المفسدون في الأرض

لا تعليق
كلمات و بحوث الجمعة
94
0

قال تعالى:- (والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار)[1].

تمهيد:

المتابع للقرآن الكريم يجد أنه دائماً ما يتعرض للمقارنة بين الإنسان المؤمن والإنسان الكافر، وتكون سبله في المقارنة متفاوتة، فقد يكون ذلك من خلال بيان الصفات التي يتصف بها كل واحد منهما، وقد يكون ذلك من خلال ملاحظة العاقبة والمآل الذي يكون مصير كل منهما إليه، وقد يكون ذلك من خلال بيان الوسائل التي يعمد إليها كل واحد منهما للوصول إلى تلك النتائج التي يكون عليها، وهكذا.

وتمثل الآية التي افتـتحنا بها البحث واحدة من هذه الآيات الشريفة التي تتعرض للحديث في هذا المجال، ضرورة أنها بصدد بيان صفات المفسدين في الأرض، الذين يؤول مصيرهم إلى نار جهنم.

هذا وقد وصفتهم الآية الشريفة بصفات ثلاث:

الأولى: نقض العهود الإلهية.

الثانية: قطع الصلات.

الثالثة: الإفساد في الأرض.

الركائز الأساسية للمجتمع الإسلامي:

لا يخفى أن المجتمع الإسلامي يقوم على جملة من الركائز تمثل الأسس الأولية في تكوينه وتكامله وتشيـيد بنيانه، ومن المعلوم أن المفسدين يسعون بشتى الوسائل والطرق من أجل أن يهدموا هذا المجتمع ويعمدون إلى ضعضعة أركانه والإخلال بقوامه، وليس من سبيل إلى ذلك أفضل من العمد إلى هدم ركائزه الأساسية، إذ أنه متى ما تحقق ذلك، وانهدمت تلك الركائز كان لك سبيلاً إلى انهيار المجتمع الإسلامي، ولذا ينبغي علينا معرفة تلك الركائز، كما نتمكن من الوقوف سداً منيعاً إلى حركة المفسدين لزعزعة الركائز الإسلامية، وتلك الركائز هي:

الوفاء بالعهود والمواثيق:

وهذه أولى الركائز التي يقوم المجتمع الإسلامي عليها، وهي الوفاء بالعهود والمواثيق الإلهية، وهي على ثلاثة أقسام:

الأول: العهود الفطرية.

الثاني: العهود العقلية.

الثالث: العهود التشريعية.

أما العهود الفطرية، فهي شاملة لكل من العهود التي تدعو الإنسان إلى إيجادها خارجاً الفطرية الإنسانية، فهل تشمل العهود والمواثيق الفطرية المتأصلة في النفس الإنسانية والتي تنسجم معها من دون حاجة إلى تشريع سماوي، مثل رأفة الأب وشفقته على ولده، أو عطف الولد على والده، فإن هذه النـزعة الأسرية الموجودة بين الوالد والولد، ومن المعلوم أن العهود والمواثيق الإلهية ذات معنى واسع، فلا تنحصر في خصوص العهود والمواثيق التشريعية.

وكذا البحث عن الخالق والموجد، فإن قد قرر في البحوث الكلامية أن ذلك من الأمور الفطرية، بل جعل أحد أبرز الأدلة التي يستدل بها على إثبات وجود الخالق، وكذا وحدانيته، الفطرة الإنسانية.

وأما العهود العقلية، فهي العهود والمواثيق التي يدركها الإنسان من خلال الحكم العقلي والإدراك لذلك، وهذا يعتمد اعتماداً لياً على قاعدة الحسن والقبح العقليـين، فكل ما حكم العقل بكونه حسناً، فإنه يكون محسناً عند الشرع، وكذا كل ما حكم العقل بقبحه، فإن الشرع يحكم بقبحه، ولذا قالوا أن الحسن ما حسنه العقل، وأن القبيح ما قبحه، فالعقل مثلاً يدرك حسن العدل، فلا ريب في أن الشارع يحكم بحسن العدل، كما أن العقل يحكم بقبح الظلم، فعندها سوف يحكم الشرع بقبح الظلم، العقل يحكم بحسن الصد، فإن الشرع يحكم بكونه أمراً مطلوباً، والعقل لما كان يحكم بقبح الكذب، فلا ريب في أن الشرع يحكم بقبحه، وهكذا.

وآخر العهود الإلهية، هو العد التشريعي، وهو عبارة عن التشريعات والتقنينات الصادرة من الشارع المقدس، والتي تضمنت الأوامر والنواهي، مثل وجوب الصلاة والصوم والخمس والحج، وغير ذلك في جانب الأوامر، وترك الغيـبة والنميمة، وقطيعة الرحم وعقوق الوالدين، في جانبا لنواهي، وهكذا.

ثم إنه بعدما أحطنا بالعهود والمواثيق الإلهية، نحتاج أن نتعرف كيف يكون الوفاء بها ركيزة من الركائز الأساسية في بناء المجتمع الإسلامي، وتكوينه، فإنه لا يخفى أن هناك عهداً بين الله تعالى وعباده، طلب الله سبحانه من عباده الوفاء به، وأشار لذلك عدة آيات شريفة، قال تعالى:- (وأوفوا بعهدي أوفِ بعهدكم)[2]، وقال سبحانه وتعالى:- (ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا إلا الشيطان إنه لكم عدو مبين)[3].

فالله سبحانه وتعالى يريد أن يخلق بين العبد وربه التـزاماً من خلال المسؤولية الملقاة على عاتقه نتيجة التكاليف الموجهة له، والمأمور بأدائها، فكل شعر الإنسان بالمسؤولية، وأحس بالدور المناط به كان ذلك سبيلاً إلى تكوين مجتمع واعي يعيش روح المسؤولية ويتحملها، لا أنه مجتمع يعيش حالة من اللامبالاة وعدم الشعور بشيء أصلاً.

فإذن أول الركائز التي يقوم عليها المجتمع الإسلامي في الحقيقة من خلال الوفاء بالعهود والمواثيق عبارة عن الإحساس بالمسؤولية التي ينبغي أن يعيشها الإنسان المسلم، وأنه يطلب منه تحملها لأدائها خارجاً.

إيجاد الروابط الروحية والاجتماعية والحفاظ على استمرارها:

ويتم ذلك من خلال صلت الإنسان لما أمر به أن يوصل، إذ أن الإنسان ليس مخلوقاً منفرداً في الوجود الكوني والحياتي، بل هو أحد منظومة الوجود الكوني، مما يعني أن هناك موجودات أخرى سواه، فلابد من وجود صلة بينه وبين تلك الموجودات، وتلك الموجودات التي يحتاج الإنسان إلى التواصل معها، هي:

صلة الإنسان بربه:

وهي تمثل العلاقة التي تربط بين الأرض والسماء، وتمثل منهج السعادة له في الدنيا والآخر، لأنه متى ما كانت هذه العلاقة متحققة وموجودة، كان الإنسان عندها على الجادة القويمة، وكان على الخط المستقيم، وبالتالي يضمن سعادة الدارين، وهذا بعكس لو لم يكن مرتبطاً به تعالى، أي أن الصلة بينه وبين ربه قد انقطعت، فإن هذا يكون سبباً رئيساً إلى شقائه في الدنيا والآخرة.

صلة الإنسان بالمعصوم(ع):

وذلك من خلال الارتباط بالأنبياء والرسل والأئمة الأطهار(ع) الذين يمثلون القيادة، والطريق الذي يعرف الإنسان من خلاله سبيل الهداية والصلاح، والابتعاد عن طريق الضلالة والانحراف.

صلة الإنسان بالمجتمع:

ويتمثل ذلك في الحقوق الأسرية، الخاصة منها والعامة، فالخاصة مثل حق الزوجة والأولاد، والأب والأم والأخوة، والعامة منها مثل حقوق الرحم. كما يتمثل ذلك في الحقوق الاجتماعية العامة، مثل حقوق الجوار، وحقوق الطريق، وأمثال ذلك.

صلة الإنسان بنفسه:

وذلك من خلال الحفاظ عليها، وعدم تعريضها لأي أذى جسدي، أو روحي، فلا يحق له أن يجعلها في معرض الإهانة أو الاستخفاف أو السخرية، وقد أفتى جملة من فقهائنا بحرمة لباس الشهرة متى ما كان موجباً لتعريض المؤمن للسخرية والإهانة.

وعلى أي حال، إن هذه التواصلات توجب وحدة وتماسكاً في المجتمع، وتوجد قوة ارتباط بالمخلوق سبحانه وتعالى.

ومتى ما كان المجتمع يمتلك مخزوناً في العلاقات الاجتماعية، والروحية، كان ذلك المجتمع مجتمعاً راشداً.

الحركة الإصلاحية:

وهي التي يعمد من خلالها إلى إصلاح حال الناس والأفراد في الحياة الاجتماعية، كي ما يخرجوا من ضلالتهم إلى الهدى والصلاح، وكي ما يتركوا جانب الانحراف ويتوجهوا إلى سبل الطاعة.

هذا ويمكن أن يطلق على جميع حركات الأنبياء والرسل وبعثهم إلى الخلق، بأنها حركات إصلاحية، ويشير إلى هذا المعنى قوله تعالى:- (هو الذي بعث في الأميـين رسولاً منهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين)[4].

وهذا الإمام الحسين(ع) يقود حركة إصلاحية كبرى يقف من خلالها في وجه الطغيان والاستبداد والظلمة، فيقول(ع) كلمة مدوية: ما خرجت أشراً ولا بطراً، إنما خرجت طلباً للإصلاح في أمة جدي.

المفسدون في الأرض:

وفي مقابل المجتمع الإسلامي والركائز التي يقوم عليها، مما يعني لزوم اتصاف المؤمنين بها، يكون المجتمع الفاسد، والذي يقوم أيضاً على عدة ركائز أشارت لها الآية الشريفة، وقد سبق منا الإشارة إليها في مطلع الحديث، لكننا نود الآن أن نتعرف على المفسدين، ويتم ذلك من خلال التعرف في البداية على مفهوم الفساد، فنقول:

الفساد كما يستفاد من كلمات أهل اللغة أنه ضد الصلاح، وهو عبارة عن خروج الشيء عن الاعتدال والاستقامة.

وهو بهذا المعنى يفيد معنى واسعاً، غير محدد بإطار معين أو بدائرة خاصة. وقد استعمل الفساد في القرآن الكريم أيضاً بهذا المعنى أعني ضد الصلاح، ويظهر ذلك من خلال ملاحظة الآيات الشريفة، إذ يجد القارئ المقارنة بين العنوانين، عنوان الصلاح وعنوان الفساد، فلاحظ قوله تعالى:- (وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين)، وقال تعالى:- (الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون)، إلى غير ذلك من الآيات الشريفة في هذا المضمار.

أقسام الفساد:

هذا ويمكننا أن نقسم الفساد عدة تقسيمات وبلحاظات مختلفة، فيمكننا تقسيمه إلى قسمين ، أحدهما الفساد التكويني، والآخر الفساد الخارجي المرتبط بعالم المادة.

ويـبدو أنه لم يتعرض القرآن الكريم صريحاً للحديث حول الفساد التكويني إلا في آية واحدة من القرآن الكريم، وهي قوله تعالى:- (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا)[5].

هذا ولا يخفى أن الحديث في القرآن الكريم عن الفساد والإفساد لا يراد منه هذا النوع من الفساد أعني الفساد التكويني، ضرورة أن عالم التنازع في البقاء لا يكون إلا بفساد، كما أنه لا حياة إلا بموت، وهو فساد في الحقيقة.

إذاً الفساد التكويني، ليس مورداً لحديثنا ولا محطاً للبحث من قريب أو بعيد كما هو واضح.

وعلى أي حال، ينقسم أيضاً بلحاظ الآثار الناجمة منه، فيقال بأنه قسمان:

الأول: الفساد المادي، ونعني به كل إفساد يكون على الموجودات والمخلوقات الإلهية بإتلافها وإخراج من حيز الفائدة والمنفعة، فيقتل الخلق ويقتل الحيوان، ويهلك الزرع، يقول تعالى:- (وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل).

الثاني: الفساد المعنوي، وهو عبارة عما لا يكون له أثر مادي ملموس على القالب الجسماني للإنسان، لكن يكون له أثر على أمر آخر، ويتحقق هذا لأمر بعدة أسباب، نشير إلى بعض منها:

منها: كثرة الذنوب، فإنه إحدى أسباب الإفساد في المجتمعات، بل هي إحدى الوسائل لنـزول العذاب الإلهي، ولذا يشير بعض المفسرين إلى أن سبب هلاك الحرث والنسل، هو الذنوب وكثرة المعاصي والإصرار عليها، دونما وجود حركة إصلاحية في الخارج تردع عن ذلك.

ومنها: تحريف الشرائع الإلهية، بتغيـير الكلمة عن مواضعها، وتغيـير الأحكام الإلهية، والتصرف في التعاليم الدينية.

ومنها: إشاعة الفساد وسفاسف الأخلاق، وهدم القيم والمثل العليا.

ويمكننا تقسيمه بلحاظ الأشخاص المتضررين من الفساد والإفساد إلى قسمين أيضاً، فيقال بأنه ينقسم إلى:

1-الفساد والإفساد الشخصي.

2-الفساد والإفساد النوعي.

ويمكننا تقسيمه بلحاظ آخر، فيقال، هو إما فساد وإفساد في المعتقدات، وإما في العادات، وإما في الملكات والأخلاق، وإما في الأفعال.

ثم لا يذهب عليك أن الفساد والإفساد قد ينجمان بسبب الجهل المركب الذي يكون عند الفرد أو الأفراد، وقد يكون نتيجة الجهل البسيط، حيث أن المقدم عليه يعتقد حسنه وصلاحه، ولذا يقدم عليه مع أنه في الحقيقة والواقع خلاف ذلك.

موارد الإفساد:

ثم إن المفسدين في الأرض يعمدون إلى إفساد أشياء محددة، لأنها متى ما فسدت سهل عليهم السيطرة على العلام، وتمكنوا حينئذٍ من إشاعة ما يريدون إشاعته من فاحشة، لأنهم عندها يحولون المجتمع إلى مجتمع غابي لا تحكمه شيء من القيم ولا التعاليم والأخلاقيات.

وعلى أي حال، فهناك موارد يعمد المفسدون إلى إفسادها، ويمكن حصرها إجمالاً في ثلاثة أمور:

الأول: الفكر.

الثاني: العلاقات الاجتماعية.

الثالث: القيم والأخلاق.

ومن الواضح مدى أهمية كل واحد من هذه الأمور وما له من مدخلية عظمى في تكوين المجتمع الإسلامي، وما يمثله كل واحد منها من لبنة أساسية في ركائز المجتمع الإسلامي، لذا متى تمكن هؤلاء من إفساد هذه الأمور كان ذلك طريقاً إلى زوال المجتمع الصالح، وانتهاء العصر الراشد في الوسط الديني.

——————————————————————————–

[1] سورة الرعد الآية رقم 25.

[2] سورة البقرة الآية رقم 40.

[3] سورة يس الآية رقم 60.

[4] سورة الجمعة الآية رقم 2.

[5] سورة

تعليقات الفيسبوك

التعليقات مغلقة