القضية المهدوية شبهات وإجابات

لا تعليق
كلمات و بحوث الجمعة
275
1

تشتمل القضية المهدوية على مجموعة من الأسرار الغيبية التي يعجز العقل البشري عن إدراكها، لذلك نشأت بعض الشبهات والإشكالات حولها، وإن اختلفت في دواعيها، فكان غاية بعضها الوصول للحقيقة والمعرفة، بينما كان دافع الآخر هو التشكيك في ثبوتها، وزعزعة المعتقد بها.

وعلى أي حال، نشير لشيء منها، مع دفعها والإجابة عليها.

وظائف الإمام في عصر الغيبة:

فمن الشبه التي تذكر عادة عند الحديث عن القضية المهدوية، الكلام حول مدى الاستفادة من إمام غائب، توضيح ذلك:

إن الغاية التي نصب الإمام من أجلها بعد رسول الله(ص) هي قيامه بمهامه، من قيادة الأمة، وهداياتها، وإرشادها والقيام بشؤونها، وحتى يتحقق الغرض المذكور، لابد أن يكون حاضراً ومتواجداً بين أبناء الأمة، يعيش في أوساطهم، يشاهدونه يتحسس حاجاتهم، ويؤدي المطلوب منه.

ومقتضى ما ذكر تقوّم مفهوم الإمامة بالحضور، وعدم تحققها حال الغيبة، فلن يكون الغرض متحققاً لو كان المنصوب لذلك غائباً، فتنتفي عنه صفة الإمامة، لتقومها بما ذكر من وظيفة، فلا يكون إماماً، لعدم حصول الفائدة المرجوة من نصبه، ولا يمكن للأمة الانتفاع به خلال فترة غيبته.

ووفقاً لما تقدم، يأتي الكلام في إمامة الإمام صاحب الزمان(عج)، فيقال: كيف يمكن الاستفادة منه في القيام بشؤون الإمامة ومهامها، وهو إمام غائب، وقد عرفت أن منصب الإمامة يتقوم بالحضور، فإما أن يلتـزم بكونه حاضراً غير غائب، أو يلتـزم بنفي صفة الإمامة عنه، وكلاهما لا يلتـزم به في الطائفة.

ولا يذهب عليك أن الشبهة المذكورة تعود في حقيقتها إلى نقطتين:

الأولى: حقيقة الغيبة، وأنها غيبة عنوانية، أم أنها غيبة شخصية، احتمالان في المقام:

أولهما: البناء على أن الغيبة خفاء للشخص، وليست خفاءاً للعنوان، ونقصد من خفاء الشخص: أن الإمام المهدي(عج) يختفي جسمه عن الأنظار، فهو يرى الناس ولا يرونه، فقد يكون موجوداً في مكان إلا أنه لا يرى، بل يُرى المكان خالياً منه.

ولا ريب أن هذا النوع من الاختفاء لا يكون إلا بتدخل من العناية الإلهية، وحصول الإعجاز الإلهي، كما في طول عمره الشريف(عج)، كما أن هذا التفسير يضمن للإمام(ع)، الحماية التامة من أي مطاردة، أو تنكيل، كما لا يخفى.

ولا يلزم من القول بخفاء الشخص احتجاب المولى(عج) عن الناس كلياً، بحيث لا يمكنه أن يلتقي أحداً أبداً، بل يمكنه اللقاء متى كانت المصلحة تقتضي ذلك، نعم يكون لقائه في حدود تلك المصلحة، فلو وجد من يكون بحاجة إليه، يمكنه أن يلتقيه ويقضي حاجته، ثم يختفي من جديد بالرغم من أنه لم يغادر المكان الذي كان فيه، بل لو اقتضت المصلحة أن يظهر لشخص دون شخص تعين ذلك، لأن في ظهوره وانكشافه للآخرين خطراً عليه.

ثانيهما: أن المقصود من الغيبة هو خفاء العنوان، فيلتـزم بأن المولى(روحي لتراب حافر جواده الفداء)، يعيش بين الناس وأنهم يرونه بشخصه، إلا أنهم لا يعرفونه، أو لا يلتفتون إلى حقيقته. فيظهر بينهم مثلاً على أنه سيد هاشمي، أو أنه أحد العلماء الأعلام الأجلاء، من أهل الإيمان والصلاح والتقوى، وهكذا، خصوصاً وأن الذين شاهدوا الإمام(ع) وعرفوه بشخصه بدأوا يخرجون من عالم الدنيا، ففسح ذلك له المجال للحركة بسهولة والتنقل في أي بقعة شاء دون أن يكون معروفاً أو ملتفتاً إليه.

ومقتضى هذا التفسير أنه يعيش بين الناس، ويتعامل معهم كأي فرد منهم، ويتنقل من بلد إلى آخر، يدخل الأسواق ويلتقي بالناس في الأماكن العامة، وهكذا.

والمعروف بين الأعلام، البناء على أن الغيبة خفاء عنوان، وليس خفاء شخص، وقد استندوا في ذلك إلى نصوص كخبر سدير الصيرفي قال: سمعت أبا عبد الله الصادق(ع) يقول: إن في صاحب هذا الأمر لشبه من يوسف. فقلت: فكأنك تخبرنا بغيبة أو حيرة؟ فقال: ما ينكر هذا الخلق الملعون أشباه الخنازير من ذلك؟ إن أخوة يوسف كانوا عقلاء ألباء أسباطاً أولاد أنبياء دخلوا عليه فكلموه وخاطبوه وتاجروه ورادوه وكانوا إخوته وهو أخوهم، لم يعرفوه حتى عرّفهم نفسه، وقال لهم: أنا يوسف فعرفوه حينئذٍ فما ينكر هذه الأمة المتحيرة أن يكون الله جل وعز يريد في وقت من الأوقات أن يستر حجته عنهم، لقد كان يوسف إليه ملك مصر، وكان بينه وبين أبيه مسيرة ثمانية عشر يوماً، فلو أراد أن يعلمه مكانه لقدر على ذلك والله لقد سار يعقوب وولده عند البشارة تسعة أيام من بدوهم إلى مصر. فما تنكر هذه الأمة أن يكون الله يفعل بحجته ما فعل بيوسف أن يكون صاحبكم المظلوم المجحود حقه صاحب هذا الأمر يتردد بينهم ويمشي في أسواقهم ويطأ فرشهم، ولا يعرفونه حتى يأذن الله له أن يعرّفهم نفسه، كما أذن ليوسف حتى قال له إخوته: إنك لأنت يوسف، قال: أنا يوسف[1].

وعلل المنع من القبول بخفاء الشخص، كونه متوقفاً على البعد الإعجازي، وهو ليس لازماً في كل حين، لأن المعجزة تحدث عند توقف إقامة الحق عليها، وأما مع عدم هذا التوقف، وإمكان إنجاز الأمر بدونها، فإنها لا تحدث بحال.

لا يقال: بأن حفظ الإمام المنتظر(أرواحنا له الفداء)، وبقاءه مما يتوقف عليه إقامة الحق بعد ظهوره، فلو توقف حفظه على إقامة المعجزة بإخفائه شخصياً لزم ذلك.

فإنه يقال: إنما يتم ما ذكر، لو كان الطريق لحفظه منحصراً في خصوص هذا المعنى، أما مع وجود طريق آخر، وهو خفاء العنوان، فلن تصل النوبة عندها لذلك[2].

وليس المورد محل مناقشة لما ذكر في المقام من أن حقيقتها الاحتمال الأول، أو الاحتمال الثاني، ومدى تمامية ما ذكر لكل منهما، والموانع التي أوجبت رفع اليد عن أحدهما.

الثانية: تحديد الوظائف والمهام التي تناط بالإمام(ع)، وأن ذلك ينحصر في عصر الحضور، وعدم إمكانية القيام بذلك في زمان الغيبة، أو أنه يمكن للإمام(روحي لتراب حافر جواده الفداء) القيام بذلك حتى في فترة الغيبة.

والصحيح، أنه يمكن للإمام(ع)، أن يقوم بوظائف الإمامة التي كان يقوم بها آبائه الطاهرين(ع) كاملة وهو في عصر الغيبة، نعم لن يمكنه القيام بمسؤولية حكومة الدولة الإسلامية كما كان ذلك لأمير المؤمنين(ع)، وللإمام الحسن السبط(ع)، وهو ما لم يقم به أحد من آبائه(ع)، مع كونهم في عصر الحضور، لأنه لا يعتبر في القيام بتلك المسؤوليات توليه ذلك بنحو المباشرة، فكما كان جده الإمام زين العابدين(ع) يدير شؤون الأمة، ويتولى هدايتها من خلال شخص السيدة زينب(ع)، وكان جده الإمام الهادي(ع) يباشر مسؤولية الأمة، من خلال الوكلاء، وكذلك احتجب أبوه الإمام الحسن العسكري(ع)، ولم يكن يلتقي بأحد من مواليه إلا قليلاً، و كانت تقضى حاجاتهم من خلال وكلائه ونوابه، فكذلك يكون ذلك في عصره(بأبي هو وأمي).

وبالجملة، إنه لا يعتبر في القيام بشؤون الأمة، وما يرتبط بها أن يكون الإمام(عج)، هو المباشر لها بنفسه، فكما يكون ذلك في زمان الحضور، فإنه يكون ذلك في زمان الغيبة أيضاً، فقد جعل له سفراء أربعة يقومون بالحوائج مقامه في زمان الغيبة الصغرى، وأما عندما حلت الغيبة التامة، فقد أوكل ذلك إلى العلماء، فلهم القضاء وإقامة الحدود، والسياسات، ويقومون بصيانة الشرع عن التحريف، ودفع الشبهات، وبيان الأحكام وغير ذلك.

مضافاً إلى أن المستفاد من النصوص، أنه يمكن أن يكون الحجة مستوراً ومخفياً عن الناس، فعن كميل بن زياد قال: أخذ بيدي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(ع)، فأخرجني إلى الجبان، فلما أصحر، تنفس الصعداء، وكان مما قاله: اللهم بلى، لا تخلو من قائم لله بحجة، إما ظاهراً مشهوراً، أو خائفاً مغموراً لئلا تبطل حجج الله وبيناته[3].

وإلى هذا أشار القرآن الكريم أيضاً، كما في قصة العبد الصالح الذي كان مع الكليم موسى بن عمران(ع)، قال تعالى:- (فوجدا عبداً من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما)[4]، فإن المستفاد من الآية الشريفة أن العبد الصالح كان ولياً مستوراً لم يعرفه حتى نبي الزمان الذي كان يعيش فيه.

ولم يكن عامل الغيبة والخفاء على الناس مانعاً من قيام الحجة بدوره وأدائه لمسؤولياته تجاه الأمة، فقد قام العبد الصالح بما أنيط إليه من مهام ومسؤوليات للأمة، فقد خرق السفينة التي يملكها المساكين حتى لا يأخذها الملك، وقام ببناء الجدار ليحفظ كنـز اليتيمين.

ولا يوجد ما يمنع من قيام الإمام صاحب الزمان(روحي لتراب حافر جواده الفداء) بمثل ذلك في عصر الغيبة، ويؤدي مثل هذه التصرفات المطلوبة منه، وهو في خفاء عن الناس، يعيش بينهم ولا يعرفونه، ويساعد على ذلك ما ينقل من أنه(عج) يغيث المحتاج والملهوف والمضطر، وغير ذلك.

ثم إنه لو لم يقبل بما ذكر، فإن غيبة الإمام المهدي(ع)، لا تعني الاحتجاب التام، وعدم إمكانية وصول أحد إليه، بل سواء فسرت الغيبة بأنها خفاء شخص، أم أنها خفاء عنوان، فإنه يلتقي بالآخرين، وهذا يعني قيامه بتقديم ما يحتاجون إليه من إرشاد وتوعية، بل بناء على المعروف بين الأعلام من أنها خفاء عنوان، فإن له لقاءات خاصة بمجموعة معينة يلتقيهم(بأبي وأمي)، وتكون الفائدة المرجوة للأمة من خلالهم، فلاحظ.

على أن عدم علمنا بوجود فائدة للإمام(ع) في عصر الغيبة المظلمة، لا ينفي وجودها، كما أشار رسول الله(ص)، إلى ذلك في حديثه مع جابر بن عبد الله الأنصاري(رض)، وقد سئل هل ينتفع به شيعته في غيبته، فقال(ص): إي والذي بعثني بالنبوة إنهم ينتفعون به، ويستضيئون بنور ولايته في غيبته كانتفاع الناس بالشمس وإن جللها السحاب[5].

وقد صدر منه(بأبي وأمي) توقيع يجمل الانتفاع به في عصر الغيبة، فقال(عج): وأما وجه الانتفاع بي في غيبتي، فكالانتفاع بالشمس إذا غيبها عن الأبصار السحاب[6].

وقد ذكر العلامة المجلسي(ره) في بحاره وجوهاً في تشبيهه بالشمس، وأن فائدتها تبقى وإن سترها السحاب:

الأول: أن نور الوجود والعلم والهداية، يصل إلى الخلق بتوسطه(ع) إذ ثبت بالأخبار المستفيضة أنهم العلل الغائية لإيجاد الخلق، فلولاهم لم يصل نور الوجود إلى غيرهم، وببركتهم والاستشفاع بهم، والتوسل إليهم، يظهر العلوم والمعارف على الخلق، ويكشف البلايا عنهم، فلولاهم لاستحق الخلق بقبائح أعمالهم أنواع العذاب، كما قال تعالى:- (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم)، ولقد جربنا مراراً لا نحصيها أن عند انغلاق الأمور وإعضال المسائل، والبعد عن جناب الحق تعالى، وانسداد أبواب الفيض، لما استشفعنا بهم، وتوسلنا بأنوارهم، فبقدر ما يحصل الارتباط المعنوي بهم في ذلك الوقت، تنكشف تلك الأمور الصعبة، وهذا معاين لمن أكحل الله عين قلبه بنور الايمان.

الثاني: كما أن الشمس المحجوبة بالسحاب مع انتفاع الناس بها، ينتظرون في كل آن انكشاف السحاب عنها وظهورها، ليكون انتفاعهم بها أكثر، فكذلك في أيام غيبته(ع)، ينتظر المخلصون من شيعته خروجه وظهوره، في كل وقت وزمان، ولا ييأسون منه.

الثالث: أن منكر وجوده(ع) مع وفور ظهور آثاره كمنكر وجود الشمس إذا غيبها السحاب عن الأبصار.

الرابع: أن الشمس قد تكون غيبتها في السحاب أصلح للعباد، من ظهورها لهم بغير حجاب، فكذلك غيبته(ع) أصلح لهم في تلك الأزمان، فلذا غاب عنهم.

الخامس: أن الناظر إلى الشمس لا يمكنه النظر إليها بارزة عن السحاب، وربما عمي بالنظر إليها، لضعف الباصرة، عن الإحاطة بها، فكذلك شمس ذاته المقدسة ربما يكون ظهوره أضرّ لبصائرهم، ويكون سبباً لعماهم عن الحق، وتحتمل بصائرهم الايمان به في غيبته، كما ينظر الإنسان إلى الشمس من تحت السحاب، ولا يتضرر بذلك.

السادس: أن الشمس قد يخرج من السحاب وينظر إليه واحد دون واحد، فكذلك يمكن أن يظهر(ع) في أيام غيبته لبعض الخلق دون بعض.

السابع: أنهم(ع) كالشمس في عموم النفع، وإنما لا ينتفع بهم من كان أعمى كما فسر به في الأخبار قوله تعالى:- (من كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلاً).

الثامن: أن الشمس كما أن شعاعها تدخل البيوت، بقدر ما فيها من الروازن والشبابيك، وبقدر ما يرتفع عنها من الموانع، فكذلك الخلق إنما ينتفعون بأنوار هدايتهم بقدر ما يرفعون الموانع عن حواسهم ومشاعرهم التي هي روازن قلوبهم من الشهوات النفسانية، والعلائق الجسمانية، وبقدر ما يرفعون عن قلوبهم من الغواشي الكثيفة الهيولانية إلى أن ينتهي الأمر إلى حيث يكون بمنـزلة من هو تحت السماء يحيط به شعاع الشمس من جميع جوانبه بغير حجاب[7].

ثم إنه بعد عرض النقطتين اللتين تقوم الشبهة المذكورة عليهما، يتضح عدم ورودها، لأنه سواء بني على أن الغيبة خفاء الشخص، أم أن الغيبة خفاء العنوان، فإن ذلك لا يلزم تعطل الوظائف المناطة بمنصب الإمامة، بل سوف يقوم بها، خصوصاً وقد عرفت عدم اعتبار المباشرة من الإمام لتلك الوظائف، بل يمكنه أن يوكل ذلك لآخرين. مضافاً إلى أن خفاء الشخص، لا يعني الانقطاع عن الناس، وأنه لا يمكنه الوصول إليهم، بل قد عرفت أنه يمكن له اللقاء بمن يكون محتاجاً إليه ليقوم بقضاء حاجته، وفقاً لما تقتضيه المصلحة، وهذا يعني أنه يمكن أن يصل للناس، وإن كانت الغيبة تعني خفاء الشخص، فلاحظ[8].

اللقاء بالإمام في عصر الغيبة الكبرى:

ومن الشبه التي تذكر أيضاً في القضية المهدوية، مسألة اللقاء بالإمام صاحب الزمان(عجل الله تعالى فرجه الشريف) في زمان الغيبة الكبرى، وأنه هل يتحقق اللقاء به فيها، كما تحقق ذلك في عصر الغيبة الصغرى، أم أنه لا يقع اللقاء به في عصر الغيبة الكبرى، وينحصر وقوع اللقاء به في خصوص الغيبة الصغرى.

ولا يذهب عليك، أن الحديث في هذا الأمر ليس من حيث إمكان الرؤية، بل من حيث وقوعها خارجاً، ذلك أنه لا يوجد ما يمنع من الإمكان، فإن رؤيته(روحي لتراب حافر جواده الفداء)، ليست مستحيلة عقلا، فليس هو كشريك الباري، كما لا يخفى.

وقد يذكر مؤيد لإمكانية الرؤية في عصر الغيبة أن حقيقة الغيبة هو خفاء العنوان، وليس خفاء الشخص، فتأمل.

وبالجملة، إن الحديث عن وقوع الرؤية وتحققها في الخارج، فهل هناك من ألتقى بالإمام صاحب الزمان(عج) في زمان الغيبة الكبرى، أم أنه لم يلقه أحد، لأنه لا يرى فيها؟

قد يدعى بناء الإمام الخوئي(قده) على منع تحقق الوقوع للرؤية خارجاً، فقد قال(قده): إدعاء الرؤية فيه غير مسموع[9].

إلا أن له كلاماً في موضع آخر، يظهر منه خلاف ذلك، فقد سئل(قده) عن تفسير التوقيع الشريف الصادر للسفير الرابع(رض)، والمتضمن لقوله(عج): فمن أدعى الرؤية فكذبوه؟

فأجاب(رض): بأن التكذيب راجع إلى من يدعي النيابة عنه(ع)، نيابة خاصة في الغيبة الكبرى، ولا يكون راجعاً إلى من يدعي الرؤية بدون دعوى شيء، والله العالم[10].

إلا أن الصحيح، عدم ظهوره عبارته الأولى، في منع تحققها في الخارج، بل هي أجنبية عن المقام تماماً، توضيح ذلك: إن العبارة المذكورة، مختصة بمسألة الإجماع الدخولي الحسي الذي هو أحد أقسام الإجماع الذي يبحث عن حجيته في الأصول، والمنفي في العبارة المذكورة، إنما هو دخوله في المجمعين في عصر الغيبة الكبرى، على أساس أن المستفاد من كلمات الأصحاب اختصاص الإجماع الدخولي الحسي بعصر الحضور وعصر الغيبة الصغرى، دون الكبرى، لأن دخوله ضمن المجمعين في عصر الغيبة الكبرى خلاف النص المتضمن لوقوع الغيبة التامة[11]، بل خلاف مقتضى ضرورة المذهب، من لزوم وقوع الغيبة التامة، لأن المفروض أنه غائب غيبة عنوان، وليس غيبة شخص، ووجوده ضمن المجمعين مع خفاء العنوان، لا يحقق الغرض المطلوب، لأنه لو كان معروفاً بشخصه، لانتفى عنوان الغيبة، ولو لم يكن معروفاً لم يتحقق الإجماع الدخولي المقصود، فلاحظ.

وبالجملة، إن مقصود الإمام الخوئي(ره) من العبارة المذكورة، ليس منع تحقق الرؤية، وإنما منع تحققها في ضمن المجمعين، لما عرفت، فيكون المقصود هو عدم إدعاء أحد أنه قد رآه ضمن المجمعين، فلاحظ.

دليل عدم الرؤية:

وقد يتمسك للمنع من تحقق الرؤية خارجاً بالتوقيع الشريف الصادر من الناحية المقدسة(روحي لتراب حافر جواده الفداء)، للسفير الرابع، وقد جاء فيه: يا علي بن محمد السمري اسمع، أعظم الله أجر إخوانك فيك، فإنك ميت ما بينك وبين ستة أيام فاجمع أمرك، ولا توص إلى أحد يقوم مقامك بعد وفاتك، فقد وقعت الغيبة التامة، فلا ظهور إلا بعد إذن الله تعالى ذكره، وذلك بعد طول الأمد، وقسوة القلوب، وامتلاء الأرض جوراً، وسيأتي من شيعتي من يدعي المشاهدة، ألا فمن ادعى المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحة فهو كذاب مفتر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العظيم[12]. لاشتماله على تكذيب مدعي المشاهدة، على أساس أن المقصود بها الرؤية البصرية، فيكون مفاده تكذيب كل من يدعي اللقاء في عصر الغيبة التامة.

ومقتضى ما ذكر، سوف يكون التوقيع الشريف معارضاً للقصص التي تتضمن ذكر اللقاء بالإمام(روحي لتراب حافر جواده الفداء)، ولأجل المعارضة المتصورة، أجاب المحدث النوري(قده)، عنه بأجوبة نشير لبعضها:

الأول: إنه لما كان سند الخبر المذكور ضعيفاً بوقوع الحسن بن أحمد المكتب فيه، وهو مجهول الحال، كما أنه خبر آحاد لا يفيد إلا الظن، ولا يورث الجزم ولايقين، فإنه لن يصلح لمعارضة الوجدان القطعي الحاصل من مجموع تلك القصص والحكايات المتضمنة للقاء بالإمام صاحب الزمان(عج).

وهذا القطع وإن لم يحصل من كل واحدة من تلك القصص بوحدها، إلا أنه لا مجال لرفع اليد عنها، لاشتمال بعضها على معاجز وكرامات، لا يمكن أن تصدر من أحد غيره(عج)، فكيف يصح الاعراض عنها لوجود خبر ضعيف لم يعمل به ناقله، وهو الشيخ الطوسي في نفس الكتاب كما يأتي كلامه في هذا المقام، فكيف بغيره.

الثاني: من المحتمل أن يكون المقصود من المشاهدة المنفية في الخبر المذكور، هي دعوى المشاهدة مع النيابة وإيصال الأخبار من جانبه إلى الشيعة، مثل سفرائه الخاصين الذين كانوا في الغيبة الصغرى، وقد ذكر هذا الجواب العلامة المجلسي(ره) في البحار.

الثالث: ما تضمنه خبر الجزيرة الخضراء، من تخصيص التكذيب لمدعي المشاهدة في أول بداية زمان الغيبة الكبرى، عندما كان أعدائه يحدقون به، ويبحثون عنه ويترقبون الوصول إليه، إلا أنه اليوم لما آيس منه أعدائه، فلا يوجد ما يوجب التكذيب للرؤية.

وبكلمة، إنه لا يوجد في التوقيع الشريف سعة من عموم أو اطلاق ليكون جاريا ً في كل الأزمنة والأوقات، وإنما هو مختص بمرحلة زمنية معينة، وقد انقضت تلك الفترة، فلم يعد لموضوعه مجال، فلاحظ.

الرابع: ما يظهر من السيد بحر العلوم(قده) من أن المشاهدة المنفية في التوقيع الشريف، هي مشاهدة الإمام(عج)، ويكون المشاهد حال المشاهدة عالماً بأن الذي يشاهده هو ولي الله وحجته في خلقه الإمام صاحب الزمان(عج).

ولا يذهب عليك أن الأجوبة التي ذكرنا تختلف في تفسير المشاهدة المنفية في التوقيع الشريف، فقد تضمن الجواب الثاني، حملها على دعوى السفارة كما حكي ذلك عن غواص بحار الأنوار العلامة المجلسي(قده)، بينما تضمن الجوابان الثالث والرابع التسليم بكون المقصود منها الرؤية البصرية، إلا أن التكذيب للرائي، مختص بفترة من الزمن كما في الجواب الثالث، أو أنه جار في كل الأزمان إلى حين الظهور، لكن يقصد بالمنع منها الرؤية مع العلم والمعرفة، وهذا يعني بقاء خفاء العنوان في الغيبة كما لا يخفى.

وبعيداً عما يمكن ذكره من مناقشة في الوجوه المذكورة، فإن الأعلام، قد بنوا على عدم وجود معارضة بين التوقيع الشريف والقصص المشتملة على ذكر اللقاء بسيدي صاحب الأمر(عج)، وذلك لأن المقصود من المشاهدة التي تضمنها التوقيع الشريف، السفارة والنيابة الخاصة، وليس المقصود منها الرؤية البصرية، لوجود قرائن تساعد على ذلك، وقد تعرضنا لذلك في بحث مضى، فلاحظ[13].

هذا وقد يتمسك لإثبات وقوع الرؤية وتحققها خارجاً بما تضمنه كلام المحدث النوري(ره) من وجود قصص وحكايات كثيرة تورث القطع واليقين بذلك، فقد نقل غواص بحار الأنوار العلامة المجلسي(ره) عن المحدث النوري في كتابه جنة المأوى ما ينيف على خمسين حكاية، وقد نقل المحدث المذكور كثيراً منها في كتابه النجم الثاقب، ولا ينحصر الأمر في خصوص هذين المصدرين، بل إن هناك قصصاً أخرى تنقل في مصادر متفرقة، ولأشخاص متعددين لم يتضمنها الكتابان المذكوران.

والإنصاف، صعوبة رفع اليد عن هذا الكم الكبير من القصص التي تحكي وقوع الرؤية خارجاً، كما أن القبول بها بأكملها خلاف الإنصاف أيضاً. وعليه، يلزم إيقاع الكلام ضمن أمرين:

الأول: في كيفية التعاطي مع القصص المذكورة:

فهل تعامل كما تعامل النصوص الحاكية للقضايا العقدية التي لا يعتبر فيها العلم، أو تعامل معاملة الأخبار المشتملة على الأحكام الفرعية، أو تعامل معاملة القضايا التاريخية؟

من الواضح، اتفاق المنهج المتبع في النصوص العقائدية التي لا يعتبر فيها العلم، والنصوص المتضمنة للأحكام الفرعية، في اشتراط إحراز الصدور بطريق معتبر، ولو جراء الوثوق والاطمئنان لوجود قرائن توجب ذلك، بخلاف ما لو كان النص تاريخياً، فإنه لا يعتبر فيه ذلك، بل يكتفى فيه وجوده في مصدر يعرف مؤلفه، ولا يطعن عليه، ولا يشتمل النص على ما ينافي مقام العصمة والإمامة، وهكذا.

وهذا يكشف عن وجود تفاوت في الأثر عند النظر للقصص المذكورة، إذ لو بني على الاحتمال الأول، وأنها نصوص عقدية، فسوف يلزم وصولها بطريق معتبر، ولو من خلال القرائن المورّثة للاطمئنان بالصدور، بخلاف ما لو جعلت قضايا تاريخية، فإنه لا يعتبر ذلك.

ولا كلام في عدم عدّ القصص المذكورة نصوصاً تأريخية، بل هي نصوص عقدية، لأنها تشتمل مطلباً عقدياً مهماً، فإن القول بتحقق الرؤية ووقوعها خارجاً يؤكد ما عليه الطائفة المحقة(أعلى الله كلمتهم، وأنار برهانهم) من ولادة سيدي صاحب الناحية المقدسة(روحي لتراب حافر جواده الفداء)، وأنه حي يرزق، وأنه سيملاً الأرض قسطاً وعدلاً بعدما ملئت ظلماً وجوراً، كما أنها تدل على قيامه بما أنيط به من مهام الإمامة، وإدارة شأن الأمة والقيام بمسؤولياتها، وغير ذلك.

والحاصل، إن القصص المذكورة تدخل في حيز الأخبار العقدية التي لا يعتبر فيها العلم اليقين، فلاحظ.

وطبقاً لما تقدم، يلزم ملاحظة طرق هذه القصص ورواتها الناقلين لها، فإن أحرزت وثاقتهم، كان ذلك موجباً للاستناد إليها، والبناء على وفقها من وقوع الرؤية خارجاً، وإلا لم يمكن الالتزام بذلك، لعدم وجود ما يدل عليه، وإن كان الإمكان موجوداً كما عرفت.

والإنصاف، أن كثيراً من القصص المذكورة، تروى بواسطة مجاهيل، أو أنها مقطوعة الأسناد، ما يمنع من الاستناد إليها، نعم هذا لا يعني عدم وجود ما هو صحيح الأسناد بينها، وما هو معتبر فيها.

وبالجملة، إن العدد المذكور بعد التمحيص السندي لن يبقى على حاله، بل سوف يتقلص حتى قد لا يبقى منه إلا النصف.

ولا مجال للبناء على حصول التواتر، لعدم انطباق شيء من أقسامه الثلاثة في المقام، فتأمل جيداً.

إلا أنه يمكن التغلب على المشكلة السندية المذكورة الناجمة من ضعف الطرق، أو الإرسال في بعضها، بأن أكثر تلك القصص والحكايات، لو لم يكن أغلبها من صغريات خبر الثقة في الموضوعات، وقد قرر في محله حجيته مطلقاً، أو إذا أفاد وثوقاً واطمئناناً، ولا ريب في تحقق ذلك في المقام، ما يساعد على الاستناد إليها، فلاحظ.

الثاني: ملاحظة المضمون التي تضمنته تلك القصص:

فإن التأمل في القصص التي حكاها المحدث النوري(ره) في كتابيه، جنة المأوى، والنجم الثاقب، وما نقله عنه شيخنا المجلسي(ره) في البحار، يكشف عن وجود خلط بينها، إذ ليست جميعها على نسق واحد، بل يمكن تصنيفها إلى أقسام:

الأول: ما يتضمن المشاهدة عياناً بواسطة العين الباصرة، وذلك مثل ما حكي عن العلامة الحلي(ره)، بطريق معتبر، فقد ذكر مؤلف كتاب قصص العلماء، أنه سمع من الآخوند ملا صفر علي اللاهيجي، يحكي عن استاذه المرحوم المبرور السيد محمد بن السيد علي صاحب المناهل، حيث قال: إن العلامة كان يذهب في ليالي الجمعة إلى زيارة سيد الشهداء في كربلاء، وكان يذهب لوحده ويركب على حماره وبيده المباركة عصا، وفي أثناء المسير صادف رجلاً عربياً، فسارا معاً وتحدثا، وبعد مرور زمان من محادثتهما تبين للعلامة أن صاحبه رجل فاضل، فشرع معه في البحث حول المسائل العلمية، ومن مباحثة العلامة لصاحبه تبين له أن هذا الشخص صاحب علم وفضل كثير متبحر في شتى العلوم، فأخذ العلامة يطرح الاشكالات التي لم تحل عنده عليه، فطرح الاسئلة واحدة فواحدة، وكان صاحبه يحل جميع ما يطرحه العلامة من الإشكالات العويصة والمعضلات، حتى انجر البحث إلى مسألة أفتى صاحب العلامة عنها فتوى أنكرها العلامة، وقال: لا يوجد حديث على هذه الفتوى، فقال صاحبه: يوجد حديث على هذه الفتوى ذكره الشيخ الطوسي في تهذيبه، وأنت احسب من كتاب التهذيب كذا قدر من الورق حتى تصل إلى الصفحة الكذائية السطر الكذائي تجد هذا الحديث، فتحير العلامة في شأن صاحبه ومَن يكون! فسأله العلامة: هل يمكن في زمان الغيبة الكبرى رؤية صاحب الأمر؟ وفي هذا الحال وقعت العصا من يد العلامة، فانحنى صاحبه وأخذ العصا ووضعها في يد العلامة وقال: كيف لا يمكن رؤية صاحب الزمان ويده في يدك؟! فالعلامة بلا اختيار ألقى بنفسه من على دابته إلى الأرض ليقبل رجل الإمام عجل الله فرجه، فاغمي عليه، فلما أفاق لم ير أحداً، فلما رجع البيت أخذ كتاب التهذيب ورأى الحديث في تلك الورقة وفي تلك الصفحة والسطر الذي أرشده الإمام عليه، فكتب العلامة على حاشية التهذيب في هذا المقام: إن هذا الحديث أخبر عنه صاحب الأمر(ع) وأرشد إليه في نفس الصفحة والسطر.

فقال الآخوند ملا صفر علي: إن استاذي السيد محمد قال: رأيت نفس الكتاب وفي حاشية هذا الحديث رأيت هذه الحكاية بخط العلامة[14].

قصة إسماعيل الهرقلي:

ومثلها أيضاً قصة إسماعيل بن الحسن الهرقلي، فقد حكي عن ولده شمس الدين، أن أباه كان في أيام شبابه، قد أصيب بقرحة على فخذه الأيسر يقال لها(توتة)، وكانت تتشقق في موسم الربيع، ويخرج منها دم وقيح، فخرج من قريته هرقل وقصد مدينة الحلة، وشكى إلى السيد رضي الدين علي بن طاووس ما يجده من الألم، فأحضر ابن طاووس الأطباء لمعاينته، وبعد الفحص قال الأطباء: إن في إجراء العملية الجراحية على هذه القرحة خطر الموت، وإن نسبة نجاح العملية ضئيلة جداً، فذهب إسماعيل الهرقلي مع السيد ابن طاووس إلى بغداد لمراجعة الأطباء الحاذقين، فكان الجواب نفس الجواب الأول.

فتوجه إسماعيل إلى مدينة سامراء، للتوسل بالإمام المهدي(عج)، وطلب الشفاء منه، وبعد أيام ذهب إلى نهر دجلة، واغتسل فيه ولبس ثوباً نظيفاً، فالتقى به أربعة فرسان، أحدهم بيده رمح وعليه فرجية[15]. فتقدم إليه صاحب الفرجية، ووقف أصحابه الثلاثة على جانبي الطريق، وسلموا على إسماعيل، فسأله صاحب الفرجية: أنت غداً تروح إلى أهلك؟ قال إسماعيل: نعم. فقال له: تقدم حتى أبصر ما يوجعك. فجعل يلمس جسم الهرقلي، حتى أصابت يده القرحة فعصرها ثم استوى على سرج فرسه. فقال أحد الفرسان الثلاثة: أفلحت يا إسماعيل!

فتعجب إسماعيل من معرفتهم اسمه، ولكنه لم ينتبه إلى ما يجري عنده، وقال: أفلحنا وأفلحتم إن شاء الله.

فقال له الرجل: هذا هو الإمام، وأشار إلى صاحب الفرجية. فتقدم إسماعيل واحتضن رجله وقبل فخذه، فقال الإمام-بلطف ورأفة-: ارجع. قال إسماعيل: لا أفارقك أبداً. فقال الإمام: المصلحة في رجوعك.

فأعاد إسماعيل كلامه الأول. فقال أحدهم: يا إسماعيل ما تستحي؟! يقول لك الإمام-مرتين-: ارجع، وتخالفه؟!

فتوقف إسماعيل عند ذلك، فقال له الإمام: إذا وصلت بغداد فلابد أن يطلبك أبو جعفر-يعني الحاكم العباسي المستنصر-فإذا حضرت عنده وأعطاك شيئاً فلا تأخذه وقل لولدنا الرضي: ليكتب لك إلى علي بن عوض، فإنني أوصيه يعطيك الذي تريد.

ثم تركه الإمام وأصحابه وواصلوا المسير، ومضى إسماعيل إلى مشهد الإمامين العسكريـين، فألتقى به بعض الناس فسألهم عن الفرسان الأربعة؟ فقالوا: هم من الشرفاء أرباب الغنم.

فقال لهم: بل هو الإمام. فقالوا: أريته المرض الذي فيك؟ قال: هو قبضه بيده، ثم كشف عن رجله فلم ير أثراً لذلك المرض، فتداخله الشك في أن تكون القرحة في الرجل الأخرى، فكشف عن رجله الأخرى فلم ير شيئاً، فتهافت الناس عليه، يمزقون قميصه تبركاً به.

وجاءه رجل من قبل السلطة العباسية، وسأله عن اسمه وتاريخ مغادرته بغداد؟ فأخبره بكل شيء، فكتب الرجل بالخبر إلى بغداد.

وبعد يوم واحد خرج إسماعيل من مدينة سامراء متوجهاً إلى بغداد، فلما وصل إليها رأى الناس مزدحمين على القنطرة خارج المدينة، يسألون كل قادم عن اسمه ونسبه وأين كان؟ فسألوه عن اسمه، فأخبرهم بكل شيء، فاجتمعوا عليه يمزقون ثيابه للتبرك، ووصل إلى بغداد، وقد كاد أن يموت من كثرة الازدحام.

وخرج السيد ابن طاووس ومعه جماعة، فالتقوا بإسماعيل وردوا الناس عنه، فلما رآه السيد قال له: أعنك يقولون؟ قال: نعم.

فنـزل عن دابته وكشف عن فخذ إسماعيل، فلم ير أثراً من القرحة، فغشي عليه. ولما أفاق أخذ بيد إسماعيل وأدخله على الوزير باكياً، وقال: هذا أخي وأقرب الناس إلى قلبي.

فسأله الوزير عن القصة فحكى له، فأحضر الوزير الأطباء الذين عاينوا القرحة قبل ذلك، وقالوا ليس لها دواء إلا القطع بالحديد وفيه خطر الموت، فقال لهم: فبتقدير أن يقطع ولا يموت..في كم تبرأ؟

قالوا: في شهرين، ويبقى مكانها حفيرة بيضاء لا ينبت فيها شعر. فسألهم الوزير: متى رأيتم القرحة؟

قالوا: منذ عشرة أيام. فكشف الوزير عن الفخذ التي كانت فيه القرحة، فلم يروا لها أثراً، فصاح أحد الأطباء: هذا عمل المسيح.

فقال الوزير: حيث لم يكن هذا من عملكم، فنحن نعرف من عملها.

ثم إن الحاكم العباسي المستنصر أحضر إسماعيل، وسأله عن القصة؟ فقصها عليه، فأمر بألف دينار وقال له: خذ هذه وأنفقها.

فقال إسماعيل: ما أجسر أن آخذ منه حبة واحدة.

فقال المستنصر-متعجباً-: ممن تخاف؟! قال: من الذي فعل معي هذا، فإنه قال: لا تأخذ من المستنصر شيئاً! فبكى المستنصر وتكدر، وخرج إسماعيل من عنده ولم يأخذ شيئاً.

قال شمس الدين بن إسماعيل الهرقلي: رأيت فخذ أبي بعدما صلحت ولا أثر فيها، وقد نبت في موضعها الشعر[16].

ويكفي لاعتبار هذا القصة، كونها من خبر الثقة في الموضوعات، لروايتها عن السيد ابن طاووس(ره)، فلاحظ.

الثاني: ما تضمن التشرف باللقاء، إلا أنه ليس عن حس، بل عن حدس، بمعنى أن الرائي، لا يجزم بكون المرئي هو المولى(روحي لتراب حافر جواده الفداء)، إلا أنه يحدس كونه كذلك لوجود موجبات تساعد على ذلك، ومن ذلك ما روي بطريق عالي الأسناد، صحيح أعلائي جداً، وهو عن الشهيد الصدر الثاني(ره)، عن الشهيد الصدر الأول(قده)، عن الإمام الخوئي(رض)، عن صاحب القصة، وهو شخص من أهل الإيمان والصلاح والورع يوثقه السيد الخوئي، أنه كان في يوم من الأيام عصراً في مسجد الكوفة، وبينما هو يمشي لغرفه المنتشرة في حائط سوره، رأى في ايوان كائن أمام أحد الغرف فراشاً مفروشاً وقد استلقى عليه شخص مهيب جليل، وجلس بإزائه رجل آخر، قال: فتعجبت من وجودهما وسألت الرجل الجالس عن هذا المستلقي، فأجاب: سيد العالم. قال: فاستهونت بجوابه، وحسبت أنه يريد كونه سيداً عالماً، لأن العامة هناك ينطقون العالم بفتح اللام.

ثم إن هذا الرجل مضى للوضوء والاشتغال بصلاة المغرب والعشاء والتهجد في محراب أمير المؤمنين(ع)، حتى أجهده التعب والنعس، فاستلقى ونام، وحينما استيقظ وجد المسجد مضيئاً يقول: حتى أني استطيع أن أقرأ الكتابة القرآنية المنقوشة في الطرف الآخر من المسجد، فظننت أن الفجر قد بزغ، بل مضى بعد الفجر زمان غير قليل، وإني تأخرت في النوم زائداً عن المعتاد.

فخرجت إلى الوضوء فوجدت في الدكة التي في وسط المسجد جماعة مقامة للصلاة، يؤمها (سيد العالم) ويأتم به اناس كثيرون بأزياء مختلفة وجنسيات متعددة، بما فيهم ذاك الرجل الذي رأيته جالساً إلى جنبه عصر اليوم الماضي، فعجبت من وجود هؤلاء في المسجد على خلاف العادة. ثم إني اسبغت الوضوء والتحقت بالجماعة، وصليت الصبح معهم ركعتين، وحين انتهت الصلاة، قام ذلك الرجل المشار إليه وتقدم إلى إمام الجماعة(سيد العالم)، وسأله عني قائلاً: هل نأخذ هذا الرجل معناً؟ فأجاب سيد العالم: كلا، فإن عليه تمحيصين لابد أن يمر بهما.

وفجأة، اختفى هذا الجمع، وساد المسجد ظلام الليل، وإذا بالفجر لم يبـزغ بعد، بل بقي إليه زمان ليس بالقليل[17].

ومثل ذلك القصص التي حكيت عن فقيه عصره السيد السبزواري(ره)، فقد وفقه الله تعالى لحج بيت الله الحرام في العقد الرابع من عمره، وكان ذلك مع قافلة الحاج إسماعيل حبل المتين، وفي أثناء مسيرهم مروا بمنطقة(عرعر) السعودية، فتاهت قافلتهم في الصحراء المحيطة بها، حتى نفذ وقود محرك القافلة التي كانت تقلهم، مما اضطر الحجاج للنـزول منها، حينها فوجئوا بأنهم في قلب الصحراء، حيث كانت الرمال اللاهبة تحيط بهم من الجهات الأربع، وكلما بحثوا يميناً وشمالاً لم يجدوا أثراً لذي حياة.

ومضى الوقت بهم وهم لا زالوا في ذلك المكان، حتى نفذ كل ما بحوزتهم من الطعام والشراب، ولاحَ شبح الموت أمام أعينهم، وبلغ الأمر ببعضهم من شدة اليأس رأى أن حفر حفرة صغيرة في الرمال لتواري جسده بعد وفاته.

فلما رأي السيد السبزواري(قده) ما اعترى الحجاج من اليأس الشديد وانقطاع الأمل، ابتعد عن الحجاج قليلاً، واشتغل بمناجاة الله سبحانه والتضرع إليه، ولما كان(قده) شديد العلاقة بصلاة جعفر(ع)، وكان يلمس آثارها في قضاء الحوائج وجداناً، لذلك توجه بها إلى الله تعالى، متوسلاً إليه بسلطان العصر وإمام الزمان(أرواح العالمين لتراب نعله الفداء). يقول السيد(قده): فلما أوشكت على الانتهاء، سمعت أحد الحجاج ينادي: العجل العجل يا سيد، فلقد تيسرت الأمور، ونجونا من المشكلة.

وحينئذٍ أتممت صلاتي وجئت إلى حيث القافلة، فوجدت جميع الحجاج قد استقلوا مقاعدهم في الحافلة، وتهيأوا لمغادرة المكان.

فقلت: ما الذي حدث وقت ابتعادي عنكم؟ وكيف جئتم بالوقود للحافلة؟

فقالوا: لقد جاءنا رجلان أو ثلاثة-ولعل الترديد من ناقل القصة-وقدموا لنا الطعام والماء، ثم أمر أحدهم السائق بتشغيل السيارة، فاشتغلت من غير أن يضعوا فيها شيئاً من الوقود، وحينها أشار الرجل بيده إلى جهة من الجهات، وقال: هذا هو طريق مكة، ولما أراد أن يذهب التفت إلينا، وقال: نادوا السيد السبزواري، وأبلغوه سلامي، ثم غاب هو ومن معه عن الأنظار فلم نر لهم أثراً.

يقول السيد(قده): وحينها تحركت القافلة على طبق المسار الذي حدده ذلك العظيم، فبلغنا مكة المكرمة سالمين في ظل عناية ولي الله الأعظم(عجل الله فرجه الشريف)[18].

وأكثر القصص والحكايات التي تتضمن ذكر اللقاء بالناحية المقدسة(روحي لتراب حافر جواده الفداء)، تدخل ضمن هذا القسم، فإن البناء على كون المرئي هو المولى(بأبي وأمي)، منشأه الحدس، وليس الحس، فلاحظ.

الثالث: ما تضمن سماع الصوت فقط، من دون حصول المشاهدة والرؤية، فمن ذلك قصة المقدس الأردبيلي(ره)، كما ذكر ذلك السيد نعمة الله الجزائري(قده) في كتابه الأنوار النعمانية، قال: حدثني أوثق مشائخي علماً وعملاً عن أحد تلامذة المقدس الأردبيلي(ره) من أهل تفريش اسمه مير علام، وقد كان بمكان من الفضل والورع، قال ذلك التلميذ: أنه قد كانت لي حجرة في المدرسة المحيطة بالقبة الشريفة، فاتفق أني فرغت من مطالعتي، وقد مضى جانب كثير من الليل، فخرجت من الحجرة أنظر في حوش الحضرة، وكانت الليلة شديدة الظلام، فرأيت رجلاً مقبلاً على الحضرة الشريفة، فقلت: لعل هذا سارق جاء ليسرق شيئاً من القناديل، فنـزلت وأتيت إلى قربه، فرأيته وهو لا يراني، فمضى إلى الباب، وقف فرأيت القفل قد سقط، وفتح له الباب الثاني، والثالث على هذا الحال، فأشرف على القبر، فسلم، وأتى من جانب القبر رد السلام، فعرفت صوته، فإذا هو يتكلم مع الإمام(ع)، في مسألة علمية، ثم خرج من البلد متوجهاً إلى مسجد الكوفة، فخرجت خلفه وهو لا يراني، فلما وصل إلى محراب المسجد سمعته يتكلم مع رجل آخر بتلك المسألة، فرجع ورجعت خلفه.

فلما بلغ إلى باب البلد أضاء الصبح، فأعلنت نفسي له، وقلت له: يا مولانا كنت معك من الأول إلى الآخر، فأعلمني من كان الرجل الأول الذي كلمته في القبة؟ ومن الرجل الآخر الذي كلمك في مسجد الكوفة؟

فأخذ عليّ المواثيق أني لا أخبر أحداً بسره حتى يموت، فقال لي: يا ولدي إن بعض المسائل تشتبه علي فربما خرجت في بعض الليل إلى قبر مولانا أمير المؤمنين(ع)، وكلمته في المسألة وسمعت الجواب، وفي هذه الليلة أحالني على مولانا صاحب الزمان(ع)، وقال لي: أن ولدنا المهدي هذه الليلة في مسجد الكوفة فامضِ إليه، وسله عن هذه المسألة. وكان ذلك الرجل هو المهدي(ع)[19].

فإنه لم يصرح فيها بتحقق المشاهدة، وإنما القدر المتيقن منها سماعه لجواب مسائله، فيكون فقط بالصوت، فتأمل[20].

وقد يجعل من هذا القسم قصة السيد بحر العلوم(ره) في سرداب الغيبة، بسند معتبر[21]، فإن راوي القصة وهو السيد مرتضى، لم ينقل مشاهدته أحداً يتحدث مع السيد بحر العلوم(ره)، وإنما نقل سماعه للصوت، فلاحظ.

الرابع: ما كان اللقاء فيها حال الرؤيا وفي عالم النوم، وهو كثير جداً، فمن ذلك ما روي عن العلامة الحلي(ره) في شأن دعاء العبرات، ، عن السيد الرضي الدين محمد بن محمد بن محمد الآوي(قده)، أنه كان مأخوذاً عند أمير من أمراء السلطان جرماغون، مدة طويلة، مع شدة وضيق فرأى في نومه الخلف الصالح المنتظر،؟ فقال(ع): إنه في مصباحك، فقال: يا مولاي ما في مصباحي؟ فقال(ع): انظره تجده فانتبه فبكى وقال: يا مولاي اشفع في خلاصي من هؤلاء الظلمة.

فقال(ع): ادع بدعاء العبرات، فقال: وما دعاء العبرات؟ فقال(ع): إنه في مصباحك، فقال: يا مولاي ما في مصباحي؟ فقال(ع): انظره، تجده فانتبه من منامه وصلى الصبح، وفتح المصباح، فلقي ورقة مكتوبة فيها هذا الدعاء بين أوراق الكتاب فدعا أربعين مرة.

وكان لهذا الأمير امرأتان إحداهما عاقلة مدبرة في أموره، وهو كثير الاعتماد عليها.

فجاء الأمير في نوبتها، فقالت له: أخذت أحداً من أولاد أمير المؤمنين علي(ع)؟ فقال لها: لم تسألين عن ذلك؟ فقالت: رأيت شخصاً وكأن نور الشمس يتلألأ من وجهه، فأخذ بحلقي بين أصبعيه، ثم قال: أرى بعلك أخذ ولدي، ويضيق عليه من المطعم والمشرب.

فقلت له: يا سيدي من أنت؟ قال: أنا علي بن أبي طالب، قولي له: إن لم يخل عنه لأخربن بيته.

فشاع هذا النوم للسلطان، فقال: ما أعلم ذلك، وطلب نوابه، فقال: من عندكم مأخوذ؟ فقالوا: الشيخ العلوي أمرت بأخذه، فقال: خلوا سبيله، وأعطوه فرساً يركبها ودلوه على الطريق، فمضى إلى بيته[22].

الخامس: ما كان منها بنحو المكاشفة، وليس بنحو الرؤية البصرية.

ويقصد من المكاشفة: انكشاف الواقع لشخص بحيث يرى يقظة مثل ما يرى في المنام، وتختلف المكاشفة عن الرؤية البصرية، في أنها رؤية قلبية، والرؤية البصرية رؤية حسية. فمن هذا القسم، قصة السيد بحر العلوم(قده)، فقد روى المولى السلماسي(ره)، بسند معتبر، قال: صلينا مع جنابه(يعني السيد بحر العلوم)في داخل حرم العسكريـين(ع)، فلما أراد النهوض من التشهد إلى الركعة الثالثة، عرضته حالة، فوقف هنيئة، ثم قام.

ولما فرغنا تعجبنا كلنا، ولم نفهم السبب الذي كان وراء التوقف، ولم يجترأ أحد منا على سؤاله إلى أن أتينا المنـزل، وأحضرت المائدة، فأشار إليّ بعض السادة من أصحابنا أن أسأله.

فقلت: لا، وأنت أقرب منا. فالتفت(ره) إليّ، وقال: فيم تتقاولون؟

قلت: وكنت أجسر الناس علي، أنهم يريدون الكشف عما عرض لكم في حال الصلاة.

فقال: إن الحجة(عج) دخل الروضة للسلام على أبيه(ع)، فعرضني ما رأيتم من مشاهدة جماله الأنور إلى أن خرج منها[23].

السادس: ما يتضمن معجزة أو كرامة جرت على يدي الشخص الذي ألتقي به، ومن ذلك قصة إسماعيل الهرقلي التي تقدم ذكرها آنفاً، وغيرها من القصص التي تتضمن ذلك، فإن كثرتها، يغني عن ذكر شيء منها.

ومن الواضح أنه لن يكون الحكم على الأقسام السابقة من حيث القبول والاعتماد واحداً، فإن ما تضمن حصول اللقاء في عالم الرؤيا والمنام لا يمكن ترتيب أثر عليه، وأقصى ما يمكن الالتزام به فيه، هو القول بكونه حجة على من رأى في المنام، ولا يكون له أثر على غيره.

وكذلك ما كان منها على نحو المكاشفة، فإن حجيته وأثره ستنحصر في خصوص من رأى، دون غيره.

نعم يمكن التعويل عليهما من باب كونهما مصداقاً لخبر الثقة في الموضوعات، وبالتالي يعتمد عليهما، ويستند إليهما، فتأمل.

وأما ما تضمن المعاجز والكرامات، فإن أحرز أن الواقع فعلاً من المعجزة والكرامة، فإنه سوف يؤول لباً إلى القسم الثاني، وهو المشاهدة الحدسية، كما لا يخفى.

هذا ويدور الأمر فعلاً مدار القسمين الأول والثاني، ولا كلام في حجية الأول، والاعتماد عليه، بعد توفر ما يوجب القبول به لاعتبار طريق وصوله، أو لأنه من صغريات خبر الثقة في الموضوعات، فتدبر.

وأما القسم الثاني، وهو ما كان حدسياً، فقد يدعى عدم إمكانية الالتزام بشيء منه، لأن الأخبار ما لم تكن حسية، لا يعول عليها، وقد عرفت أنه إخبار حدسي، فيسقط عن القيمة والاعتبار.

إلا أن الإنصاف، أن رفع اليد عن مثل هذا الكم الهائل من القصص والحكايات لمجرد كونها إخبارات حدسية من الصعوبة بمكان.

والصحيح، هو عدم رفع اليد عن مطلق الإخبارات الحدسية، وعدم الاستناد إليها، بل في المقام تفصيل، أشير إليه في كلمات الشيخ الأعظم(ره)، والإمام الخوئي(قده)، فقد ذكر السيد الخوئي(قده): أن الإخبار عن الشيء على أقسام:

الأول: ما يكون الإخبار فيه عن حس ومشاهدة، كما لو أخبر بطلوع الشمس بعدما نظر إليها وأحرز رؤيتها، وكما لو نظر في الأفق فرأى الهلال فجاء يشهد بوجوده. وقد استقر بناء العقلاء على العمل بمثل هذا الأخبار، لفقد المانع من قبوله، فإنه ينحصر في أمرين: إما كون المخبر كذاباً، وهو مدفوع بعدالته، أو وثاقته، أو كونه غافلاً عما أخبر به، ويدفع احتمال غفلته جريان أصالة عدم الغفلة التي استقر عليها بناء العقلاء.

الثاني: أن يكون الإخبار عن أمر محسوس، مع احتمال أستناد الإخبار إلى الحدس، وليس إلى أمر حسي، كما إذا أخبر عن نزول المطر مثلاً، مع احتمال أنه لم يره، وإنما اعتمد على بعض المقدمات التي يستلزم وجودها وجود المطر بحسب حدسه، كالرعد والبرق مثلاً.

وحكم هذا القسم من حيث القبول والاعتبار حكم سابقه، لأنه لما كان المخبر به من الأمور المحسوسة، فظاهر الحال يدل على أن الأخبار إخبار عن حس، فيكون حجة لنفس النكتة المذكورة في القسم الأول.

الثالث: أن يكون الإخبار عن حدس وليس عن حس، إلا أن الحدس المذكور قريب من الحس، بحيث لا يكون له مقدمات بعيدة، كالأخبار بأن حاصل ضرب عشرة في خمسة يساوي خمسين مثلاً.

وحكم هذا القسم من حيث الحجية والاعتبار به، هو حكم القسم الأول، لأن احتمال الخطأ في هذه الأمور القريبة من الحس بعيد جداً، ومدفوع بالأصل العقلائي، واحتمال تعمد الكذب يدفعه عدالة المخبر، أو وثاقته.

الرابع: أن يكون الأخبار عن حدس مع كونه حدساً ناشئاً من سبب كانت الملازمة بينه وبين المخبر به تامة عند المنقول إليه أيضاً، بحيث لو فرض اطلاعه على ذلك السبب لقطع المخبر به، مثل الإخبار عن اللقاء بصاحب الناحية المقدسة(روحي لتراب حافر جواده الفداء)، ويتضمن اللقاء كرامة له(بأبي وأمي)، فإن المخبر يخبر عن تحقق الرؤية حدساً، وقد نشأ هذا الحدس من أن ما جرى على يديه من كرامة لا يكون إلا منه(عج)، والمنقول إليه يسلم بما نقل إليه من أمر.

وهذا القسم من الإخبار حجة أيضاً، لأنه إخبار عن الأمر الحسي، وهو السبب، والمفروض ثبوت الملازمة بينه وبين المخبر به في نظر المنقول إليه أيضاً.

الخامس: أن يكون الأخبار إخباراً عن حدس، مع كون الحدس ناشئاً من سبب كانت الملازمة بينه وبين المخبر به غير تامة عند المنقول إليه، كما لو تنبأ شخص بقرب حلول اليوم الموعود، وحصول الظهور المقدس، معتمداً على وجود بعض الظواهر الخارجية، فإننا لا نسلم بمثل هذه الأمور، ولا نعول على مثل تلك الظواهر، فلن يكون إخباره ذا قيمة عندنا.

ولا يوجد دليل يدل على حجية هذا القسم من الأخبارات، فإن احتمال الكذب وإن دفع بحال الراوي من عدالة أو وثاقة، إلا أن احتمال الخطأ والغفلة في ما أخبر به لا يوجد ما يدفعه، لأن المتصور هو الاستناد لبناء العقلاء في جريان أصالة الغفلة، لكنها لا تجري في هذا القسم، لأن العقلاء يعتنون باحتمال الخطأ في الأمور الحدسية[24].

ووفقاً لما تقدم، يمكن البناء على القبول بأكثر القصص والحكايات التي تضمنت اللقاء بالإمام صاحب الناحية المقدسة(روحي لتراب حافر جواده الفداء)، لأنها وإن كانت إخبارات حدسية، إلا أنها لن تخرج عن أحد الأٌقسام الثلاثة المذكورة، إما الثاني، أو الثالث، أو الرابع، وقد عرفت حجية جميع هذه الأقسام، فلاحظ.

بل لو قيل أن أغلبها يعود إما للقسم الثاني، أو القسم الثالث، لم يكن ذلك بعيداً، فتدبر.

[1] بحار الأنوار ج 52 باب من أدعى الرؤية في الغيبة الكبرى ح 9. ولا يذهب عليك أنه يمكن لمن يقول بخفاء الشخص جعل الخبر المذكور دليلاً على مختاره، بحمل اللقاء الذي وقع بين يوسف وأخوته، أنه كان لقاءاً تقتضيه المصلحة. اللهم إلا أن يؤخذ في اللقاء في خفاء الشخص أن يكون الملتقي به عارفاً به حال اللقاء ليكون مختلفاً عن اللقاء به في حال خفاء العنوان، فلاحظ.

والإنصاف، بعد حمله على خفاء الشخص، فإن ما جاء في ذيله، كاشف عن تكرر ذلك منه خارجاً، من دون أن تكون هناك مصلحة تقتضيه، وتفصيل ذلك أكثر في البحث حول مسألة الغيبة، وحقيقتها، فليطلب من هناك.

[2] الغيبة الكبرى ص 36.

[3] قصار الحكم الكلمة رقم 147.

[4] سورة الكهف الآية رقم 65.

[5] بحار الأنوار ج 52 باب علة الغيبة وكيفية انتفاع الناس به(ع) ح 8 ص 92-93.

[6] كمال الدين ب 45 ح 4 ص 485.

[7] بحار الأنوار ج 52 ص 93-94.

[8] الإلهيات ج 2 ص 642-645(بتصرف).

[9] مصباح الأصول ج 2 ص 136. موسوعة الإمام الخوئي ج 47 ص 159.

[10] صراط النجاة ج 2 مسائل في الأحاديث الشريفة سؤال رقم 1628 ص 474.

[11] لا ينبغي الوهم بحصر الأمر في خصوص توقيع السمري، بل هناك نصوص أخرى تشير إلى نفس مضمونه تتحدث عن وقوع الغيبة الكبرى، فتدبر.

[12] بحار الأنوار ج 52 باب من أدعى الرؤية في الغيبة الكبرى وأنه يشهد ويرى ح 1 ص 151.

[13] راجع كلمات مهدوية ص 35.

[14] قصص العلماء ص 358، مختلف الشيعة ص 146.

[15] فسرت الفرجية، بأنها ثوب واسع، طويل الأكمام يتزيى به علماء الدين.

[16] بحار الأنوار ج 52 باب ذكر من رآه(ع) ح 51.

[17] الغيبة الكبرى ص 133-134.

[18] العارف ذو الثفنات ص 84-85.

[19] الأنوار النعمانية ج 2 ص 303، النجم الثاقب ج 3 ص 126-126 الحكاية 63.

[20] ربما يمنع حصر الأمر في خصوص السماع للصوت، بل يحكم بتحقق المشاهدة، لأن الموجب لحصره في السماع عدم التصريح باللقاء، وحمل الأمر على ما كان بينه وبين أمير المؤمنين(ع)، فلاحظ. مع أنه يمكن القول بوجود فرق بين أمير المؤمنين(ع)، وصاحب الناحية(عج)، وعلى أي حال، فقد يجد القارئ العزيز قصصاً أوضح في هذا القسم مما ذكرنا.

[21] النجم الثاقب ج 3 ص 165-166، الحكاية رقم 77. جنة المأوى ص 238-239.

[22] بحار الأنوار ج 53 ص 221-222 في ذكر من فاز بلقاء الحجة في الغيبة الكبرى الحكاية الرابعة، النجم الثاقب ج 2 ص 402 الحكاية الثانية والعشرون.

[23] النجم الثاقب ج 3 ص 162 الحكاية رقم 75، جنة المأوى ص 237.

[24] مصباح الأصول ج 2 ص 134-135 ، موسوعة الإمام الخوئي ج 47 ص 156-157.

تعليقات الفيسبوك

التعليقات مغلقة