قال تعالى:- (وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقاً لما بين يديّ من التوراة ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين).
مدخل:
لقد تضمنت الآية الشريفة إشارة لطيفة من خلال التعبير بكلمة البشارة بالنسبة لإخبار المسيح عيسى(ع) بمجئ نبي الإسلام الأكرم محمد(ص)، وظهور الرسالة السماوية التي يأتي بها.
ولا يخفى أن هذا التبشير الصادر من المسيح(ع) إشارة رائعة إلى تكامل هذا الدين قياساً لما سبقه من الأديان، وهذا المعنى لا يخفى على كل من راجع كتب العهدين، حيث يجد الأفضلية واضحة جداً للرسالة المحمدية، ومدى تكاملها، في كافة الجوانب، سواء منها المجالات الدينية من عقائد وأحكام وقوانين، أم المسائل الاجتماعية والأخلاقية.
الإسلام دين عالمي لجميع العصور:
ومقتضى هذه البشارة الصادرة من المسيح عيسى(ع)، والمشيرة إلى أفضلية الدين الإسلامي على كافة الأديان لشموليته وتكامله عن الرسالات السماوية السابقة-وإن كان الجميع يتفق في المضمون وهو الدعوة إلى توحيد الله سبحانه وتعالى وعبادته-كون الدين الإسلامي ديناً عالمياً لنوع الإنسان كافة، ولجميع الأعصار والأزمان، وأنه أقوم الأديان وأوضحها، وأوسط الطرق وأشملها، وأنه صالح لإدارة المجتمع الإنساني دائماً، فكلما يمضي عليه الزمان لا تسبقه الحضارات والمدنيات، ولا يتأخر عن العلم والتكنولوجيا، حيث أنه يقود البشرية ويهديها إلى الرشد والكمال، فلا يوجد باب إلى خير الإنسان وفلاحه وسعادته، إلا وقد فتحه عليه، ولا يوجد باب إلى الشقاء إلا وقد أغلقه عليه.
فقد تكفل وشمل بسعة تعاليمه وأحكامه وشرايعه جميع ما يحتاج إليه البشر من النظم المادية والمعنوية والروحية والجسمية، سواء منها الفردية، أم الاجتماعية، وغيرها كما نص على ذلك الكتاب المبين زاده الله عزة وشرفاً، والسنة المباركة المعصومية الواردة عن طريق النبي الأكرم محمد، والأئمة الطاهرين المعصومين(ع).
فالشريعة الإسلامية دين جاء به النبي الهادي(ص) ليكون دين العالم كله، ودين الأزمنة والأعصار كلها، ورفع به جميع ما يحجز الإنسان عن الرقي والتقدم السليم، فحرر الإنسان بذلك عن رقيته السيئة المخزية، وأخرجه من ذل عبادة الطاغوت وحكومة المستكبرين، وأدخله في عز حكومة الله تعالى، خالق الكون ورب العالمين، كما حرره من أسر الشهوات وذلها.
بقاء الأحكام الخمسة على مر الأزمنة والأعصار:
هذا ومقتضى خاتمية الدين الإسلامي للأديان السابقة، وعالميته، بقاء أحكامه الخمسة، من الوجوب والحرمة والاستحباب والكراهة والإباحة، وأحكامه سواء كانت أحكام موضوعات بعناوينها الأولية، مثل حرمة أكل الميتة، أو بعناوينها الثانوية مثل جواز أكل الميتة في حال الاضطرار، وسواء كانت من الأحكام الظاهرية أم كانت من الأحكام الواقعية، كما هو مبين في كتب الأصول.
وكذلك لو كانت هذه الأحكام من الأحكام الوضعية منها متأصلة بالتشريع والجعل الإلهي، أو منـتزعة من الحكم التكليفي على الخلاف الموجود بين الأصوليـين في علم الأصول في حقيقة الحكم الوضعي.
فهذه الأحكام بجملتها، وبكل واحد منها مصونة عن التغيـير والتبديل، فلا تنالها يد الإنسان كائناً من كان بتغيـير ولا تبديل.
شبهة لبعض العلمانيـين والحداثيـين:
هذا وتـثار مقابل هذا المعنى الذي ذكرناه من عدم تغير الأحكام الإلهية، وأنها لا تنالها يد التغيـير خصوصاً من يد الإنسان، شبهة من قبل بعض العلمانيـين، والحداثيـين، إذ يقولون:
بأنه قد طرأت على الحياة الاجتماعية للإنسان أبعاد واسعة ومعقدة، لا يمكن أن تقاس أبداً بأسلوب الحياة قبل أربعة عشر قرناً، فعلى سبيل المثال نلاحظ التطور والتقدم الذي أصاب أجهزة المواصلات اليوم وما وضع لها من أنظمة وقوانين يفوق لوحده عدد الأنظمة والقوانين التي كانت تضبط مسار الحياة في عهد النبي محمد(ص)، فكيف إذا أضفنا إليها جوانب التقدم والرقي التي أحاطت المجتمع المعاصر في جوانبه المختلفة، وأدت إلى وضع مجموعة من القوانين والأنظمة التي لا مجال لحصرها.
وبالجملة: فإن جميع هذه المستحدثات كلها لم تكن في العصر الماضي، أبّان تشريع وتقنين النظم والقوانين الإسلامية، مما يعني أنه لم يكن للإسلام فيها موقف ورأي، وبالتالي نستكشف عدم الحاجة وجدوى مثل هكذا دين، وهو يفتقر للنظم والقوانين التي تحتاجها الحياة المعاصرة.
ولعلنا نطرح هذه الشبهة بطريق آخر، فنقول: لا ريب في وجود تطور اجتماعي في سلسلة الحياة البشرية، وهذا التطور يستلزم تطوراً في قوانين الاجتماع، خصوصاً إذ عرفنا بأن القانون الموضوع في ظرف خاص، ربما يكون مضراً في ظرف آخر، ولا أقل من كونه غير مفيد، وذلك يعني أن القوانين ومقتضيات الزمان تختلف باختلاف المجتمعات وألوان الحياة، فما كان صحيحاً بالأمس، لا يصح اليوم، وما صح اليوم، لا يصح غداً، وهكذا.
مثلاً لو راجعنا وسائل النقل التي كانت موجودة في الأزمنة السابقة، لوجدناها تنحصر في الجمال وغيرها من المواشي، وكانت الثروات الطبيعية لا تكاد تستغل استغلالاً مفيداً، إلا القليل منها، وقد كانت أدوات الحرب في تلك الفترات لا تعدو السيف والرمح والسهم، ولا يخفى أن تلك القوانين المقننة في تلك الحقبة الزمنية، لا تـتماشى مع الواقع الحياتي المعاش اليوم، الذي بلغت فيه حضارة الإنسان حداً، تمكن فيه من تسخير الأرض والفضاء، ووضع أرض القمر تحت رجليه، واستخدم الكهرباء والبخار، وأخذ يقطع المسافات البعيدة بالسيارات والطائرة والصاروخ، وصار يواجه أعدائه في الحروب بالقنبلة الذرية، والهيدروجينية، وغير ذلك من أدوات الحرب، فكيف يمكن لقانون واحد قنن في ظرف خاص، ودور خاص أن يقوم بتأمين نظام الحياة لظرف ودور آخر يغايره.
الثابت والمتغير في الإسلام:
وفي الحقيقة إن هؤلاء الذي يثيرون مثل هذه الشبهات، ويذكرونها، يجهلون الإسلام، ولا يعرفون أحكامه، وكيفية تقنينها، إذ أنهم يعتقدون أن الدين الإسلامي يقوم بإدارة الحياة المتحولة والمتغيرة دوماً نحو التكامل بمجموعة من الأحكام الثابتة فقط، وأن الإسلام يريد أن يحدّ بقوة السيف من تدفق حركة الحياة ويقاوم التقدم الضروري المطرد للتمدن الإنساني، وما هذا إلا وهم وجهل.
فهؤلاء يفتقدون للوعي الكافي ويملكون ضيق الأفق وعدم الإطلاع على المعرفة القانونية والحقوقية.
وعلى أي حال، لكي نوضح أن مثل هذه الشبهة لا ترد على عالمية الإسلام، وكونه رسالة خالدة لكل زمان ومكان، ولا تنحصر قوانينه ونظمه على عصر دون آخر، نشير إلى مقدمة:
تنقسم الأحكام الإسلامية إلى قسمين:
1-الأحكام الإسلامية الثابتة.
2-الأحكام الإسلامية المتغيرة.
الأحكام الإسلامية الثابتة:
أما الأحكام الإسلامية الثابتة، فنعني بها: الأحكام التي ترتبط بواقع الإنسان الطبيعي، وتأخذ بنظر الاعتبار التكوين الإنساني بصرف النظر عما إذا كان الإنسان بدوياً، أو متحضراً، أسوداً كان أو أبيضاً، قوياً كان أو ضعيفاً، ودون أن تعنى بزمان أو مكان معينين، لأنها أصلاً تنسق مع البنية الوجودية للإنسان وما جهز به من قوى وأدوات داخلية وخارجية.
وبعبارة أخرى: هي القوانين التي تحافظ على المنافع الحياتية للإنسان من زاوية كونه إنساناً، يعيش حياة جماعية بغض النظر عن المكان والزمان والعوامل المتغيرة الأخرى.
ولكي يتضح ما ذكرناه بشكل أفضل، نشير لبعض الأمثلة التي تفيد في المقام:
الحياة العائلية:
إن الإنسان بما هو وجود اجتماعي بالطبع، يحتاج في حفظ حياته ونسله إلى العيش الاجتماعي والحياة العائلية، وهذان الأمران من أسس الحياة الإنسانية، لا تفتأ تقوم عليهما في جملة ما تقوم عليه منذ بدء حياته.
وعلى هذا، فإذا كان التشريع الموضوع لتنظيم المجتمع مبنياً على العدالة، مراعياً لحقوق الأفراد، وخالياً عن الظلم والجور والاعتساف، بحيث يضمن مصلحة المجتمع ويصونه عن الانهيار والفساد، لزم بقاؤه ودوامه، ما دام مرتكزاً على العدل والإنصاف.
التفاوت بين الرجل والمرأة:
من الأمور الطبيعية المحسوسة، مسألة التفاوت بين الرجل والمرأة، إذ أنهما موجودان مختلفان اختلافاً عضوياً وروحياً، وإن كانت هناك دعايات أقل من أن يصغى إليها، تسعى إلى إزالة التفاوت الموجود بينهما.
وبناءاً على وجود هذا التفاوت الطبيعي بينهما، اختلفت أحكام كل منهما عن الآخر، اختلافاً يقتضيه طبع كل منهما، فإذا كان التشريع مطابقاً لفطرتهما ومسايراً لطبعهما، ظل ثابتاً لا يتغير بمرور الزمان، لثبات الموضوع.
الروابط العائلية:
الروابط العائلية، ونعني بها رابطة الولد مع الوالد والأم، والأخ مع أخيه، هي روابط طبيعية، لوجود الوحدة الروحية، والوحدة النسبية بينهم، فالأحكام المتفرقة المنسقة، لهذه الروابط من التوارث ولزوم التكريم، ثابتة لا تـتغير بتغير الزمان.
حفظ الأخلاق من الضياع والانحلال:
لا يخفى على أحد مدى حرص الدين الإسلامي على صيانة والأخلاق وحفظها من الضياع والانحلال، ومما لا شك فيه، أن الخمر والميسر والإباحة الجنسية، وأمثال ذلك من الأمور القاضية على الأخلاق، لذا سعى الإسلام العظيم إلى علاج هذه الأمور في حياة الفرد البشري، من خلال تحريمها، وإجراء الحدود على مرتكبيها، فالأحكام المتعلقة بها، من الحكام الثابتة التي لا تـتغير على مدى الدهور والأجيال، لأن ضررها ثابت لا يتغير بتغير الزمان، فالخمر يزيل العقل والميسر ينبت العداوة في المجتمعات، والإباحية الجنسية تفسد النسل والحرث دائماً، ما دامت السموات والأرض.
والنـتيجة التي نصل إليها من خلال ما ذكرناه إلى هنا هي: أن ما يعرض الحياة الاجتماعية للإنسان، من تطور وتقدم مدني في بعض نواحيها، لا يوجب تغيـيراً في النظم المقننة على غرار الفطرة، ولا يوجب أيضاً تغيـيراً في الأحكام الموضوعة على طبق ملاكات واقعية، من مصالح ومفاسد كامنة في موضوعاتها. من أمثال بعض العقائد التي تعكس عبودية الإنسان لخالقه، والقواعد العامة التي ترتبط بحياة الإنسان بدءاً من قضايا الغذاء والسكن والزواج، حتى الدفاع عن أصل الحياة الاجتماعية، فكل هذه أمور ثابتة يحتاجها الإنسان دائماً، ولا يمكن تصور زوالها وتغيرها.
الأحكام الإسلامية المتغيرة:
وأما الأحكام الإسلامية المتغيرة، فهي تلك القوانين التي تكتسب صفة مؤقتة، أو طارئة لارتباطها بظروف خاصة، بحيث تـتغير باختلاف طراز الحياة، فمثل هذه الأحكام قابلة للتغير والتبدل تبعاً لتغيرات الحالات الاجتماعية والتطور التدريجي للحضارة والمدنية، وما يستـتبعه من زوال القديم وظهور الوسائل والمناهج الجديدة.
ولا ريب في حاجة الإنسان إلى مثل هذه الأحكام المتغيرة كحاجته إلى الأحكام الثابتة، حيث لا يتصور بقاء مجتمع من المجتمعات البشرية واستمراره دون هذه الأحكام المتحركة.
وهذه الأحكام المتغيرة هي التي يعبر عنها في الفقه الإسلامي بالمقررات، كما يعبر عن الأحكام الثابتة بالقوانين.
ومما ينبغي التوجه إليه، هو أن هذه الأحكام المتغيرة، ليست بمعزل عن القوانين الكلية الإسلامية، فلا تكون اعتباطاً وفوضى، بل تجري في ضوء القوانين الكلية الثابتة، بحيث لا تناقضها، ولا تعطلها.
وذلك لوجود خطوط عريضة تمثل القاعدة المركزية في التشريع الإسلامي، وهذه القاعدة المركزية مصونة عن التبدل والتحول، مهما اختلفت الأوضاع وتباينت الملابسات.
وتـتفرع على هذه الخطوط العريضة أحكام تستخرج منها بإمعان ودراية يستنبطها الفقيه باستفراغ وسعه وبذل جهده على وفق هذه الخطوط العريضة.
وهذه الأحكام المستخرجة من هذه الخطوط العريضة قابلة للتبدل والتغير وفق المجريات الحياتية للمجتمع الإنساني، وما يحيط به من ملابسات وظروف.
هذا وسوف أقتصر في المقام زيادة لإيضاح ما ذكرت على مثال واحد، وهو:
إن عملية الدفاع عن بيضة الإسلام وحفظ استقلاله من القوانين الثابتة التي لا تقبل التغيـير والتبديل، لأن المقصد الأسنى لمشرع الإسلام هو صيانة سيادته عن خطر الأعداء وأَضرارهم، ولهذا أوجب عليهم تحصيل قوة ضاربة ضد العدو، وإعداد جيش جدير بمواجهته ، قال تعالى:- (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة).
لكن كيفية الدفاع، والطرق التكتيكية، ونوع السلاح، وما شابه ذلك، من الأمور التي لم يـبينها الإسلام، وذلك إيكالاً منه إياها إلى مقتضيات الزمان، لأنها تـتغير بتغيره، لكن في إطار القونين العامة.
خاتمة:
وبعد هذا الذي ذكرناه من خلال ملاحظة انقسام الأحكام الإسلامية إلى قسمين، يتضح أن الشبهة المطروحة في محاولة النيل من الإسلام العظيم، لا تكشف إلا عن جهل مدعيها، وضيق أفق مثيرها، وفقرهم المعرفي في الجوانب القانونية والحقوقية.