العبادة داعيها وأثرها
تبرز الناحية العبادية في سيرة الإمام الحسن(ع) بصورة واضحة من خلال الصلوات التي يؤديها، وحالة الخضوع التي كانت تعتريه حال دخول المسجد، أو حال الوضوء. حتى وصفه الإمام الصادق(ع) أنه كان أعبد أهل زمانه.
كما يظهر ذلك جلياً من خلال صدقاته فقد قاسم الله تعالى ماله أكثر من مرة. وكذا ذهابه لحج بيت الله الحرام مشياً على الأقدام، والنجائب تقاد بين يديه.
والحاصل، إن متابعة المصادر التاريخية وكتب السير التي تعرضت لحياته الشريفة يقف على أنه(ع) كان من العباد المرتبطين بالله سبحانه وتعلى، وقد تضمنت كلمات المؤلفين صوراً لعبادته، ومثل ذلك أشارت النصوص الشريفة.
وبروز هذا الجانب في سيرته العطرة(ع) مدعاة للاستغراب، والتعجب، ويزول ذلك حال الإحاطة بالمقصود بمفهوم العبادة، ومعرفة الآثار المترتبة عليه. لأن من الواضح أن العبادة لم تكن مجرد طقس يؤديه الإمام الحسن(ع)، بل كانت هناك أهداف يسعى لها.
معنى العبادة:
مع أن مفهوم العبادة قد ورد في القرآن الكريم، والسنة الشريفة، إلا أنه لم يتضمن شيء منهما بياناً لحقيقتها، وعليه لابد من ملاحظة ما تضمنته كتب اللغة حولها، وما يذكره أهل الاصطلاح في ذلك.
وقد عرفها الأصفهاني في مفردات ألفاظ القرآن، بأن المقصود منها أنها غاية التذلل، ولا يستحقها إلا من له غاية الإفضال، وهو الله سبحانه وتعالى.
ووفقاً لما ذكره، لن تكون العبادة مطلق التذلل، وإنما أعلى مراتبها التذلل الذي يكون لصاحب الفضل والنعمة على العابد، وهو الباري سبحانه وتعالى.
وقد أختلف في حقيقتها عند أهل الاصطلاح، فذكرت لها تعريفات عديدة:
منها: ما تبناه السيد الطباطبائي(ره)، من أنها عبارة عن المملوكية، فالعابد عندما يقدم على عبادة شيء ما فهو يعتقد أنه ملك لذلك المعبود، فمن يعبد الله تعالى، يعتقد مملوكيته لله تعالى، ويبرز هذا الاعتقاد من خلال ممارساته بلسانه سلوكه، وذلك بالعبادة.
وممن الواضح أنه(ره) قد عدل عن التعريف اللغو لحقيقتها، والتعريف المشهور لها بأنها الخضوع، وقد كان داعيه لذلك، والبناء في حقيقتها على أنها المملوكية، أمراً يمكن ملاحظتها في تفسيره القيم الميزان.
ومنها: ما أختاره بعض الأعاظم(ره)، من أن المقصود منها: التأله، والمقصود من التأله التوجه، وليس المقصود منه مطلق التوجه، وإنما يقصد منه التوجه لشخص باعتقاد خالقيته، فعبادة الإنسان لله سبحانه تعني تأليهه له تعالى، وأنه الخالق الذي قام بخلقه.
وبالجملة، إن معنى العبادة في نظره(قده)، أن يعترف الإنسان بالخالقية لمن ينوي عبادته، ويعتقد أنه المعبود الذي قد تفضل عليه بالخلق.
ومنها: أنها بمعنى الخضوع التذللي، فعبادة الشخص تعني خضوعه للمعبود خضوعا تذللاً، وأخذ قيدية التذلل في الخضوع غايته إخراج أنواع الخضوع الأخرى التي تكون مفتقدة إليه، كما لو كان الخضوع عن إكراه، أو كان الخضوع تملقاً، أو طمعاً في شيء ما.
والحاصل، ليست العبادة وفق هذا المعنى مطلق الخضوع، وإنما الخضوع الذي يكون بدافع التذلل والانكسار.
ومنها: إن العبادة سواء كانت عبادة لفظية، أم كانت عبادة عملية، هي عمل ذو معنى يؤديه الإنسان للتعبير عن حقيقة أو عدة حقائق، وهذا يعني أن العبادة ليست اللفظ، ولا العمل، بل هناك شيء آخر هو جوهر العبادة وهو ما يعبر عنه العابد. وعند التأمل، نجد أنه يعبر عن التوحيد، لأنه يعمد إلى تنـزيه المعبود من كل نقص، لأن العابد يستهدف في عبادته مجموعة أمور:
أولها: الثناء على الله سبحانه وتعالى بالصفات الخاصة، سواء صفات الكمال المطلق، كالعلم، والقدرة، والإرادة، فهو سبحانه غير محدود بحد ولا مشروط بشرط، وهو غني مطلق.
ثانيها: تسبيح الله وتنـزيهه من كل نقص أو عيب كالفناء أو المحدودية، أو الجهل، أو العجز، أو البخل، أو الظلم، وما شابه ذلك.
ثالثها: شكر الله تعالى باعتباره المصدر الأصلي للخير والنعم، وكل ما لدى الإنسان من خير فهو منه تعالى، وكل ما عداه هو وسيلة أوجدها سبحانه.
رابعها: التسليم المحض، والطاعة المطلقة له تعالى، وأنه مطاع على الإطلاق، وأنه جدير بالتسليم والطاعة، وهو أهل للأمر والنهي.
فهو سبحانه وتعالى لا شريك له في أي من القضايا، وهو الكامل المطلق المنـزه عن كل نقص المنعم الأصلي والخالق لكل النعم، ولهذا يعود الشكر كله له.
والحاصل، إن العابدة تعني التوحيد، لكونها تنـزيهاً للمعبد من كل نقص وعيب.
دواعي العبادة:
لما كانت العبادة من الأفعال الاختيارية التي تصدر عن الإنسان بمحض إرادته ورغبته، فلابد وأن يوجد لها باعث نفساني يبعث نحوها، وعند الرجوع للآيات القرآنية والنصوص المعصومية، نجد أن الداعي لا يخرج عن أحد محتملات ثلاثة:
أحدها: أن يكون الداعي لعبادته تعالى هو طمع الإنسان في إنعامه سبحانه وبما يجزيه عليه من الأجر والثواب، قال تعالى:- (ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها).
ثانيها: أن يكون الداعي هو الخوف من العقاب على المخالفة، قال تعالى:- (إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم) ، وقد أشير لهذين الأمرين في قوله تعالى:- (تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفاً وطمعاً).
ثالثها: أن يعبد الله بما أنه أهل للعبادة، فإنه الكامل بالذات والجامع لصفات الجمال والجلال، وهذا الأمر لا يتحقق إلا ممن اندكت وفنت نفسيته فلم ير لذاته إنية واستقلالاً إزاء خالقه ليقصد بها خيراً أو يحذر لها من عقوبة، وإنما ينظر إلى صانعه وموجده، ولا يتوجه إلا إليه.
وتختلف طباع الناس في إيثار هذه الأمور الثلاثة واختيارها، فهم على طوائف ثلاث:
الأولى: وهم الأغلب من الناس، الذين يغلب عليهم الخوف ويزدادوا خوفاً كلما تذكروا ما جعله الله تعالى للعاصين والظالمين.
الثانية: من يغلب عليهم الرجاء فكلما فكروا في ما أوعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات من النعمة والكرامة، بالغوا في التقوى والالتـزام بالأعمال الصالحة، رغبة في المغفرة والجنة.
الثالثة: وهم العلماء من يعبدون الله سبحانه لأنه أهل للعبادة، لأنهم عرفوه بما يليق به من الأسماء الحسنى والصفات العليا، فعلموا أنه ربهم الذي يملكهم، وإرادتهم ورضاهم وكل شيء غيرهم، ويدبر الأمر وحده.
الآثار المترتبة على العبادة:
يترتب على العبادة التي يؤديها الإنسان بلوغه مرحلة الكمال، ليكون الإنسان الكامل، وهذا بسبب ما للعبادة من آثار تتركها على مؤديها:
منها: الأثر الروحي، وهذا يكون من خلال الانقطاع إلى الله تعالى، يقول أمير المؤمنين(ع): إلهي هب لي كمال الانقطاع إليك. وللانقطاع نوعان:
1-اضطراري، وهو يكون عند اليأس من الأسباب المادية.
2-اختياري، وهو التوجه لله سبحانه وتعالى في الرخاء والشدة، والغنى والفقر، والصحة والمرض.
ومنها: الأثر السلوكي، فإن للعبادة دوراً في التربية، لأنها سلوك وليست مجرد ألفاظ يتحرك بها اللسان، وحركات يمارسها الإنسان، مضافاً إلى أنها تمثل عنصراً لتجديد التوبة والإنابة لله تعالى، وهي سبب للعودة إلى الذات.
ومنها: العودة إلى الله، ويكون ذلك من خلال الإحساس بالفقر والانكسار.