مسؤولية الإمام العسكري تجاه ولده المنتظر (ع)

لا تعليق
محرم الحرام 1424 هـ
153
0

مدخل:

إن مسألة ولادة الإمام الحجة المنـتظر(عج) من المسائل المتسالم عليها عند الشيعة الإمامية، وكثير من أبناء العامة، وأنه محمد بن الحسن العسكري(ع).
ولا مجال للتشكيك في ذلك، بعد قيام عدة أدلة على إثبات الولادة، وكونه محمد بن الحسن(ع). ونحن هنا لسنا بصدد الحديث عن إقامة الدليل على الولادة، وإنما نود الحديث عن المسؤولية التي كانت ملقاة على عاتق الإمام العسكري(ع) من بعد ولادة الإمام المنـتظر المهدي، وقد اضطلع بها.

أدلة الولادة:
ولما لم يكن حديثنا منصباً على إثبات أدلة ولادته(عج)، نشير إلى ذلك بشكل موجز، ويمكن للقارئ المتابعة والمراجعة للكتب المتصدية لإثبات ذلك.

علماء الأنساب:
لقد قال علماء الأنساب ابتداءاً من زمن الغيـبة الصغرى، وحتى عام 1246 هـ، بوجود ولد للحسن بن علي العسكري(ع)، وهو المهدي المنـتظر الذي بشر رسول الله(ص) بظهوره في آخر الزمان.
يقول النسابة سهل بن عبد الله بن داود بن سليمان البخاري الذي عاصر الغيـبة الصغرى: وولد علي بن محمد التقي(ع) الحسن بن علي العسكري(ع) من أم ولد نوبية تدعى ريحانة، وولد سنة إحدى وثلاثين ومائتين، وقبض سنة ستين ومائتين بسامراء، وهو ابن تسع وعشرين سنة، وولد علي بن محمد التقي(ع) جعفر، وهو الذي تسميه الإمامية جعفر الكذاب، وإنما تسميه الإمامية بذلك لادعائه ميراث أخيه الحسن(ع)، دون أبنه القائم الحجة(عج) لا طعناً في نسبه.

فنلاحظ أنه نص على أن منشأ تسمية جعفر بالكذاب يعود لكونه قد أدعى شيئاً ليس له، وهو ميراث الإمام العسكري(ع) حيث أن له وريثاً، وهو ولده الحجة(عج) مما يثبت تحقق الولادة، والاعتراف بها.
ويقول السيد العمري، وهو نسابة مشهور في القرن الخامس الهجري: ومات أبو محمد(ع) وولده من نرجس معلوم عند خاصة أصحابه وثقات أهله، وسنذكر حال ولادته والأخبار التي سمعناها بذلك، وامتحن المؤمنون بل كافة الناس بغيـبته، وشره جعفر بن علي إلى مال أخيه وحاله، فدفع أن يكون له ولد، وأعانه بعض الفراعنة على قبض جواري أخيه.

وقال الفخر الرازي الشافعي، وهو نسابة القرن الخامس المتوفى سنة 606: أما الحسن العسكري الإمام(ع) فله أبنان وبنـتان، أما الابنان فأحدهما صاحب الزمان(عجل الله فرجه الشريف) والثاني موسى، درج في حياة أبيه.
ولا ينحصر الأمر في هؤلاء الخبيرين من علماء الأنساب ممن ذكرنا، بل هناك من علماء الأنساب في القرن السادس وغيره، كلهم يعترفون وهم خبراء الفن، بولادة الإمام الثاني عشر، الغائب المنـتظر، وهم، هم من أهل الخبرة والدراية بهذا الفن، فلا يحق لأحد ممن لا خبرة له بهذا الفن ولا دراية له بعلم الأنساب من قريب ولا بعيد أن يقوم بنقض كلامهم، ورده.

اعترافات علماء السنة:
فقد اعترف بولادته(ع) العلامة أبو بكر أحمد بن الحسين بن علي البيهقي النيسابوري الشافعي المتوفى سنة 458 هـ، في كتابه شعب الإيمان، والعلامة عبد الله بن أحمد بن محمد بن الخشاب المتوفى سنة 567 هـ، في كتابه تاريخ مواليد الأئمة ووفياتهم، والشيخ محمد بن طلحة الحلبي الشافعي المتوفى سنة 652 هـ، في كتابه مطالب السؤول، والمؤرخ الشهير شهاب الدين أبو عبد الله ياقوت الحموي المتوفى سنة 626 هـ، في كتابه معجم البلدان، وهناك أسماء أخر نعرض عن ذكرها حذراً من الإطالة، وقد أحصوا فبلغوا ستة وستين شيخاً من علماء العامة على مخـتلف العصور والأزمنة يقولون بولادته(ع).

ولا بأس إكمالاً للمطلب نشير إلى بعض كلماتهم في المقام، بنحو الإيجاز والاختصار، قال محمد بن يوسف الكنجي الشافعي المتوفى سنة 658 هـ: وخلف علي الهادي من الولد أبا محمد الحسن أبنه-ثم ذكر تاريخ ولادته ووفاته، وقال: أبنه هو الحجة الإمام المنـتظر، وكان قد أخفى مولده وستر أمره لصعوبة الوقت وخوف السلطان.

وقال علي بن محمد الصباغ المالكي: الحجة الخلف الصالح ابن أبي محمد الحسن الخالص…..
ويقول سبط ابن الجوزي: هو محمد بن الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسى الرضا بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب(ع)، وكنيته أبو عبد الله، وأبو القاسم، وهو الخلف الحجة، صاحب الزمان، القائم، والمنـتظر، والتالي، وهو آخر الأئمة.
وقال ابن خلكان: أبو القاسم محمد بن الحسن العسكري بن علي الهادي بن محمد الجواد المذكور…كانت ولادته يوم الجمعة منـتصف شعبان سنة خمس وخمسين ومائتين.

وقال الذهبي: وفيها-أي في سنة 256 هـ-ولد محمد بن الحسن بن علي الهادي بن محمد الجواد….الذي تلقبه الرافضة الخلف الحجة، وتلقبه بالمهدي والمنـتظر، وتلقبه بصاحب الزمان، وهو خاتمة الأثني عشر.

حديث الغيـبتـين:
وهو حديث دوّنه الفقهاء والمحدثون في موسوعاتهم الحديثية، ابتداءاً من عصر الغيـبة الصغرى، وإلى يومنا هذا، فلقد نقل هذا الحديث الشيخ الجليل الكليني، والشيخ الطوسي، والشيخ النعماني، والطبري والمجلسي، وغيرهم.
فلا يصغى لما يقوله بعضهم من أن أول نقل لهذا الحديث كان في منـتصف القرن الرابع الهجري، بعد انـتهاء عهد النواب الخاصين، وكان ذلك على يد الشيخ النعماني، ولم يذكره أحد من المؤلفين قبل تلك الفترة، بل اكتفوا بالإشارة إلى غيـبة واحدة.

لما عرفت من أنه قد نقله شيخنا الكليني(قده) وهو المعاصر لعصر الغيـبة الصغرى، لأن وفاته كانت سنة 329 هـ. وعلى أي، لننقل حديث الغيـبتـين:
جاء في الكافي لشيخنا الكليني، عن عبيد بن زرارة عن أبي عبد الله(ع) قال: للقائم غيـبتان، يشهد في أحدهما المواسم، يرى الناس ولا يرونه.

وجاء فيه أيضاً عن إسحاق بن عمار قال: قال أبو عبد الله(ع): للقائم غيـبتان، إحداهما قصيرة، والأخرى طويلة، الغيـبة الأولى لا يعلم بمكانه فيها إلا خاصة شيعته، والأخرى لا يعلم بمكانه فيها إلا خاصة مواليه.
وجاء في حديث ثالث من نفس المصدر، شرح حال الناس في هاتين الغيـبتـين، وموقفهم منها، فقد جاء عن أبي عبد الله(ع): لصاحب هذا الأمر غيـبتان، إحداهما يرجع منها إلى أهله، والأخرى يقال هلك في أي وادٍ سلك. قلت: كيف نصنع إذا كان كذلك؟ قال: إذا أدعاها مدعٍ، فاسألوه عن أشياء يجيب فيها مثله.

وذكر الشيخ الطوسي في كتابه الغيـبة، فقد جاء فيه عن أبي عبد الله(ع) قال: إن لصاحب هذا الأمر غيـبتـين، إحداهما أطول من الأخرى، حتى يقال: مات، وبعض يقول: قتل، فلا يـبقى على أمره إلا نفر يسير من أصحابه، ولا يطلع أحد على موضعه وأمره، ولا خبره إلا المولى الذي يلي أمره.
وعلق الشيخ الطوسي على هذا الحديث فقال: فهذا الخبر صريح فيما نذهب إليه في صاحبنا، لأن له غيـبتـين:
الأولى: كان يعرف فيها أخباره ومكاتباته.
الثانية: أطول، انقطع ذلك فيها، وليس يطلع عليه أحد إلا من يخـتصه، وليس كذلك لأبي الحسن موسى(ع).
وغير ذلك من الروايات، التي يجدها القارئ في كتاب الغيـبة للشيخ الطوسي، والغيـبة للشيخ النعماني، ودلائل الإمام للطبري.

الحيرة التي أصيب بها الشيعة:
لاحظنا أن بعض النصوص المتعرضة لذكر الغيـبتين، تشير إلى وقوع حيرة والتباس، وهذا المعنى قد يتمسك به بعضهم على أنه يشير إلى وقوع الشيعة في حيرة والتباس وشك، وأنهم لم يكونوا مطمئنين إلى ولادة الصاحب(عج) ومشككين في ذلك.

إلا أن هذه النصوص ترد على ذلك، من خلال أنها تشير إلى وقوع الحيرة في فترة الغيـبة الكبرى، وهذا يعني: إيمان الشيعة بولادة الإمام الحجة(عج)، لأن الحيرة إنما وقعت بعد وقوع الغيـبة الكبرى، لا قبلها، وهي عبارة عن الغيـبة الثانية كما عرفت، ووقوعها فرع ثبوت الغيـبة الصغرى، ووقوع الغيـبة الصغرى فرع ثبوت الولادة كما هو واضح لا يكاد يخفى.

ومن الواضح أن السر في حصول الحيرة في زمن الغيـبة الكبرى، يرجع لانقضاء الجيل الذي شاهد الإمام المنـتظر(عج) وتعامل معه حسياً، ونشر أخباره بين الشيعة بشكل خاص، مضافاً إلى أن الغيـبة تمثل ظاهرة جديدة لم يسبق لها مثيل في المجتمع، بحيث احتاج الإمام العسكري(ع) إلى انتهاج منهج خاص للتمهيد إليها.
وبالجملة لا وجه لما يردده بعضهم من وقوع حيرة والتباس عند الشيعة، وانقسامهم إلى أربعة عشرة فرقة، وتعدد ذلك، لما عرفت من أن الحيرة إنما كانت في الغيـبة الكبرى، مضافاً إلى أن الجمهور من الشيعة، وهم الإمامية كانوا مجمعين كما ينص على ذلك كل من أرخ لتلك الفتـرة على أنهم معتقدين بولادته(عج).

التوقيعات الصادرة عن الناحية المقدسة:
وقد كانت تصدر عن الناحية المقدسة، لتحمل مجموعة من التوجيهات للأمة، وبيان الأحكام التي تحتاج إليها.
ومعنى التوقيع: هو ما كان يذكر الإمام المهدي(عج) بخطه في جواب الأسئلة والعرائض، بواسطة سفرائه من الكلمات القصار، في مختلف ميادين المعرفة، من الناحية العقائدية، أو الفقهية، أو الاجتماعية، أو غيرها.
وقد عرفت في بحوث سابقة، أن هذه التوقيعات كانت تخرج بخط محدد لا يخـتلف ولا يتغير. وقد بلغت التواقيع الموجودة عند الشيخ الصدوق(قده) وحده ثلاثة وأربعين توقيعاً، ووضع لها باباً خاصاً سماه ذكر التوقيعات الواردة عن القائم.

والشيء الملفت للنظر أنه لم يرد من أحد في تلك الحقبة الزمنية التي كانت تعيش فيها الأمة الغيـبة الصغرى، تشكيك في صدور هذه التوقيعات من الناحية المقدسة.

النصوص المتواترة على الولادة:
وهي كثيرة جداً تعرض لها غير واحد من المؤرخين لتلك الفترة، وكثير من فقهاء الطائفة، وأعلامها، وهي متواترة جداً، فلا تحتاج حينئذٍ إلى دراسة سندية، لأن الخبر الذي يحتاج إلى دراسة سنده، ليرى أنه حجة يمكن الاعتماد أو لا، هو خصوص خبر الآحاد، أما إذا كان الخبر متواتراً، فلا حاجة حينئذٍ إلى ملاحظة أسناده، كما لا يخفى.

وأخبار ولادة الإمام الحجة المنـتظر المهدي(عج) متواترة، فلا نحتاج إلى ملاحظة أسانيدها.
ومع ذلك لا بأس تبركاً بالإشارة إلى رواية واحدة، وهي صحيحة سنداً، ذكرها شيخنا الكليني(قده) في كتابه الكافي، عن أبي هاشم الجعفري قال: قلت لأبي محمد(ع): جلالتك تمنعني من مسألتك، فتأذن لي أن أسألك؟ فقال: سل، قلت: يا سيدي هل لك ولد؟ فقال: نعم، فقلت: فإن حدث بك حدث فأين أسأل عنه؟ قال: بالمدينة.

وصراحة هذا النص، في وجود ولد لأبي محمد الحسن بن علي العسكري(ع) لا تنكر، وأنه الخلف من بعده، وليس ذلك إلا محمد بن الحسن العسكري الحجة المنـتظر المهدي(روحي لتراب مقدمه الفداء)، كما أنه يدل على أمر آخر، وهو النص على الخلف من بعد أبي محمد(ع)، وأنه الإمام من بعده.

مسؤولية الإمام العسكري تجاه ولده:
بعد ولادة الإمام الحجة المنـتظر(عج) واجه الإمام العسكري(ع) وهو الأب المباشر للإمام المهدي(ع) وظيفتين مزدوجتـين تجاه هذا المولود:

الأولى: إثبات وجود المهدي(ع) تجاه التاريخ، وتجاه الأمة الإسلامية، وتجاه قواعده ومواليه، مع الحذر الشديد من السلطة، دون أن يـبلغ به الحذر إلى إخفائه الكامل، بحيث يؤدي إلى انطماس اسمه، وإنكار وجوده، وإقامة الحجة في وجوده على الموالين خاصة، والمسلمين عامة، داحضاً بها المزاعم التي تزعم عدم وجوده، وأنه ليس للإمام العسكري(ع) ولد.

الثانية:التخطيط لحماية الإمام الحجة(ع) من محاولات قتله ومطاردته من قبل السلطات، التي أبدت اهتمامها الشديد والمركز، ومحاولاتها المستميتة للقضاء عليه، وتجنيد كل قواها وعيونها من أجله، لأن ولادته(ع) تعني الحكم على نظامهم بالموت المحتم، وفضح مخططاتهم وانحرافهم عن أوامر الإسلام.
ومن الواضح أن الإمام(ع) كان في موقف حرج للغاية، حيث أنه مضافاً إلى أن كونه مطالباً بالقيام بهاتين الوظيفتـين، كان خاضعاً للمراقبة الشديدة، والدائمة من قبل السلطة، باعتباره القائد الإسلامي لقواعد شعبية واسعة من المسلمين، وتمثيله لجبهة المعارضة للسلطة الحاكمة آنذاك.

ترك الإعلان الاجتماعي للولادة:
ولأجل أن ينجح الإمام العسكري(ع) في حماية ولده وتنفيذ التخطيط المقرر للقيام بتلك الوظيفتين اللتين أشرنا إليهما، كان عليه أن يترك الإعلان الاجتماعي عن ولادة المولود الجديد بالكلية، وكأن شيئاً لم يحدث على الإطلاق، بالنسبة إلى الفهم العام، وترك الأحداث تسير في مجراها الاعتيادي من دون إثارة أي انتباه أو فضول أو شك من أحد في شيء من النشاط أو القول أو العمل.

وقد ساعدت الإمام العسكري(ع) على إخفاء هذا الأمر عدة عوامل، نشير لأثنين منها:
1-تطبيق الإمام العسكري(ع) لفكرة الاحتجاب عن مواليه، وشيعته، وانقطاعه عن أصحابه، إلا بواسطة المراسلات. مما جعل القواعد الشعبية تعتاد على فكرة الاحتجاب، والقيادة غير المباشرة.
2-تحول انتباه الدولة والمجتمع إلى حرب صاحب الزنج، الذي بدأ أعماله التخريـبية في جنوب العراق، والأهواز في عام ميلاد الإمام المهدي(عج).

وقد أوجد هذا المخرب الفزع والهلع والقلق في أذهان الشعب عامة، والجهاز الحاكم خاصة. ومن الواضح أن المجتمع الذي يسوده القلق الذهني يكون فكره مركزاً على ما يخاف منه، ومن الصعب أن يلتفت إلى شيء آخر، ولهذا صار وجود صاحب الزنج خير صارف ذهني للفهم العام عن الإلتفات إلى ميلاد المولى(روحي لتراب مقدمه الفداء).

ومن خلال ما ذكرنا يتضح لنا أن الإمام العسكري(ع) قد استطاع إلى حدٍ ما، أن يكفل حماية ولده من الجهاز الحاكم، ومن كل من يدور في فلكه، وهذه هي الوظيفة الثانية التي كان عليها أن يقوم بها(ع).

إثبات وجود المهدي:
وأما الوظيفة الأولى، التي كانت مناطة بالإمام العسكري(ع) وكان مطالباً بالقيام بها، وهي إثبات وجوده للتاريخ، وللأمة الإسلامية عامة، ولمواليه خاصة، فبمقتضى الظروف التي كان يعيشها الإمام(ع)، كان لابد من أن تـتقلص وتضمر، وأن يخـتص التبليغ بوجوده ورؤيته،بكل شخص يعلم من قوة إيمانه، وإخلاصه في عقيدته أن له من صلابة الإرادة، ما لا يمكن أن تلين أمام ضغط من السلطات، بحيث يكون مستعداً لتقديم نفسه فداء في سبيل امتـثال أمر إمامه(ع) بالكتمان.

كما أنه لابد أن يعلم من رجاحة عقله واتزانه ولباقته، أنه يكتم ذلك في المجتمع كتماناً تاماً، ولا يتهور بإذاعة السر إلى من لا ينبغي أن يذيعه له، وله الخبرة الكافية بالخاصة، الذين يمكن أن يتبادل وإياهم هذا الخبر.
وقد كان هذا سبباً لحجب المولود الجديد، حجباً تاماً مطلقاً عن الجمهور غير الموالي له، بل حتى عن جمهور الموالين ممن لم يحرز فيه قوة الإرادة، وعمق الإخلاص.

وقد كان كل من يطلعه الإمام العسكري(ع) على المولود الجديد، فيريه إياه، أو يخبره عنه، يكلف تكليفاً إلزامياً بأمرين، عليه أن يطبقهما باعتبار إخلاصه، وقوة إرادته وإيمانه، وهذان الأمران هما:
الأول: وجوب الكتمان، فهذا أحد الأصحاب يقول لآخر: ولد البارحة في الدار مولود لأبي محمد(ع) وأمر بكتمانه.

ويكتب الإمام العسكري(ع) لأحمد بن إسحاق: ولد لنا مولود، فليكن عندك مستوراً، وعن جميع الناس مكتوماً، فإنا لم نظهر عليه، إلا الأقرب لقرابته، والموالي لولايته، أحبـبنا إعلامك ليسرك الله به، مثل ما سرنا به، والسلام.

الثاني: حرمة إطلاع أحد على اسمه(ع)، وهو أسلوب في الكتمان ورد التأكيد عليه بشكل خاص.
ولا يخفى أن اسم المهدي المنـتظر أساساً، معلوم لدى الأمة، بإخبار النبي الأكرم محمد(ص) حين قال: اسمه اسمي. وهذا يعني بكل وضوح أن اسمه محمد، وهذه المعرفة لا يخـتلف فيها الناس من موالين، وغيرهم.

إلا أن السلطة حينما تريد مطاردة المهدي المنـتظر، في شخص المولود الجديد، لابد لها من أمرين:
1-أن تعرف ولادته، لأنه مع الغفلة عنها، لا يمكنها بطبيعة الحال أن تجرد المطاردة الفعلية الحقيقية ضد المولود.
2-أن تعرف شخصه باسمه، إذ بدونه لا يمكن أن تحارب فيه المهدي المنـتظر، لاحتمال أن يكون المهدي هو ولد آخر للإمام العسكري(ع) لعله ولد، ولعله لم يولد بعد فيما تحتمله السلطة، وهي ليس لها غرض معين، إلا ضد المهدي المنـتظر على وجه التعيـين.

هذا كله مضافاً إلى أن الاسم يكسب الفرد شخصيته القانونية والاجتماعية، التي يمكن أن تعين ويشار إليها به، وأما مع الجهل به إلى جانب الجهل بشكله أيضاً، فيكتسب بذلك نحواً من الغموض، وعدم التعيـين في ذهن السلطات، فتحار حين البحث عنه، لكونها تبحث عن شخص دون تحديد.
وقد ورد النهي عن ذكر الاسم أيضاً عن الإمام الهادي(ع) عندما بشر بالمهدي المنـتظر(عج)، قال: لأنكم لا ترون شخصه، ولا يحل لكم ذكره باسمه، قال الراوي، فقلت: فكيف نذكره؟ قال: قولوا: الحجة من آل النبي(ص).

عرض الإمام على بعض خاصة العسكري:
ولما أراد الإمام العسكري(ع) أن يثبت وجود ولده الحجة(ع)، اختار من مواليه من كان له صلابة في الإيمان، وعمق في الإخلاص، وبخاصة أولئك الذين يربطون بينه وبين قواعده الشعبية، وينقلون منه وإليه المراسلات والتوقيعات، فإنهم خير من يستطيع أن يـبلغ خبر ولادة الحجة المهدي(ع) إلى الجماهير الموالية للإمام(ع)، فإن هذه الجماهير تعرف من قبل وثاقة هؤلاء الأشخاص، وإيمانهم وإخلاصهم، واعتماد الإمام(ع) عليهم في الربط بينهم وبينه(ع).

ومن ثم لن يفرق شيئاً على الفرد من القواعد الشعبية الموالية، بين أن يرى الإمام المهدي(عج) بنفسه، أو يسمع عنه من أبيه، وبين أن يصل إليه الخبر بوجوده محفوفاً بالقرائن التي تـثبت ذلك، من قبل هؤلاء الأصحاب الموثوقين.
وبالجملة، كان على الفرد الموالي أن يكثر السؤال من كثيرين، ممن يعرف فيه القدم والرسوخ في علاقته مع الإمام العسكري(ع)، وممن شاهد ولده المهدي(ع) من غيرهم، ليحصل عنده التواتر الموجب للعمل بوجود إمامه الثاني عشر.

ولـئن كان التواتر قد وصلنا من الطرق العامة والخاصة إلى هذا العصر، فكيف في ذلك الزمان الذي كانت كل القرائن تدل عليه، وكل الأيدي تشير إليه، وكان هم أبيه ووكلائه وأصحابه، هو التأكيد على وجوده، والتبليغ عنه إلى كل صالح للتبليغ.

ولعل أوسع إعلان يصدر من الإمام العسكري(ع) بين أصحابه عن ولادة ابنه وإمامته من بعده، ووجوب طاعته عليهم، هو أنه(ع) قبل وفاته بأيام، وقد كان مجلسه غاصاً بأربعين من أصحابه ومخلصيه، منهم محمد بن عثمان العمري، ومعاوية بن حكيم، ومحمد بن أيوب بن نوح….يعرض عليهم أبنه(ع)، ويقول: هذا إمامكم من بعدي، وخليفتي عليكم، أطيعوه، ولا تـتفرقوا من بعدي فتهلكوا في أديانكم، ويضيف(ع) منبهاً لهم إلى أن هذه هي فرصتكم الوحيدة في المهدي(ع)، قائلاً: أما أنكم لا ترونه بعد يومكم هذا.

وممن عرض الإمام العسكري(ع) ولده المهدي عليه من أصحابه، أحمد بن إسحاق بن سعد الأشعري، وهو من خاصة الإمام(ع) وثقاته، ولم يكتف(ع) بعرض ولده عليه، بل أعطاه الفكرة الواعية الصحيحة عن غيـبة الإمام المهدي(عج)، وأفهمه عدة براهين عن إمكان الغيـبة وصحتها.

وعلى أي حال، فقد جاء أحمد بن إسحاق يقصد زيارة الإمام(ع) يريد أن يسأله عن الخلف من بعده، ومن يتولى الإمامة بعد وفاته، ويضطلع بشؤون الأمة عند ذهابه إلى ربه، فيدخل على الإمام، فيقول له الإمام مبتدئاً: يا أحمد بن إسحاق، إن الله تبارك وتعالى لم يخل الأرض منذ خلق آدم(ع) ولا يخليها إلى أن تقوم الساعة، من حجة على خلقه، به يدفع البلاء عن أهل الأرض، وبه ينـزل الغيث، وبه تخرج بركات الأرض.
قال: فقلت له: يا ابن رسول الله، فمن الإمام والخليفة بعدك؟…فينهض الإمام(ع) مسرعاً ويدخل إحدى الغرف، ثم يخرج وعلى عاتقه غلام كأن وجهه القمر ليلة البدر، من أبناء ثلاث سنين، ثم يقول: يا أحمد بن إسحاق لولا كرامتك على الله عز وجل، وعلى حججه، ما عرضت عليك ابني هذا، إنه سمي رسول الله(ص) وكنيه، الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً.

يا أحمد بن إسحاق، مثله في هذه الأمة مثل الخضر(ع)، ومثله مثل ذي القرنين، والله ليغيـبن غيـبة لا ينجو فيها من الهلكة إلا من ثبته الله عز وجل على القول بإمامته، ووفقه الله للدعاء بتعجيل فرجه.
قال أحمد بن إسحاق، فقلت: يا مولاي فهل من علامة يطمئن بها قلبي، فنطق الغلام(ع) بلسان عربي فصيح: أنا بقية الله في أرضه، والمنـتقم من أعدائه، ولا تطلب أثراً بعد عين، يا أحمد بن إسحاق.

قال أحمد بن إسحاق: فخرجت مسروراً، فلما كان الغد عدت إليه، فقلت له: يا ابن رسول الله، لقد عظم سروري بما منـنت عليّ، فما السنة الجارية من الخضر وذي القرنين، قال: طول الغيـبة يا أحمد. قلت: يا ابن رسول الله، وإن غيـبته لتطول. قال: أي وربي حتى يرجع عن هذا الأمر أكثر القائلين به، فلا يـبقى إلا من أخذ الله عز وجل عهده بولايتنا، وكتب في قلبه الإيمان، وأيده بروح منه. يا أحمد بن إسحاق هذا أمر من أمر الله، وسر من سر الله، وغيب من غيب الله، فخذ ما آتيتك واكتمه، وكن من الشاكرين، تكن معنا في عليـين.

تعليقات الفيسبوك

التعليقات مغلقة