اختصاص الاستشفاء بالتربة الحسينية:
هذا وقد يتساءل البعض عن أن ما ثبت من تأثير وفاعلية لتراب قبر المولى أبي عبد الله الحسين(ع) هل هو من المختصات به فقط، فلا يكون ثابتاً في تراب قبور غيره من المعصومين(ع) بما في ذلك قبر النبي محمد(ص)، أم أن هذه الخصوصية ثابتة في قبورهم(ع) جميعاً، أم أنها ثابتة في بعضها فقط كقبره(ع)، وقبر جده المصطفى(ص)، وأبيه المرتضى(ع)، وأخيه الإمام الحسن الزكي(ع)؟ محتملات ثلاثة:
الأول: الالتـزام باختصاص التأثير في العلاج من الأمراض وأنها دواء لكل داء، وسبب من أسباب الشفاء في خصوص التربة الحسينية، وهذا يعني أن بقية القبور الأخرى للمعصومين لا تكون هذه الخصوصية ثابتة فيها، بل لا يجوز تناول شيء منها وأكله بقصد الاستشفاء، وأنه يشمله جميع ما تضمنت حرمة أكل الطين، فلاحظ.
الثاني: البناء على ثبوت هذه الخصوصية والتأثير المذكور لجميع القبور الطاهرة للمعصومين(ع)، وليست من خصوصية لتراب قبره(ع)، فيلتـزم بأن المريض لو تناول من تراب أي قبر من قبورهم(ع)، لألبسه الله تعالى لباس العافية، ولوجد الأثر المرتقب.
الثالث: الالتـزام بالتفصيل، فيقال بأن الخاصية المذكورة ليست من مختصات القبر الشريف لأبي عبد الله الحسين(ع)، لكنها ليست عامة وشاملة لجميع قبور المعصومين(ع)، وإنما هي ثابتة في بعض قبورهم(ع)، دون بعض، فهي ثابتة مضافاً إلى قبر أبي عبد الله الحسين(ع)، لقبر النبي(ص)، ولقبر الإمام أمير المؤمنين(ع)، ولقبر الإمام الحسن(ع).
ولا يخفى الفرق بين المحتملات الثلاثة، ضرورة أن المحتمل الثاني أوسعها، والثالث يأتي بعده من حيث السعة، وأما الأول، فإنه يضيّق الأمر، وليس فيه سعة أصلاً، لتضمنه اختصاص ذلك بقبره المقدس(ع)، فلاحظ.
هذا ومع أنه لم نجد أحداً قد ألتـزم بشمول هذه الخاصية والتأثير لتراب غيره من قبور المعصومين(ع)، حتى جده المصطفى(ص)، إلا أنه قد يتصور بداية الالتزام بالاحتمال الثالث على أقل التقادير، ولا أقل من القول بجريان ذلك في تراب قبر المصطفى الحبيب محمد(ص)، ويجعل المستند إلى هذا التصور والاحتمال أمور:
الأول: الاستناد إلى حكم العقل بالأولوية، على أساس أن كل ما كان ثابتاً للإمام الحسين(ع) يكون ثابتاً بطريق أولى لجده المصطفى(ص).
وهذا التصور والتقريب المذكور في غير محله، ضرورة أننا لو كنا وحكم العقل القاضي بالحكم على الأمور بالحسن أو القبح، فلا ريب في أنه لن يحكم بحسن تناول الطين، كما لن يحكم بتصور الاستشفاء منه.
وبعبارة أخرى، إننا لو عرضنا على العقل مسألة تناول الطين، لوجدنا أنه لو لم يحكم بقبحها، فلن يحكم بحسنها، وكذا لو عرضنا عليه مسألة الاستشفاء به، فإنه لن يحكم بحسن ذلك، بل سوف يستقبحه، ومنه يتضح أن القول بثبوت الاستشفاء بالطين وتناوله، على خلاف الحكم العقلي، وليس على وفقه، فلاحظ.
وطبقاً لما تقدم يتضح أن القضية ليست من القضايا العقلية التي يرجع فيها إلى حكمه، وإنما هي من القضايا الشرعية، والتي يستند فيها إلى حكم الشارع المقدس، ذلك لأن المفروض عدم صلاحية التراب للتأثير، إلا أن الشارع المقدس قد أعطى بعضه شيئاً من ذلك وجعل فيه خاصية التأثير والفاعلية، وهذا يعني أن من الممكن اختصاص ما يعطى ذلك بحيث يكون ثابتاً لبعض التراب وليس ثابتاً لجميعه، فيثبت له ما لا يثبت لغيره، فيكون الأمر مختصاً بتراب قبر الإمام الحسين(ع)، دون غيره، فيتضح إمكانية الالتـزام بالاحتمال الأول، أو الاحتمال الثالث.
الثاني: إن القول باختصاص الاستشفاء بطين قبره الشريف(ع) دون طين قبر جده المصطفى(ص)، وأبيه المرتضى(ع)، وأمه الزهراء(ع) يستلزم ثبوت فضل زائد له(ع) عليهم(ع) لم يكن ثابتاً لأحد منهم قبله، فيكون(ع) أفضل منهم(ع) من هذه الجهة، وهو باطل بالضرورة، فيكون الاختصاص باطلاً أيضاً.
ولا يخفى أن تمامية الوجه المذكور تعتمد أولاً على احراز أن تناول طين قبره الشريف(ع) يثبت له خصوصية تستوجب امتيازاً له على بقية المعصومين(ع)، أما لو قلنا بأنه وإن كان تناوله يوجب خصوصية لكنها لا تستوجب امتيازاً له(ع) على البقية، بل هي مكافأة منه تعالى له(ع) كما ورد في النصوص، فلا يتم ما ذكر.
ثانياً: إن وجود أفضلية لأحد من جانب ما، لا يستوجب ثبوت الأفضلية له على الآخرين بقول مطلق، فإنه لا إشكال في أفضلية والدي الإمام أبي عبد الله الحسين(ع) على والدي رسول الله(ص)، وكذا على والدي الإمام أمير المؤمنين(ع)، فهل يا ترى يستوجب ذلك أفضلية للإمام الحسين(ع) عليهما(ع). لا ريب في أن الإجابة بالنفي، ومقامنا من هذا القبيل، فلاحظ[1].
الثالث: الاستناد في عدم الاختصاص، وبالتالي الالتـزام بالاحتمال الثاني، أو الاحتمال الثالث، استناداً لحكم الشرع، وذلك اعتماداً على ما رواه أبو حمزة الثمالي عن أبي عبد الله الإمام الصادق(ع)، وتضمن ثبوت هذه الخصوصية لطين قبر النبي(ص)، وطين قبر أمير المؤمنين(ع)، وطين قبر الإمام الحسن الزكي(ع)، فعن أبي حمزة الثمالي عن أبي عبد الله(ع)، قال: كنت بمكة-وذكر الحديث-قلت: جعلت فداك، إني رأيت أصحابنا يأخذون من طين قبر الحسين(ع) ليستشفوا به، هل في ذلك شيء مما يقولون من الشفاء؟ قال، قال: يستشفى بما بينه وبين القبر على رأس أربعة أميال، وكذلك طين قبر جدي رسول الله(ص)، وكذلك طين قبر الحسن وعلي ومحمد، فخذ منها، فإنها شفاء من كل سقم وجنة مما تخاف، ولا يعدلها شيء من الأشياء التي يستشفى بها إلا الدعاء[2].
ولا يخفى أن دلالتها على الاحتمال الثالث واضحة، فقد نصت على جريان الاستشفاء بتراب قبور من ذكرتهم، وهم النبي(ص)، وأمير المؤمنين(ع)، والإمام الحسن(ع)، مضافاً إلى الإمام أبي عبد الله الحسين(ع).
وأما تقريب دلالتها على الاحتمال الثاني، فمن خلال الالتـزام بأنه لا خصوصية لمن ذكروا في النص، وإنما ذكرهم من باب المثال والتقريب، فيتعدى منهم إلى بقية المعصومين(ع)، وبالتالي يكون الحكم جارياً في شأن الجميع.
هذا ولا يخفى أن تماميتها على الاستدلال متوقفة على صحة النسخة التي نقلنا منها الخبر المذكور، ذلك لأن السيد المجاهد(ره) في المناهل أشار إلى وجود اختلاف في النسخ، فنقل النص بصورة مختلفة، فعوضاً عن أن يكون التعبير فيه هكذا: وكذلك طين قبر الحسن وعلي ومحمد، ذكر النص بهذه الكيفية: وكذلك طين قبر الحسين بن علي ومحمد[3].
ولا يخفى عليك مقدار الفرق، فإنه وفقاً لما جاء في كلامه(ره) لن يكون المستفاد من النص إلا اشتراك النبي الأكرم محمد(ص) مع المولى أبي عبد الله الحسين(ع) في الخصوصية، ولن تكون ثابتة لقبري غيرهما. على أساس أن النص تضمن الحسين بن علي، وليس الحسن وعلي، واحتمال التصحيف قريب جداً لقرب الرسم، فلا تغفل.
نعم لو بني على التقريب المذكور للاحتمال الثالث، فلا أثر للاختلاف المذكور في النسخ.
وكيف كان، فإن النص المذكور تعارضه العديد من النصوص التي تضمنت أن أكل الطين حرام، مثل الميتة والدم ولحم الخنـزير إلا طين قبر الإمام الحسين(ع)، فعن أبي الحسن(ع) أنه قال: أكل الطين حرام مثل الميتة والدم ولحم الخنـزير، إلا طين قبر الحسين(ع)، فإن فيه شفاء من كل داء وأمناً من كل خوف[4].
ومثل ما ورد عن عمر بن واقد عن الإمام موسى بن جعفر(ع)-في حديث-أنه (ع) أخبره بموته ودفنه، وقال: لا ترفعوا قبري فوق أربعة أصابع مفرجات، ولا تأخذوا من ترتبي شيئاً لتتبركوا به، فإن كل تربة لنا محرمة إلا تربة جدي الحسين بن علي(ع)، فإن الله جعلها شفاء لشيعتنا وأوليائنا[5].
ولا ريب أن المعارضة كما يقولون فرع الحجية، وهذا يعني أنه لابد وأن يكون خبر الثمالي معتبراً ليصلح لمعارضة النصوص المذكورة بناءً على أنها مستفيضة وليست متواترة، وإلا لو كانت كذلك فلا يعارض الظني ما هو قطعي كما لا يخفى.
وعلى أي حال، فإن الخبر المذكور يعاني خللاً سندياً يوجب عدم صلوحه للمعارضة، فلاحظ.
ولو رفعنا اليد عن ذلك، أمكن التوفيق وعلاج المعارضة المتصورة بين النصوص من خلال حمل خبر الثمالي على جواز التبرك بتراب قبورهم(ع)، والاستشفاء بها من خلال التمسح والإمرار على موضع الداء والمرض، لا بالأكل، ويكون الأكل مختصاً بخصوص تراب قبر المولى أبي عبد الله(ع)، ولا منافاة بين ذلك، ويمكن الاستشهاد لذلك بأن النصوص الواردة كلها تضمنت المنع عن الأكل، لكنها لم تتضمن النهي عن التبرك والاستشفاء من خلال التمسح والإمرار، فتدبر.
هذا ولو لم يقبل بما ذكرنا، فالظاهر أنه ترفع اليد عن رواية أبي حمزة، خصوصاً وأنها مخالفة للعديد من النصوص التي تضمنت أن الاستشفاء واحدة من الخصوصيات التي جعلت لطين قبر أبي عبد الله الحسين(ع)، ولا يوجد في البين ما يعاضدها من قرائن، فلاحظ.
عدم ذكر طين قبر الزهراء(ع):
هذا وربما يسأل عن السبب في عدم ذكره(ع) إلى الاستشفاء بطين قبر مولاتي الزهراء(روحي لها الفداء)، مع نصه على الاستشفاء بطين قبور النبي، وأمير المؤمنين، والإمام الحسن، والإمام الحسين(ع)، فلم تبق إلا هي من الخمسة الذين تضمنته آية التطهير في بداية نزولها؟
وجوابه واضح، ذلك أن من المعروف عندنا إخفاء قبرها(ع) لمصلحة، ولغاية أرادها أهل البيت(ع) إبرازاً وتأكيداً لمقدار ما وقع عليها من الظلامة، وما لاقته من أمة أبيها(ص) بعد رحلته، مع أنها واحدة من ذوي القربى الذي نص القرآن الكريم على مودتهم اللازمة، وأن مودتهم هي أجر الرسالة، فكيف بعد هذا يشار إلى الاستشفاء بطين قبرها، إن ذلك فرع كونه معلوماً ومحدداً، وقد عرفت أنهم(ع) ما كانوا ليحددوه لتأكيد الظلامة الواقعة، لذا لا نجد في النصوص ما يشير إلى الاستشفاء بطينه، فلاحظ.
[1] كتاب المناهل ص 674(بشيء من التصرف)
[2] كامل الزيارات ح 717 ص 470.
[3] كتاب المناهل ص 674.
[4] كامل الزيارات ح 729 ص 478.
[5] عيون أخبار الرضا(ع) ج 2 ح 6 ص 96.