القاعدة الثالثة: ثبوت الشرعية للقراءة:
لابد لمقبولية القراءة وإمكانية الالتـزام بها من صدورها عن النبي(ص) أو تأيـيده لها وموافقته عليها، وإلا فلا تعتبر قراءة شرعية، لأنها تفتقر إلى السند القانوني.
وحيث كان الأئمة المعصومين من أهل البيت(ع) بمنـزلة النبي(ص) أمكن اعتماد الشرعية الصادرة منهم(ع) لأية قراءة، وهذا يعني أن كل قراءة تحظى بموافقتهم(ع) تعتبر قراءة شرعية كما لو كانت صادرة عن النبي(ص).
القاعدة الرابعة: تعدد المعاني دونما تضاد:
من المعلوم أن للقرآن الكريم ظهراً وبطناً، وأن لبطنه بطناً، وأن القرآن كتاب لا تنفذ معانية، ولا تحصى دلائله، ولا يُـبلَغُ قعره، ولا يَجف عطاؤه، الأمر الذي يجعل الآية الواحدة ذات مداليل متعددة، كلها صحيحة طالما لا يوجد بينها تضاد.
ماذا نقبل من القراءات:
بناءا على القواعد السابقة التي تمّ منا تأسيسها، سيتضح لنا ما هي القراءات التي يمكن اعتمادها، وما هي القراءت التي يجب رفضها.
حيث يمكن أن نقول: بأن كل قراءة توجب تعدد النص القرآني وتـتصرف فيه، أو توجب التضاد في معنى النص، أو لم يثبت إقرارها من مصدر الشرعية وهو الرسول(ص) والأئمة الطاهرين(ع) تكون قراءة مرفوضة.
وهنا يجب أن نعرف أن القراءات المتداولة بين المسلمين والتي قد اشتهر منها سبعة، ليست بقراءات متواترة عن النبي(ص)، بمعنى أنها لم يثبت صدورها عنه(ص)، وليست موافقة له جميعاً، ويكاد يتفق المحققون من علماء الإسلام على هذه الحقيقة.
ومن أراد المراجعة أكثر في هذا المجال، يمكنه الرجوع لكتاب البيان في تفسير القرآن لزعيم الحوزة العلمية السيد أبو القاسم الخوئي(قده) في الحديث حول تواتر القراءات[o1] .
نعم تكتسب هذه القراءات شرعيتها من خلال إقرار الأئمة(ع) للقراءات المشتهرة في زمانهم حيث لم يرد عنهم النهي عن قراءة القرآن بأحد تلك القراءات، بل ورد عنهم(ع): اقرأوا كما يقرأ الناس، بما فيه دلالة على تأيـيد القراءات المتداولة بين الناس يومئذٍ.
وهذا التأيـيد سيكون هو المصدر الأساسي لمنح الشرعية لهذه القراءات.
يقول السيد الخوئي(قده) في كتابه القيم البيان: وأما بالنظر إلى ما ثبت قطعياً من تقرير المعصومين شيعتهم على القراءة بأية واحدة من القراءات المعروفة في زمانهم، فلا شك في كفاية كل واحد منها، فقد كانت هذه القراءات معروفة في زمانهم، ولم يرد عنهم أنهم ردعوا عن بعضها، ولو ثبت الردع لوصل إلينا بالتواتر، ولا أقل من نقله بالآحاد، بل ورد عنهم(ع) إمضاء هذه القراءات بقولهم: إقرأوا كما يقرأ الناس، إقرأوا كما علمتم[o2] .
وبناءاً على هذا سوف تفقد القراءات الشاذة شرعيتها حيث لا نملك دليلاً على تأيـيد المعصوم(ع) لها، بخلاف القراءات المشهورة، وسوف يصح لنا أن نقرأ (مَلِك يوم الدين) و(مالك يوم الدين) ونفسر الآية وفق ما تقتضيه هاتين القراءتين من معنى، بينما لا نستطيع أن نقرأ (مَلَكَ يوم الدين) بصيغة فعل الماضي، لأن هذه القراءة شاذة لا تملك الشرعية.
وسوف تسقط أيضاً كل القراءات الموضوعة، التي ثبت أنها من تصرف الناس بالنص القرآني. كما روى الطبري أن أبا الدرداء كا يقرئ رجلاً:- ( إن شجرة الزقوم طعام الأثيم) فجعل الرجل يقول: إن شجرة الزقوم طعام اليتيم. قال: فلما أكثر عليه أبو الدرداء فرآه لا يفهم، قال: إن شجرة الزقوم طعام الفاجر[o3] .
ومثل ذلك ما جاء في قراءة أنس:- (إن ناشئة الليل هي أشد وطأً وأصوب قيلاً) فقال له بعض القوم يا أبا حمزة إنما هي:- ( وأقوم) فقال: أقوم، وأصوب، وأهدى واحد[o4] .
ومن الواضح أن مثل هذه القراءة لا محيص عن رفضها، لكونها ساقطة وفق ما تم تأسيسه من القواعد، إذ سبق وذكرنا أن القاعدة الثانية، وهي عدم جواز التصرف في النص القرآني، تمنع من قبول مثل هذه القراءات، لأن الظاهر أن أصحاب هذه القراءات قد عمدوا إلى تغيـير النص من عند أنفسهم، وربما رأوا ذلك جائزاً لهم، أو ربما عمدوا إلى تقريب المعنى إلى ذهن السامع، فلجئوا إلى مثل ذلك.
كما سوف تسقط عن الاعتماد كل قراءة تؤدي إلى تعددية في النص القرآني حتى إذا لم يعترف صاحبها بأنها من تصرفه في النص القرآني، وذلك للقاعدة الأولى السابقة، التي كان مفادها وحدة النص القرآني، ومن أمثلة ذلك النماذج الثلاثة التي قدمنا ذكرها قبل قليل لصور اختلاف القراءات، وهي التغيـير بالزيادة، والتغيـير في تركيب الجملة، والتغيـير في أصل الكلمة، فلاحظ.
كما سوف تسقط أيضاً وفقاً للقاعدة الرابعة كل قراءة تؤدي إلى تضاد في المعنى القرآني، سواء كان حكماً شرعياً، أم كان مفهوماً نظرياً، لأن حكم الله واحد، ومفاهيم الإسلام واحدة.
فإذا لاحظنا مثلاً قوله تعالى:- ( ولا تقربوهن حتى يطهرن) كان الحكم الشرعي المستفاد من ذلك جواز مقاربة المرأة بعد النقاء من الحيض مباشرة، أما إذا لاحظنا قراءة:- ( حتى يطّهرن) كان الحكم الشرعي عبارة عن عدم جواز مقاربتها بعد الحيض ما لم تـتطهّر وتغتسل.
وحينـئذٍ فهل نستطيع أن نقبل كلتا القراءتين؟…
الظاهر أنه لا مجال لذلك، لأن قبول كلتا القراءتين يعني التضاد والتعددية في الحكم الشرعي وهذا أمر غير معقول، بل سوف نضطر في مثل هذه الحالات للقبول بالقراءة المشهورة لليقين بصدورها على لسان النبي الأكرم محمد(ص) بعدما عرفنا من إمضاء الأئمة المعصومين(ع) لها، وطرح القراءة الأخرى لعدم اليقين بقرآنيتها.
وفي ضوء تلك القواعد أيضاً سوف لا نجد حرجاً قي قبول القراءات التي تخـتلف على أساس هيئة الكلمة أو حركتها الإعرابية أو إضافة حرف لها، أو على أساس اختلاف اللهجة، أو على أساس اختلاف موضع الوقف، كما تقدم بيانه سابقاً في النموذج الرابع والخامس والسادس والسابع، كل ذلك بشرط أن تكون القراءة مشهورة، ولا تؤدي إلى تضاد في المعنى القرآني، كما هو في قراءة(ملكِ يوم الدين) و(مالك يوم الدين) فإن كلتا القراءتين مشهورة، وكلا المعنيـين صحيح، فالله تبارك وتعالى هو مالك يوم الدين، وهو ملك يوم الدين، ولا تضاد بين هذين الأمرين، ولذا أجاز فقهاؤنا القراءة في الصلاة بكلتا الصورتين.
نعم يواجه القول بصحة كلتا القراءتين إشكال التعددية في القرآن في صورة الاختلاف في هيئة الكلمة أو حركتها أو إضافة حرف فيها، فإذا كان القرآن الكريم قد نزل على حرف واحد كما دلت عليه النصوص المعتبرة، فكيف نقبل القراءات المتعددة للكلمة الواحدة مثل (مالك) و (ملك) ومثل(تُسئل) و(تسأل) ومثل(باعِد) بصيغة فعل الأمر و(باعَدَ) بصيغة فعل الماضي؟…
وإذا كنا نرفض بشكل قاطع التعددية في حالة اختلاف أصل الكلمة مثل(طعام الأثيم) و(طعام الفاجر) رغم أن المعنى واحد فرضاً، فإن الفارق ليس كبيراً بين هذا الاختلاف وبين الاختلاف في هيئة الكلمة الواحدة، لأن النازل من عند الله هو كلمة واحدة وصياغة واحدة، وليس اثنين أو ثلاثة.
وأما الاعتماد على تصحيح هذه التعددية على قولهم(ع): إقرأوا كما يقرأ الناس، أو قولهم(ع): اقرؤوا كما علمتم، فهو قابل للنقد أيضاً، لأنه ليس فيه دلالة واضحة على الأمر بالقراءة بالصور المتعددة المتداولة يومئذٍ، بل ربما كان دليلاً على تصحيح وتوثيق القراءة الواحدة المشهورة يومئذٍ، وهي التي تجري عليها قراءة المسلمين إلى يومنا هذا.
وربما كان إشارة إلى تصحيح وتوثيق المصاحف الموجودة بين المسلمين وبالطريقة التي جُمعت بها، والنهي عن التشكيك فيها من خلال شبهة الزيادة والنقص، أو شبهة وضع بعض الآيات في غير موضعها، كما يظهر ذلك من سؤال السائل في الروايتين.
ومن هنا يتضح أنه لا يـبقى لدينا ما يسمح بتعددية القراءة إلا في مجالين فقط:
الأول: الاختلاف القائم على أساس اللهجة.
الثاني: الاختلاف في موضع الوقف، والوصل أو المد أو القصر.
حيث أن الاختلاف في موضع اللهجة، أو الاختلاف في موضع الوقف والوصل والمد والقصر، لا يعني تعددية النص القرآني، كما أنه لا يتنافى مع وحدته بحال من الأحوال.
هل نزل القرآن على سبعة أحرف:
واجه المفسرون مجموعة من الروايات عن النبي(ص) تفيد نزول القرآن على سبعة أحرف، وقد اختلفوا في كيفية تفسيرها بعدما لاحظوا وجود تضارب داخلي فيها، كما أن عدداً منها يفتح المجال أمام التلاعب بالنص القرآني، مضافاً إلى أن معظم هذه الروايات وردت بطرق أهل السنة.
أما من طرق الشيعة، فقد صح عن الأئمة الأطهار(ع) التأكيد على نزول القرآن الكريم على حرف واحد.
وقد تعرض السيد الخوئي(قده) في كتابه القيم البيان إلى الروايات المشيرة إلى نزول القرآن الكريم على سبعة أحرف وقام بمناقشتها، فمن أراد الإطلاع يمكنه المراجعة إلى ذلك.
وقال(ره) بعد ذلك: وحاصل ما قدمناه أن نزول القرآن على سبعة أحرف لا يرجع إلى معنى صحيح، فلابد من طرح الروايات الدالة عليه، ولا سيما بعد أن دلت أحاديث الصادقين(ع) على تكذيـبها، وأن القرآن إنما نزل على حرف واحد، وأن الاختلاف قد جاء من قبل الرواة[o5] .
——————————————————————————–
[o1]البيان في تفسير القرآن ص 137.
[o2]المصدر السابق ص 183.
[o3]تفسير الطبري ج 25 ص 78.
[o4]المصدر السابق ج 1 ص 18.
[o5]البيان في تفسير القرآن ص 211.