الثالث: ما جاء في كلمات السيد البروجردي(قده)، من مخالفة جميع فرق المسلمين للشيعة الإمامية في هذه المسألة فتوى وعملاً، فليس بينهم ذكر للحمرة أصلاً، بل هم في عملهم يصلون بمجرد استتار القرص، ومع كون فتوى مشهور الإمامية على خلاف أخبار ذهاب دخول وقت المغرب بمجرد استتار القرص، واعتبارهم ذهاب الحمرة المشرقية، لا ينبغي للعاقل الارتياب في أن اختصاصهم من بين الفرق الإسلامية بذلك إنما هو لاعتقادهم بحجة أخرى، وهي فتوى أئمتهم(ع)، ومع اشتمال المجاميع الحديثية المعدة لنقل المأثور عن الأئمة(ع) على الأخبار الدالة على الاعتبار، إنما هو بزوال الحمرة يحصل القطع بأن هذا المعنى قد ألقي إليهم من ناحية أئمتهم(ع)، فيجب حينئذٍ طرح ما كان مخالفاً من الأخبار، لأجل صدورها تقية، وعدم ورودها لبيان الحكم الواقعي[1].
وأجيب عنه: بأنه لم يقم دليل على استناد فتوى المشهور إلى كاشف قطعي خاص عن الحكم الواقعي، وإنما تستند على الأرجح إلى اجتهادهم في المسألة، وهو ما لا يصلح لطرح الأخبار المخالفة. كما أن اختصاص المشهور بفتواهم لا يعني اختصاص الإمامية بها من بين الفرق الإسلامية، لمخالفة جملة من فقهاء الإمامية في الفتوى وبنائهم على خلاف المشهور وموافقة الفرق الإسلامية في هذه المسألة، من يعدّ من الرعيل الأول[2].
بل قد عرفت في الحديث عن تأريخ المسألة أن القول باعتبار ذهاب الحمرة المشرقية في تحقق الغروب إنما ذكر في زمان المتأخرين من أصحابنا، إذ لم يكن معروفاً القول به بين قدمائهم، فلاحظ.
الرابع: إن لسان بعض نصوص الطائفة الأولى يشهد بالتقية، ولما لم يكن هناك مجال للتفكيك بينها وبين نظائرها، لوضوح أنه لو دل خبر منها على أن الحكم المتضمن له ليس الحكم الواقعي، فلا مجال لحمل بقية الأخبار المناظرة في المضمون على بيان الحكم الواقعي، وعليه لابد من إسقاط هذه الأخبار جميعاً، وحملها على التقية.
والإنصاف، عدم وجود نص من نصوص الطائفة الأولى لسانه يشهد بالتقية، ليكون دالاً على خلاف الحكم الواقعي، نعم ربما أدعي ذلك في مرسل بن الحكم[3]، لكن التأمل في دلالته يوحي بخلاف ذلك تماماً، بل إن بين نصوص الطائفة الأولى ما يتنافى والتقية، فلاحظ معتبرة صفوان بن مهران[4]، لسؤال السائل عن تأخير صلاة المغرب لعذر، فيجيبه الإمام(ع) بقوله: إذا غاب القرص فصل المغرب، فإنما أنت ومالك لله، فلو لم يكن غياب القرص وقتاً لصلاة المغرب،
لم يكن هناك داعٍ للتنصيص عليه في النهي عن التأخير، مع أن الفرض أن هناك عذراً في التأخير. ومثل ذلك معتبرة ذريح عن أبي عبد الله(ع)، قال: أتى جبرائيل(ع) رسول الله(ص) فأعلمه مواقيت الصلاة، فقال: صل الفجر حين ينشق الفجر، وصل الأولى إذا زالت الشمس، وصل العصر بعيدها، وصل المغرب إذا سقط القرص، وصل العتمة إذا غاب الشفق[5]، لأنه لو لم يكن سقوط القرص وقتاً لصلاة المغرب، فلا وجه لبيانه أنه نزل به جبرائيل على رسول الله(ص). وكذا لاحظ معتبرة عبد الله بن زرارة عن أبي عبد الله(ع)، قال: سمعته يقول: صحبني رجل كان يمسي بالمغرب ويغلس بالفجر، وكنت أنا أصلي المغرب إذا غربت الشمس، وأصلي الفجر إذا استبان لي الفجر، فقال لي الرجل: ما يمنعك أن تصنع مثل ما أصنع؟ فإن الشمس تطلع على قوم قبلنا وتغرب عنا وهي طالعة على مرقد آخرين بعد، قال: فقلت: إنما علينا أن نصلي إذا وجبت الشمس عنا، وإذا طلع الفجر عندنا، ليس علينا إلا ذلك، وعلى أولئك أن يصلوا إذا غربت عنهم[6]، فقد تضمنت ردعه(ع) بعض أصحابه من تمسية المغرب، ويجيب على شبهته في التأخير.
ومن الواضح جداً أن هذا الذي ذكر لا يتناسب وكون الحكم الصادر صدر من أجل التقية، من دون فرق بين كون التقية في العمل، أو في الصدور، فلاحظ.
ثم إنه لما لم يقبل أي من الجموع العرفية التي ذكرت تصل النوبة إلى إعمال المرجحات، وقد ذكر قولان للترجيح:
الأول: البناء على تقديم الطائفة الثانية على الطائفة الأولى، الدالة على اعتبار ذهاب الحمرة المشرقية في دخول الوقت، وذلك لأن روايات كفاية غروب الشمس موافقة للعامة، فتكون محمولة على التقية.
ولا يخفى أن العمد إلى الترجيح بمخالفة العامة، يتوقف على الالتـزام بأمرين، أو بأحدهما:
الأول: أن يبنى على أن أول المرجحات هو موافقة الكتاب، ويحكم بعدم ثبوت موافقة من إحدى الطائفتين له.
الثاني: أن يبنى على أن أول المرجحات هو مخالفة العامة.
والثاني، وإن كان قد بنى عليه البعض، إلا أن التحقيق على كون أول المرجحات هو موافقة الكتاب، كما يستفاد ذلك من نصوص الترجيح، وعليه لما كانت نصوص الطائفة الأولى موافقة للكتاب، لما عرفت من تمامية دلالة قوله تعالى:- (أقم الصلاة طرفي النهار)، فسوف يكون التقديم لها، ولا تصل النوبة للترجيح بمخالفة العامة، فلاحظ.
هذا ولو لم يقبل بما ذكر، للمناقشة في دلالة الآية الشريفة على المدعى، ضرورة أنك قد عرفت عند تقريب دلالتها توقفها على تمامية مقدمات، غير متفق عليها جميعاً، بل تضمن مخالفة بعضهم في بعضها، وعليه فقد يمنع من دلالتها على المدعى، وبالتالي لا يكون في المقام موافقاً كتابياً، فيعمد إلى المرجح الثاني، وهو مخالفة العامة، فيوجب ذلك رفع اليد عن نصوص الطائفة الأولى لما عرفت من موافقتها لما عليه العامة.
لكنك قد عرفت قبل قليل أن بين نصوص الطائفة الأولى ما يأبى أن يكون صدوره تقية، مما يمنع من الترجيح بمخالفة العامة، لأنه يعتبر في الترجيح بها أن يكون الخبر قابلاً للحمل على التقية.
ولذا لو لم يكن في المقام من الكتاب ما يصلح للترجيح به، وكانت النصوص آبية عن الحمل على التقية، فلا مناص من اللجوء للتساقط، ويكون المرجع عندها هو الأصل العملي، وهو قاض بالعمل على وفق الطائفة الأولى القاضية بعدم شرطية التأخير لذهاب الحمرة المشرقية، فلاحظ.
الثاني: الالتزام بتقديم نصوص الطائفة الثانية على نصوص الطائفة الأولى، استناداً لما جاء في المقبولة من التقديم وفقاً للشهرة، وقد عرفت عند استعراض أقوال المسألة أن الشهرة للقول بذهاب الحمرة، وأن الغروب لا يتحقق قبل ذلك.
وهذا الوجه يعتمد على إحراز دلالة مقبولة بن حنظلة على أن المقصود من الشهرة الموجودة فيها هي الشهرة الفتوائية، كما أحتمله جملة من الأعلام، أما بناءً على ما هو الصحيح من كون الشهرة الواردة في المقبولة هي الشهرة الروائية، وليست الشهرة في الفتوى، فلا مجال لهذا الوجه كما هو واضح. مع أنك قد عرفت أن القول بتحقق الغروب بمجرد سقوط القرص، هو الأشهر بين الأصحاب، بل قد تكرر منا في ما مضى أن القول بذلك هو المتعين بين قدماء الأصحاب، كما لا يخفى.
هذا وقد ذكر صاحب الوسائل(ره) وجوهاً توجب تقديم نصوص الطائفة الثانية على الأولى:
منها: كون ذلك أقرب إلى الاحتياط للدين في الصلاة والصوم.
ولا يخفى عدم صلوحه لإثبات المدعى، ضرورة أن كون الشيء موافقاً للاحتياط لا يستدعي الوجوب، فلو قام الدليل المعتبر على بيان الحكم الواقعي كان الاحتياط حسناً فقط، لا أنه يكون لازماً، والمفروض تمامية نصوص الطائفة الأولى على المدعى، فلو تم لكان الاحتياط حسناً فقط.
ومنها: إن العمل على وفق نصوص الطائفة الثانية، يتضمن جمعاً بين الأدلة، والعمل بجميع الأحاديث من دون طرح شيء منها.
وهو غير صحيح، لأن مقتضى العمل بنصوص الطائفة الثانية يستوجب طرح نصوص الطائفة الأولى.
ومنها: إن العمل بهذه الطائفة يتضمن حملاً للمجمل على المبين، والمطلق على المقيد.
وقد عرفت فيما تقدم، عدم إجمال نصوص الطائفة الأولى، وأن دلالتها مبينة.
ومنها: إن نصوص الطائفة الأولى يحتمل فيها التقية، والموافقة للعامة.
وقد عرفت جوابه فيما تقدم، فلا نعيد.
ومنها: إن نصوص الطائفة الأولى يحتمل النسخ فيها، ولا يحتمل ذلك في نصوص الطائفة الثانية.
وجوابه، إن القول بثبوت النسخ في البين عهدته على مدعيه.
ومنها: إن نصوص الطائفة الثانية أشهر فتوى بين الأصحاب.
وفيه: قد عرفت حال ذلك، فلا حاجة للإعادة.
ومنها: إن نصوص الطائفة الثانية أوضح دلالة من نصوص الطائفة الأولى، فإنها لم تشتمل على التصريح باشتراط ذهاب الحمرة، بخلاف نصوص الطائفة الثانية، وهذا يستوجب أن تكون أوضح دلالة وأبعد عن التأويل[7].
وفيه: إن دلالة نصوص الطائفة الأولى لا تقصر وضوحاً عن دلالتها، لو لم تكن أوضح وأصرح منها، إذ يحتمل أن موجب التأخير فيها لذهاب الحمرة كان من أجل إحراز تحقق الغروب عند الشك في حصول استتار القرص، فلاحظ.
فتحصل إلى هنا أنه لا موجب لتقديم روايات ذهاب الحمرة، بل التقديم واضح في حق روايات الاستتار، وإن كان الاحتياط لا ينبغي تركه.
تنبيهان:
الأول: أختار بعض أساطين العصر المحققين(دامت أيام بركاته) رأياً في المقام، يتمثل في ناحيتين:
الأولى: ما إذا لم يكن في البين شك في تحقق الغروب، فقد ذكر أن الوظيفة حينئذٍ تارة تكون بلحاظ انتهاء وقت صلاتي الظهرين، وقد قرر أن وقتهما يستمر لحين دخول وقت صلاة المغرب، أو لحين تحقق الغروب، وعليه فقد ذكر أن مقتضى الاحتياط هو الالتـزام بعدم تأخير أداء الظهرين إلى سقوط القرص، ومع تأخيرهما إلى ذلك، فالاحتياط يستلزم الإتيان بهما لا بنية الأداء ولا بنية القضاء، كما أن الأحوط عدم تقديم أداء صلاة المغرب على زوال الحمرة المشرقية.
والوجه في ما ذكر واضح، فإن الظاهر أنه يبني على تحقق الغروب بمجرد سقوط القرص واستتاره عن الأفق، ولذا بنى على أن وقت صلاتي الظهرين ينتهي بذلك، لكنه احتاط في المسألة مراعاة لقول المشهور، أو الأشهر بعدم تحقق الغروب إلا بزوال الحمرة المشرقية، وبهذا يتضح الوجه في البناء على الإتيان بالصلاتين بعد سقوطه بنية الأعم من القضاء والأداء، وكذا يتضح الوجه في الاحتياط بتأخير أداء صلاة المغرب لحين ذهاب الحمرة المشرقية، فلاحظ.
الثانية: في حالة الشك في تحقق الغروب، للشك في تحقق استتار القرص واختفائه، فقد بنى على أن الغروب يعرف بذهاب الحمرة المشرقية، وكذا أيضاً في حالة احتمال اختفائه بالجبال، أو الأبنية، أو الأشجار أو نحوها. ولعل منشأ ذلك هو ما رواه عبد الله بن وضاح قال: كتبت إلى العبد الصالح(ع): يتوارى القرص ويقبل الليل ثم يزيد الليل ارتفاعاً، وتستتر عنا الشمس، وترتفع فوق الليل حمرة، ويؤذن المؤذنون، أفأصلي حينئذٍ وأفطر إن كنت صائماً؟ أو أنتظر حتى تذهب الحمرة التي فوق الجبل؟ فكتب إليّ: أرى لك أن تنتظر حتى تذهب الحمرة، وتأخذ بالحائطة لدينك[8].
وقد عرفت فيما تقدم وجود محتملين في دلالتها، فيحتمل كون السؤال عن الشبهة الحكمية، كما يحتمل أنه عن الشبهة الموضوعية، وقد ذكرنا أن الصحيح هو البناء على كون السؤال فيها عن الشبهة الموضوعية، لأن مفهوم الغروب كان واضحاً لدى السائل، وهو الغروب الشرعي الحاصل باستتار القرص وغيبوبته عن الأفق، إلا أنه يشك في تحققه وعدمه، لوجود مانع من إحراز ذلك يتمثل في حيلولة الجبل واحتمال كون القرص مستتراً خلفه، ولذا ذكر كاشفاً ظنياً عن عدم تحققه بصورة تامة وهو الحمرة المرتفعة فوق الجبل، ولذا كانت الإجابة منه(ع)بالانتظار احتياطاً استصحاباً لبقاء النهار، وعدم تحقق الاستتار، فيستفاد من ذلك أن ذهاب الحمرة المشرقية يجعل أمارة وكاشفاً عن تحقق الغروب واستتار القرص وغيبوبته عن الأفق في حالة الشك. ويساعد على ذلك أيضاً أن الظاهر كون الحمرة الواقعة فيها ليست الحمرة المشرقية، بل الظاهر أنها الحمرة المحاذية للقرص المرتفعة فوق الجبل الذي يكون في ناحية المغرب، الكاشفة عن عدم تحقق الاستتار.
إلا أن المشكلة في المكاتبة هو سندها، إذ اشتمل على سليمان بن داود المنقري، وقد ضعفه ابن الغضائري، كما نص على ذلك العلامة(ره) في القسم الثاني من الخلاصة، وابن داود، ووثقه النجاشي. وعندها يقع التعارض بين التوثيق والتضعيف، وما ينبغي ملاحظته، هو منشأ إعراض النجاشي عن تضعيف ابن الغضائري، وهل أن هذا الإعراض يوحي بأن التوثيق الصادر من النجاشي توثيق حدسي، وليس توثيقاً حسياً، بمعنى أن النجاشي قد عمد إلى إعمال خبرويته، ودراسة حال الراوي، فلم يجد فيه ما يريب، خصوصاً وأنه قد نص في ترجمته على أنه ليس بالمتحقق بنا، أم أن التضعيف الصادر من ابن الغضائري، تضعيف حدسي، وليس تضعيفاً حسياً؟… كلاهما محتمل، مع أن البناء على ذلك في شأن ابن الغضائري، بعيد، كونه أحد الأكابر المحكي عنهم التوثيق والتضعيف. مما يساعد على كون الحدسية في جهة النجاشي، وليس في جهته.
هذا وقد بنى بعض الأعاظم(ره) على وثاقة الرجل، لعدم مانعية ما حكاه العلامة، وابن داود، وجعل موجب عدم المانعية أمران:
الأول: إن كتاب الضعفاء الذي يعدّ مصدراً للتضعيف المذكور، لم تثبت نسبته إلى ابن الغضائري، وبالتالي لا يمكن التعويل على ما جاء فيه.
الثاني: بعد التسليم والبناء على كون كتاب الضعفاء هو كتاب ابن الغضائري، فإنه لم يعرف طريق العلامة(ره) للكتاب المذكور ،فلا يمكن الاعتماد عليه[9].
ولا يخفى عدم تمامية كلا الأمرين، ضرورة أن أولهما قد فصلنا الإجابة عنه في محله، وذكرنا صحة نسبة الكتاب إلى ابن الغضائري، فليراجع هناك. كما أن الثاني، يدفعه عدم الحاجة إلى الطريق، لكون الكتب من الكتب المعروفة والمشهورة المتداولة، وقد ألتـزم(قده) بمثل هذا في غير واحد من المصادر، كجامع البزنطي، فلاحظ.
اللهم إلا أن يكون نظره لما ذكره شيخ الطائفة(ره) في مقدمة الفهرست من وجود كتابين لابن الغضائري، وبالتالي يصعب تحديد الكتاب الذي حكى عنه العلامة(ره).
وبالجملة، إن رفع اليد عن التضعيف المحكي عن ابن الغضائري من الصعوبة بمكان، وبالتالي يصعب الالتـزام بتوثيق النجاشي، فلا مناص من التوقف، فضلاً عن الالتـزام بالتساقط، فتأمل جيداً.
وعلى أي حال، حتى مع البناء على عدم تمامية المكاتبة سنداً، إلا أن مضمونها على وفق القواعد العامة، فإن مقتضى الاستصحاب هو البناء على عدم تحقق دخول الليل عند الشك، فلا يسوغ للمصلي البناء على أداء صلاة المغرب إلا بعد إحراز دخوله، ومن أمارات الدخول هو ذهاب الحمرة.
هذا وقد يتصور أن هناك ما يعارض المكاتبة، وهو ما رواه سماعة بن مهران قال: قلت لأبي عبد الله(ع) في المغرب: إنا ربما صلينا ونحن نخاف أن تكون الشمس خلف الجبل، أو قد سترنا منها الجبل، قال: فقال: ليس عليك صعود الجبل[10]. بتقريب: لقد تضمن الخبر المذكور نهي الإمام(ع) عن الفحص والكشف في حالة تحقق الشك، فيثبت عدم لزومه، فلاحظ.
ولما كان الظهور الأولي منها ما ذكرنا، حملها غير واحد من الأصحاب كصاحب الحدائق(ره) على التقية[11]، لكونها مخالفة للقواعد، لأنه مع الشك في تحقق الغروب، ودخول وقت صلاة المغرب، فإن الاستصحاب يقضي بعدم تحققه، فلا يسوغ الإفطار، وأداء الصلاة.
والظاهر عدم معارضة الخبر المذكور للمكاتبة السابقة، كما أنه لا موجب لحملها على التقية، إذ لقائل أن يقول، بأن الموجب لنهيه(ع) سماعة من الصعود على الجبل يرجع إلى أنه قد دخل في الصلاة مستنداً إلى حجة وأمارة تفيد تحقق الغروب الشرعي المسوغ له الدخول في الصلاة، كذهاب الحمرة المشرقية، الملازم لغيبوبة القرص واستتاره، فداخله الشك أثناء الصلاة غفلة منه عن تلك الملازمة التي اعتمد عليها، فنهاه(ع) عن الصعود اعتماداً على تلك الأمارة.
إلا أن هذا المعنى لا يستقيم بلحاظ خبر أبي أسامة أو غيره، قال: صعدت مرة جبل أبي قبيس والناس يصلون المغرب فرأيت الشمس لم تغب إنما توارت خلف الجبل عن الناس، فلقيت أبا عبد الله(ع)، فأخبرته بذلك، فقال لي: ولم فعلت ذلك؟ بئس ما صنعت إنما تصليها إذا لم ترها خلف الجبل غابت أو غارت ما لم يتجللها سحاب أو ظلمة تظلها، وإنما عليك مشرقك ومغربك، وليس على الناس أن يبحثوا[12]. لدلالتها على تحقق الغروب بمجرد اختفاء قرص الشمس عن نظر الناظر وإن كان يعلم بمانعية الجبل من رؤيتها، وأنها موجودة خلفه، وهذا يمنع من حمل خبر سماعة على ما ذكرنا، فيكون مفاده المعارضة مع مكاتبة عبد بن وضاح.
إلا أن ما يهون الخطب، أن خبر أبي أسامة ضعيف سنداً، فإنه وإن روي بطريقين، أحدهما طريق الشيخ(ره)، وهو ضعيف بالإرسال، والثاني طريق الصدوق، وهو ضعيف بوجود أبي جميلة المفضل بن صالح، ومجرد رواية ابن أبي عمير عنه، لا تجدي في إثبات وثاقته لا منعاً للكبرى، وإنما لعدم توفر الشرط المعتبر في تحقق الوثاقة كما فصلناه في محله.
وبالجملة، فالخبر ساقط عن الحجية والاعتبار.
على أن نفس خبر سماعة محل تأمل، بل منع من الناحية السندية، فإنه قد أشتمل على أحمد بن هلال العبرتائي، وقد ورد فيه من الذموم ما يمنع من البناء على وثاقته.
ولو قيل، إن للخبر طريقاً آخر وهو طريق الصدوق، وليس فيه أحمد المذكور، قلنا، بأنه مشتمل على عثمان بن عيسى، وطريق توثيقه منحصر بوقوعه في أسناد كامل الزيارات بناءً على تمامية الكبرى المذكورة، وقد عرفت في محله منعها، فلاحظ.
والمتحصل مما تقدم، أنه وإن لم تكن المكاتبة معتبرة سنداً، إلا أن الحكم الذي أفاده بعض أساطين العصر من المحققين(أطال الله بقائه) على وفق القواعد استناداً لاستصحاب بقاء النهار، وعدم جواز الإتيان بما علق على دخول الليل إلا بعد إحرازه، وطريق الإحراز الجزمي هو ذهاب الحمرة المشرقية، فتدبر.
الثاني: ربما قيل بالتفريق بين الصلاة والإفطار، فلا يكتفى في الثاني بمجرد غيبوبة القرص واستتاره، بل لابد من بدو ثلاثة أنجم، كما جاءت بذلك معتبرة زرارة، قال: سألت أبا جعفر(ع) عن وقت إفطار الصائم، قال: حين يبدو ثلاثة أنجم[13]. فإنها تفيد وقتاً ثالثاً يختلف عن القولين السابقين، فلا تعلق الإفطار على سقوط القرص وغيبوبته، ولا على ذهاب الحمرة المشرقية، بل جعلت المعيار في دخول وقت الإفطار على بدو النجوم الثلاثة.
وربما فسر قوله(ع): حين يبدو ثلاثة أنجم، بأن المقصود منه هو ذهاب الحمرة المشرقية، لأن النجوم الثلاثة لا تبدو إلا حين ذهابها.
وهذا المعنى ينفيه ما جاء عن والد الصدوق(ره) فيما كتبه لولده: يحل لك الإفطار إذا بدت ثلاثة أنجم، وهي تطلع مع غروب الشمس. وقد علق الصدوق على ذلك: وهي رواية أبان عن زرارة عن أبي جعفر(ع). فإن عبارة والد الصدوق تفيد طلوع الأنجم الثلاثة مع غروب
الشمس، وهو سقوط القرص عن الأفق، لا ذهاب الحمرة المشرقية، وهذا يعني كون المعتبرة على خلاف ما ذكر.
هذا وربما قيل، بعدم إمكانية الاستناد إلى الرواية المذكورة كونها مخالفة للكتاب الشريفة، فإنه سبحانه يقول:- (ثم أتموا الصيام إلى الليل)، وقد عرفت أن الليل مفهوم عرفي يقابل النهار، والنهار هو الزمان الواقع بين طلوع الفجر وغروب الشمس، وأن الغروب العرفي المعتبر في انتهاء النهار هو سقوط القرص، فيكون هو مبتدأ الليل الذي جعل غاية لانتهاء الصوم.
إلا أنه يمكن دفعه بتدخل الشارع المقدس، ليكون هناك معنى شرعياً لليل، من خلال بيانه وتحديده، فتكون هذه المعتبرة بمثابة المبينة لكون المقصود من الليل ليس الليل العرفي، وإنما الليل الشرعي، فلا تكون منافية للآية الشريفة.
هذا ولا يذهب عليك أن بعضاً من نصوص الطائفتين قد تضمنت تحديد الغروب للفريضتين، للصلاة والصوم، وهذا يعني أن الحكم في كليهما واحد. كما أن بعضاً آخر من النصوص جاءت تتحدث عن الغروب مطلقاً من دون تحديد بالصوم أو الصلاة.
ولا يخفى أن الغروب كما تقدم هو مبتدأ الليل ومنتهى النهار، فتصور أن الشارع المقدس قد تصرف في حقيقته في باب الصوم، دون باب الصلاة غريب. مضافاً لما عرفت من حكاية مقالة والد الصدوق(ره)، وبالجملة، لا تفيد المعتبرة أمراً آخر وراء ما تفيده نصوص غيبوبة القرص واستتاره، فتدبر.
[1] نهاية التقرير ج 1 ص 117.
[2] مسائل من الفقه الاستدلالي الحلقة الثالثة ص 74-75.
[3] وسائل الشيعة ب 16 من أبواب المواقيت ح 25.
[4] وسائل الشيعة ب 18 من أبواب المواقيت ح 24.
[5] جامع أحاديث الشيعة ج 4 ص 163.
[6] وسائل الشيعة ب 16 من أبواب المواقيت ح 22.
[7] وسائل الشيعة ج 4 ص 177.
[8] وسائل الشيعة ب 16 من أبواب المواقيت ح 14.
[9] معجم رجال الحديث ج 9 ص 269-270.
[10] وسائل الشيعة ب 20 من أبواب المواقيت ح 1.
[11] الحدائق الناضرة ج 6 ص 168.
[12] وسائل الشيعة ب 20 من أبواب المواقيت ح 2.
[13] وسائل الشيعة ب 52 من أبواب ما يمسك عنه الصائم ح 3.