لقد كانت بداية نزول القران الكريم متزامنة مع بعثة النبي الأكرم محمد(ص)، بنـزول الأمين جبرائيل(ع) عليه بأول سور القرآن، وهي سورة أقرأ، حيث قال تعال:- (اقرأ باسم ربك الذي خلق* خلق الإنسان من علق)[1]، وهذا يوجد في الأذهان تساؤل، مفاده: ما هو الهدف من نزول القرآن الكريم، خصوصاً في هذا الوقت؟
فلو جعل الهدف من نزوله في هذه المرحلة لأنه يمثل معجزة النبي(ص) الخالدة، لم يكفي ذلك جواباً، لأن الحاجة إليه متوقفة على مباشرة النبي(ص) للقيام بمهام الدعوة، وحصول بدء التكذيب من قبل المكيـين، أو مطالبتهم إياه بما يثبت صدق دعوته، وتحديهم لهم(ص).
وعليه، فنـزول القرآن الكريم مع أول إرسال النبي(ص) لابد وأنه يكشف عن وجود هدف آخر أراده الباري سبحانه وتعالى، عندما أنزله على النبي(ص) خلال هذه المرحلة.
ثمرة تحديد هدف نـزوله:
ربما يتصور، أنه لا يترتب على الحديث عن تحديد الهدف من نزول القرآن أي ثمرة عملية، وأن ذلك لا يخرج عن كونه بحثاً فكرياً، أو ثقافياً بحتاً، فلا ينبغي أن تصرف الجهود والطاقات فيه، بل يلزم صرفها في ما يكون أولى من ذلك.
وليس الأمر كما تصور، بل هناك العديد من الثمرات والآثار المترتبة على تحديد الهدف من نزول القرآن الكريم، نشير إلى بعضها:
منها: مساعدة تحديد الهدف في فهم النصوص القرآنية:
إن للإحاطة بالهدف الذي نزل من أجله القرآن الكريم، مدخلية في القدرة على فهم النص القرآني، وإمكانية الوصول إلى تحديد المقصود منه، ذلك أن ظاهر بعض الآيات القرآنية قد يفيد معنى يوجب توقف القارئ ظناً منه عدم توفر ذلك الظهور المستفاد من النص، إلا أنه وبالإحاطة بهدف نزول القرآن الكريم، يتغير الأمر تماماً، فمثلاً عندما يقرأ قوله تعالى:- (ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء)[2]، فإن التعبير بكلمة(كل) يفيد العموم، وهذا يعني اشتمال القرآن الكريم على كل شيء من دون استثناء، سواء ما كان مرتبطاً بالعلوم الدنيوية، أم الأمور الأخروية. لكننا عندما نقرأ الآيات الشريفة، لا نجدها تشتمل على شيء من العلوم الطبية، كما لا ترى فيه شيئاً عن الفيزياء، ولا العلوم الطبيعية، كما أن العلوم الإنسانية، من التأريخ، والاجتماع وتأريخ الإنسان لا توجد ضمن آياته المباركة، وعليه كيف نفهم هذا النص القرآني الذي تضمن سعة مطلقة وإخباراً لشمولية القرآن الكريم لكل شيء من جهة، وعدم توفرها فيه من جهة أخرى؟!
وما أوجب وجود هذا اللبس تفسير الآية بعيداً عن هدف النـزول، اعتماداً على وجود كلمة(كل)، وهي تفيد العموم، ليكون مفادها أن كل شيء موجود في القرآن الكريم.
ولا يخفى أن تفسير الآية المباركة سوف يختلف تماماً عندما يحاط بالهدف من نزوله، فإن أداة العموم سوف تبقى على حالها، لكن سوف يكون المقصود منها الشمولية لتحقيق الهدف الذي نزل القرآن الكريم من أجله، فيكون مفادها أنه مشتمل على بيان كل ما يكون موجباً لتحقيق هدفه، فلاحظ.
وبكلمة أخرى، إن ما أوجب اللبس المذكور، هو تفسير الآية المذكورة بعيداً عن هدف نزول القرآن الكريم، وأخذها على نحو الاستقلال، بينما اللازم هو تفسيرها في إطار الهدف من نزول القرآن الكريم.
فلو كان الهدف من نزوله هو الوصول بالفرد والمجتمع إلى حالة التكامل والرقي، فسوف يكون المقصود من(كل شيء) هو كل الأمور اللازمة للوصول إلى طريق التكامل، لأن القرآن دعوة حق لبناء الإنسان[3].
ولا ينحصر الأمر في خصوص هذه الآية الشريفة، بل هناك العديد من الآيات المباركة، يجري فيها ما ذكر، فلاحظ[4].
ومنها: مساعدة تحديد الهدف على تفسير الكثير من الظواهر القرآنية التي وصف بها:
من المعلوم اشتمال القرآن الكريم على مجموعة من الظواهر التي تحتاج بياناً وتفسيراً، نشير إلى بعض منها:
منها: ظاهرة تعدد النـزول، ذلك أن المستفاد من عدة آيات وجود نزولين له، أحدهما نزول دفعي، كان في ليلة القدر، والآخر تدريجي، كان مدة نبوته، وهي ثلاث وعشرون سنة، فلماذا وجد هذان النـزولان، ولم يكتف بنـزول واحد، ما هي الأسباب التي أوجبت حصولهما.
ومنها: تعرضه لمجموعة من القضايا الشخصية المرتبطة بالنبي الأكرم محمد(ص)، مثل قضية يتمه(ص)، قال تعالى:- (ووجدك يتيماً فآوى)[5]، أو قضية زواجه من زينب بنت جحش، قال تعالى:- (فلما قضى زيد منها وطراً زوجناكها)[6].
ومنها: قضية بشريته(ص)، قال سبحانه:- (قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد)[7]
فإذا كان القرآن الكريم ليس كتاب تأريخ وتدوين لأحداث شخصية، فلماذا يتعرض لمثل هذه القضايا الشخصية، ويعمد إلى إثباتها، ما هي الأسباب التي توجب ذكرها، والتعرض إليها؟!
ومنها: اشتماله على الحديث عن مجموعة من العادات والتقاليد التي كانت موجودة في العصر الجاهلي الذي بعث فيه النبي(ص)، مثل قضية وأد البنات، وشرب الخمر، والميسر، وما شابه.
مع أنها كانت جزئية ومحدودة في خصوص المجتمع الجاهلي الذي بعث فيه المصطفى(ص)، وقد لا تكون هذه الثقافة موجودة في غيره من المجتمعات، فلم يحدّث المؤرخون عن وجود عادة وأد البنات في المجتمع الروماني، ولا في الخضارة الفارسية، ولا في بلاد الشام، أو اليمن، وهكذا.
ولا يخفى عدم حصر الظواهر التي تضمنتها الآيات الشريفة في خصوص ما ذكرنا، بل قد يجد القارئ العزيز غيرها، مثل عدم تضمن القرآن الكريم للحديث عن أنبياء خارج إطار بلاد الشرق الأوسط، وكأنه لا يوجد بشر إلا في خصوص هذه المناطق، أو أن سكان تلك المناطق ليسوا مخاطبين ولا مكلفين.
وعلى أي حال، إن للإحاطة بالهدف الذي نزل القرآن الكريم من أجله، أبرز الأثر في تفسير كل ظاهرة من الظواهر التي تضمنتها الآيات الشريفة، فمثلاً سوف يبرز المقصود من ذكر القصة في القرآن الكريم متى علم الهدف من نزوله، بل إن الاختلاف في تحديد الهدف من نزوله، يوجب تعدد السبب الذي ذكرت القصة من أجله، فلو كان الهدف من نزوله أنه معجزة النبي(ص)، وجعل عنوان إعجازه في بلاغته، فسوف يكون ذكرها بهذا الأسلوب من السبك والتبويب من دون تكرار أو إخلال، ولا خروج عن الهدف، مفسراً لظاهرة ذكرها، فضلاً عن تكرر بعض فصولها. وهذا بخلاف ما لو كان الهدف من نزله هو البعد التربوي المراد تحصيله من خلاله، فسوف يكون لذكرها بكافة فصولها جوانب تربوية يتحصل عليها من كل فصل من فصولها، وهكذا.
وهذا يؤكد ما أشرنا إليه من أن الإحاطة بهدف نزول القرآن له أبرز الأثر في علاج الظواهر التي وصف القرآن بها، وتضمنتها آياته، فلاحظ[8].
ومنها: مساعدة تحديد الهدف على تحديد مكانة القرآن الكريم عند المسلمين:
مع أن المسلمين متفقون على قدسية القرآن الكريم، لأنه وحي نزل به الأمين جبرائيل(ع) على قلب النبي(ص)، وأن له مكانة خاصة عندهم، إلا أننا نجد تفاوتاً بينهم في كيفية التعامل معه، فيحصر بعضهم التعامل معه في دائرة ضيقة لا تخرج عن حد الاستفادة منه في الاستشفاء، أو حال الاستخارة، أو عند السفر، وعند فقد الأحبة. وفريق آخر وإن كان يتعامل معه في حدود دائرة أوسع من السابق، إلا أنه لا يخرج تعاطيه معه عن الجانب السطحي المتمثل في تلاوته فقط دون تدبر ولا تأمل في آياته، وقد يتطور فريق ثالث، لكن يكون اهتمامه به منحصراً على نواحي ثانوية، وليست أساسية، مثل عدد آياته، وأطول سوره، وكم مرة وردت هذه المفردة، أو تلك، وهكذا.
والعرض السابق يكشف عن حدود العلاقة الموجودة بين المسلمين والقرآن الكريم، كما أنه يكشف عن بعد التعامل وحدوده بينهم وبينه.
ونحن لا نمانع أن يستفاد من القرآن الكريم في حدود الفريق الأول كما أننا نشدّ على أيدي الفريق الثاني، ونقدر للفريق الثالث اهتمامه، إلا أننا نتساءل، هل أن الهدف الذي نزل القرآن من أجله على قلب النبي(ص) منحصر في هذه الأمور، أم أن هناك شيئاً آخر وراء ذلك؟!
لا ريب إن الإجابة على ذلك تعتمد على تحديد الهدف من نزول القرآن الكريم، وبالتالي متى أحرز ذلك الهدف، سوف يكون التعامل معه على وفق ذلك الهدف، فلو قرر أن الهدف من نزوله، ليكون العنصر الأساس في عملية تنظيم الحياة البشرية، فسوف يفضي إلى عدم استغناء الإنسان عنه أبداً لا في الليل ولا في النهار، ولا في السفر ولا الحضر، ولا في الرخاء، ولا الشدة، وهكذا.
بخلاف ما لو كان الهدف من نزوله هو مجرد كونه معجزة للنبي(ص)، فمن الطبيعي عندها أن يقلّ اهتمام المسلمين به، لتقريرهم استغنائهم عنه وفي الجملة، بعدما دخلوا في الإسلام، وقامت لديهم الحجة على ذلك.
والحاصل، إن لتحديد الهدف الذي نزل القرآن الكريم من أجله، أبلغ الأثر في تحديد العلاقة التي تكون بين المسلمين، وبين القرآن، ومقدار العلاقة والرابط الذي يكون بينهما، فلاحظ[9].
ومن الواضح أن درجة الاهتمام بالقرآن الكريم عند المسلمين سوف تختلف نتيجة اختلافهم في الهدف من نزوله، فإن القائلين بأن هدف نزوله يتمثل في بلاغته لأنه يمثل المعجزة المحمدية، فسوف ينصب اهتمامهم به على عملية حفظ النص القرآني وسلامة تركيبه.
وهذا بخلاف من يعتقد أنه يمثل السبيل للمعرفة البشرية، فإن الاهتمام سوف يتركز على استخراج ما يحويه من حقائق علمية وتاريخية، واجتماعية. أما لو كان الهدف من نزوله عندهم، هو تربية الإنسان المسلم، فإنه سوف يمثل الشعار الذي يدور المسلم في فلكه في جميع أوقاته، ويتمثله في جميع شؤون حياته[10].
[1] سورة العلق الآيتان رقم 1 و2.
[2] سورة النحل الآية رقم 89.
[3] الأمثل في تفسير القرآن المنـزل ج 8 ص 264.
[4] علوم القرآن ص 45، تفسير سورة الحمد ص 67.
[5] سورة الضحى الآية رقم 6.
[6] سورة الأحزاب الآية رقم 37.
[7] سورة الكهف الآية رقم 110.
[8] علوم القرآن ص 46، تفسير سورة الحمد ص 68(بتصرف).
[9] علوم القرآن ص 46.
[10] المصدر السابق(بتصرف).