ذكرت للحكم الشرعي تقسيمات في كلمات الأعلام:
منها: تقسيمه إلى حكم شرعي أولي، وحكم شرعي ثانوي:
ويقصد من الحكم الشرعي الأولي ما يكون صادراً على الأشياء بعناوينها الأولية، من دون ملاحظة طروء أي عنوان آخر عليها، مثل حرمة أكل لحم الميتة، فإنه يلحظ من دون النظر إلى وجود اضطرار إلى أكلها، أو غير ذلك، ومثل حرمة النظر إلى المرأة الأجنبية، من دون ملاحظة وجود اضطرار إلى علاجها من قبل الطبيب المختص، وهكذا.
وأما الحكم الشرعي الثانوي، فيقصد منه: الحكم الذي يلاحظ فيه العناوين الطارئة، بحيث يكون وجوده مترتباً على وجودها، فوجود حالة الاضطرار وحفظ النفس من الهلاك، توجب تناول لحم الميتة، ومثل ذلك حصول حالة الحرج الشديد، أو العسر فإنهما يوجبان تغير الحكم.
وبالجملة، إن المقصود من الحكم الثانوي، هو تغير الحكم الأولي والذي لم يكن ملحوظاً فيه أي جانب من الجوانب الخارجية الطارئة نتيجة بعضالظروف إلى حكم آخر، ولا يذهب عليك أن تغير الحكم فيه ناجم من تغيرالموضوع، فإن حرمة أكل لحم الميتة، قد كان موضوعها هو الإنسان المختار، بينما حلية أكل لحمها صار موضوعه الإنسان المضطر، فلاحظ.
ووفقاً لما ذكر تعريفاً للحكم الثانوي، فإن ذلك يفيد عدم خلو مورد من موارد التشريع منه، إذ أن ملاحظة العوارض الطارئة توجب وجوده وتحققه خارجاً، نعم لا إشكال في كون الحكم الأولي مقدماً على الحكم الثانوي، ذلك أن الأحكام الأولية، أحكام ثابتة لموضوعاتها، مع قطع النظر عن العوارض التي تطرأ عليها، الموجبة لتغير الأحكام حينئذٍ، وهذا بخلافه في الأحكام الثانوية، فإنها غير ثابتة، لأن وجودها كما عرفت معلق على العنوان الطارئ، فلاحظ.
الحكم الفتوائي والولائي:
ومنها: تقسيمه إلى حكم شرعي فتوائي، وإلى حكم شرعي ولائي:
ويقصد من الحكم الشرعي الفتوائي: الحكم الكلي الفرعي الذي يكون مستنبطاً من أحد الأدلة الأربعة المعدة لاستنباط الأحكام الشرعية، كالكتاب العزيز، والسنة الشريفة. مثل وجوب التقصير على المسافر، فإنه حكم كلي فرعي، قد استنبط من قوله تعالى:- (وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُواْ لَكُمْ عَدُوًّا مُّبِينًا )[1]
ومثل وجوب الإفطار على المريض والمسافر، لاستفادتهما من قوله تعالى:- (ثُمَّ أَنتُمْ هَؤُلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِم بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِن يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ )[2].
ولا يذهب عليك أن الحكم الفتوائي، قد يكون حكماً أولياً، كما قد يكون حكماً ثانوياً، فلا تغفل.
وأما الحكم الشرعي الولائي، فهو: الذي يكون صادراً من الحاكم من جهة كونه ولياً وحاكماً، لا بلحاظ كونه مرجعاً.
وهذا يعني أن الحكم الولائي والحكم الفتوائي يشتركان في كون مصدرهما واحد، وهو الفقيه الجامع لشرائط الفتوى، إلا أن موجب صدورهما يختلف، ذلك أن الحكم الفتوائي يصدر عن الفقيه بلحاظ كونه مرجعاً في التقليد، بينما يصدر الحكم الفتوائي عن الفقيه بلحاظ حاكميته، وقيادته للأمة، ومسؤوليته عنها. ولهذا يعبر عن الحكم الولائي أيضاً بالحكم الحكومتي.
وبكلمة أخرى، إن الحكم الحكومتي، يختلف عن الحكم الفتوائي، في كون صدوره يأخذ فيه جهة الحاكمية، فيصدر الحاكم الواجب الطاعة في المصلحة التي يشخصها الحاكم، ويكون حكمه نافذا حينئذٍ.
ومن الطبيعي جداً، أن هذا يستوجب عدم تعدد الحكام المتصدين لذلك، وحصرهم في فرد واحد، خصوصاً مع عدم اختلاف الحدود الجغرافية، ووقوعه في رقعة واحدة، إلا أن هذا لا يمنع من وجود طولية في التصدي، بحيث لو لم يتصد المتصدي لذلك أمكن لغيره من الفقهاء اصدار الأحكام الولائية، فلاحظ.
ومن الواضح أن هناك جهة اشتراك بين الحكمين الثانوي، والولائي، ذلك أن كليهما يعدّ أمراً طارئاً على موضوع الحكم القاضي بتغيره، وفقاً لذلك العنوان الطارئ، وهذا يجعلهما مشتركين أيضاً في عدم كونهما ثابتين ومستقرين دائماً، وإنما يكون وجودهما وجوداً مؤقتاً وفقاً لوجود ذلك العنوان الطارئ، كما لا يخفى.
موجبات وجود الحكم الثانوي:
نعم لا يبعد القول بأن الحكم الولائي فرد من أفراد الحكم الثانوي، بحيث يبنى على شمولية الحكم الثانوي إليه، ذلك أن الأعلام قد ذكروا أن موجبات الحكم الثانوي أمور:
منها: الضرورة والاضطرار، فيجوز للمضطر ترك صيام شهر رمضان المبارك.
ومنها: الضرر والضرار، فلو كان الوضوء ضررياً على المكلف، تركه وانتقل إلى التيمم.
ومنها: العسر والحرج، فلو كان الطواف بين البيت والمقام حرجياً على المكلف، أو يوجب له العسر، جاز له الطواف خلف المقام حينئذٍ.
ومنها: موارد التقية، فيجوز للمكلف السجود على ما لا يصح السجود عليه تقية.
ولا ينحصر الأمر في ما ذكر من موارد، بل هناك موارد أخرى يجدها القارئ في طيات كلام الأعلام(ره)، أشير إليها في مطاوي البحوث الفقهية، إلا أننا نقتصر على خصوص ما ذكرنا حذراً من الإطالة.
والظاهر أن العنوان الجامع لجميع ما ذكروه من موجبات حصول الأحكام الثانوية، ملاحظة عنصر الأهمية، فيقدم الأهم على المهم حال وقوع المزاحمة بينهما.
وهذا يعني أن النكتة الموجبة لانطباق الحكم الثانوي، هي عبارة عن تزاحم المصالح، لوجود مصلحتين يقع التزاحم بين ملاكيهما، وقد جرت القاعدة أنه في موارد التزاحم بين الملاكات، يعمد إلى الأخذ بالأكثر أهمية منهما، ففي مورد التقية، يدور الأمر مثلاً بين مصلحة السجود على ما يصح السجود عليه، وبين مصلحة حفظ النفس من الضرر، فعندها ينظر أي الملاكين أكثر أهمية، فيعمد إلى تقديمه، وكذا في مسألة حرمة أكل الميتة، وجوازه حال الاضطرار، يدور الأمر بين مصلحة حرمة أكلها، وبين مصلحة حفظ النفس، فيقدم الأهم منهما ملاكاً، وهكذا.
وبالجملة، لا يخلو مورد من الموارد من وجود مصلحة فيه، وعند وجود طارئ يوجب تغير ذلك الحكم، توجد مصلحة أخرى، فتقع المزاحمة عندها بين هاتين المصلحتين، الأولى وهي الثابتة لأصل الحكم، والثانية، وهي التي وجدت جراء الطارئ على الموضوع، فيكون التقديم عندها للأهم منهما ملاكاً، فلاحظ.
ولا يخفى أن هذه النكتة بنفسها جارية في الأحكام الولائية، لما سيتضح من أن الموجب لإصدارها مراعاة جملة من المصالح المعارضة بمصالح أخرى، إلا أن ملاكها لما كان أكثر أهمية من ملاك المصلحة الأخرى، وجب ذلك تقديمه على الحكم الآخر، فتدبر.
وبالجملة، إن البناء على عدّ الأحكام الولائية من صغريات الأحكام الثانوية، ومن موجباتها ومن مصاديقها، كبقية الأمور المذكورة في كلمات الأعلام، غير بعيد[3]، فلاحظ.
كيفية تحديد الملاك الأهم:
نعم يبقى الكلام في كيفية تحديد الأهم ملاكاً حال وقوع التزاحم بينهما، وقد ذكرت لذلك ضوابط لتحديد الملاك الأهم، وهي كالتالي:
منها: فقدان البدل لأحد المتزاحمين، ووجوده للمزاحم الآخر، من دون فرق بين كون البدل اختيارياً كما في التخيـير في كفارة الإفطار في نهار شهر رمضان مثلاً، أو اضطرارياً كما في التيمم بالنسبة إلى الوضوء، أو الجلوس بالنسبة إلى القيام في الصلاة، وعليه يكون الذي لا بدل له أهم مما له البدل عند المزاحمة، لأن الشارع قد رخص في ترك ما له البدل لينتقل إلى الاتيان ببدله، ولم يرخص في ترك ما ليس له بدل.
ومنها: أن يكون أحد المتزاحمين مضيق الوقت، أو يكون فورياً، ويكون الآخر موسعاً كما لو دخل المسجد لأداء الصلاة في أول وقتها فوجد فيه نجاسة، فإن وقت الصلاة موسع بحسب الفرض، والتطهير فوري أو مضيق، فيكون تقديم الفوري أو المضيق على الموسع، لوجود بدل طولي اختياري له.
ومنها: أن يكون أحد الأمرين مقدماً في مقام الامتثال بحسب الزمان على الآخر، كما لو انحصرت قدرته في القيام في الصلاة على قيام لركعة واحدة، ودار الأمر بين أن يكون قيامه في الركعة الأولى، والركعة الثانية، فإنه يكون المتقدم وهو القيام في الركعة الأولى مستقر الوجوب لتوفر القدرة الفعلية بالنسبة إليه، وبفعله تنتفي القدرة عن القيام في الركعة الثانية، ولا يكون له مجال.
نفي التشريع عن الفقيه:
وبناء على ما ذكرنا من جعل الأحكام الولائية من صغريات الأحكام الثانوية، سوف تندفع شبهة قد ترد إلى بعض الأذهان، لأنه ربما يعتقد أن معنى صدور الحكم الولائي من الحاكم الشرعي، يعطيه حق التشريع، ليكون مثله مثل النبي الأكرم محمد(ص)، فكما أن للنبي(ص) حق التشريع يكون ذلك ثابتاً للفقيه الحاكم.
لوجود المغايرة بين الأمرين تماماً، فإن حق التشريع الثابت للنبي الكريم محمد(ص)، وفقاً لما دلت عليه النصوص الشريفة-دون بقية المعصومين(ع)، للخلاف بين الأعلام في ثبوته لهم، نتيجة التوقف في تماميةالدليل على ذلك، كما حقق في محله- يختلف تماماً عن الحق الثابت للفقيه الحاكم في الحكم الولائي، فإن النبي(ص) يتصرف بجعل حكم لم يكن مجعولاً من قبل في منطقة الجعل والتشريع، ويكون الحكم المجعول من قبله تشريعاً، ويكون هذا التشريع شاملاً للحالات الثابتة والمستمرة، كما يتضمن ملاحظة الطوارئ والعوارض التي تعرض على الموضوعات الخارجية، وهذا بخلافه في الأحكام الولائية التي تصدر عن الفقيه الحاكم، فإنها لا تلحظ إلا في خصوص الأحوال والعوارض الطارئة على الموضوعات الخارجية وفق مصلحة مقدرة.
وبالجملة، لا مجال لعدّ ما يصدر من الفقيه الحاكم تشريعاً، وإنما هو تصرف منه في منطقة الفراغ التشريعي.
منطقة الفراغ التشريعي:
ومع نفي كون الصادر من الحاكم تشريعاً، وحصره بكونه تصرفاً في منطقة الفراغ التشريعي، وقد يتصور أن هذا التعبير يشير إلى عدم استيعاب الأحكام الشرعية، وعدم شموليتها لجميع أفعال المكلفين، ما يعني وجود جملة من الموضوعات قد تركها الشارع المقدس دون أن يحكم عليها، وأنها فارغة عن حكمه تعالى.
ويندفع هذا التصور، حال الإحاطة بكيفية وجود هذا المصطلح، والدواعي التي أدت إلى وجوده، فهو مصطلح لم يرد في شيء من الأدلة، وإنما ورد على ألسنة الفقهاء والباحثين في الفقه الإسلامي، ولا يبعد أن منشأها الأصل هو الشهيد الصدر الأول(ره) في كتابه اقتصادنا[4]، وقد وسع من جاء بعده هذا المصطلح، ليخرج به عما ذكره فيه السيد الشهيد(ره)، في دائرة الاقتصاد الإسلامي إلى غير ذلك.
وقد برر وجود هذا المصطلح في كلماتهم، بكونه إجابة على دعوى جمود الشريعة، وعدم تطورها بما تقضي متغيرات الحياة وتبدلاتها[5].
تعريف منطقة الفراغ التشريعي:
وكيف كان، فقد ذكرت لهذا المصطلح تعريفات، يمكن إرجاعها إلى ثلاثة:
الأول: ما تضمن تحديد دائرة منطقة الفراغ في خصوص المباحات التي لم يرد من الشرع الشريف فيها نص ملزم:
منها: منطقة المباحات الأصلية في الشريعة المقدسة، وقد خلت من النصوص الشرعية في الكتاب والسنة[6].
ومثله ما ذكر في كلمات الشهيد الصدر الأول(ره)، فإنه قد حدد منطقة الفراغ التي يمكن للفقيه الولي التصرف فيها بالأمور المباحة بطبيعتها، والتي لم يرد فيها نص تشريعي يدل على الإلزام فيها حرمة أو وجوباً، فيمكن للولي إعطائها صفة ثانوية أمراً أو منعاً[7].
ولم يفرق(قده) بين كون المتصدي لملأ هذا الفراغ فرداً أو الدولة، وفقاً للظروف المتطورة الموجبة لتحقق الصورة الإسلامية للعدالة الاجتماعية[8].
الثاني: ما تضمن تحديد منطقة الفراغ بالموارد التي لم يرد فيها نص مطلقاً، فتجري في الموضوعات التي ليس لله تعالى فيها حكم عند نزول الشريعة وتبليغها من قبل النبي(ص)، وقد ترك أمر التشريع فيها لولي الأمر بما يراه مناسباً.
ومثل ذلك تحديد جريانها بالقضايا الدنيوية التي لم يرد في شأنها تشريع في الكتاب والسنة، وغير ذلك.
الثالث: ما تضمن أن موضوعها عبارة عن المتغيرات والمستجدات التي تقتضيها الظروف الطارئة، من ودون فرق بين كونها مما ورد فيه النص أو لا. وعليه عرفت بأنها المنطقة التي ترك الشارع ملئها إلى الحاكم الشرعي حسب ما تقتضيه المصلحة والظروف التي تمر بها البلاد.
ووفقاً لما يستفاد من التعريفات المذكورة لهذا العنوان يتضح أن المقصود من منقطة الفراغ التشريعي: المنطقة التي يتولى التشريع فيها ولي الأمر والفقهاء، بما تقضي به حاجة الأمة في تطورها وما يطرأ عليها من تبدلات وتغيرات[9].
والتعبير بالتشريع هنا لا يقصد منه الجعل والاعتبار الثابت لله سبحانه وتعالى وللنبي الأكرم محمد(ص).
دائرة الحكم الولائي:
قد ظهر من التعريفات السابقة الدائرة التي يمكن للحاكم الشرعي التصرف فيها بجعل أحكام ولائية، وهي نظريات ثلاث:
الأولى: ما جاء في بعض الكلمات، من أن موضوعها عبارة عن المجهولات التي لم يرد لها في الشرع عنوان بخصوصها، أو بما يعمها، فتكون شاملة لموضوعات خارجية وأفعالاً وتروكاً وعلاقات بين البشر وأفراداً وجماعات ودولاً.
ولما كانت هذه الموضوعات جديدة الوجود، فلم تكن موجودة في عصر صدور النص الديني، لم يرد فيها نص من الشارع المقدس.
ومن المعلوم أن الحكمة الإلهية قد اقتضت عدم حصر البشر في جانب حياتي خاص، بل هم يتطورون، استدعى ذلك أن يوجد لهذه الموضوعات الجديدة حكماً، فيكون بيد الفقيه الحاكم. نعم لا يجري ما ذكر في شيء من العبادات، لأنها من الأمور التوقيفية، فلا يمكن أن تتغير وفق معطيات الظروف الخارجية وتحولات الزمان، لأنه قد لوحظ في أصل تشريعها منذ البداية تغيرات الانسان من حيث المكان والظروف والإمكانات، وعليه، فسوف يتسنى للفقيه الحاكم التصرف في كل ما لم يصدر فيه نص من الشارع المقدس من الموضوعات المستحدثة والمستجدة التي لم تكن موجودة في عصر التشريع، ففي المجال الطبي، لما كان موضوع نقل الأعضاء غير موجود في عصر صدور النص، يمكن للحاكم أن يصدر فيه حكماً ولائياً، سواء بالمنع، أم بالإمكانية، وكذا في مسألة التلقيح الصناعي، يمكن للحاكم الشرعي أن يحكم بجوازه أو بحرمته، وهكذا.
وكذا في المعاملات المالية، فإن القروض البنكية وإن كانت مشتملة على زيادة لم تكن موجودة في عصر صدور النص، وبالتالي لا تكون مشمولة لما دل على حرمة القرض الربوي، وعليه يكون أمرها بيد الحاكم الشرعي يجعل فيها أي حكم يريد من حيث المنع، أو الجواز، وهكذا.
ولا ينحصر الأمر في خصوص ما ذكر من أمثلة، بل يسري الموضوع إلى أكثر من ذلك، فلاحظ[10].
ولا يذهب عليك أن هذا القول لا مجال للقبول به، ذلك أنه يستوجب البناء على وجود مجموعة من الوقائع لا حكم فيها، مع أن الثابت عندنا أنه لا توجد واقعة إلا ولله تعالى فيها حكم شرعي، على أن مجرد عدم وجود هذه الموضوعات والعناوين في عصر التشريع لا يستوجب عدم انطوائها تحت بعض العناوين الواردة في النصوص، وإلا لزم عدم تمامية ما جاء عنهم(ع) من أن حلال محمد(ص) حلال إلى يوم القيامة، وحرامه حرام إلى يوم القيامة.
وبالجملة، إن القول بكون موضوع دائرة الفراغ التشريعي، هو موضوعات مجهولة ليس للشارع المقدس فيها نص، مما لا يمكن المساعدة.
الثانية: ما يظهر من الشهيد الصدر(قده)، من الالتزام باختصاص دائرة منطقة الفراغ التشريعي بكل ما لم يكن حكماً إلزامياً، وهي المباحات بالمعنى الأعم، المستحب، والمكروه، والمباح بالمعنى الأخص. فكل حكم شرعي ليس إلزامياً، يمكن لولي الأمر بصفة ثانوية التصرف فيه منعاً أو إلزاماً، فيمنع عن الفعل المباح ليكون حراماً، ويأمر بالفعل المباح ليكون واجباً[11].
فلو أنغمس المجتمع في الأمور الدنيوية الترفية، وابتعد عن الجوانب المعنوية، يمكن لولي الأمر أن يلزم جميع أفراده بصلاة الليل مثلاً، كما أنه لو وجد أبناء المجتمع يتعاملون مع أحد المكروهات على أنه أمر طبيعي، ما يوجب وهناً، أو يترك خللاً سلوكياً وقيمياً بين أبناء المجتمع، يمكنه أن يأمر بحرمة هذا الفعل، وهكذا.
والحاصل، إنه متى ما دعت حاجة المجتمع، أو كانت حاجة الفرد في ذلك، فإنه يمكن للولي أن يصدر حكمه الإلزامي في تحويل ذلك الأمر المباح بالمعنى الأعم، إلى لازم، سواء في جانب الفعل، أم في جانب الترك، كما ذكرنا، فلاحظ.
والفرق بين مختار السيد الشهيد(قده)، والنظرية الأولى واضح، ضرورة أن النظرية الأولى، قد تكون أوسع مما بنى عليه الشهيد(رض) من جهة، كما أنها أضيق من جهة أخرى، فلاحظ.
الثالثة: ما أختاره الإمام الخميني(قده)، من البناء على شمول منطقة الفراغ التشريعي لتسع دائرة الواجب والحرام، فتكون شاملة للأحكام الخمسة، ولن يترتب على هذه السعة محذور، لأن المفروض أن العلاقة بين الحكم الولائي والأحكام الأولية هي عين العلاقة بين الأحكام الثانوية والأحكام الأولية، فكما أن هناك طولية بينهما، فإن بين الحكم الولائي، والحكم الأولي طولية أيضاً، وكما أن الحكم الثانوي حاكم على الحكم الأولي، فإن الحكم الولائي يكون حاكماً عليه أيضاً.
فيمكن للحاكم الشرعي الحكم بحرمة واجب من الواجبات، وفقاً لوجود مصلحة أرتاها، كما لو كان في أداء فريضة الحج إذلالاً للمؤمنين، فإنه يمكن له أن يفتي بحرمة الحج في ذلك العام[12].
وأصر بعض الباحثين، أن مثل هذه الأمور والتصرفات التي تصدر من الحاكم الشرعي في الأحكام الإلزامية، لا تعد بنظر الإمام الراحل(قده) تصرفاً في منطقة الفراغ التشريعي، وإنما هي واحدة من ابداعاته الفقهية في عملية الاستنباط، بالتزامه بدخالة الزمان والمكان في ذلك.
نكتة تقدم الحكم الولائي:
من المعلوم أن النكتة التي توجب استبدال حكم من الأحكام بحكم آخر، كاستبدال الحكم الأولي بالحكم الثانوي، هي التزاحم كما عرفت، وقد أشرنا هناك عند الحديث عن ذلك، إلى أن عين هذه النكتة جارية أيضاً في شأن الأحكام الولائية وعلاقتها مع الأحكام الأولية، وما نود الإشارة إليه الآن، هو عدم حصر التزاحم على مستوى المصالح والمفاسد في خصوص الفرد والمكلف، بل كما يمكن أن يكون ذلك، يمكن أن يكون التزاحم على مستوى المصالح والمفاسد على مستوى المجتمع، ما يعني وجود مستويـين للتزاحم، على مستوى الفرد، وعلى مستوى المجتمع، وتظهر الثمرة أنه لو كان التزاحم على مستوى الفرد، فإن تشخيص الأهم ملاكاً بيد المكلف، فهو الذي يقوم بتقديم الأهم من المتزاحمين على الآخرين بعد تشخيصه، وهذا بخلافه على مستوى المجتمع، لأن التشخيص بيد الفقيه والحاكم فهو الذي يتولى عملية تشخيص الأهم وتحديده[13].
ولعل هذا هو الفارق بين الحكم الثانوي والحكم الولائي، لأن الحكم الثانوي لا يكون إلا منحصراً على مستوى الفرد، بينما الحكم الولائي كما يكون على مستوى الفرد، فإنه يكون على مستوى المجتمع أيضاً، وبعبارة أخرى، إن دائرة الحكم الولائي أوسع من دائرة الحكم الثانوي، ما يجعل النسبة بينهما هي العموم المطلق، فتأمل.
خاتمة:
نستعرض فيها بعض الأمثلة على الأحكام الولائية، والتي تشير إلى مدى اهتمام الفقهاء والمراجع العظام، بالأمة، وقيامهم بمسؤوليات جسيمة تجاهها، وكيف أنهم يرقبون كل ما يرتبط بها وبمصالحها، وأنهم غير غافلين عن ذلك أبداً:
منها: المصالحة على الحقوق الشرعية:
فقد ذكر بعض الأعلام، أن هناك قريباً من الاتفاق بين الفقهاء على تفويض أمر الخمس والزكاة إلى الحاكم الشرعي والفقيه، وأنه يجوز له نقل الخمس المتعلق بالمال من العين إلى ذمة المالك، الذي عليه الخمس، لأن من صلاحياته أن يرفع وجوب المبادرة إلى دفع الخمس، وأن يبيح للمالك التصرف في العين دون إسقاطه، لأصل وجوب الدفع[14].
ولا يخفى أن هذا المثال يجري وفقاً لرأي الإمام الراحل(قده)، دون رأي السيد الشهيد الصدر(ره)، فلاحظ.
ومنها: جواز العمل مع الحاكم الظالم:
على أساس أن هذا هو مقتضى الجمع بين النصوص الدالة على المنع، وقد عبر عنها بالمتواترة، وبين النصوص الدالة على الجواز، فيحمل ما دل على الجواز بأنه حكم ولائي، فلاحظ.
ولا ريب أن هذا المثال كسابقه من حيث جريانه على وفق بعض المباني المتقدمة في حقيقة ودائرة منطقة الفراغ، وليس على وفق الجميع، فتدبر.
وقد ذكر الأعلام أمثلة للحكم الولائي، جرت في عصر النبي(ص)، أعرضنا عن ذكرها لكونها من الأمور المعروفة، فلاحظ وتأمل.
—————————————————————–
[1] سورة النساء الآية رقم 101.
[2] سورة البقرة الآية رقم ذ85.
[3]سوف نعرض إن شاء الله ثلاث نظريات في الحكم الولائي الذي يصدر في منطقة الفراغ التشريعي، ولا يذهب عليك أن هذا الكلام لا ينطبق على النظرية الأولى، فلاحظ.
[4]في بعض الكلمات المحكية عن الشيخ الفياض إشعار بكونه قد بحث هذا المصطلح قبل الشهيد الصدر(ره) بسنين عديدة، كما أن بعضهم يؤكد على وجود هذا المعنى وإن لم يكن بهذا التعبير قبل السيد الشهيد(ره)، والأمر سهل.
[5]المصدر السابق.
[6]حكي هذا التعريف عن الشيخ محمد إسحاق الفياض، لاحظ الثابت والمتغير في الشريعة الإسلامية ص 172.
[7]اقتصادنا ص 804.
[8]المصدر السابق ص 799.
[9]الاجتهاد والتقليد ص 153.
[10]الاجتهاد والتقليد ص 157-158.
[11]اقتصادنا ص 684.
[12]بعض الباحثين يبني على أن الصادر من الإمام الراحل(ره) إنما هو تصرف في المقدمات، وليس تصرفاً في نفس الحكم الشرعي، فتأمل.
[13]الحياة الطيبة العدد 11 ص 309.
[14]كتاب الخمس ج 2 ص 348.