مناقشة بعض الأعاظم(قده):
هذا وقد أوردت عليه إيرادات، تؤول إلى أمرين:
أحدهما: قصور الدليل المذكور في إثبات المدعى، ذلك أن المراد إثباته هو عدم اختلاف البلدان في ثبوت الهلال ، وتساويها جميعاً في وقت الثبوت، بحيث أنه لو ثبت في بلد، كان ذلك موجباً لثبوته في بقية بقاع الأرض، مع أن كلامه يستلزم تحديد الثبوت في خصوص البلدين المشتركين في جزء من الليل، ولو جزءاً يسيراً.
ثانيهما: إن التقريب المذكور، يترتب عليه جملة من اللوازم التي لا يمكن الالتـزام بها.
وكيف كان، فقد أورد على هذا القول بعدة نقوض نذكر منها[1]:
أولاً: إن اللازم مما ذكر هو الالتزام بدخول الشهر في كل نقاط الأرض في آن واحد وهو لا يلتزم بذلك وتوضيح ذلك: إذا قيل أن حركة القمر شخصية وان انعكاس ضوئه لا ربط له بالمنعكس عليه فلم التفريق إذن في حساب بداية الشهر بين الجزء المظلم من الأرض والجزء المضيء منها. والذي يلتزم به الكل إنما هو ثبوت الشهر في الجزء المظلم فقط ويكون الجزء المضيء المقابل للشمس من الشهر السابق. وهذا يلائم النسبية في مبدأ الشهر بلحاظ النقاط الأرضية وينافي الشخصية المطلقة من كل جهة كما أفاده(قده). مثلاً لو رأى الهلال في أمريكا ليلة الجمعة وكان الوقت في استراليا هو نهار الجمعة لا يلتزم أحد بكون نهار الجمعة في استراليا من الشهر الجديد، بينما اللازم من تقريبه(ره) كون النهار المذكور من الشهر الجديد وهو لا يلتزم بذلك.
وقد تنبه(قده) لهذا المحذور لاحقاً فخص الثبوت بالأماكن المشاركة لبلد الرؤية في الليل، ولو كان في أحدهما أوله وفي الثاني آخره، دون الأماكن التي ينقضي فيها الليل ويحل النهار قبل حلول الليل في مكان الرؤية[2].
ومن الواضح جداً أن هذا التقيـيد منه ينافي ما أراد(ره) إثباته، إذ أن لازم التقيـيد المذكور البناء على نسبية ابتداء الشهر القمري، وتفاوت الثبوت من نقطة إلى أخرى على وجه الأرض، وعدم كونها قضية واحدة كما هي دعواه(قده).
ولا يذهب عليك، أنه وفقاً لهذه الإضافة، لن يكون مختلفاً عن قول المشهور في الجملة، نعم سوف كيون التفاوت بينه وبينهم من خلال السعة والضيق فقط، فلاحظ.
ثانياً: إن النكتة التي قد بني عليها الاستدلال من التفريق بين ظهور القمر وطلوع الشمس في غير محلها، وذلك لأن الحالات التي يمر بها القمر في دورته الطبيعية، من المحاق، والهلال، والتربيع الأول، والتربيع الثاني، إنما يكون تصورها بالإضافة إلى الأرض، وفرض وجود الناظر فيه، فلو لم يكن هناك ناظر حال انتقاله في دورته الطبيعية من حالة إلى حالة، فلن يكون له إلا حالة واحدة، نصف منه مظلم، ونصف آخر مضئ، ولذا لو فرضنا أن شخصاً كان ينظر إلى الهلال من كوكب آخر غير الأرض، فلن يتسنى له أن يراه هلالاً أبداً.
وبعبارة أخرى، إنما يصح ما أفاده(قده) من عدم مدخلية للأرض في البين لو كان الحديث عن الهلال منصباً على خصوص الناحية الطبيعية والرياضية، وأما مع كون الحديث فيه حديثاً عن الناحية الشرعية، وأنه ميقات مجعول من قبل الشارع للناس، وموضوع لما يرتبط بهم من تكاليف، كحج وصوم وغير ذلك، من متعلقات الأحكام الشرعية، فلا يمكن القبول بذلك، ضرورة أنه يعتبر في موضوعات الأحكام أن تكون في متناول المكلفين، واطلاعهم، وهذا ما لم يكن متوفراً في تلك الأعصار، ما يجعل الأمر مختصاً بما يكون ثابتاً في أفق بلدهم، فلاحظ.
ثالثاً: إن اللازم مما ذكر أيضاً تبعض الليلة الواحدة بين شهرين أو تبعضها قبل تكون الهلال ودخول الشهر. توضيح ذلك:
إذا مضى من ليل اليابان عشر ساعات تقريباً وقد حصل الغروب في بلاد المغرب العربي كالمغرب والجزائر وبدأ الهلال فيها لتوه بالخروج من تحت الشعاع ورؤي فعلاً. فعندها على قول غير المشهور يثبت في اليابان التي مضى من ليلها ما عرفت من المقدار بداية الشهر الجديد. وعندها يقال: هل أن بداية الشهر الجديد فيها من حين بدأ الليل وتكون الظلمة أو من حين رؤية الهلال في المغرب والجزائر؟
إن قيل بالأول فمعنى ذلك حصول حساب الشهر قبل تكون الهلال وهذا مما لم يلتزم أحد به. وإن قيل بالثاني فلازمه أن عشر ساعات مرت على ليل اليابان من الشهر القديم وهذا يعني أن هذه الليل الواحدة تتبعض ليكون جزءاً منها من الشهر القديم والجزء الآخر من الشهر الجديد.
ثم إنه على كلا الاحتمالين تنتفي الشخصية ويتطرق الاعتبار والإضافة النسبية بلحاظ نقاط الكرة الأرضية.
رابعاً: إن اللازم مما ذكر هو تعدد مبدأ الشهر فيكون في منطقة ليلة السبت مثلاً وفي منطقة أخرى ليلة الجمعة.
خامساً: ما أورده بعض الأكابر على تقريب بعض الأعاظم وحاصله: إن النظرية النافية لكون حلول الشهر نسبياً وأن لكل منطقة شهرها القمري الخاص ليست صحيحة من الناحية المنهجية لقيامها على اساس عدم التمييز بين الشهر القمري والطبيعي والشهر القمري الشرعي فإن الشهر القمري الطبيعي يبدأ بخروج القمر من المحاق ولا يتأثر بأي عامل آخر ولما كان خروج القمر من المحاق قد يؤخذ كظاهرة كونية محددة لا تتأثر بهذا الموقع أو ذاك لا معنى حينئذٍ لافتراض النسبية فيه. وأما الشهر القمري الشرعي فبدايته تتوقف على مجموع عاملين:
احدهما: كوني وهو الخروج من المحاق.
والآخر: أن يكون الجزء الغير المواجه للأرض ممكن للرؤية وامكان الرؤية يمكن أن تأخذه كأمر نسبي يتأثر باختلاف المواقع في الأرض ويمكن أن تأخذه كأمر مطلق محدد لا يتأثر بذلك وذلك لأننا إذا قصدنا بإمكان الرؤية امكان رؤية الإنسان في هذا الجزء من الأرض وفي ذاك كان أمراً نسبياً وترتب على ذلك أن الشهر القمري الشرعي يبدأ بالنسبة إلى كل جزء من الأرض إذا كانت رؤية الهلال ممكنة في ذلك الجزء من الأرض فقد يبدأ بالنسبة إلى جزء دون جزء وإذا قصدنا بإمكان الرؤية امكان الرؤية ولو في نقطة واحدة من العالم فمهما رؤي في نقطة بدأ الشهر الشرعي بالنسبة إلى كل النقاط كان امراً مطلقاً لا يختلف باختلاف المواقع على الأرض.
وهكذا يتضح أن الشهر القمري الشرعي لما كان مرتبطاً اضافة إلى الخروج من المحاق بامكان الرؤية وكانت الرؤية ممكناً أحياناً في بعض المواضع دون البعض كان من المعقول أن تكون بداية الشهر القمري نسبية. فالمنهج الصحيح للتعرف على أن بداية الشهر القمري هل هي نسبية أو لا؟ الرجوع إلى الشريعة نفسها التي ربطت شهرها الشرعي بإمكان الرؤية لنرى أنها هل ربطت الشهر في كل منطقة بإمكان الرؤية في تلك المنطقة أو ربطت الشهر في كل المناطق بإمكان الرؤية في أي موضع كان؟ والأقرب على اساس ما نفهمه من الادلة الشرعية هو الثاني وعليه فإذا رؤي الهلال في بلد ثبت الشهر في سائر البلاد[3].
أقول: نقلنا كلامه بطوله لكونه مضافاً لتضمنه نقضاً على مختار بعض الأعاظم فإنه يحتوي تقريباً لنفس المدعى.
والصحيح أنه يمكن اختيار كلا الوجهين المذكورين في كلامه ولا تكون النتيجة كما ذكرها بيان ذلك:
إذا اخترنا أن ثبوت الهلال نسبي فهذا لا يعني التشويش في الثبوت بين المناطق وإنما تكون المسألة ذات نظام معين وأهم نقاطه هو أنه إذا ثبت الهلال في مكان ما ثبت أيضاً في المناطق الغربية بالنسبة إليه مهما ابتعدت عنه ولم يثبت في المناطق الشرقية منه. وأما لو أخترنا أن ثبوت الهلال مطلق فهذا غير ممكن لأننا إما أن نحرز أن هذه الرؤية هنا مثلاً هي في أول الولادة الشرعية أي إمكان الرؤية وإما أن لا نحرز ذلك فمع الإحراز كان معناه باليقين أن الهلال كان دون هذا الحجم في المناطق السابقة شرقاً إذن فليس الشهر ثابتاً يقيناً وإن احتملنا كونه بالحجم أو أنه دونه فهذا يجعله مورداً لاستصحاب عدم الولادة الشرعية أو عدم حصول الشهر الجديد الذي يكون موضوعاً لإكمال العدة ثلاثين يوماً.
وأولى منه بالبطلان ما ذكر من أننا إذا اعتبرنا الولادة الطبيعية هي أول الشهر كان ما قاله بعض الأعاظم صحيحاً وهو ثبوت الشهر في كل العالم.
لأننا إذا أحرزنا أن هذا هو أول الولادة فنعلم يقيناً أن البلد الواقع على الشرق لم يكن الهلال فيها مولوداً أصلاً بل كان في المحاق فهل يبدأ الشهر والقمر في المحاق؟
هذا مع أن المتسالم به كون الولادة المعتبرة هي الولادة الشرعية لا الولادة الطبيعية.
سادساً: إن التقريب الذي ذكره بعض الأعاظم ناقص، لأنه قد أهمل النقطة الأساسية التي يبتني عليها التقريب. توضيح ذلك:
إن عمدة ما أفاده هو التركيز على أن ولادة الهلال حادث تكويني يحدث بالنسبة إلى جميع الأرض مرة واحدة في الشهر ولا يمكن تعددها. وهذه حقيقة صحيحة لكنها غير كافية لإثبات الشهر وذلك لنقطة واحدة وهي ضرورة وجود الهلال مولوداً ولادة شرعية عند الغروب فقولنا (عند الغروب) أمر ضروري أهمله(ره) في تقريبه. فأول بلد يتحقق فيه ذلك يحصل فيه الشهر أو بدايته وهذا لا يعني بأي شكل أن يكون الشهر متحققاً في المنطقة السابقة عليه شرقاً، لأن الكرة الأرضية تسير من الغرب إلى الشرق حول نفسها والقمر يسير من الشرق إلى الغرب. ومن المفروض أنه كان قبل قليل ضئيل الحجم لا يقبل الرؤية بمعنى عدم حصول ولادته الشرعية فكيف يبدأ الشهر في ذلك البلد ولا أقل من احتمال ذلك. نعم في البلدان التي على غرب البلد التي حصلت فيه الولادة يكون ثبوت الهلال فيها صحيحاً لأن سير القمر باتجاهها وإذا وصل إليها يكون النور فيه قد ازداد.
وأما حل المطلب فالحق أن يقال: لابد من ملاحظة الموانع عن رؤية الهلال التي هي أمور ثلاثة:
الأول: المانع الموضعي أو عبر عنه بالمانع الموقت كالسحاب والأشجار والجبال التي تكون في المنطقة ولا ريب في أن هذا المانع ينبغي اسقاطه من الحساب متى ما ثبت بشكل أو بآخر وجود الهلال بالولادة الشرعية في أفق البلد عند الغروب.
الثاني: المانع الحجمي في الهلال إذ يجب أن يبلغ نوره حجماً معيناً ليكون ممكن الرؤية أساساً وهو ما يعبر عنه بالولادة الشرعية للهلال.
الثالث: أن البلاد الواقعة على خط طول واحد قد تختلف جداً في خطوط العرض. والمفروض بدوياً أن البلاد التي تتفق في خطوط الطول تتفق في أول الشهر لاشتراك غروبها فإذا وجد الهلال في بعضها وجد أيضاً فيها جميعاً من الشمال إلى الجنوب بل الموثوق به أن نصفي الكرة الأرضية الشمالي والجنوبي لا يختلفان في ذلك فمتى ثبت الهلال في أحدهما ثبت في الآخر في نفس خط الطول وما كان على غربه من خطوط الطول.
وهذا صحيح إلا في المناطق القريبة من الدائرتين القطبيتين فضلاً عنهما حيث يكون الليل والنهار طويلاً وقد يبلغ في بعض المناطق القريبة منهما عشرون ساعة أو أكثر فبالرغم من أن المنطقة المعينة مثلاً هي على نفس خط الطول الذي ثبت فيه الهلال إلا أنه ثبت في المحل الذي ثبت فيه حال كون الغروب موجوداً ومتحققاً.
أما المناطق الشمالية جداً أو الجنوبية جداً فقد تكون في نهار في تلك اللحظة أو في ليل على اختلاف فصول السنة فلا يمكن أن يثبت الشهر بالنسبة إليها ولو كانت على خط الطول نفسه.
وبالجملة مفاد المانع الثالث هو كون المنطقة في مكان لا يناسب ثبوت الهلال فيها ولو كان ثابت على نفس خط الطول.
فإذا حصلت الولادة الشرعية بمعنى أنتفى وأرتفع المانع الثاني فوق بلاد معينة يكون فيها الغروب متحققاً أو قريباً جداً فتلك هي أول بلد يثبت فيها الشهر وكذلك في خط طولها شمالاً وجنوباً إلى ما يقرب من الدائرتين القطبيتين بشرط عدم حصول المانع الثالث أعني بشرط أن يكون الغروب متحققاً عندئذ فيها.
وتستمر الأرض بالدوران وينتقل الغروب إلى البلاد التي تقع غرب ذلك البلد فقد كانت ساعة ثبوت الهلال هناك في نهار وجاء الآن وقت غروبها ويستمر نور القمر بالاتساع التدريجي البطيء فتراه تلك المناطق أيضاً وهكذا.
أما المناطق الواقعة شرق منطقة الولادة الشرعية للهلال فيجب أن تنتظر عدة ساعات بل قد تصل إلى أربع وعشرين ساعة حتى يصل إليها الغروب الدائر حول الأرض ومن ثم يصل إليها الهلال المولود. فإذا مشى الغروب على كل وجه الأرض ومشى الهلال عليها أيضاً في دورة كاملة للأرض حول نفسها ثبت الهلال فيها جميعاً.
[1] لاحظ هيويات فقهية فقد ذكر جملة منها. مصباح المنهاج كتاب الصوم ص
[2] مستند العروة ج ص
[3] الفتاوى الواضحة ص 626.