنها على رسول الله(ص)، وأنها تحب أن تحفظ ما يلقى إليها تحديثاً من الملائكة، وهذا يعني أن الاحتمال الثاني من الاحتمالات الثلاثة لا دليل عليه.

وأما الاحتمال الأول، فيمكن الاستدلال له بما جاء في دلائل الإمامة للطبري، فقد نقل التالي: لما أراد الله تعالى أن ينـزل عليها جبرائيل وميكائيل واسرافيل وأن يحملوه فينـزلون به عليها، وذلك في ليلة الجمعة من الثلث الثاني من الليل فهبطوا به، وهي قائمة تصلي فما زالوا قياماً حتى قعدت، ولما فرغت من صلاتها سلموا عليها وقالوا: يقرئك السلام، ووضعوا المصحف في حجرها[2]. فإن المستفاد من النص المذكور أن المصحف قد نزل دفعة واحدة عليها من السماء، ولم يتم نزوله بصورة تدريجية، كما أنه نزل بالصورة التي هو عليها، وهذا يعني أن المتولي لإعداده وتهيئته هو الباري سبحانه وتعالى.

ولا ريب في عدم إمكانية الاستناد للراوية المذكورة، فإن مقتضى إخضاعها للدراسة النقدية سنداً ومتناً يمنع من القبول بها، فإن سندها قد اشتمل على جعفر بن محمد بن مالك الفزاري، وقد قال عنه ابن الغضائري: كذاب، متروك الحديث، وفي مذهبه ارتفاع، ويروي عن الضعفاء، والمجاهيل، وكل عيوب الضعفاء فيه.

كما أن متنها يخالف ما نعتقده، فإنها تضمنت رؤيتها(ع) للملائكة الثلاثة(ع)، وهذا خلاف ما نعتقده، فإننا وإن اعتقدنا بكونها محدثة، لكن المحدث هو الذي يسمع صوت الملك ولا يراه، وهذا يعني امتناع رؤيتها للملائكة، ولو قيل بأنها قد رأتهم في غير صورتهم الحقيقية، لقلنا، وكيف عرفت عندها أن ما جيء لها به من الله سبحانه، وأنهم الملائكة.
والحاصل، إن النص المذكور يتضمن مالا يتناسب والبعد العقدي عندنا، وبالتالي لابد من رد علمه إلى أهله، كما هو واضح.

نعم لو بني على أن المقصود من الخبر المذكور ليس ما هو الظاهر منه، بأن يقال: إن المقصود من كون الإتيان به من الله تعالى، أن مصدره الباري سبحانه، كما يقال أن القرآن من الله تعالى، بمعنى أنه سبحانه المصدر له، وأن معنى وضعه في حجرها(ع) كناية عن الإملاء، وليس وضعه بمعنى جعله في حجرها ليأخذ حيزاً منه، فإن قبل ما ذكر كان ذلك موجباً لجمعها مع النصوص الأخرى، وبالتالي تكون دالة على ما دلت عليه، وإلا فلا مناص من رد علهما إلى أهلها، كما عرفت، فتدبر.

والإنصاف، إن التوجيه المذكور غير بعيد، وتساعد عليه القرائن، فلا موجب لحملها على غير ذلك، فلاحظ.

ووفقاً لما تقدم، سوف ينحصر الأمر في خصوص المحتمل الثالث، وهو أن كاتبه هو أمير المؤمنين(ع)، وهذا ما تساعد عليه الأدلة، فعن حماد بن عثمان قال: سمعت أبا عبد الله(ع) يقول: تظهر الزنادقة في سنة ثمان وعشرين ومائة وذلك أني نظرت في مصحف فاطمة(ع)، قال: قلت: وما مصحف فاطمة؟ قال: إن الله تعالى لما قبض نبيه(ص) دخل على فاطمة(ع) من وفاته من الحزن ما لا يعلمه إلا الله عز وجل، فأرسل الله إليها ملكاً يسلي غمها ويحدثها، فشكت ذلك إلى أمير المؤمنين(ع) فقال: إذا أحسست بذلك وسمعت الصوت قولي لي فأعلمته بذلك، فجعل أمير المؤمنين(ع) يكتب كلما سمع حتى أثبت من ذلك مصحفاً، قال: ثم قال: أما إنه ليس فيه شيء من الحلال والحرام، ولكن فيه علم ما يكون[3]. ودلالته على كون كاتب المصحف هو أمير المؤمنين(ع) واضحة لا لبس فيها. ومثل ذلك في الدلالة على هذا الاحتمال صحيح أبي عبيدة الحذاء، فقد جاء فيه: وكان علي(ع) يكتب ذلك، فهذا مصحف فاطمة(ع)[4].

من أملى المصحف:

وكما وجد في كاتب مصحف فاطمة(ع) احتمالات، فإن ذلك يجري أيضاً في من تولى القيام بعملية إملائه، إذ أن المستفاد من النصوص الشريفة وجود عناوين أربعة، كل واحد يقرر أنه المملي للمصحف، وتلك العناوين هي:

1-أن المملي له هو الباري سبحانه وتعالى، وقد أشير إلى ذلك في رواية أبي بصير عن أبي عبد الله الصادق(ع) أنه قال: إنما هو شيء أملاه الله عليها، وأوحى إليها[5].
ودلالة العبارة واضحة على أن المملي هو الباري سبحانه وتعالى، إلا أن المشكلة تكمن في أن نسخ المصدر المنقولة منه هذه الرواية مختلفة في المقام، وقد عمد إلى تصحيحها على خصوص نسخة صاحب البحار(ره)، ومن الطبيعي أن هذا يستدعي توقفاً كبيراً جداً في القبول، إذ قد يكون صاحب البحار(قده) أعمل حدسه في البين، وبالتالي يصعب الجزم بورود مثل هذا التعبير في النص.

وربما قيل، إن الرواية المذكورة بنفسها قد نقلها شيخنا الكليني(ره) في كافيه[6]، ولم تتضمن المقطع المذكور، كما أنها قد وردت في كتاب الوافي لشيخنا الفيض(قده)[7]، من دون ذكر للعبارة المذكورة، وعليه لا يوثق بالنسخة المعتمدة من قبل صاحب البحار(ره).

وهو في غير محله، ضرورة أنه يمكن لصاحب الكافي أن ينقل الراوية، ويحذف منها ما لا يرى حجيته، فيتصرف في متنها، وهذا غير عزيز لمن تابع الكافي، ومن أمثلة ذلك مقبولة عمر بن حنظلة المشهورة في الفقه والأصول، فإن بين نقل المحامدة الثلاثة عموماً من وجه، كما يلحظه كل من تابعها في كتبهم الأربعة، وما ذلك إلا لأن كل واحد منهم قد عمد إلى نقل خصوص ما يعتقد حجيته، وترك ما لا يعتقد فيه ذلك، وليكن مقامنا من هذا القبيل، فلا يكون نقل شيخنا الكليني(ره) لمقطع من النص كاشف عن عدم صدوره، لأنه ربما أعرض عن نقله لعدم قبوله بحجيته، فتدبر.

ومثل ذلك شيخنا الفيض في وافيه، على أن مصدر الوافي هو شيخنا الكليني(ره)، فلا يكون مصدراً  آخر للمدعى.
ومنه تعرف أنه لا مجال لجعل المقام من صغريات الدوران بين الزيادة والنقيصة، فلا تغفل.

نعم مضافاً للتوقف في الوثوق بنسخة غواص بحار الأنوار(قده)، فإن هناك مانعاً آخر يمنع من القبول بالنص المذكور وهو التعبير بكلمة الوحي، فإننا لا نعتقد ذلك في سيدتنا الطاهرة(ره)، إلا أن يكون المقصود منه مثل ما ورد في شأن أم موسى(ع)، وأضرابها، من التحديث، فلا يكون النص المذكور مخالفاً للقواعد العامة.

وعليه، فلو حمل النص المذكور على أن المقصود من إملائه تعالى عملية التحديث، فلن يكون النص المذكور مخالفاً لغيره من النصوص، ولن يكون العنوان مخالفاً لبقية العناوين، ضرورة أن التحديث، قد يكون بواسطة ملك من الملائكة. اللهم إلا أن يدعى أنه لا يعتبر في التحديث وجود الواسطة فكما أن للوحي للأنبياء طرقاً، فكذلك للتحديث طرقاً، فقد يكون التحديث من دون وجود واسطة، وهو ما يعرف بالإلهام، وهو المتصور في شأن أم موسى(ع)، وبالتالي كون الأمر إلهاماً لمولاتنا الطاهرة(ع)، منه سبحانه، وهذا هو المقصود من إملائه عز وجل لها، وهو غير بعيد.

نعم يبقى المانع من البناء على ما ذكر ما عرفت من عدم الجزم بالنص المذكور، خصوصاً وقد أعرض شيخنا الكليني(ره) عن هذا المقطع، فتأمل جيداً.

2-أن المملي له هو ملك من الملائكة، أرسله الله تعالى، وكان يحدث الزهراء(ع)، ويملي عليها ذلك. وقد ورد ذلك في خبر عثمان بن حماد عن أبي عبد الله الصادق(ع)  حيث جاء فيه: فأرسل الله إليها ملكاً يسلي غمها ويحدثها، فشكت ذلك إلى أمير المؤمنين(ع)، فقال: إذا أحسست بذلك وسمعت الصوت قولي لي، فأعلمته بذلك فجعل أمير المؤمنين يكتب كل ما سمع حتى أثبت بذلك مصحفاً[8].

3-أن الإملاء كان بواسطة جبرائيل الأمين(ع)، فإنه الذي كان يتولى ذلك، وقد كان ذلك من خلال التحديث، وقد ورد ذلك في صحيحة أبي عبيدة الحذاء عن أبي عبد الله الصادق(ع) التي جاء فيها: وكان جبرائيل يأتيها فيحسن عزاءها على أبيها ويطيب نفسها ويخبرها عن أبيها ومكانه، ويخبرها بما يكون بعدها في ذريتها، وكان علي(ع) يكتب ذلك فهذا مصحف فاطمة[9].

وقد يؤيد ذلك بما ورد عن عمر بن يزيد قال: قلت: لأبي عبد الله(ع): الذي أملى جبرائيل على علي(ع) أقرآن هو؟ قال: لا[10]. على أساس أن المسؤول عنه هو مصحف فاطمة، أما لو بني على أن المسؤول عنه شيء آخر، فلا دلالة له على المدعى، ولاحتمال كون المسؤول عنه هو الأول، عبرنا عنها بالمؤيد، وليس بالدليل، فتأمل.
4-أن المملي كان رسول الله، ومنشأ ذلك ما جاء عن الإمام الصادق(ع) أنه قال: وعندنا مصحف فاطمة(ع)، أما والله ما فيه حرف من القرآن، ولكنه إملاء رسول الله، وخط علي[11].

ووفقاً لما تقدم، سوف يبنى على وقوع المعارضة بين العناوين الأربعة، إلا أنه يمكن حل ذلك بإرجاع العنوان الثاني إلى العنوان الثالث، فيحكم بوحدتهما، عمدة ما كان تضمنت بعض النصوص الإجمال في الملك المملي، وبعضها تضمنت التفصيل والبيان، وإلا فالمقصود من الملك في النصوص هو الأمين جبرائيل(ع)، وبالتالي لا معارضة بين العنوانين، فلاحظ.
فيبقى الأمر بين العنوان الأول والعنوان الثالث والعنوان الرابع، وقد عرفت أن العنوان الأول يمكن علاجه بإرجاعه إلى التحديث بواسطة الملك، كما هو غير مستبعد، فنبقى وخصوص العنوانين الثالث والرابع، وقد ذكرت عدة وجوه لعلاجه:

منها: البناء على أن مصحف فاطمة(ع)، ليس كتاباً صغيراً، بل هو مجموع  كبير يتضمن مجموعة من الأمور، وقد كان مصدر بعض ما فيه النبي(ص)، والمصدر الآخر كان ما يمليه الأمين جبرائيل(ع) على مولاتنا الزهراء(روحي لها الفداء).

والتوجيه المذكور وإن كان محتملاً ثبوتاً، إلا أنه بحاجة إلى ما يدل عليه إثباتاً، وإلا كان جمعاً تبرعياً، كما لا يخفى.

والظاهر أنه ليس في النصوص ما يشير إلى هذا المعنى، بل إن المستفاد منها أن مصحف فاطمة(ع) كان كله بإملاء من جبرائيل، وأن ذلك كان بعد رحلة النبي(ص) عن عالم الدنيا، وأن الداعي إلى ذلك كان تسلية للزهراء(ع)، وعليه فلن ينسجم الجمع المذكور والنصوص الموجودة في المقام.

ومنها: ما أختاره السيد الأمين(قده) في كتابه أعيان الشيعة، من وجود كتابين للزهراء(ع)، أحدهما بإملاء النبي(ص)، والآخر بإملاء الأمين جبرائيل(ع)، وكان الكاتب لكليهما هو الأمير(ع)[12].

ولعل منشأ ما ذكره السيد الأمين(ره) هو ما رواه حبيب الخثعمي، في تعيـين وزن الدرهم المختلف فيه، قال: كتب أبو جعفر المنصور إلى محمد بن خالد وكان عامله علي المدينة أن يسأل أهل المدينة عن الخمسة في الزكاة من المائتين كيف صارت وزن سبعة ولم يكن هذا على عهد رسول الله(ص)-إلى أن قال-فأقبل عليه عبد الله بن الحسن فقال: من أين أخذت هذا؟ قال: قرأت في كتاب أمك فاطمة، قال: ثم انصرف[13]. وقد ورد هذا التعبير أيضاً في رواية فضيل قال: دخلت على أبي عبد الله(ع)، فقال: يا فضيل أتدري في أي شيء كنت أنظر قبيل؟ قال: قلت لا، قال: كنت أنظر في كتاب فاطمة(ع)، ليس من ملك يملك الأرض إلا وهو مكتوب فيه باسمه واسم أبيه وما وجدت لولد الحسن فيه شيئاً[14].

ولا يخفى أن موجب الالتـزام بما أفاده(ره) يعتمد على كون بيان مقدار الدرهم من الأحكام الشرعية، حتى تكون هناك معارضة بين النص المذكور والنصوص الأخرى التي تضمنت أن مصحف فاطمة(ع) لا يتضمن شيئاً من الحلال والحرام، كما ستأتي الإشارة إليه. أما لو بني على أن التحديد المذكور ليس من التشريع، كما هو الظاهر فلا منافاة بين النصوص أصلاً. على أن رواية الفضيل تساعد على أن المقصود من كتاب فاطمة(ع) هو مصحفها كما سيأتي عند الحديث عن موضوعات المصحف وما تضمنه من مطالب، فأنتظر.

على أنه لم يتضح وجه الجمع المذكور، فإن رواية الخثعمي لا تتضمن إشارة من قريب أو بعيد إلى كون كتاب فاطمة من إملاء رسول الله(ص)، وبالتالي لم يتضح وجه الجمع المذكور، فتدبر.

ومنها: ما ذكره غواص بحار الأنوار العلامة المجلسي(قده) ، وحاصله: إن موجب تصور المعارضة بين الاحتمالين الثالث والرابع إنما هو الانصراف الذهني لكون المقصود من التعبير برسول الله، هو النبي الأكرم محمد(ص)، مع أن هذا الانصراف ليس من الانصراف المعول عليه في مثل الموارد، وبالتالي يبقى التعبير متصوراً في غيره، خصوصاً إذا لاحظنا أن هذا التعبير قد يطلق على الملائكة، وقد استعمل كذلك سواء في القرآن الكريم، وفي النصوص الشريفة، وعليه فإن وجدت قرينة دلت على تحديد المقصود منه، وإلا فإن كان الانصراف للأقوى وضوحاً وظهوراً، أو بقي اللفظ مجملاً، والظاهر أن في البين قرينة مساعدة على تحديد المقصود منه، وهي النصوص التي تضمنت أنه كان يأتيها ملك، أو يأتيها جبرائيل فيحدثها، فيحمل لفظ الرسول الوارد في النص على جبرائيل(ع)، وبهذا يحل التعارض.

مواصفات مصحف فاطمة:

هذا ونحتاج أن نتعرف على المواصفات التي يتصف بها مصحف فاطمة(ع)، وذلك من خلال عرض الميز التي يمتاز بها، وبيان الموضوعات التي اشتمل عليها.

أما بالنسبة للميز التي امتاز بها، فقد ذكرت النصوص أن له امتيازين يمتاز بهما:

أحدهما: أنه لا يشتمل على شيء من القرآن الكريم، وقد أشير إلى ذلك في ما روي عن الإمام الصادق(ع) أنه قال: وعندنا مصحف فاطمة، أما والله ما هو بالقرآن[15]، وكذا ما روي عن الإمام الكاظم(ع) أنه قال: عندي مصحف فاطمة، ليس فيه من القرآن شيء[16].

وكأن هذا التركيز من الإمام(ع) دفعاً لتوهم قد يحصل عند البعض من خلال التعبير بكلمة المصحف، فقد يتصور أن ذلك يحتوي على شيء من القرآن الكريم، أو أنه قرآن، وبالتالي تؤكد الفرية الموجهة للشيعة من أن لهم قرآناً آخر يغاير قرآن المسلمين، لذا أكد(ع) على أن مصحف فاطمة(ع) لا يتضمن شيئاً من القرآن الكريم.

وقد يعترض على هذا الامتياز بما حكاه شيخنا المجلسي(قده) عن الديلمي، عن أبي بصير عن أبي عبد الله الصادق(ع) أنه كان يتلو قوله تعالى:- (سأل سائل بعذاب واقع*للكافرين ليس له دافع) بهذا النحو: سأل سائل بعذاب واقع للكافرين بولاية علي ليس له دافع. ثم قال: هكذا في مصحف فاطمة[17].

وهو مدفوع، بعدم صلوح الخبر المذكور لمعارضة النصوص الأخرى، لضعف سنده بضعف من وقع في طريقه كما نص على ذلك الرجاليون، فلا يصلح لمقاومة النصوص الأخرى التي تضمنت المعتبر، والتي نفت اشتمال مصحف فاطمة(ع) على شيء من القرآن الكريم، فتدبر.

ثانيهما: أنه لا يشتمل على شيء من الأحكام، وقد ذكر ذلك في رواية حماد بن عثمان المروية عن الإمام الصادق(ع) أنه قال: أما إنه ليس فيه شيء من الحلال والحرام، ولكن فيه علم ما يكون[18]. لكن يعارض هذا النص ما رواه الحسين بن أبي العلاء قال: سمعت أبا عبد الله(ع) يقول:….ومصحف فاطمة، ما أزعم أن فيه قرآناً، وفيه ما يحتاج الناس إلينا ولا نحتاج إلى أحد حتى فيه الجلدة، ونصف الجلدة، وربع الجلدة، وأرش الخدش[19]. فإن ما ذكره عبارة عن أحكام، وهذا يعني اشتماله عليها، فتقع المعارضة حينئذٍ.

ولا يخفى أن المعارضة المتصورة مبنية على رجوع الضمير في قوله: وفيه ما يحتاج الناس إلينا، إلى مصحف فاطمة، فيكون المعنى وفي مصحف فاطمة ما يحتاج الناس إلينا ولا نحتاج إلى أحد حتى فيه الجلدة.

إلا أن العلامة المجلسي(ره) احتمل احتمالاً آخر، فذكر أن الضمائر كلها، وهي قوله: فأي شيء فيه، و: ما أزعم أن فيه قرآناً، وفيه: ما يحتاج الناس إلينا، راجعة إلى الجفر الأبيض، الذي كان الإمام(ع) بصدد تعريفه، أو لا أقل من كون الضميرين الأخيرين راجعين إليه[20].

ومقتضى ما ذكره العلامة المجلسي(ره) هو البناء على كون مصحف فاطمة(ع) واحد من المصادر التي تضمنها الجفر الأبيض كما تضمن كتب الأنبياء السابقين(ع).
والاستظهار المذكور تساعد عليه محاورة الإمام الصادق(ع) مع المعلى بن خنيس، والتي جاء فيها: وأما قوله في الجفر، فإنما هو جلد ثور مذبوح كالجراب، فيه كتب وعلم ما يحتاج الناس إليه إلى يوم القيامة، من حلال وحرام، إملاء رسول الله(ص)، وخطه علي(ع) بيده، وفيه مصحف فاطمة، ما فيه آية من القرآن[21].

ولا يخفى أنه وفقاً لكلا الاحتمالين، فلن تكون هناك معارضة بين النصين، ضرورة أن الضمير لن يكون راجعاً لمصحف فاطمة(ع)، وعليه لن يكون مشتملاً على شيء من الأحكام، فتدبر.

لكن تبقى الراوية التي سبقت الإشارة إليها والتي تضمنت بيان مقدار الدرهم في عصر الدوانيقي، فإن قبل أنها تدل على حكم شرعي، كانت معارضة لما ذكر من نفي اشتماله على شيء من الأحكام، وإن بني على ما تقدم منا، فلا معارضة كما هو واضح، فتأمل.

وأما الموضوعات، فقد تضمنت النصوص أن موضوعاته أمور:

1-إخبارها عن مقام رسول الله(ص)، ومستقبل أبناءها(ع)، فقد جاء في صحيح أبي عبيدة: ويخبرها عن أبيها، ومكانه، ويخبرها بما يكون بعدها في ذريتها[22].
2-الإخبارات المستقبلية، ففي رواية حماد بن عثمان: ولكن فيه علم ما يكون[23].

3-ذكر الأنبياء والأوصياء(ع)، فقد ورد عنه(ع) قوله: ما من نبي ولا وصي إلا وهو في كتاب عندي، يعني مصحف فاطمة. نعم للجزم بكون هذا من موضوعات المصحف مجال واسع، فإن ما جاء في ذيل الخبر تفسير من الراوي، وهذا يعني أنه قد استظهر من كلام الإمام(ع) ذلك، ربما كان نتيجة الاستناد لجملة من القرآئن الحالية أو المقامية، وإلا فلا نعرف وجهاً لهذا الاستظهار، ويحتمل أنه مجرد تخمين وظن ليس إلا، والظن كما نعلم لا يغني من الحق شيئاً.

وبالجملة، الجزم بما ذكر أنه من الموضوعات المذكورة في مصحف فاطمة(ع)، فيه تأمل.

4-ذكر الحكام والملوك الذين يحكمون ويملكون في الأرض، وقد أشير إلى ذلك في قوله(ع): وأما مصحف فاطمة ففيه ما يكون من حادث، وأسماء من يملك إلى أن تقوم الساعة[24].

وقد يستفاد ذلك من صحيحة الفضلاء، قال لأبي عبد الله(ع)، إن الزيدية والمعتزلة قد أطافوا بمحمد بن عبد الله فهل له سلطان؟ فقال: والله إن عندي لكتابين فيهما تسمية كل نبي وكل ملك يملك الأرض، لا والله ما محمد بن عبد الله في واحد منهما[25]. وفقاً لما احتمله العلامة المجلسي(ره) في المرآة أن المقصود بالكتابين، الجفر ومصحف فاطمة, وحكى قولاً عن بعضهم أن المقصود بالكتابين أنهما جزءان من المصحف، أحدهما يتعلق بذكر الأنبياء، والآخر يتعلق بذكر الملوك[26].

ومثل ذلك يجري في رواية فضيل قال: دخلت على أبي عبد الله(ع)، فقال: يا فضيل أتدري في أي شيء كنت أنظر قبيل؟ قال: قلت لا، قال: كنت أنظر في كتاب فاطمة(ع)، ليس من ملك يملك الأرض إلا وهو مكتوب فيه باسمه واسم أبيه وما وجدت لولد الحسن فيه شيئاً[27]. فإنه إذا بني على أن المقصود بكتابها هو مصحفها، كانت متضمنة للمدعى، فلاحظ.

5-وصيتها(ع) فقد روي عن الإمام الصادق(ع): وليخرجوا مصحف فاطمة، فإن فيه وصية فاطمة[28].
ويمكن تحديد وصيتها(ع)، وما جاء فيها بملاحظة غير واحد من النصوص، ليس هذا محل ذكرها، وقد أشار العلامة المجلسي(قده)، إلى ما يتصور فيها وفقاً للنصوص، فلاحظ[29].

هذا وليعلم أن مصحف فاطمة من التراث الخالد الذي يتوارثه الأئمة(ع) خلفاً عن سلف، وينتقل للإمام اللاحق من الإمام السابق[30]، وهكذا في ما ينتقل إليه، كما عرفت ذلك من النصوص، والتي تضمنت تعداد الإمام(ع) ما يكون عنده من التراث، والمصادر وما شابه.

وقد تحصل من خلال العرض السابق عدم تمامية الفرية التي ينسبها الآخرون لأتباع مدرسة أهل البيت(ع) بشأن مصحف فاطمة(ع)، وليتهم، ولا أظن أنهم يرغبون في ذلك قد عمدوا إلى مطالعة النصوص الواردة بشأنه، وتأملوا فيها لوجدوا بطلان ما توهموه، وفساد ما تخيلوه، نسأل الله للجميع الهداية والصلاح. ولنختم المقام بكلمة للمحقق آغا بزرك الطهراني(قده)، قال: مصحف فاطمة(ع) مجموعة من ودائع الإمامة عند مولانا وإمامنا صاحب الزمان(ع)، كما روي في عدة أحاديث من طرق الأئمة(ع)[31].

[1] أصول الكافي ج 1 ص 241 ح 5.
[2] دلائل الإمامة ص 106.
[3] أصول الكافي ج 2 ح 2 ص 240.
[4] أصول الكافي ج 1 ح 5 ص 241.
[5] بصائر الدرجات ج 1 ص 308.
[6] أصول الكافي ج 1 ح 1 ص 238-239.
[7] الوافي ج 3 ص 579 ح 1.
[8] أصول الكافي ج 1 ح 2 ص 240.
[9] أصول الكافي ج 1 ح 5 ص 241.
[10] بصائر الدرجات ج 1 ص 317 ح 17.
[11] المصدر السابق ح 19 ص 318-319.
[12] أعيان الشيعة ج 1 ص 314 حكاية عن كتاب تدوين الحديث ص 386.
[13] فروع الكافي ج 3 ح 2 ص 507.
[14] أصول الكافي ج 1 ح 8 ص 242.
[15] بصائر الدرجات ج 1 ص 306 ح 2.
[16] بصائر الدرجات ج 1 ص 312 ح 8.
[17] بحار الأنوار ج 37 ص 176 ح 63.
[18] أصول الكافي ج 1 ح 2 ص 240.
[19] أصول الكافي ج 1 ح 3 ص 240.
[20] مرآة العقول ج 3 ص 57، هذا وقد تضمنت النسخة التي عندي عبارة( راجعة إلى الخبر)، ولا ريب في كونها خطئاً مطبعياً، والصحيح راجعة إلى الجفر، فلاحظ.
[21] بصائر الدرجات ج 1 ح 15 ص 317.
[22] أصول الكافي ج 1 ح 5 ص 241.
[23] المصدر السابق ح 2.
[24] حكاه في تدوين الحديث ص 405 عن روضة الواعظين ج 1 ص 211.
[25] أصول الكافي ج 1 ح 7 ص 242.
[26] مرآة العقول ج 3 ص 60.
[27] أصول الكافي ج 1 ح 8 ص 242.
[28] أصول الكافي ج 1 ح 4 ص 241.
[29] مرآة العقول ج 3 ص 58.
[30] تدوين الحديث ص 410.
[31] الذريعة ج 21 ص 126.

تعليقات الفيسبوك

التعليقات مغلقة