المختار في هدف نزوله:
من الطبيعي أن يكون للقرآن الكريم هدف نزل من أجله، تسعى النظرية القرآنية إلى تطبيقه، وتحقيقه من خلال وجودها، وسوف تكون ثمرة هذا الهدف تفسيره لكل آية من آيات القرآن، فما هو ذلك الهدف الأساس الذي نزل القرآن الكريم من أجله؟
إن استعراض الآيات القرآنية، والمقارنة بينها يفيد وجود هدف رئيس لنزوله، ووجود مجموعة من الأهداف الثانوية التي تساهم في تحقيق ذلك الهدف[1]. ويستفاد من الآيات المباركة، وجود أبعاد ثلاثة لذلك الهدف يقوم عليها، بحيث يتوقف تحققه على حصولها، وإلا فلا.
والهدف الرئيس هو العملية التغيـيرية الشاملة للناس جميعاً، ويتوقف تحققها على كونها عملية تغيـيرية جذرية، مع وجود رسم للطريق والمنهج لهذا التغيـير، وإيجاد قاعدة انسانية ثورية ذات قابلية لحمل لواء الإسلام والقيام بالتغيـير مستقبلاً.
ويتضح ما ذكرناه، عند ملاحظة الأبعاد الثلاثة التي يتوقف وجود الهدف عليها:
البعد الأول: التغيـير الجذري في المجتمع الانساني كله:
ويتضح هذا البعد بملاحظة مقدمتين:
الأولى: وجود محور أساس لكل عمل من الأعمال:
فقد ذكر أن لكل عمل من الأعمال محور أساس يقوم عليه، وهو الإنسان والنفس الإنسانية في العملية التغيـيرية وفقاً لآيات القرآن الكريم، فإن الظاهر منها أن العملية التغيـيرية تنطلق من قاعدة تغيـير النفس الإنسانية، قال تعالى:- (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)[2].
الثانية: حدود التغيـير المقصود تحقيقه:
فإن للتغيـير شكلين، لابد من تحديد المستهدف منهما في العملية التغيـيرية:
أحدهما التغيـير الإصلاحي: وهو التغيـير الذي يتضمن إقراراً لما عليه المجتمع من نظم وقوانين ومعطيات، إلا أنه يرى وجود بعض الحيثيات الموجودة فيه تحتاج إصلاحاً، فيقصر العملية التغيـيرية في إصلاح تلك الأمور.
وبكلمة، هو لا يعتقد وجود حاجة إلى التغيـير الشامل، وإنما يكتفي بالتغيير الجزئي، وإصلاح الوضع القائم، فلاحظ.
ثانيهما: التغيـير الجذري: وهو شمول التغيـير لكافة النظم والقوانين والأصول والمعطيات الموجودة في المجتمع، ولا يمنع بقاء بعض الأمور الثانوية على حالها، وهذا ما يعبر عنه في العصر الحديث بالعملية الانقلابية، وبالثورة.
ولا يختلف أثنان في أن المستهدف للقرآن الكريم من نزوله هو الشكل الثاني من التغيـير دون الشكل الأول، وقد عبر القرآن عن هذا الشكل من التغيـير بالإخراج من الظلمات والإدخال في النور، قال تعالى:- (هو الذي ينـزل على عبده آيات بينات ليخرجكم من الظلمات إلى النور وإن الله بكم لرؤوف رحيم)[3].
وهذا يعني أنه حتى يحصل التغيـير الجذري في أي مجتمع لابد من تحديد أصول الظلمة الموجودة فيه، وهي تتمحور في الطاغوت، الذي تقوم عليه أسس الظلمات والتي يخرج منها الإنسان إلى النور وهو الله تبارك وتعالى. فالمجتمع الذي يقوم على أسس ومقومات إلهية، يكون مجتمعاً نورانياً، أما لو كان يقوم على الانحراف والفساد والباطل، فإنه مجتمع طاغوتي. ولا يلزم أن لا يوجد في المجتمع النوراني شيء من الانحراف أو الفساد، إلا أن ذلك لا يمثل ظاهرة طاغية فيه. وفي المقابل إذا غلبت الحالة الطاغوتية في المجتمع عدّ طاغوتياً وإن كان يتضمن شيئاً من القيم والأخلاقيات والارتباط بالله تعالى، فيحتاج إلى تغيـير جذري حينئذٍ.
ويؤكد أن التغيـير الجذري أعني الإخراج من الظلمات هو البعد الأول للهدف الرئيس لنزول القرآن، ربط هذه العملية في الآيات بشكل معاكس متضاد بتوجهات الإنسان بالله تعالى من جهة، وبالطاغوت من جهة أخرى في مجالات حياته وممارساته ونتائج مسيرته[4].
مهمة أولي العزم من الرسل:
وهذا يفسر لنا شيئاً من الفرق بين الأنبياء أولي العزم(ع)، وغيرهم من الأنبياء(ع)، فقد انصبت وظيفة أولي العزم على التغيـير الجذري، وليس الإصلاحي، بخلاف بقية الأنبياء(ع)، لأنهم كانوا يبعثون إلى مجتمعات تعيش حالة الظلمات التي تنتهي أصوله إلى محور الطاغوت، فيحاولون تغيـيرها إلى مجتمع النور، قال تعالى:- (ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة)[5]. وقد كانت عملية الاجتناب من خلال تلاوة الآيات عليهم، قال تعالى:- (يتلو عليهم آياته).
شمولية عملية التغيـير الاجتماعي:
وتبرز العملية التغيـيرية التي استهدفها القرآن الكريم بنـزوله من خلال حديثه عن مهمة النبي(ص)، سواء تجاه الأميـين من الناس، قال تعالى:- (هو الذي بعث في الأميـين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين)[6].
أم تجاه أهل الكتاب، قال سبحانه:- (الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم)[7].
ولسنا بحاجة إلى الحديث أكثر في شرح واقع المجتمع الجاهلي الذي بعث فيه النبي(ص)، لمعرفة الحالة الطاغوتية التي كانت متجذرة فيه، ومدى حاجته للتغيـير الجذري[8].
البعد الثاني: المنهج الصحيح للتغيـير:
لا ريب أن تطبيق العملية التغيرية الجذرية التي نزل القرآن من أجلها لابد وأن يكون وفق خطة مدروسة، ونتيجة وجود منهج متبع يسار عليه، ولم يغفل القرآن الكريم هذه الناحية، فقد تضمنت آياته الشريفة جملة من المفاهيم القرآنية والواجبات والأساليب التي ترسم الطريق والمنهج للإنسان وتهديه إلى وسيلة النجاة في الدنيا والآخرة، وأن العملية التغيـيرية متوقفة عليها. وقد أشار القرآن الكريم للمنهج بقوله تعالى:- (اهدنا الصراط المستقيم* صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين)[9]، لأن الهداية تعني الدلالة على الطريق.
وقد لخص القرآن الكريم هذا المنهج في كلمتين، وهما(الكتاب) و(الحكمة)، قال تعالى:- (هو الذي بعث في الأميـين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة)[10]، ومع وجود أقوال عديدة في تحديد المقصود من الكتاب في الآية، من قبيل أنه الدين، أو أنه الشريعة، أو أنه مجموعة من التعليمات والقوانين والتشريعات، إلا أنها في النهاية تشير إلى مؤدى واحد، مفاده الطريق والمنهج الذي وضع للإنسان ليتبعه ويسير عليه للوصول للهدف. وأما الحكمة، فقد ذكر أنها تمثل مجموعة الحقائق التي ترتبط بالكون، وهي بهذا تصب في نفس المؤدى الذي يشير إليه الكتاب من رسم خارطة الطريق التي يلزم السير عليها للوصول للغاي وتحقيق الهدف، فلاحظ[11].
البعد الثالث: إيجاد القاعدة الإنسانية الثورية:
ولا يذهب عليك، أننا نقصد بهذا البعد، البعد الكمي، مقابل البعد الكيفي الذي يمثله البعد الثاني، فلاحظ.
وعلى أي حال، فإن العملية التغيـيرية تتوقف على وجودهم، فتقوم تلك القاعدة بحمل الإسلام في كافة مراحل الوجود البشري، قال تعالى:- (هو الذي بعث في الأميـين رسولاً منهم يتلو عليهم آياتهم ويزكيهم ويعلمهم)[12]، إذ يستفاد منها استهداف القرآن الكريم مجموعة معينة بالتربية والتزكية والتعليم لتكون الجماعة الصالحة التي يعتمد عليها ويعول في حمل لواء الإسلام على طول الزمان. وهذا لا يتنافى مع كون الرسالة المحمدية عالمية، فلاحظ. لأن العملية التغيـيرية لن تحصل بصورة دفعية، بل تحتاج إلى مدة زمنية غير قليلة، فيستدعي ذلك وجود جماعة خاصة تتحمل تلك المسؤولية تجاه العنصر البشري، وتتابع العمل التغيـيري الجذري طيلة الحياة الإنسانية. وهذا ما قصدناه بقولنا البعد الكمي، فتدبر.
ولعل ما ذكر يفسر سر تسليط القرآن الكريم في عديد من خطاباته على خصوص العرب الذين بعث إليهم النبي(ص)، مع أن المفروض كون الخطاب للعالم أجمع، فإنه كان يهدف إلى تغيـير تلك الجماعة الخاصة، وإعدادها لتكون هي التي تتولى بعد ذلك عملية تغيـير بقية العنصر الإنساني، ويساعد على هذا التهديد الذي وجه إلى هذه الجماعة بالخصوص، بأنها لو لم تقم بذلك فسوف تخضع لعملية الاستبدال، قال تعالى:- (وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم)[13] فتدبر.
وقد يفسر لنا الحاجة إلى وجود البعد الثالث في عملية التغيـير بعض الظواهر القرآنية التي تضمنتها الآيات الشريفة، مثل ظاهرة لاهتمام بالأصنام، فإن مجرد وجود عبادتها من قبل الإنسان قد يكون متصوراً لأي سبب من الأسباب أو الظروف، وبالتالي يحتاج عابدها إلى بيان بطلان هذه العبادة، أما أن تمثل هذه القضية أعني عبادة الأصنام ظاهرة تركز عليها الآيات القرآنية بصورة أساسية ومستمرة، فإن ذلك يثير استغراباً واستفهاماً، لكنهما يزولان إذا توجهنا إلى أن القاعدة المستهدفة للقرآن، تتبنى عبادتها، لذلك صب القرآن الكريم اهتماماً خاصاً على ذلك رغبة منه في معالجة هذه القضية.
ومثل ذلك تأكيده على أصالة ظاهرة الوحي وأنه ليس أمراً مستغرباً، فإنه لو نزل عند أهل الكتاب لم يحتج إلى كل هذا التأكيد، لكن نزوله في المجتمع الأمي يوجب ذلك، للفرق بين المجتمعين، فإن مجتمع أهل الكتاب، كان مجتمعاً يؤمن بالوحي وبالرسالات لبعثة الأنبياء فيهم، دون المجتمع الأمي الذي بعث فيه النبي(ص)، فإنه لم يعرف الأنبياء، ولا الوحي أو الرسالات، فلاحظ.
ويجري ذلك أيضاً في شأن خليل الرحمن إبراهيم(ع)، وحنفيته، وإخلاصه في التوحيد والعبادة، ودوره في الإسلام ونسبته إليه، وغير ذلك[14].
الأهداف الثانوية:
ثم لا يذهب عليك، أنه بناء على الالتزام بوجود مجموعة من الأهداف الثانوية لنـزول القرآن، فسوف يكون لها تأثير في تحقيق الهدف الأساس الذي نزل القرآن الكريم من أجله، لأنها سوف تكون بمثابة السبل المستخدمة في تحقيقه، فلاحظ.
تحقيق القرآن هدف نزوله:
ويبقى عندنا في ختام هذا البحث، سؤال، مفاده: هل حقق القرآن الكريم الهدف من نزوله، أم أنه بعد لم يتحقق ذلك؟
قد يعتقد الكثير أن الهدف من نزول القرآن الكريم، وهو التغيـير الجذري لن يتحقق إلا عند قيام دولة الحق على يدي سيدي ومولاي صاحب الناحية المقدسة(روحي لتراب حافر جواده الفداء)، وهذا لن يكون إلا بعد الظهور المقدس.
ولا خلاف لنا في أنه متى قامت دولة الإمام القائم(بأبي هو وأمي)، فإنها سوف تكون دولة العدالة التامة، والمحققة لقوانين السماء كلها، إلا أن القول بعدم تحقق الهدف من نزول القرآن إلا في تلك المرحلة، يكشف عن عدم حصول الغرض من بعثة النبي(ص)، وهذا ما لا يمكن القبول به.
والصحيح أن التغيـيـر الجذري والذي نزل القرآن الكريم من أجله قد تحقق، وأن له أبعاداً وصوراً حصلت بعد البعثة المحمدية المباركة، في الوسط العربي الأمي الذي بعث فيه(ص)، ويمكن ذكر بعض تلك الصور:
منها: تحرير الإنسان من الوثنية:
فقد كان المجتمع الذي بعث فيه النبي الأمي يقدس الحجارة ويعبدها ويسجد إليها، ولما جاء القرآن الكريم حرره من أسر الوثنية ومهانتها، بل من مختلف العبوديات المزيفة التي كانت موجودة في تلك الحقبة الزمنية، وركز عوضاً عنها فكرة العبودية المخلصة لله تعالى وحده، وأعاد بذلك للإنسان كرامته وإيمانه بربه. وقد استطاع القرآن أن ينتصر على الوثنية وألوانها المختلفة، ويصنع من المشركين أمة موحدة تؤمن بالله، إيماناً يجري في دمائها وينعكس في كل جوانب حياتها، وليس مجرد إيمان نظري فقط.
ومنها: تحرير العقل البشري:
لقد كان مجتمع الأميـين الذين بعث فيهم النبي(ص) مجتمعاً تسيطر عليه الخرافات والأساطير، لضعف مستواهم الفكري والمعرفي، فعلى سبيل المثال كانوا يعتقدون أن نفس الإنسان طائر ينبسط في جسمه، فإذا مات أو قتل يكبر حتى يصبح في حجم البوم، ويبقى أبداً يصرخ ويتوحش ويسكن في الديار المعطلة والمقابر، ويسمونه الهام، وكانوا يعتقدون بالغول ويؤمنون بأساطيره، وأنهم يتغول لهم في الخلوات، ويظهر لخواصهم في أنواع الصور فيخاطبونها، وكانوا يعتقدون أن لطرد الغول أبياتاً محفوظة عندهم يقرأونها، وغير ذلك.
ولما جاءت رسالة السماء متمثلة في الإسلام، حاربت جميع تلك الأمور، ومحت تلك الأوهام من خلال تنوير العقل والمطالبة بحرية الفكر وعدم التقليد والاتباع الأعمى بالجمود على تراث السلف. فأتخذ الدعوة للتفكير في الكون والنظر طريقاً لتحريك العقول الجامدة، وقد أدت دعوة النبي(ص) إلى تعويض تلك الخرافات الموجودة والأساطير إلى امتلاكهم معارف وعلوماً مفيدة.
ومنها: تحرير الإنسان من عبودية الشهوة:
ولم يكتف القرآن بتحرير الإنسان من أسر العبودية للوثنية، وبتحرير عقله من الخرافات والأساطير، بل قام بتحرير إرادته من سيطرة الشهوة عليها، فصار نتيجة لتربية القرآن قادراً على مقاومة الشهوات وضبطها والصمود في وجه الإغراء وألوان الهوى المتنوعة[15].
[1] عبرنا عنها بالأهداف مع أنها ليست كذلك، بل هي وسائل مماشاة لصاحب الرأي قد تبنيناه، فلاحظ.
[2] سورة الرعد الآية رقم 11.
[3] سورة الحديد الآية رقم 9.
[4] علوم القرآن ص 51.
[5] سورة النحل الآية رقم 36.
[6] سورة الجمعة الآية رقم 2.
[7] سورة الأعراف الآية رقم 157.
[8] علوم القرآن ص 49-53، تفسير سورة الحمد ص 75-79.
[9] سورة الفاتحة الآيتان رقم 6-7.
[10] سورة الجمعة الآية رقم 2.
[11] علوم القرآن ص 53-55، تفسير سورة الحمد ص 79-80(بتصرف)
[12] سورة الجمعة الآية رقم 2.
[13] سورة محمد الآية رقم 38.
[14] علوم القرآن ص 55-57، تفسير سورة الحمد ص 80-84(بتصرف).
[15] علوم القرآن ص 62-70(بتصرف).