أبو طالب وحديث الضحضاح

لا تعليق
كلمات و بحوث الجمعة
296
0

[size=6][/size][font=Traditional Arabic][/font]
[color=darkblue]من الشخصيات التي وقع الخلاف فيها بين المسلمين، شخصية سيدنا أبي طالب(ع)، حيث بنى أبناء السنة على أنه مات على الكفر، ولم يدخل في الإسلام، ولم يتبع النبي الأكرم محمد(ص)، بينما الذي عليه الطائفة الشيعية تبعاً لأئمتهم(ع) أنه كان موحداً قبل بعثة النبي(ص)، وأنه كان على الحنيفية السمحاء، ملة إبراهيم الخليل(ع)، كما كان على ذلك عبد المطلب أيضاً، ولما بعث النبي(ص) بالرسالة كان من أول المتبعين له، والمؤمنين برسالته. وقد استند كل واحد من الطرفين لمجموعة من الأدلة جعلها حجته على ما بنى عليه وألتـزم به.[/color]
والملاحظ أن أكثر الكتّاب والباحثين الشيعة، عندما يعمدون لدراسة مسألة إيمان أبي طالب من عدمها، يركزون البحث على إقامة الأدلة والبراهين من أجل إثبات أنه مات على طريق الإيمان والهداية، ويغفلون غالباً التركيز على الأدلة التي يستند لها الخصم في إثبات أنه مات على طريق الكفر، إلا القليل منهم، ومن المعلوم أن هذا جعلهم في موضع الضعف، حتى يخيل للقارئ أنهم هم الذين يحتاجون إقامة الدليل والبرهان، لكونهم مدعين، مع أن الأمر بالعكس، ضرورة أن القائل بالكفر وعدم الإيمان هو الذي يحتاج أن يقيم دليلاً على صحة مدعاه لا العكس، والسر في ذلك يعود لأن المحتملات عندنا في حال أبي طالب(ع) لا تخلو عن أمرين لا ثالث لهما، فهو إما أنه مات على طريق الهداية والصلاح والإيمان، أو أنه لم مات كافراً، ولا ريب أن الثابت تاريخياً أن أبا طالب قبل بعثة النبي(ص) كان على ملة أبيه عبد المطلب، ومن المعلوم، بل والثابت تأريخياً أن عبد المطلب كان على الحنيفية السمحاء، ملة جده خليل الرحمن إبراهيم(ع)، وهذا يعني أن أبا طالب كان موحداً، فمن قال بأنه مات كافراً، ومشركاً متديناً بديانة أهل مكة هو الذي يحتاج إلى أن يقيم الدليل على ذلك، خصوصاً وأننا عندما نعود لكلمات المؤرخين نجدها خالية من الحديث عما ذكرته في شأن زعماء مكة، فبينما نجد المؤرخين يتحدثون عن صنم أبي جهل، وما كان يفعله أبو سفيان عندما يود السفر من تقديم القرابين للأصنام حول الكعبة، وصنم أمية بن خلف في بيته، وغيرهم، لا نجد من هذا عيناً ولا أثراً في شأن سيد البطحاء، بل نرى أن ولده جعفر(ع) يتحدث عن أنه لم يسجد لصنم قط، ومن الطبيعي أن هذا يدل بالدلالة الالتـزامية على أن الأجواء الأسرية التي نشأ فيها جعفر(ع) كانت خالية تماماً من مثل هذه الأجواء الموبوءة، والمنحرفة عن طريق التوحيد.

والحاصل، فلا يحتاج الشيعة القائلون أن أبا طالب(ع) مات موحداً مؤمناً إلى إقامة برهان، وإثبات دليل على دعواهم، لأن الثابت تأريخياً كونه(ع) كان موحداً، وإنما يحتاج الخصم إلى إقامة الدليل، والإتيان بالبرهان على كونه كان مشركاً وكافراً متديناً بديانة أهل مكة.

هذا ومع أن الشيعة ليسوا بحاجة إلى إقامة الدليل على ذلك، إلا أننا نجد أنهم عمدوا إلى ذكر أدلة لإثبات ما هم عليه، إلا أن الملاحظ غلبة التركيز على الجانب الأدبي في تلك الأدلة، بمعنى يجد القارئ فيما كتبوه وحرروه أنهم يركزون في إثبات إيمانه(ع) على أشعاره، وما تضمنته من أمارات ودلائل تشير إلى إيمانه، وهذا الأمر من الوضوح بمكان، إلا أن الخصم ربما عارض ذلك بكونه أدباً حماسياً كان يرجى من خلاله تحريك البعد القبلي والجانب العاطفي، وليست الغاية منه التصديق والاعتقاد بالدعوة والرسالة، ولذا حبذا لو كان التركيز على النصوص الشريفة التي وردت عن أهل البيت(ع)، ومدى دلالتها على إثبات ذلك، وبيان الأساليب التي عمد إليها الأئمة(ع)، في إقامة الحجة على الخصم في إثبات أنه(ع) مات على طريقا الإيمان والهداية.

وكم كنت أرغب أن أتعرض لذلك، إلا أننا سوف نعمد إلى ما أشرت له في مطلع البحث من التعرض لبيان أدلة الخصم، وبيان مدى صلاحيتها لإثبات المدعى، خصوصاً مع الالتفات إلى أننا لو تسنى لنا أن نثبت عدم دلالتها على إثبات المدعى، أو عدم صلاحيتها للاستناد إليها في إثباته، كفانا ذلك مسؤولية إقامة الدليل على إيمانه(ع)ن لما ذكرناه من أنه كان على طريق التوحيد كما كان أبوه عبد المطلب(ع).

أدلة الخصم على كفر أبي طالب:

هذا وقد استند الخصم في إثبات أن أبا طالب(ع) مات على طريق الكفر وعدم الهداية إلى ثلاثة أمور:

الأول: بعض الأشعار المحكية عنه(ع).

الثاني: بعض الآيات القرآنية.

الثالث: وهو عمدتها، حديث الضحضاح.

هذا ولما كانت الآيات الشريفة المستند إليها من قبل الخصم غير واضحة الدلالة على المدعى، بل هي أجنبية تماماً، والاستدلال بها يكشف عن ضيق خناق عند المستدل، ما أوقعه في الاستناد إليها مع عدم دلالتها على ذلك، فلا حاجة للتعرض إليها، كما أن الأشعار أيضاً غير واضحة في دعوى الخصم، وبالتالي لا معنى للتعرض إلى مناقشتها ونقضها.

فينحصر الأمر في خصوص الأمر الثالث مما استند إليه القوم، وهو يتمثل في حديث الضحضاح، ويعتبر أقوى ما استندوا إليه في إثبات مدعاهم، ولم يحض هذا الحديث بدراسة وافية في الإجابة عنه ومناقشته من قبل أعلامنا، ضرورة أنهم يكتفون برفضه، وربما أشير إلى عدم القبول به، دونما إشارة إلى موجب عدم القبول.

وكيف كان، ينبغي أن يتم التعرض لهذا الحديث لنرى مدى دلالتها على صحة دعوى الخصم، وأنه ينهض في إثبات الدعوى من عدمها.

نص حديث الضحضاح:

وأول ما ينبغي التعرض إليه هو نقل متن حديث الضحضاح، والمعروف منه أربع روايات، يمكن عدها ثلاث، لأن اثنتين منها يرويهما العباس بن عبد المطلب، مما يقوي الاتحاد فيهما:

منها: ما رواه العباس بن عبد المطلب أنه قال: يا رسول الله، هل نفعت أبا طالب بشيء فإنه كان يحوطك ويغضب لك؟ قال: نعم، هو في ضحضاح من نار، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار.

ولا ريب في دلالتها على أن المتحدث عنه في الحديث من أهل النار، ومن الطبيعي أن منشأ وجوده في النار يعود لكونه من العصاة، أو الكفار، فيثبت المطلوب.

ومنها: ما رواه أيضاً، قال: قلت: يا رسول الله إن أبا طالب كان يحوطك وينصرك فهل نفعه ذلك؟ قال: نعم، وجدته في غمرات من النار، فأخرجته إلى ضحضاح.

ودلالة الحديث على المدعى لا تقصر عن دلالة سابقه، نعم اختلف الحديثان في المكان الذي يقع فيه المتحدث عنه، فالحديث الأول ذكر أنه موجود في الدرك الأسفل من النار، بينما تضمن الثاني أنه في غمرات النار، ويمكن التوفيق بين الحديثين فيقال أن التعبيرين إشارة إلى مضمون واحد، فتأمل.

ومنها: ما روي عن ابن عباس: أن رسول الله(ص) قال: أهون أهل النار عذاباً أبو طالب، وهو منتعل بنعلين، يغلي منهما دماغه.

ودلالة الحديث المذكور على المدعى كدلالة سابقيه، نعم اختلف الحديث محل البحث عن سابقيه، في أنه لم يتضمن ذكر ما قدمه النبي(ص) للمتحدث عنه، فلم يشر إلى أن موجب التخفيف عليه في العذاب ما هو، وإنما اقتصر على الإشارة إلى أنه أهون أهل النار عذاباً، فلاحظ.

ومنها: ما جاء عن أبي سعيد الخدري: أن رسول الله(ص) ذكر عنده عمه أبو طالب، فقال: لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة، فيجعل في ضحضاح من نار يبلغ كعبيه يغلي منه دماغه.

وقد اختلف هذا الحديث عن سوابقه، ضرورة أنه لم يتضمن التخفيف على المتحدث عنه، بل أشتمل أيضاً على أنه لا يحرز إمكانية التخفيف من عدمها، إذ عبر بكلمة(لعل)، وهي تفيد الترجي والتمني، كما لا يخفى.

وبالجملة، إن ما تتفق عليه الأحاديث المذكورة كون المتحدث عنه من أهل النار، وقد عرفت الإشارة قبل قليل أن ذلك يرجع إلى كونه يفتقر إلى التوحيد والإيمان برسالة النبي الأكرم محمد(ص)، كما لا يخفى.

القبول بالحديث:

ولا يخفى أن القبول بأية حديث مروي عن النبي(ص)، أو عن أحد المعصومين(ع) رهين توفر أصالات ثلاث، متى كانت متوفرة كان ذلك موجباً للاستناد لذلك الحديث وإلا فلا، والأصالات الثلاث هي:

1-أصالة الصدور.

2-أصالة الظهور.

3-أصالة الجهة.

وقد سبق منا في بحوث مضت التعرض وبصورة مفصلة لشرح هذه المصطلحات الثلاثة، وهذا يغنينا عن التعرض لبيان ذلك مرة أخرى، وبالتالي تكون الكبرى واضحة فيصرف عنان الحديث للصغرى، ونعني بها ملاحظة مدى توفر الأصالات الثلاث في المقام من عدمه، فنقول:

لا إشكال ولا ريب في وجود الأصالة الثالثة، أعني أصالة الجد والجهة، فلا يتصور أنه(ص) كان يتحدث بصورة المزاح أو الهزل، كما أنه لا موجب لحمل ما صدر منه(ص) على التقية، خصوصاً على المسلك القائل بأن التقية قانون عقلائي، يلجأ إليه عند وجود داعٍ عقلائي لذلك، إذ لا يوجد من يقرر العقلاء لزوم الاتقاء منه، وبالتالي لا موجب للتأمل في تحقق أصالة الجد والجهة في المقام.

ومثل ذلك يجري في شأن أصالة الظهور، إذ قد عرفت من خلال ما تقدم تمامية دلالة النصوص المذكورة على المدعى، وأن المستفاد منها أن أبا طالب(ع) من أهل النار، عمدة ما كان تضمن بعضها أنه(ص) قد تشفع فيه، فكان موجب تلك الشفاعة أن قد خفف عليه العذاب في النار ليس إلا، بل جاء في بعضها أنه(ص) يرجو له الشفاعة، لا أنه قد تشفع فيه فعلاً، فلاحظ.

وبالجملة، لا مجال للتأمل في توفر أصالة الظهور في المقام، وتماميتها، فلاحظ وتدبر.

يبقى الكلام في توفر أصالة الصدور، فهل يحرز أن النصوص المذكورة صادرة عن النبي(ص) أم لا؟…

أصالة الصدور:

كي يتسنى لنا الحكم بذلك، نحتاج إلى نقد الحديث المذكور من ناحيتين:

الأولى: الناحية السندية.

الثانية: الناحية المتنية.

وهذا يعني أن البناء على الجزم بصدور أي حديث من الأحاديث والحكم بكون أصالة الصدور متوفرة فيه يتوقف على سلامته من النقد السندي والنقد المتني، فما لم يسلم من ذلك، كان ذلك داعياً إلى إسقاطه عن الحجية ورفع اليد عنه، وذلك لأن أصالة الصدور التي تعتبر شرطاً رئيسياً في البناء على الحديث غير متوفرة فيه.

نقد الحديث سنداً:

أما بالنسبة للنقد السندي للحديث، فبداية يلحظ أن أغلب روايات حديث الضحضاح تعود إلى المغيرة بن شعبة، ولعمري أن هذا أوضح نصباً وحقداً وعداوة لأمير المؤمنين(ع)، وكل من انتسب إليه، ويكفيه أن يمتلئ قلبه حسداً وحقداً على أمير المؤمنين(ع) يوم أشار أمير المؤمنين(ع) مجابهاً الرجل الذي درأ عنه الحد بأنه إن سمع مقالة أبي بكرة مرة أخرى، فإنه سوف يقيم الحدّ على المغيرة في القصة المشهورة، ومن الطبيعي أن المغيرة عندما يسمع هذا الكلام من أمير المؤمنين(ع)، وبمحضر جمع من المسلمين والصحابة، يدعوه ذلك لأن يزداد حقداً إلى حقده على أمير المؤمنين(ع) فيبحث عن أي مثلبة يمكنه أن يسوء علياً(ع) من خلالها، وبأي وسيلة وطريقة، كما لا يخفى.

وعلى أي حال، لو رفعنا اليد عن المغيرة، ولم نطل الحديث والبحث في شأنه، فإننا نجد الحديث أيضاً لا يصمد من الناحية السندية، ضرورة أنه قد أشتمل على مجموعة من الرواة، الذين منع رجاليو العامة قبول روايتهم، قبل أن يتحدث في شأنهم أحد من الشيعة أصلاً:

فمنهم: سفيان بن سعيد الثوري، وقد ذكره الذهبي في ميزان الاعتدال، وقال عنه بأنه من المدلسين، قال: كان يدلس عن الضعفاء[1]. وتعبيره عنه بالمدلس يشير إلى أن المذكور يروي عن الضعفاء، أو عن المجهولين، ومقتضى ذلك عدم صلوح مروياته للاستناد إليها، إذ أنها سوف تكون ضعيفة غير محرز صدورها، لاشتمالها على الضعفاء، أو اشتمالها على المجهولين.

ومنهم: عبد الملك بن عمير، ذكره الذهبي في الميزان، وأشار إلى أنه قد طال عمره وساء حفظه، قال: طال عمره وساء حفظه[2]. وقال أبو حاتم: ليس بحافظ، تغير حفظه. وقال أحمد: ضعيف يغلط. وقال يحيى ابن معين: مخلط. وقال ابن خراش: كان شعبة لا يرضاه، وذكر الكوسج عن أحمد بن حنبل: أنه ضعيف جداً.

والمستفاد من كلمات من حكينا قوله من الرجاليـين، امتلاك المذكور جملة من الصفات، وجود واحدة منها كافٍ لرفع اليد عما يرويه، فكيف مع اجتماعها كلها فيه، وتلك الصفات:

1-أنه سيء الحفظ.

2-كونه ضعيفاً.

3-أنه كثير الغلط.

4-كونه مخلطاً.

ومنهم: عبد العزيز بن محمد الراوردي، وقد تضمنت كلمات الرجاليـين في شأنه وصفه بالنسيان، وقلة الحفظ، ومن الطبيعي أن هذا يمنع من الاستناد لما يرويه، فقد ذكره أحمد بن حنبل وقال عنه: إذا حدّث من حفظه جاء بأباطيل. وقال أبو حاتم عن أحاديثه بأنه لا يحتج بها، وقال أبو زرعة: سيء الحفظ,

وهذا أيضاً لا يختلف حالاً عن سابقه، ضرورة أنه وسم بسمات وصفات ثلاث، يكفي لرد مرويات الراوي وجود واحدة منها، وتلك السمات هي:

1-أن أحاديثه المحفوظة مشتملة على الأباطيل.

2-أن أحاديثه لا يحتج بها، وما هذا إلا لكونها ضعيفة، وفقاً للدلالة الالتـزامية.

3-أنه سيء الحفظ.

وما يدرينا لعل حديث الضحضاح مما قد رواه الدراوردي من محفوظاته، ولذا كان مشتملاً على الأباطيل.

والمتحصل من خلال الجولة السندية السريعة أن حديث الضحضاح ساقط من حيث السند وفقاً لكلمات الرجاليـين من أبناء العامة،فتدبر.

هذا وقد يقال: إن حديث الضحضاح قد وقع في الصحيحين، وهذا يعني أنه معتبر وذلك لشهادة مؤلفي الصحيحين بصحة واعتبار كل ما وقع فيهما، كما يشهد جملة من علمائكم، كعلي بن إبراهيم القمي(ره) بصحة جميع ما وقع في كتابه، وقد تقرر عندكم أن ذلك يفيد توثيقاً منه لجميع من وقع في أسناد كتابه، وهذا بنفسه يجري في المقام، فيقال أن هذا توثيق من مؤلفي الصحيحين لمن وقع في أسناد كتابيهما.

قلنا: بأن ما ذكر صحيح من أن جملة من علمائنا قد صححوا مرويات كتبهم، ودل ذلك على توثيقهم لجميع من وقع في أسناد تلك الكتب، ككتاب تفسير القمي، إلا أن هذا إنما يتم ما لم يكن هناك تضعيف للرواة، وإلا فلابد من إعمال قواعد المعارضة بين التوثيق والجرح، وعندها يلحظ أيهما المقدم، خصوصاً مع التوجه إلى أن التوثيق عام وهو ظاهر، بينما الجرح خاص، ونص، فلا يبعد البناء على تقديمه، وهذا بنفسه يجري في المقام، فلا ينفع وجود الحديث في الصحيحين للبناء على صحته واعتباره على أساس أن هناك تضعيفاً للرواة، فلاحظ.

هذا ولو لم يقبل بما ذكرنا، وحكم بكون الحديث صحيحاً لكونه أحد مرويات الصحيحين، فإنه يلزم أن يسلم الحديث المذكور من النقد المتني حتى يصح الاستناد إليه، وإلا فلا.

نقد الحديث متناً:

ونقصد بنقد الحديث متناً هو دراسة المضمون الذي تضمنه الحديث وأشتمل عليه، وذلك بعرضه على القاعدة العقلائية، والقاعدة الشرعية، فإن لم يخالفهما بأن كان ما تضمنه الحديث موافقاً القاعدتين المذكورتين، أمكن البناء عليه والاستناد له بعد تماميته سنداً، وإلا كان ذلك موجباً من المنع عن قبوله، والبناء على كونه غير صادر عن المعصوم(ع).

وعلى أي حال، سوف نطبق ما ذكر على الحديث محل البحث، وهذا يعني أننا سنعرض حديث الضحضاح على القاعدة العقلائية، وكذا على القاعدة الشرعية، فإن لم يخالفهما، كان ذلك موجبا لإحراز أول الطريقين للبناء على صدوره عن المعصوم(ع)[3].

القاعدة العقلائية:

إن القبول بخبر من الأخبار عند العقلاء مشروط أن لا يكون مخالفاً لجملة من الأمور، بحيث لو كان مخالفاً لواحد منها أوجب ذلك رفضه ورده من قبلهم، وسوف نشير لتلك الأمور بصور سريعة:

منها: أن لا تكون الرواية المنقولة مشتملة على ما يكون منافياً لما ثبت أنه معلوم ومتيقن من الدين.

ومنها: أن لا تكون الرواية مشتملة على ما ثبت خلافه من الناحية التاريخية.

ومنها: أن لا تتنافى الرواية مع حقيقة من الحقائق الكونية، والقوانين العلمية، والبديهيات العقلية.

ومنها: أن لا تكون الرواية منافية لما هو الثابت بالحس والتجربة.

ومن الواضح أن كل واحد من هذه الأمور يحتاج بياناً، لكننا نعرض عن ذلك رغبة في عدم الإطالة، ونركز على ما يكون مرتبطاً بمحل بحثنا، فنقول:

إن حديث الضحضاح ينافي ما هو معلوم ومتيقن من الدين، وذلك لأن من الأمور الثابتة عندنا في الشريعة السمحاء، أنه لا تقرّ مسلمة تحت كافر، وقد ثبت أن النبي محمد(ص)، قد فرق بين المسلمات وبين أزواجهن الكفار، كما جرى ذلك في شأن ابنته زينب، وكذا في ابنتيه الأخريـين من ولدي أبي لهب، وهذا كان في مكة، وقبل الهجرة، ولا يختلف اثنان في أن مولاتنا فاطمة بنت أسد(ع)، كانت مؤمنة وموحدة، ولم يتحدث أحد في عدم إيمانها، وقد أبقاها النبي(ص) تحت أبي طالب، مع أن أبا طالب كان كافراً بحسب دعوى الخصم، فإما أن يكون رسول الله(ص) محابياً لأبي طالب، أو يكون أبو طالب مسلماً، والأول باطل بالضرورة فيثبت الثاني، وهو المطلوب.

لا يقال: لعل فاطمة بنت أسد أسلمت بعد وفاة أبي طالب؟

فإنه يقال: إن المستفاد من كتب التأريخ، وكلماتهم أنها كانت من أول النساء المسلمات، وفي حياة أبي طالب(ع)، وقبل وفاته، فلاحظ.

كما أن الحديث يضمن مخالفة لما هو الثابت تاريخيا، وقد سبقت منا الإشارة له، وأن أبا طالب كان على طريق التوحيد تبعاً لأبيه عبد المطلب، فكيف يقال بأنه في ضحضاح من نار.

والحاصل، إن هذين الركنين من القاعدة العقلائية يوجبان إسقاط الحديث عن الحجية، وذلك لأن متنه تضمن ما لا يمكن الالتـزام به، ويأبى العقلاء القبول به.

القاعدة الشرعية:

ونعني بالقاعدة الشرعية أن تعرض الرواية على الآيات الشريفة المباركة، والنصوص المعصومية المقطوع بصدورها، فإن كان الخبر مخالفاً للآيات الشريفة، أو النصوص المباركة، أوجب ذلك رده، ورفع اليد عنه، وإلا فلا.

وعند عرض حديث الضحضاح على الآيات القرآنية، نجد أنه يتنافى وما جاء في القرآن، إذ أنه يتعارض مع جملة من الآيات:

منها: قوله تعالى:- (إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين*خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون)[4]، وقد تضمن أن الذين ماتوا وهم كافر، يجازون أموراً ثلاثة:

1-تصيبهم لعنة الله سبحانه، ولعنة الملائكة، ولعنة الناس أجمعين.

2-أنهم خالدون في النار.

3-أنه لا يخفف عنهم عذاب النار، ولا هم ينظرون.

فكيف يقرر حديث الضحضاح أن أبا طالب يخفف عنه العذاب ويجعل في ضحضاح، فتدبر.

ومنها: قوله تعالى:- (ونسوق المجرمين إلى جهنم ورداً* لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهداً)[5]. وهي تدل على أن المساقين إلى نار جهنم لا يملكون الشفاعة أصلاً.

ومنها: قوله تعالى:- (وقال الذين في النار لخزنة جهنم ادعوا ربكم يخفف عنا يوماً من العذاب* قالوا أو لم تك تأتيكم رسلكم بالبينات قالوا بلى فادعوا وما دعاء الكافرين إلا في ضلال)[6]، وهي ظاهرة في أن الداخلين إلى النار يستغيثون، إلا أنهم لا يغاثون، فهاهم يطلبون من خزنة النار أن يسألوا الله سبحانه وتعالى أن يخفف عنهم، إلا أن الجواب يأتي بعدم القبول بمثل هذا الأمر، وما ذاك إلا لأنهم قد فرطوا وقت ما خوطبوا بالاستجابة لأوامر الله سبحانه، وبالتالي كانت نتيجة ذلك وجودهم حيث هم.

ويمكننا أن نذكر آيات أخرى تصب في نفس المجال، وتدل على المدعى أيضاً، نعرض عنها طلباً للاختصار. والحاصل،إن الآيات الشريفة تفيد أن الداخلين إلى النار لا ينالهم تخفيف، ولا يحصلون على شفاعة، وهذا يتناقص وما جاء في حديث الضحضاح، إذ أنه يقرر-عدا خبر أبي سعيد-أن أبا طالب قد شفع له مع أنه من أهل النار، وقد تقرر أن كل ما خالف كتاب الله سبحانه وتعالى، زخرف، واضرب به عرض الجدار، وهذا يعني أنه لا يصح نسبته للمعصوم(ع)، فيكون ساقطاً عن الحجية والاعتبار، لمخالفته للكتاب، فلاحظ.

كما أن هذا الحديث يتنافى مع السنة الثابتة، والمحرز صدورها عن المعصوم(ع)، ذلك لأن موضوع حديث الضحضاح هو تحقق الشفاعة لرجل من الكفار، بينما المستفاد من النصوص أن الشفاعة لا تنال هؤلاء، فقد روى أبو هريرة عن النبي(ص) أنه قال: شفاعتي لمن شهد أن لا إله إلا الله مخلصاً، وأن محمداً رسول الله(ص)، يصدق لسانه قلبه، وقلبه لسانه.

ودلالة الحديث في ما قلنا واضحة جداً، إذ يستفاد منه أن الشفاعة مختصة بالمسلمين، فلا تنال الكفار، كما لا يخفى.

وكذا روى أبو ذر(رض) عن النبي(ص) أنه قال: أعطيت الشفاعة وهي نائلة من أمتي من لا يشرك بالله شيئاً. وهو لا يقصر في الدلالة عن المدعى عن سابقه، وبالتالي يكون منافياً لحديث الضحضاح، ولما كانت هذه النصوص قطعية الصدور، وحديث الضحضاح ظني، فلا ريب يقدم القطعي على الظني، فيسقط حديث الضحضاح عن الحجية والاعتبار.

فتحصل إلى هنا أن حديث الضحضاح لم يصمد أمام النقد السندي، ولا النقدي المتني، وبالتالي لا تحرز فيه أصالة الصدور، التي عرفنا أنها واحدة من أصالات ثلاث معتبر توفرها للبناء على حجية خبر ما، ومقتضى فقدانه واحدة منها، يعني عدم صحة الاستناد إليه، والاستدلال به، وبالتالي تكون حجة القائلين بكفر سيدنا أبي طالب(ع) مدفوعة، لعدم وجود ما يصلح للدليلية على ذلك.

نسأل الله سبحانه وتعالى أن يحشرنا في زمرة أبي طالب(ع)، وآله الطاهرين(ع)، وأن يشفعه فينا إنه سميع مجيب.

——————————————————————————–

[1] ميزان الاعتدال ج 2 ص 169.

[2] المصدر السابق.

[3] قد عرفت أن الطريق الثاني، هو سلامة الحديث من الناحية السندية، والذي عبرنا عنه بالنقد السندي، وقد عرفت فيما تقدم عدم توفر هذا الطريق، وإنما عمدنا إلى دراسة الحديث من الناحية المتنية ونقده جرياً مع القوم، بناءً على أن جميع ما جاء في الصحيحين صحيح عندهم، فلا تغفل.

[4] سورة البقرة الآيتان رقم 161-162.

[5] سورة مريم الآيتان رقم 86-87.

[6] سورة غافر الآيتان رقم 49-50.

تعليقات الفيسبوك

التعليقات مغلقة