قال تعالى:- (ولسوف يعطيك ربك فترضى)[1]
مدخل:
اشتملت آيات القرآن الكريم على العديد من فضائل أهل بيت العصمة والطهارة(ع)، وقد تنوعت تلك الفضائل التي تضمنتها آياته المباركة، فكان بعضها يشير إلى الملكات النفسانية التي يمتلكها أهل البيت(ع)، مثل قوله تعالى:- (ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيراً* إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا* إنا نخاف من ربنا يوماً عبوساً قمطريراً)[2]، وأخرى يتحدث عن المناصب الإلهية التي نصبهم الله تعالى فيها، مثل قوله تعالى:- (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون)[3].
وواحدة من آيات الفضائل هي الآية التي جعلناها مفتتح حديثنا، إلا أنها لم تلق تسليطاً للضوء عليها من قبل الباحثين والمفسرين، ولذا لا تجد بياناً وتحديداً للمقصود من العطاء والذي يعدّ موضوعها الأساس.
وحتى يتضح صدق ما ذكرناه نحتاج أن نشير إلى ما ذكره المفسرون في بيان المقصود منها، وما يتصور من مناقشة في ذلك، ثم التعرض لما هو الظاهر من الآية الشريفة.
وينبغي قبل ذلك أن نتعرض للتأمل في ظاهر الآية الشريفة بصورة موجزة.
في رحاب الآية الشريفة:
لا يخفى على المتأمل أن الموضوع الذي تتحدث عنه الآية المباركة هو عطاء الله سبحانه وتعالى لنبيه الكريم محمد(ص)، إذ قال تعالى:- (ولسوف يعطيك ربك)، فالباري عز وجل يعطي نبيه(ص) أمراً، لكنه لم يعمد إلى بيان هذا المعطى في هذه الآية، ولم يوضحه.
كما أن العطاء فيها مطلق، من حيث الأنواع، والأقسام، وكذلك من حيث الحدود والمقدار، كما أنه سبحانه لم يقيده بقيد، ولم يعلقه إلا على خصوص رضى الله سبحانه وتعالى.
فما هذا العطاء المطلق، غير المقيد بقيد، وغير المعلق إلا على خصوص رضى النبي محمد(ص)؟…
أقوال المفسرين:
بالرجوع لكتب التفسير نجد أن المفسرين ذكروا في بيان المقصود منه عدة أقوال:
منها:أن المقصود من العطاء في الآية الشريفة، يعني أن الله سبحانه سوف يعطيك الفلاح في الحياة الدنيا، والجزاء في الدار الآخرة.
ومنها: أن المقصود من العطاء فيها، هو إعطائه(ص) الحوض والشفاعة في جميع المؤمنين، وسائر أنواع الكرامة فيك وفي أمتك ما ترضى به في الآخرة.
هذا والفارق بين القولين واضح من حيث السعة والضيق، ضرورة أن القول الأول أوسع من القول الثاني، إذ أن الثاني منهما قد اقتصر على جعل العطاء مرتبطاً بعالم الآخرة دون عالم الدنيا، وهذا بخلافه وفقاً للتفسير الأول، إذ جعله مرتبطاً بعالمي الدنيا والآخرة، فلاحظ.
ومنها: ما ذكره ابن عباس، من أن العطاء المقصود في الآية الشريفة عبارة عن ألف قصر من اللؤلؤ الأبيض وترابها مسك.
وهذا القول يتفق مع القول الثاني من حيث حصر العطاء في عالم الآخرة دون عالم الدنيا، وإن كان أضيق دائرة منه، إذ جعله منحصراً في خصوص شيء مادي يكون في الجنة.
ومنها: أن يقصد من العطاء ما يعطاه(ص) من الخيرات والكرامات، وهي كثيرة، من جملتها نهر الكوثر.
وهذا يتفق مع القول الأول من حيث السعة والشمول، ومنه يتضح اختلافه مع بقية الأقوال الأخرى.
ومنها: أن عطائه(ص) يتمثل في أنه لا يدخل أحد من أهل بيته النار.
دراسة أقوال المفسرين:
هذا ولا يذهب عليك جميع ما تقدم من الأقوال لا يركن لواحد منها، ضرورة أنها لم تستند في معانيها لا لشيء من آيات الكتاب الشريف ليكون قرينة على المقصود وإشارة لبيان المراد، ولا لشيء من النصوص الشريفة لتكون بمثابة المفسر للمراد من الآية المباركة، كما أنها ليست الظاهر الواضح من حاق اللفظ بمجرد سماعه.
وهذا يعني أنها أقوال تفسيرية محتملة، ما لم تكن من التفسير بالرأي الذي لا يركن إليه، فضلاً عن كونه مما نهي عنه.
وهذا يعني أنه بعدُ لم يتضح لنا المقصود من العطاء في الآية الشريفة، فنحتاج إذاً للبحث عما هو المراد منه فيها.
ولكي يتضح لنا ذلك، نحتاج إلى نرجع للقران الكريم لنتعرف من خلاله المقصود.
العطاء في الآية:
لا يخفى أن هذه الآية واحدة من آيات سورة الضحى، ووفقاً لما ذكره المفسرون، فإنها ثالث سورة نزلت على النبي محمد(ص)، وقد تضمنت الحديث حول جملة من الأمور الاجتماعية المرتبطة به(ص)، فلاحظ قوله تعالى:- (ألم يجدك يتيماً فآوى* ووجدك ضالاً فهدى)، وكذا قوله تعالى:- (ووجدك عائلاً فأغنى)، وهذا يعني أن العطاء الذي يتحدث عنه سبحانه في هذه السورة لابد وأن يكون متوافقاً ومنسجماً مع الموضوع الذي تحدثته عنه السورة المباركة، وهو الوضع الاجتماعي المرتبط به(ص).
ولكي نستطيع أن نحدد المقصود من العطاء، علينا أن نعود للقرآن الكريم لنتأمل ولنبحث عن أنه هل تضمن حديث الباري سبحانه عن إعطائه نبيه(ص) شيئاً أم لا، فإن ذلك يعنينا كثيراً لتحديد المقصود من العطاء في الآية المباركة.
بالرجوع لسور القرآن الكريم نجد أن القرآن أشار إلى أن الباري سبحانه قد أعطى نبيه(ص) شيئاً، وهو الكوثر، قال تعالى:- (إنا أعطيناك الكوثر)، وسورة الكوثر هي سادس سورة نزلت على رسول الله(ص)، ولا نجد في القرآن آية أخرى تتحدث عن إعطاء الله سبحانه نبيه(ص) شيئاً آخر، فهذا يعني أن الوعد بالعطاء الذي أشير له في سورة الضحى ما أسرع ما وفى به سبحانه وتعالى لنبيه في سورة الكوثر التي لا يفصل بين نزولها ونزل سورة الضحى إلا سورتان، والجميع من السور القصار.
إذاً العطاء الذي أعطيه(ص) حتى يرضى في سورة الضحى هو الكوثر، فيكون المعنى وفقاً لهذا: وقد أعطاك ربك الكوثر فرضيت[4].
معنى الكوثر:
هذا وبعدما اتضح لنا المقصود من العطاء في الآية الشريفة، وأنه الكوثر نحتاج إلى التعرف على المقصود منه، فما هو الكوثر الذي يمثل عطاء السماء لنبي الرحمة(ص).
بالرجوع لكلمات المفسرين نجد آراء متعددة في ذلك، وأهمها قولان:
الأول: أن المقصود من الكوثر، نهر في الجنة.
الثاني: أنه يقصد من الكوثر الخير الكثير، والمقصود بالخير الكثير في المقام إعطائه كثرة الذرية والنسل.
ولا يخفى أن هناك قرينتين تساعدان على القول الثاني:
الأولى: سبب نزول السورة المباركة، فإن المذكور في كلمات المفسرين أن العاص بن وائل السهمي وذلك أنه رأى رسول الله(ص) يخرج من المسجد فالتقيا عند باب بني سهم وتحدثا وأناس من صناديد قريش جلوس في المسجد، فلما دخل العاص قالوا من الذي كنت تتحدث معه، قال: ذلك الأبتر، وكان قد توفي قبل ذلك عبد الله بن رسول الله(ص)، وهو من خديجة وكانوا يسمون من ليس له ابن ابتر، فسمته قريش عند موت ابنه أبتر، ومبتوراً[5].
وقد كان القرشيون يرددون أن محمداً يموت بعد حين فينقطع خبره، ويخبو ذكره، ما دام أن لا نسل له ولا ولد.
الثانية: ما جاء في ذيل السورة المباركة، وهو قوله تعالى:- (إن شانئك هو الأبتر)، وقد ورد في بعض الكتب التاريخية أن للعاص ابن وائل أولاداً فرساناً، خرجوا يوماً للصيد فافترستهم السباع وماتوا جميعاً، فصار بدون عقب ولا ولد، حتى استلحق عمرو بن العاص الذي عرف به بعد ذلك.
وهذا يعني أن الآية الشريفة بصدد الإجابة على أن من رماك بانقطاع النسل يا رسول الله، هو منقطع النسل، ولا ولد له.
وبمقتضى هاتين القرينتين يتضح أن المقصود من الكوثر هو كثرة الذرية، ولو تأملنا لوجدنا أن كثرة ذرية رسول الله(ص) لا تكون إلا من خلال السيدة فاطمة الزهراء(ع)، وهذا يعني أن الكوثر هو الزهراء(ع)، وهذا الذي ذكرناه أشار له السيد الطباطبائي(قده) في الميزان، قال: وكيفما كان، فقوله في آخر السورة:- (إن شانئك هو الأبتر) وظاهر الأبتر المنقطع نسله وظاهر الجملة أنها من قبيل قصر القلب، أن كثرة ذريته(ص) هي المرادة وحدها بالكوثر الذي أعطيه النبي(ص)، أو المراد بها الخير الكثير، وكثرة الذرية مرادة في ضمن الخير الكثير، ولولا ذلك لكان تحقيق الكلام بقوله:- (إن شانئك هو الأبتر)خالياً عن الفائدة[6].
والحاصل، يستفاد من جميع ما تقدم أن العطاء الذي وعد الله سبحانه وتعالى نبيه به، وأنه سوف يعطيه حتى يرضى يتمثل في إعطائه الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء(ع)، وهذا يعني أن العطية هي الزهراء(ع).
متى وأين كان الإعطاء:
ثم إنه وقد عرفنا أن المقصود بالإعطاء في الآية الشريفة هي فاطمة الزهراء(ع)، فمتى وأين كان الإعطاء؟…
قد يتصور الكثيرون أن الإعطاء كان في عالم الدنيا، ومكانه كان على الأرض، إلا أن الرجوع للتاريخ ينفي صدق ذلك، ويعطي أن الإعطاء كان في السماء، وفي عالم الملكوت، ومن طعام الجنة، وقرب عرش الرحمن سبحانه وتعالى، وهذا يضيف مزية إلى مزايا الزهراء(ع)، وكرامة إلى كرامتها، وعظمة إلى عظمتها، فإنها لم تتخلق في عالم المادة، بل كان ذلك في عالم الملكوت، فقد ورد أنه ليلة أسري برسول الله(ص) أعطي طعاماً من طعام الجنة، قيل بأنه التفاح، وقيل بأنه الكمثرى، فأكله النبي(ص)، وقال ما نزلت إلى الأرض حتى أحسست بفاطمة في صلبي، وقيل أن الطعام جيء له به في الأرض، وقد أمر رسول الله(ص) أن يعتـزل خديجة(ع)، ثم أمرّ بمباشرتها، وكان من ذلك اللقاء نور الزهراء(ع).
وللأسف أن يحاول البعض التشكيك في هكذا نص، من خلال دعوى أن ولادتها(ع)، كانت قبل البعثة الشريفة، وبالتالي قبل حادثة الإسراء مما يعني أنه لم تتخلق من طعام الجنة، بل تخلقت من طعام الدنيا، وعالم المادة.
لكن هذه الأقوال واضحة العلة والضعف، ولسنا بصدد المناقشة وبيان جانب الخلل فيها، فإن لذلك محله.
———————————————————-
[1] سورة الضحى الآية رقم 5.
[2] سورة الإنسان الآيات رقم
[3] سورة الآية رقم
[4] أشار لهذه الالتفاتة القرآنية سماحة العلامة الشيخ جلال الدين الصغير في محاضرة في أرض مكة المكرمة.
[5] مجمع البيان ج 6 ص 251.
[6] الميـزان ج 20 ص 370.