قال تعالى : ((ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون * فرحين بما آتهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون * يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين)) (سورة آل عمران الآيات 169-171.
مدخل :
نقرأ في هذه الآيات الشريفة لوحة قرآنية عن الشهداء تستوقف الإنسان طويلا وتخرجه من دائرة تصوراته البشرية المحدودة عن الموت والحياة إلى أفق واسع جديد لم تعهده تصوراتنا المحدودة عن الموت والحياة ، وتعطي للحياة معنى جديدا لا تعرفه التصورات الجاهلية للإنسان.
فأول حقيقة في هذه اللوحة القرآنية ، هي أن الذين قتلوا في سبيل الله أحياء وليسوا بأموات ، وهذا يعني أن الحياة ليست هذه الفرصة فقط ، وهذه الرقعة الضيقة التي يعيشها الإنسان في هذه الدنيا.
كما أن الحركة الحيوانية التي يمارسها الإنسان في هذه الدنيا من أكل وشرب وتسابق على متاع الدنيا وزخرفها ، وحركة ونشاط وحركة في حقل الغرائز الحيوانية هي المؤشر والمقياس الوحيد للحياة.
إن الحياة في التصور الإسلامي انطلاق من القيود والأغلال ، وتحرر من أسر الهوى والشهوات ، وخروج من ذل الانقياد والاستسلام للطغاة إلى عز العبودية لله تعالى.
والحياة في هذا التصور الجديد على البشرية تحرر من كل تعلق بالدنيا ، لا بمعنى ترك الدنيا ولذاتها ، فإن الإنسان المؤمن يأخذ نصيبه مما خلق الله من الطيبات كالآخرين بل أفضل ، إلا أنه لا يقع في قبضة التعلق بالدنيا ولا تتحكم فيه ، ولا يكون مصداقا لقوله (ع) : حب الدنيا رأس كل خطيئة . (البحار 51/258).
معنى الحياة :
ثم إن ثبوت الحياة لمن قتل في سبيل الله ، وكونها حياة أخرى مغايرة لهذه الحياة المعهودة عند الناس ، يثير التساؤل عنها ، وعن حقيقتها ، ولذا ذكرت عدة آراء تفسيرية فيها ، نشير لبعضها.
1-الذكر الجميل :
لأنه يمثل امتداد الحياة في الدنيا في وعي الناس وتفكيرهم ، فيخلد الإنسان على مر السنين والأجيال من خلال ذكره الحسن ، ويبقى بسبب ذلك الذكر الجميل عند الناس كما في العظماء والأكابر الذين خلدت أسمائهم في التاريخ تعظيما لجهودهم في العلم أو الأعمال الخيرية الصادرة منهم في حياتهم.
لكن هذا المعنى لا يتناسب وظاهر الآية الشريفة ، إذ المستفاد منها وجود حياة ، لا مجرد الذكر ، ويشهد لما ذكرنا أن الذكر لا يعتبر حياة إلا بشيء من المجاز.
2-إن المراد بالحياة هنا هي الهداية ، ذلك أن المقتولين في سبيل الله قد وفقوا لمعرفة الله ، ونالوا هدايته ، ويقابل الحياة الموت وهي يعني الضلال.
وعليه تكون الآية تنهى عن وصف الشهداء بالضلالة التي هي الموت ، بل هم مهتدون .
3-أن يكون المراد من حياتهم حياة أهدافهم ورسالتهم ، لأن وجود المبدأ أو الهدف الذي يسعى الفرد لبقائه ، يبقي صاحب المبدأ و إن لم يوجد في الدنيا.
4-إن الحياة التي تتحدث عنها الآية المباركة هي الحياة البرزخية الروحية ، لأن أجسامهم قد تلاشت ، فهم يعيشون تلك الحياة بجسم مثالي ، كما ورد عن إمامنا أبي عبد الله الصادق (ع).
هذا ويشهد لكون هذه الحياة ليست الحياة الآخرة ، أن الحياة الآخرة ليست موضع إنكار أحد من المؤمنين ، ولا أحد منهم يشك في حياة الشهيد وغيره في الآخرة ، فإذا لا بد من أن تكون هذه الحياة في الآية حياة أخرى غير حياة الآخرة بين حياة الدنيا وحياة الآخرة ، وهي التي يجهلها الكثير من المؤمنين.
أجر الشهيد :
وقد أشارت الآيات الشريفة إلى فرح الشهيد بما يؤتيه الله تعالى من فضله ورحمته الواسعة ، وأن هذا الفرح لا حد له.
وقد جاء عن رسول الله (ص) : للشهيد سبع خصال من الله :
أول قطرة من دمه : مغفور له كل ذنب.
والثانية : يقع رأسه في حجر زوجتيه من الحور العين ، وتمسحان الغبار عن وجهه، وتقولان : مرحبا بك ، ويقول هو : مثل ذلك لهما.
والثالثة : يكسى من كسوة الجنة.
والرابعة : تبتدره خزنة الجنة بكل ريح طيبة أيهم يأخذه معه.
والخامسة : أن يرى منزله.
والسادسة : يقال لروحه اسرح في الجنة حيث شئت.
والسابعة : أن ينظر في وجه الله ، وإنها لراحة لكل نبي وشهيد. (تهذيب الأحكام 6/122).
من هو الشهيد :
الشهيد في اللغة : هو المقتول في سبيل الله ، والجمع شهداء ، والاسم الشهادة (لسان العرب مادة شهد).
الشهيد في الشرع :
ويستفاد من السنة أن الشهادة تحدث لأحد أمرين :
الأول : القيام بوظيفة شرعية ضرورية ، واجبة أو مستحبة ، وحصل الموت بسببها ، كالذي قتل في سبيل ماله وعرضه ، ومن قتل لأنه قال كلمة الحق تجاه سلطان جائر ، ومن أنكر منكرا أو أقام حقا ولم يخف في الله لومة لائم فقتل.
الثاني : الموت مع حصول قدر داهم ، لا يد للفرد في رده ، كالغرق والحرق والهدم ، وبعض أنواع المرض الذي يؤدي إلى الوفاة ، بل جميعها شرط أن لا يكون الفرد قد تسامح في إيجادها أو في استمرارها.
سبب تسميته بالشهيد :
وقد ذكروا في سبب تسميته بالشهيد :
1-كأن أرواحهم أحضرت دار السلام أحياء ، وأرواح غيرهم أخرت إلى البعث.
2-سمي الشهيد شهيدا ، لأن الله وملائكته شهود له بالجنة.
3-إن سبب تسميته بذلك ، لأنه حي لم يمت ، كأنه شاهد أي حاضر.
4-إن ذلك يعود لأن ملائكة الرحمة تشهده أي تحضره.
5-لقيامه بشهادة الحق في أمر الله حتى قتل.
6-لأنه يشهد ما أعد الله له من الكرامة بالقتل.
7-لأنه ممن يستشهد يوم القيامة مع النبي (ص) على الأمم الخالية.
كلمة الحق تجاه سلطان جائر ، ومن أنكر منكرا أو أقام حقا ولم يخف في الله لومة لائم فقتل.
لماذا لا يجب تغسيل الشهيد وتكفينه :
من الثابت فقهيا أن كل ميت مسلم يجب تغسيله وتكفينه ، ما عدا الشهيد المقتول في المعركة ، فإنه لا يغسل ولا يكفن ، بل يصلى عليه ويدفن بثيابه ، كما صنع ذلك النبي (ص) مع شهداء بدر ، وشهداء أحد ، وهو ما صنعه الإمام زين العابدين (ع) نع شهداء الطف أيضا.
ويلحق بالشهيد في الحكم بأن لا يغسل ولا يكفن ، كل من قتل في حفظ بيضة الإسلام في عصر الغيبة.
هذا وإنما يكون الجهاد مشروعا في ثلاث أحوال :
الأول : أن يكون بأمر الإمام المعصوم (ع).
الثاني : أن يكون بأمر نائبه الخاص الذي نصبه للجهاد أو لأمر يشمله.
الثالث : أن ينتفي كلا الأمرين ، لكن يكون الجهاد لأجل دفاع الأعداء الذين يخاف منهم على بيضة الإسلام ، وهو يعني الخوف على المجتمع الإسلامي ككل ، بحيث يخاف على وجود الإسلام أساسا أو وجود المسلمين.
ولا يكون الجهاد مشروعا في غير هذه الصور الثلاث ، وعليه لا يكون القتيل فيه أو بسببه شهيدا ولا يشمله الحكم بعدم التغسيل والتكفين.
ويشترط في عدم تغسيله وتكفينه ، أن لا يدركه المسلمون وبه رمق ، فإن أدركوه لم يشمله الحكم.
فعن زرارة عن أبي جعفر (ع) قال : قلت : كيف رأيت الشهيد يدفن بدمائه ؟ قال : نعم في ثيابه بدمائه ولا يحنط ولا يغسل ويدفن كما هو . ثم قال : دفن رسول الله (ص) عمه حمزة في ثيابه التي أصيب فيها. (الوسائل باب 14 من أبواب غسل الميت ج8).
والحاصل نحتاج أن نتعرف المصالح والحكم التي يمكننا إدراكها لعدم تغسيل الشهيد وتكفينه ودفنه بثيابه ودمائه ، وهي عديدة نذكر بعضها :
منها : إن تغسيل الميت ، إنما هي من أجل إيجاد طهارته المعنوية ودفع ما وقع عليه من خبث معنوي بموته.
ويشهد لهذا أن الأغسال الواجبة كغسل الجنابة مثلا ، يسعى فيها لرفع القذارة المعنوية لأن الجنابة كذلك ، فيجب عندها الغسل ، وكذلك الأحداث النسائية.
وإذا لاحظنا النوم الذي هو قرين الموت بنص القرآن الكريم ، قال تعالى : ((الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون)) (سورة الزمر آية 42).
نجد أن الشريعة اعتبرته حدثا يوجب الوضوء ، ومعه يتعين أن الموت شكل من أشكال الحدث ، يوجب الغسل لأجل رفعه ، بحيث يذهب الميت إلى قبره طاهرا غير ملوث بذلك الحدث.
ومن الواضح أن هذا في الميت الاعتيادي ، أم الشهيد فموته شرف عظيم ومنزلة كبيرة ، وغير مقترن بأي حدث ليكون موجبا للغسل.
وبكلمة إن المفهوم مما قدمنا ، أن الموت بكل أشكاله من أنواع الحدث ، إلا الشهادة فإنها مطهرة للفرد ، بحيث يرتفع معها الحاجة إلى الغسل ، بل هي بكل تأكيد أكثر تطهيرا من الغسل.
ومنها : إن الشهادة في سبيل الله سبحانه وتعالى ، تجعل لجسم الفرد احتراما وتقديسا عاليين ، مما يترتب عليه عدة نتائج :
1-عدم تعريضه لعمليات الغسل والتكفين.
2-احترام ثيابه أيضا ودفنها معه.
3-احترام كل ما سقط منه حتى الدم فيدفن معه.
4-عدم حاجته للحنوط ، وهو المحتوي على الرائحة الطيبة ، لأن رائحة الشهيد عند الله أعلى من ذلك.
ومنها : سهولة الدفن ، لأن الحرب تخلف كثيرا من القتلى ، ومع الحكم بوجوب التغسيل والتكفين ، فإنه يلزم من ذلك الصعوبة على المسلمين ، إن لم يكن يلزم منه العسر والحرج ، خصوصا وأنه ربما أخل بوضعهم العسكري أحيانا ، فكان إسقاط هذه الأعمال نوعا من التسهيل على الجيش المحارب ، والاهتمام بوقائع الجهاد دونها.
وهذا لا ينطبق على الدفن ، لكونه أمرا لا محيص عنه ولا مناص منه ، إذ لا بد من ستر الجثث احتراما لها ، وتخليصا للأحياء من مضاعفات بقائها على وجه الأرض ، نعم في صورة كون المهمات العسكرية الجهادية أهم من الدفن أمكن تأجيله ردحا من الزمن.
ومنها : إنه صبر على أمر عظيم ، وكل من صبر على أمر عظيم كان محكوما بمثل هذا الحكم من ترك التغسيل والتكفين.
ويشهد لما ذكرنا ما روي من أن شخصا جاء إلى أمير المؤمنين (ع) فاعترف أمامه بالزنى وطلب منه التطهير بإقامة الحد عليه ، فأقام (ع) الحد بأن دفنه في حفيرة إلى وسطه ، ثم ضربه الناس بالحجارة إلى أن مات.
والمفهوم من سياق هذا الخبر أن المحدود قد مات صابرا محتسبا ، وبعدما مات أخرجه من الحفرة وصلى عليه ودفنه ، فقيل له : إنه قد ترك تغسيله وتكفينه. فقال : إنه صبر على أمر عظيم.
فذيل هذا الخبر يعطي قاعدة عامة مفادها : أن كل من صبر على طاعة الله ورضاه إلى الموت احتسابا وإخلاصا ، فهو ممن ينبغي ترك تغسيله وتكفينه ، ولا شك أن الشهيد كذلك.
نعم المشكلة التي تمنعنا من قبول هذه القاعدة العامة المستفادة من هذا الخبر ، عدم تمامية الخبر المذكور سندا ، كما أن المحتمل أنه قد اغتسل قبل إقامة الحد عليه ، وإن قيل أن الخبر المذكور مطلق ، قلنا يتقييدها بالنصوص الأخرى.
ولعل لما ذكرناه لم يفت الفقهاء بمضمونها ، وإن كانت على أي حال يمكن أن تعطينا فكرة كافية عن وجه الحكمة في ذلك.
ومنها : إن كل أجزائه التي لاقت الشهادة لو صح التعبير ، أ, كانت حال الشهادة ، ينبغي المحافظة عليها ، وتسليمها إلى التراب ، ومن ثم كأنها تسلم إلى الآخرة بتمامها.
ومن الواضح أن تغسيله يستلزم ذهاب دمه الذي يجلل جسده ، وإذا كفن نزعت عنه ثيابه ، وكل ذلك ينافي ما ذكرناه.
ومنها : اختصاص الشهيد بأهمية أكثر من غيره ، باعتبار عمله القيم الذي قام به ، ولا يبدو لنا أفضل من هذه الطريقة التي تخص جسمه وثيابه نفسها ، وهذا يشير إلى أسلوب إعلامي لإبراز أهمية الشهيد.
سيد الشهداء :
سيد الشهداء ، لقب تشريف عظيم يطلق على ثلاثة ، كلهم عظماء نالوا الشهادة في صدر الإسلام.
أولهم : في نيل الشهادة حمزة (ع) سيد الشهداء ، وأسد الله ورسوله ، الذي قتل في جيش النبي (ص) في غزوة أحد.
ثانيهم : في الترتيب التاريخي أمير المؤمنين وسيد الوصيين الإمام علي بن أبي طالب (ع) وقد تسميته بذلك في الدعاء : السلام عليك يا سيد الشهداء (مفاتيح الجنان ص375).
ثالثهم : في الترتيب التاريخي ، الإمام السبط سيد شباب أهل الجنة الإمام الحسين بن علي (ع) وتسميته بهذا اللقب كالشمس في رابعة النهار.
والأولى بهذا اللقب هو أمير المؤمنين (ع) ، لأنه خير منهما ، وأعظم منزلة ، وأعلى درجة عند الله بلا إشكال ، بل هو إمامهما ووليهما المفترض الطاعة أمام الله سبحانه لهما ، فهو أولى بهذا اللقب منهما ، على الرغم من جلالة قدرهما.