زيارة الأربعين

لا تعليق
كلمات و بحوث الجمعة
501
3

قال الإمام العسكري(ع): علامات المؤمن خمس: صلاة الخمسين(إحدى وخمسين)[1]، وزيارة الأربعين، والتختم باليمين، وتعفير الجبين، والجهر ببسم الله الرحمن الرحيم[2].

مدخل:

عندما تمر علينا في كل عام ذكرى أربعين الإمام الحسين(ع) في شهر صفر المظفر، يجعل أحد محاور البحوث والأحاديث الرواية الذي افتـتحنا به مقامنا، ويعمدون للحديث عنها، فيتطرقون لزيارة الأربعين وفقاً لما جاء فيها، ويربطون الحديث بعد ذلك بالحدث التاريخي الذي يحكي ما جرى في يوم العشرين من صفر من مجيء الصحابي الجليل جابر ابن عبد الله الأنصاري(رض)، وكذا وصول الركب الحسيني إلى أرض كربلاء جائياً من أرض الشام.

ويعمدون إلى الاستدلال بالرواية المذكورة على استحباب زيارة الأربعين، يوم العشرين من شهر صفر، ويجعلونها دليلاً على مدعاهم. ومقتضى كلامهم تمامية الرواية المذكورة على الحجة، وعليه يثبت بواسطتها حكم شرعي، وهو استحباب الزيارة.

ولكي يقرر صحة الاستدلال المذكور نوقع الحديث حول الرواية المذكورة، لنرى مدى دلالتها على ما ذكر من عدمه. وقبل ذلك لا بأس بالإشارة إجمالاً لحكم زيارة المولى أبي عبد الله الحسين(ع).

حكم زيارة الإمام الحسين(ع):

المعروف بين أصحابنا هو الحكم باستحباب زيارة الإمام الحسين(ع) في كافة الأوقات والأزمان، من دون اختصاص بوقت دون آخر، أو زمان دون آخر، نعم يتأكد الاستحباب في بعض الأوقات المخصوصة، فيكون الاستحباب فيها أوكد، كاستحباب زيارته في النصف من شعبان، واستحباب زيارته ليلة القدر، واستحباب زيارته يومي العيدين، واستحباب زيارته يوم عرفة، واستحباب زيارته يوم عاشوراء.

وعن جملة من أعلامنا أنه لا يـبعد البناء على وجوب زيارة الإمام الحسين(ع) في العمر مرة واحدة، ويظهر ذلك من المولى التقي الشيخ محمد تقي المجلسي(ره)، حيث حكى عنه ذلك ولده غواص بحار الأنوار(ره) في بحاره، وبنى هو(قده) على ذلك أيضاً[3]، ومثل ذلك قال المحقق صاحب الحدائق(قده)، في حدائقه الناضرة[4]، فلاحظ.

التفريق بين القضية التاريخية والحكم الشرعي:

هذا وينبغي قبل كل شيء الالتفات إلى أن هناك نوعين من الموضوعات لا ينبغي الخلط بينهما، بحيث يكون البحث عن كليهما على مستوى واحد، أحدهما هو الأحكام الشرعية، والثاني منهما هو القضايا التاريخية، إذ لا يخفى على أحد مدى الفرق بينهما، ضرورة أنه في الأحكام الشرعية، لابد وأن يكون ما يعطى من حكم مستنداً إلى دليل وحجة شرعية معتبرة، لكون الحكم الشرعي يمثل حكم الله سبحانه وتعالى وينسب إليه، ولا يجوز أن ينسب للباري سبحانه وتعالى أمرٌ لا يستند لحجة شرعية معتمدة، فالقول بأن هذا الأمر واجب مثلاً، أو القول بكونه مستحباً، أو أنه محرم، أو أنه مكروه، لابد وأن يكون معتمداً على مستند شرعي يكون حجة حتى يصلح إطلاق مثل هذه الأمور، ولهذا ما لم يكن هناك ما يصح الاستناد إليه والاحتجاج به، فلا يصح أن يطلق حكم شرعي، ولا يجوز نسبته للباري سبحانه، ومتى كان كذلك كان ذلك من الكذب على الباري سبحانه وتعالى، ومن المعلوم أنه من أكبر الكبائر التي توعد الله سبحانه فاعليها أشدّ العذاب.

وهذا بخلافه تماماً في القضية التاريخية، إذ أنه لا يعتبر فيها أن تكون مستندة لدليل صحيح أو لحجة شرعية معتبرة، بل يكفي أن تكون مذكورة في كتاب من الكتب، وحبذا لو كان كتاباً معتمداً، لأن الناقل للقضية التاريخية لن يكون إلا بمثابة الحاكي لما جاء في ذلك الكتاب، ولن يكون ناسباً لما ذكر لأحد، وليس من الضروري أن يكون معتقداً بما ينقل، أو جازماً به.

نعم من الأجدر أن يسعى قدر المستطاع إلى التأكد من سلامة ما ينقل، وأن يكون متوافقاً والموازين الموجبة لقبول القضايا التاريخية، وبعيداً كل البعد عما يوجب الرفض أو القبول، ولنوضح ذلك بمثال: من القضايا التاريخية المعروفة، قضية رجوع الركب الحسيني إلى أرض كربلاء من بلاد الشام يوم العشرين من شهر صفر، هذه القضية التاريخية محل خلاف ونقاش بين أعلام البحث والتحقيق، فبين من يلتـزم بثبوتها، وبين من يمنع من تحققها خارجاً، حتى أن بعضهم ينكر أنهم عادوا إلى أرض كربلاء، ويظهر ذلك جلياً من البحث في موضع مدفن الرأس الشريف للمولى أبي عبد الله الحسين(ع)، إذ يلتـزم البعض بأنه قد دفن في أرض المدينة المنورة، لما عاد الإمام زين العابدين(ع) بالركب الحسيني من بلاد الشام، ومن الطبيعي أن دفنه في أرض طيـبة الطيـبة إنما هو لعدم ذهابه لأرض كربلاء، وهكذا، فنلاحظ أن البحث في هذه المسألة لا يرتبط بحكم شرعي، ولذا لو التـزم شخص بإثبات هذه القضية، أو التـزم آخر بنفيها لم يكن في ذلك ضير، حتى لو كان الخبر في كلا الموردين معتمداً أم لا، لأنه لن يتضمن نسبة أمر لله سبحانه وتعالى، فهو لا يعدوا كونه قضية تاريخية بحتة، وهذا بخلاف الحكم الشرعي بأقسامه الخمسة كما عرفت، فالقول باستحباب مسح الوجه بعد القنوت في الصلاة حكم شرعي، ما لم يكن هناك دليل معتبر يدل عليه كان من الكذب على الله سبحانه وتعالى، والقول باستحباب صلاة ليلة الدفن المعروفة بصلاة الهدية أيضاً حكم شرعي، يحتاج إلى دليل معتبر يستند إليه، وإلا كان كذباً على الله سبحانه، وكذا القول بأنه يكره إيقاع عقد النكاح في الوقت الفلاني، فهذا نسبة حكم لله سبحانه وتعالى، فما لم يكن هناك دليل معتبر يستند له، كان من الكذب على الله سبحانه[5].

وبالجملة، فإن إثبات أي واحد منهم في واقعه وحقيقته نسبة لله سبحانه وتعالى، فيكون محتاجاً إلى حجة شرعية معتمدة يستند إليها في مقام الإثبات.

وبالجملة، إن مقتضى التفريق المذكور وعدم الخلط بين العنوانين المذكورين، يستلزم أن يفرق عند الحديث عن حكم زيارة الإمام الحسين(ع) يوم العشرين من صفر، وهو يوم الأربعين من شهادته(ع)، وعن قضية رجوع القافلة العلوية إلى أرض كربلاء، وملاقاتهم للصحابي الجليل جابر بن عبد الله الأنصاري، فلا يخلط هذا بذاك، فلاحظ.

حديث زيارة الأربعين:

هذا وبعد التوجه لما سبق ذكره، ينبغي الآن تقريب دلالة الرواية المروية عن إمامنا أبي محمد العسكري(ع) على مدعى القائلين باستحباب زيارة الأربعين، إذ يقال في ذلك:

إن الإمام(ع) بصدد تعداد جملة من صفات المؤمن، وذكرَ في ما ذكر من صفات المؤمن زيارة الأربعين، والمقصود من زيارة الأربعين، هي زيارة الإمام الحسين(ع) يوم العشرين من صفر، ويكون قد مضى حينها على شهادة الإمام الحسين(ع) أربعين يوماً.

وبالجملة، يستفاد من النص المذكور عن إمامنا الحسن العسكري(ع) استحباب زيارة الإمام الحسين(ع) في يوم العشرين من صفر، لأن حديث الإمام عن علامات المؤمن، يتضمن الإشارة إلى ما يتميز به المؤمن دون غيره، وهذا يعني أن كل ما يميز المؤمن من عمل يكون محبوباً عند الشارع المقدس، فيثبت عندها استحباب العمل المذكور، فلاحظ.

دراسة الحديث سنداً ودلالة:

هذا وينبغي التأمل في الرواية المذكورة لنرى مدى تمامية دلالتها على المدعى، وهذا يستدعي دراستها من الناحية السندية، والدلالة.

أما من حيث السند، فلا مجال للاستناد للنص المذكور للدلالة على المدعى، ضرورة أن الخبر المذكور، ضعيف سنداً بالإرسال، حيث أن الشيخ(ره) رواه في التهذيب، دون أن يذكر طريقه للإمام الحسن العسكري(ع)، فيكون الخبر مرسلاً.

ولو قيل أن هذا الخبر مجبور بعمل المشهور، وقد قرر في محله أن عمل المشهور بالرواية ضعيفة السند، يكون موجباً للوثوق بالصدور، وبالتالي يصلح الخبر عندها للاستدلال.

فإنه يجاب عنه، بأن هذا أمر مبنائي، لا يتفق عليه جميع الفقهاء، إذ أن بعضهم يـبني على القبول به، والبعض الآخر لا يقبله، ومع الالتـزام بالقبول به وفقاً لقول من يقول به، فإنه لا يصلح أيضاً للاعتماد عليه، لأنه لم يحرز أن الأصحاب قد استندوا لهذا الحديث حتى يقال بأنه مجبور بعمل المشهور.

التأمل في دلالة الحديث:

هذا وقد حكى السيد المقرم(قده) في كتاب مقتل الإمام الحسين(ع)[6] أن الحديث المذكور فيه احتمالان:

الأول: أن يكون المقصود من زيارة الأربعين التي وردت في الحديث، هي زيارة الإمام الحسين(ع) يوم العشرين من صفر، وعندها يكون قد مضى على شهادته(ع) أربعون يوماً.

الثاني: أن يكون المقصود من زيارة الأربعين، هي زيارة أربعين مؤمناً، لكنه لم ينسب هذا القول إلى قائل.

وقد أصرّ(ره) على أن المقصود من الزيارة في الحديث المذكور هو خصوص الاحتمال الأول، لكنه لم يعمد إلى ذكر قرينة مساعدة على ترجيح أحد الاحتمالين على الآخر، ضرورة أنه مع تعدد الاحتمالات في النص، فلابد في الحمل على أحدهما من وجود قرينة توجب صرف اللفظ للمعنى المقصود، دون المعنى الآخر، وإلا فلا ريب في البناء عندها على الإجمال، كما لا يخفى. على أن البناء على أحد المحتملين في موارد تردد النص بينهما مثلاً دون ذكر ما يوجب الحمل عليه، من الترجيح بلا مرجح، وهو أمر مرفوض، كما لا يخفى.

هذا والإنصاف، أننا فحصنا من خلال بعض البرامج الكمبيوترية، كبرنامج مكتبة أهل البيت(ع)، وأمثالها، وكذا بعد الاستعانة بالشبكة العنكبوتية، لم نجد استعمال لفظة(زيارة الأربعين) على زيارة المؤمن، ولم نجد مثل هذا الاستعمال أصلاً في النصوص الشريفة، نعم الوارد زيارة المؤمن، وفضل زيارة المؤمن، وما شابه ذلك، أما تحديد عدد المزار، وأنه أربعون، أو ما شابه ذلك، لم نجد له في النصوص بمقدار ما فحصنا عيناً ولا أثراً، وعليه لم يتضح لنا وجه الاحتمال المحكي من قبل السيد المقرم(ره)، ضرورة أن ذكر مثل هكذا محتمل، لابد وأن يكون له منشأ من استعمال، وما شابه، وما ذكرناه ينفي ذلك، فلاحظ.

ما يصلح للقرينية والمناقشة فيه:

هذا ويمكننا أن نذكر ما يصلح للقرينية لحمل اللفظ الوارد في الحديث محل البحث على زيارة الأربعين، ويوجب ذلك تأكد ما أصرّ عليه السيد المقرم(ره)، وما فهمه كثير من شيعة أهل البيت(ع). وما يصلح لذلك أمران:

أحدهما: أن تكون (أل)الوارد في كلمة الأربعين، عهدية، وليست جنسية، وعندها تدل الرواية على المدعى، بيان ذلك:

لقد نص النحويون[7] أن أداة التعريف على ثلاثة أقسام:

أحدها: أن تكون لتعريف الجنس، وتسمى (أل)الجنسية، أو التي لبيان الماهية، وهي مثل قوله تعالى:- (وجعلنا من الماء كل شيء حي)[8]، ومثل قولك: الرجل أفضل من المرأة. على أساس أنك لا تريد به رجلاً بعينه، ولا تريد بها امرأة بعينها، وإنما أردت أن جنس الرجال، أفضل من جنس النساء.

ثانيها: أن تكون لتعريف الاستغراق، مثل قوله تعالى:- (وخلق الإنسان ضعيفاً)[9].

ثالثها: أن تكون لتعريف العهد، وهي تنقسم إلى ثلاثة أقسام:

1-عهد ذكري، وهو مثل قولك: اشتريت فرساً، ثم بعت الفرس. يعني أنني قد قمت ببيع الفرس المذكور، وإليه يشير قوله تعالى:- (مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري)[10].

2-عهد ذهني، مثل قولك: جاء الشيخ، بناءً على أن بينك وبين المستمع عهد في شيخ معين وخاص، فإنك تكتفي بالعهد الذي بينك وبينه، فلا تحتاج إلى التعريف بالشيخ الجائي أكثر من كونه الشيخ المعهود بينكما.

3-عهد حضوري، كما لو كان زيد جالساً عند عالم، وأمره المولى بإكرام عالم، فقال له: أكرم العالم، فعندها ستكون صورة العالم الذي يجب إكرامه من قبل زيد، هو العالم الحاضر أمامه، وهذا معنى أن (أل)للعهد الحضوري.

ولا يخفى أن القرينة التي سوف يتكئ عليها في إثبات أن المقصود من الأربعين في الرواية هي زيارة الإمام الحسين(ع)، تعتمد على الالتـزام بأن(أل)الواردة في الرواية عهدية، دون القسمين الآخرين، وأن العهد عهد ذهني.

فيقال عندها: إن الإمام العسكري(ع) بصدد الحديث عن أمر معهود بينه وبين شيعته، ويتمثل ذلك الأمر في زيارة الإمام الحسين(ع) يوم العشرين من شهر صفر، وهي الزيارة التي يكون قد مضى فيها على شهادة المولى أبي عبد الله الحسين(ع) أربعون يوماً، فيقصد زيارة الأربعين المعهودة، فيثبت المطلوب.

وهذه القرينة قد تناقش بعدم وضوح العهد الذهني بين الإمام العسكري(ع)، وبين المستمع، ذلك لأنه لم يحرز وجود كلام مسبق قد صدر منه(ع)، حتى يكون هناك اتكاء على عهد مسبق بينهما، وبالتالي لا مجال للبناء على تحقق العهد الذهني في المقام، فلاحظ.

ثانيهما: التمسك بالانصراف، وتوضيح ذلك أن يقال:

المذكور في كلمات علماء الأصول أن الانصراف على قسمين:

الأول: الانصراف الذي ينشأ من غلبة الوجود الخارجي لحصة خاصة من حصص المعنى الذي وضع له اللفظ، وهذا يعني أن الذهن ينـتقل مباشرة إلى حصة خاصة من حصص المعنى الذي وضع لأجله اللفظ، ومنشأ الانتقال هو غلبة وكثرة وجود تلك الحصة دون ما سواها من الحصص الأخرى. كما لو قيل لشخص يعيش في كربلاء المقدسة: جئني بماء، فإنه مباشرة سوف يحضر ماء الفرات، والسبب في ذلك هو غلبة وجود حصة ماء الفرات على غيرها في كربلاء المقدسة.

ومثل ذلك لو قيل لشخص من الشيعة: جئني بتربة، فإنه سوف يحضر مباشرة تراب قبر المولى أبي عبد الله الحسين(ع)، وسبب ذلك يعود لغلبة وجود حصة تراب قبر المولى أبي عبد الله(ع) على طين قبر عمه الحمزة(ع)، مثلاً، وهكذا.

الثاني: الانصراف الذي ينشأ من كثرة استعمال اللفظ، وإرادة حصة خاصة منه، مع أن اللفظ له أكثر من مصداق، لكنه ينسبق الذهن لخصوص هذا المصداق دون البقية، بسبب وجود علاقة شديدة وأنس بين اللفظ وتلك الحصة والمصداق. مثل لفظ الخبر، فإنه لما كثر استعمال الشارع الخبر مقيداً بقيد الثقة، صار بين اللفظين علقة وطيدة، بحيث متى ورد في كلام الشارع، كان المقصود منه خصوص خبر الثقة، لا غيره من الأخبار.

وما ينفعنا في المقام هو القسم الثاني دون القسم الأول، فإنه هو الذي يوجب تعيـين المراد من اللفظ في موارد الاطلاق، ويمنع من انعقاده، وعليه يقال: إن مجرد ذكر كلمة زيارة الأربعين، يوجب حصول انصراف إلى زيارة الإمام الحسين(ع)،فيثبت المطلوب.

وقد تناقش هذه القرينة أيضاً من خلال القول بأن الاستناد إليها يتوقف على أن يكون الانصراف الموجود هو انصراف ناشئ من غلبة الاستعمال، وليس ناشئاً من غلبة الوجود، والظاهر أن هذا الانصراف الموجود خارجاً من النحو الثاني وهو انصراف حاصل من غلبة وكثرة الوجود، وليس من النحو الأول، وهو كثرة الاستعمال.

هذا وقد يضاف في البين أمر ثالث يجعل قرينة على إرادة زيارة الإمام الحسين(ع)، وهو التمسك بالتبادر، وهو سبق المعنى من اللفظ عند الاطلاق بنفسه ومن دون قرينة، وهذا يعني أن الانسياق يكون مستنداً إلى نفس اللفظ، فيكون عندها دليلاً على أن اللفظ موضوع للمعنى.

مناقشة أخرى:

هذا وقد يناقش التمسك بالرواية محل البحث على ثبوت الاستحباب لزيارة الإمام الحسين(ع) من خلالها بإشكال آخر، حاصله:

إن البناء على دليلية الرواية المذكورة على الاستحباب-لو كان الدليل منحصراً فيها-يعدّ من تأخر البيان عن وقت الحاجة، ومن المعلوم-وفقاً لما ثبت في الأصول-أن تأخر البيان عن وقت الحاجة قبيح، فلا يصدر من الشارع المقدس.

ويمكن الجواب عن هذه المناقشة بأمرين:

الأول: الالتـزام بقاعدة التدريج في تشريع الأحكام، إذ قد ثبت أن هناك أحكاماً مشرعة من قبل الشارع المقدس، لكنها بعدُ لم تبلغ، لعدم مجيء المصلحة لإبلاغها حتى قيل أن هناك أحكاماً بعدُ لم تبلغ لازلت محفوظة عند المولى صاحب الزمان(روحي له الفداء)، يـبلغها وقت ظهوره بأبي وأمي.

الثاني: الالتـزام بثبوت حق التشريع للمعصوم(ع)-وفقاً لقول بعض علمائنا-فإنه مع البناء على أن للأئمة(ع) حق التشريع، فلا مانع من أنه لا يكون هذا الحكم مشرعاً من ذي قبل، ومن بعدُ قام الإمام العسكري(ع) بتشريعه، فلا يكون في البين تأخير للبيان عن وقت الحاجة، فلاحظ.

المختار في الرواية:

هذا ولكن الصحيح أنه يمكن البناء على تمامية دلالة الرواية على كون المذكور فيها هو زيارة الإمام الحسين(ع) يوم العشرين من صفر، وهي الزيارة المسماة بزيارة الأربعين، وذلك تمسكاً بما تقدم من القرائن، من خلال دفع ما تقدم من الإشكال فيها، فنقول:

أما بالنسبة للتمسك بالعهد الذهني، فإنه يمكن تقريـبه بالبيان السابق، ويكون الدال عليه مجموعة من القرائن، توجب حصوله خارجاً:

الأولى: إن الإمام(ع) قد اعتمد على زيارة الأربعين المروية عن الإمام الصادق(ع) التي وردت عن صفوان في بيان كيفية زيارة الإمام الحسين(ع) يوم الأربعين، والرواية هي: عن صفوان الجمال قال: قال لي مولاي الصادق(ع) في زيارة الأربعين: تزور عند ارتفاع النهار، وتقول: السلام على ولي الله وحبيـبه….وذكر الزيارة-إلى أن قال-وتصلي ركعتين، وتدعو بما أحببت وتنصرف[11].

فقول صفوان قال لي مولاي الصادق(ع) في زيارة الأربعين، لا يتصور فيه أحد أنه بصدد الحديث عن زيارة أربعين مؤمناً، وإنما هو بصدد زيارة الإمام الحسين(ع) يوم العشرين من صفر، وعليه يكون العهد الذهني الصادر من الإمام العسكري(ع)، ملحوظاً فيه هذا المعنى أيضاً، فلاحظ.

الثانية: إن زيارة الأربعين إشارة إلى زيارة جابر بن عبد الله الأنصاري(رض)، فإن من الثابت تاريخياً أنه(رض) قد ورد كربلاء لزيارة الإمام الحسين(ع) يوم العشرين من صفر، نعم الخلاف بين المؤرخين، أن وروده هل كان في سنة الشهادة، أم كان في السنة التي تليها، والحاصل، مما يتفق عليه بينهم أنه جاء لكربلاء بعد مضي أربعين يوماً من استشهاد الإمام الحسين(ع)، وهو يوم الأربعين، فكانت زيارة جابر بن عبد الله، زيارة الأربعين، وقد كانت هذه الزيارة معروفة ومتداولة بين المسلمين، فضلاً عن الشيعة، فمتى ذكرت لفظة الأربعين كان هناك عهد ذهني ينـتقل من خلاله السامع إلى زيارة جابر للإمام الحسين(ع)، وعليه يتحقق العهد خارجاً أيضاً، فيثبت المطلوب.

الثالثة: بناءً على التسليم بكون القافلة الحسينية قد رجعت من أرض الشام وقصدت أرض كربلاء كما هو أحد القولين الموجودين بين علمائنا، فالمذكور أن ورودهم أرض كربلاء كان يوم العشرين من شهر صفر، وهو يوم الأربعين من شهادة الإمام(ع)، فتكون زيارتهم للإمام(ع) يوم الأربعين، وتسمى عندها بزيارة الأربعين، ووفقاً لثبوت هذه القضية والتسليم بها، فسوف تكون حدثاً تاريخياً مشهوداً ومعروفاً بين الشيعة، بل بين المسلمين، ومن الطبيعي أن تكون أمراً مرتكزاً في الأذهان، ويكون العهد متحققاً فيها بين المتكلم والسامع، ولذا يكون الإمام(ع) معتمداً على مثل هذا المرتكز المعهود في أذهان الشيعة في ذلك الوقت، بل المسلمين.

بل يمكن البناء على هذه القرينة على أساس أنهم لم يأتوا لزيارة الإمام(ع) في نفس السنة، وإنما قدموا لزيارته في السنة الثانية من بعد الشهادة، يعني أنهم بعدما عادوا من الشام، وتوجهوا إلى المدينة المنورة، وبقوا فيها إلى أن جاءوا يزورون الحسين(ع)، وقد كانت زيارتهم له بعد مضي أربعين يوماً من شهادته، وقد كان ذلك يوم العشرين من شهر صفر.

وكذا أيضاً يمكننا الاعتماد على الانصراف، إذ أن مقتضى القرائن الثلاث التي ذكرناها يمكن البناء على أن في البين انصرافاً وفقاً لهذه القرائن، بحيث يقال: أن كثرة الاستعمال للفظة الأربعين متكررة في خصوص زيارة الإمام الحسين(ع)، حتى كادت أن تكون اللفظة موضوعة بإزاء هذا المعنى، فلا تستعمل في غيره، خصوصاً بملاحظة ما تقدم منا ذكره، أنه لم نجد استعمالاً لهذا اللفظ في مقدار ما فحصناه من النصوص في الحديث عن زيارة أربعين مؤمناً، وبصيغ متعددة، وبالجملة، فالقول بالانصراف ما لم يكن متعيناً، فلا أقل من أنه غير بعيد، فلاحظ.

بل إن الذي يخطر في البال، ويقوى في النفس قوياً جداً أن في البين تبادراً من اللفظ متى ما أطلق إلى خصوص زيارة الأربعين، وهذا يعني أنه لا يتصور وجود استعمال للفظ في غير هذا المعنى، ويشهد لذلك ما ذكرناه من عدم ورود مثل هذا التركيب والاستعمال في شيء من النصوص في شأن غير زيارة الإمام الحسين(ع)، فتدبر.

والحاصل، من جميع ما تقدم، أنه لا مجال لرفع اليد عن دلالة النص المذكور على الحث على زيارة الإمام الحسين(ع) في يوم الأربعين، وهو يوم العشرين من شهر صفر المظفر، لتمامية دلالة النص المذكور على ذلك، وبالتالي يكون الحكم باستحباب الزيارة لو تم الخبر المذكور سنداً في محله.

سؤال وجواب:

ثم إنه بعدما اتضح من خلال ما قدمنا تمامية دلالة الحديث على المدعى، وأن المقصود من زيارة الأربعين الواردة فيه، هي زيارة الإمام الحسين(ع)، قد يطرح السؤال التالي:

إذا كان الأمر كما ذكرتم، من أن المقصود من زيارة الأربعين، هي زيارة الإمام الحسين(ع)، فلماذا لم يصرح الإمام العسكري(ع)، بالزيارة، ويقول زيارة الإمام الحسين(ع) يوم الأربعين؟…

وجوابه، أن من المحتمل قوياً جداً، بل لعله المتعين، أن ذلك يعود لمبدأ التقية، إذ لا يخفى على القارئ العزيز أن ذلك الوقت كان قريب عهد الخليفة العباسي المتوكل، والتاريخ يحدثنا ماذا يعني عصر المتوكل العباسي بالنسبة لزيارة الإمام الحسين(ع)، وعليه، فأعتمد عليه السلام على العهد الذهني، وهو أسلوب يعتمده العقلاء في مقام المحاورة، وهو منهج متداول بينهم.

الإشكال السندي:

هذا ويـبقى عندنا الإشكال السندي، والظاهر أنه لا مجال لعلاجه، لما عرفت فيما تقدم من كون الخبر مرسلاً، نقله الشيخ(ره) في التهذيب من دون أن يذكر طريقه إليه، فلا يدخل دائرة الحجية.

إلا أنه يمكن البناء على حجيته، والاعتماد عليه، بل والإفتاء على طبقه، من خلال التسليم بأحد طريقين:

الأول: البناء على ما التـزم به مشايخنا الإخباريون(رض) من الالتـزام بقطعية الصدور في الكتب الأربعة، الكافي، والفقيه، والتهذيب، والاستبصار، فكل ما وقع فيها من نصوص يجزم بصدورها عن المعصومين(ع)، ولا نحتاج إلى ملاحظة شيء من أسنادها، وذلك استناداً لما صدر من شهادة من قبل المحمدين الثلاثة المؤلفين، لهذه الكتب الأربعة، ولما كان التهذيب واحداً منها، وقد ورد النص المذكور فيه، فيكون مشمولاً لذلك، وبالتالي يـبنى على صدوره، والاعتماد عليه.

الثاني: البناء على تمامية قاعدة التسامح في أدلة السنن، استناداً للروايات التي تضمنت أنه من بلغه ثواب على عمل، فعمله رجاء ذلك الثواب، كان له ثواب ذلك العمل، ولو كان رسول الله(ص) لم يقل ذلك الثواب، فمن تلك النصوص:

ما رواه الصدوق(ره) في ثواب الأعمال، عن صفوان عن أبي عبد الله(ع) قال: من بلغه شيء من الثواب على خير فعمله، كان له أجر ذلك وإن كان رسول الله(ص)لم يقله.

وعليه، فهذا النص قد اشتمل على الحديث عن صفات المؤمن، وهو يشير إلى الثواب الذي يناله كل من يعمل هذه الأعمال، حتى أنه أصبح متصفاً بصفة المؤمن، فيكون العمل محبوباً، وفيه من الثواب الكثير، فيثبت المطلوب.

نعم ما ينبغي الالتفات إليه أن هذين الطريقين، مبنائيـين، وليسا بنائيـين، بمعنى أنهما ليسا محل تسليم واتفاق بين الفقهاء، إذ أن البعض يـبني على قبولهما، والبعض الآخر لا يـبني عليهما، وبالتالي إنما يصلح هذا العلاج وفقاً لرأي بعض الفقهاء، وليس لجميعهم، كما لا يخفى.

دليل استحباب الزيارة يوم الأربعين:

هذا ولو لم يقبل ما سبق منا ذكره في إثبات استحباب زيارة الإمام الحسين(ع) يوم الأربعين بناءً على عدم تمامية دلالة الرواية على المدعى، لعدم نهوضها سنداً ودلالة، ولم تقبل رواية صفوان الجمال للدلالة على الاستحباب، فإنه يمكننا الاستناد في مقام إثبات الاستحباب في خصوص يوم الأربعين لدليل يتركب من أمرين، وهما:

الأول: ما ورد من النصوص الشريفة في استحباب زيارة الإمام الحسين(ع) مطلقاً، في كل وقت وكل زمان، من دون تخصيص لذلك بوقت محدد.

الثاني: ما ورد من الدليل الدال على إحياء مصابهم(ع).

ومقتضى الجمع بين الأمرين يحكم باستحباب الزيارة يوم الأربعين، لأنه يوم العشرين من صفر-وفقاً للقول بذلك-وردت العائلة الحسينية أرض كربلاء، وعمدت إلى إحياء المصاب وتجديده من جديد على الحسين(ع)، فزيارة كربلاء في ذلك اليوم من مصاديق إحياء أمرهم، لأن فيه إحياء لمصاب المولى الحسين(ع) من جهة، واستحباب زيارته المطلقة من جهة أخرى، فيتأكد استحباب الزيارة في خصوص هذا اليوم، لأنه يكون متضمناً لإحياء أمرهم(ع)، فيثبت المطلوب.

——————————————————————————–

[1] بحار الأنوار ج 95 ص 348.

[2] وسائل الشيعة ب ح ، تهذيب الأخبار ج ب ح

[3] بحار الأنوار ج 98 ص 10.

[4] الحدائق الناضرة ج 17 ص 434.

[5] نعم لا بأس في بعض الأمور من الإتيان بها بعنوان الرجاء، لا بعنوان الاستحباب، ونقصد بعنوان الرجاء أن الآتي بها يقصد رجاء المطلوبية، فإن كانت مستحبة، كانت كذلك، وإلا فإنها ليست محرمة. وهذا المعنى حسن شريطة أن لا يحرز أو يشك في انطباق عنوان التشريع المحرم، فلاحظ.

[6] مقتل المقرم ص 366.

[7] راجع على سبيل المثال قطر الندى وبل الصدى ص 112.

[8] سورة الأنبياء الآية رقم 30.

[9] سورة النساء الآية رقم 38.

[10] سورة النور الآية رقم 35.

[11] وسائل الشيعة ب 56 من أبواب المزار وما يناسبه ح 2.

تعليقات الفيسبوك

التعليقات مغلقة