لقد وصلنا في الدرس السابق إلى النـتيجة التالية،أن الأمة لا تمتلك القدرة والأهلية على سد الفراغات الهائلة التي خلفها رحيل النبي(ص).
وعلى هذا لا مناص حينـئذٍ عن تعين الإحتمال الثالث،حيث أننا ذكرنا أن المقام ينحصر في إحتمالات ثلاثة،وقد تقدم نفي اثنين منها،فيتعين الثالث،وهو:
جعل سد تلك الثغرات لفرد مثالي يمارس وظائف النبي(ص)في المجالات السابقة،بعلمه المستودع فيه،ويكون له من المؤهلات ما للنبي،سوى النبوة،وسوى كونه طرفاً للوحي.
لأنه لكي يتحقق الغرض من إرسال الأنبياء،الذي هو هداية الأمة إلى الكمال في الجانبين المادي والروحي،بعد رحيل النبي(ص)فلابد من أن يخلفه إنسان مثله في الكفاءات والمؤهلات،ليواصل دفع عجلة المجتمع الديني في طريق الكمال،ويحفظه من الإنقلاب على الأعقاب،والتقهقر إلى الوراء،ووجود إنسان مثالي،كالنبي في المؤهلات،عارف بالشريعة ومعارف الدين،ضمان لتكامل المجتمع،وخطوة ضرورية في سبيل ارتقائه الروحي والمعنوي.
ويمكننا صياغة هذا الوجه بطريقة أسهل فنقول:
1-إن شريعة النبي(ص)باقية إلى يوم القيامة،والناس موظفون على اعتناقها وامـتـثال ما جاء فيها،وهذه المقدمة من أوضح الضروريات الإسلامية.
2-إن الشريعة الإسلامية مشتملة على أصول اعتقادية،وفروع عملية من العبادات والمعاملات،والسياسات،والإجتماعيات،وغير ذلك،بل كل فعل أو ترك للمكلفين لابد أن يتصف بأحد الأحكام الخمسة الشرعية عقلاً،وهذه المقدمة أيضاً كسابقتها في الوضوح.
3-إن أمر التشريع والتقنين بيد الشارع المقدس،وهو منحصر في الله سبحانه وحده،أو بيد رسوله الخاتم(ص)،وليس للناس دخل فيه،وهذه المقدمة ضرورية بين المسلمين.
لا يقال:إن العلماء يفتون بأحكام شرعية.
قلت:إن الذي يقوم به العلماء إنما هو استنباط للأحكام من مصادرها المقررة،وليس ذلك من التشريع كما هو واضح.
4-لابد في صحة التكليف من وصوله إلى المكلف،وهذا لا ريب فيه عقلاً ولا شرعاً،ولا ينبغي لعاقل أن يتوقف في قبوله.
5-إن مصادر التشريع أربعة:القرآن الكريم،والعقل،والإجماع،والسنة،ومن الواضح عدم كفاية الثلاثة الأول،لمعظم الأحكام الفقهية وكثير من الفروع الأصولية الإعتقادية،كما هو ظاهر لكل ملتفت إلى الشريعة.
وأما السنة،ونعني بها ما صدر عن الرسول الأعظم(ص)في زمان حياته،وبيّنه لأمته بين حين وآخر،فإنها غير كافية لتكميل نظام التشريع وإتمام الفقه الإسلامي،كما يظهر لكل من مارس المسائل الفقهية ووقف على مداركها ومآخذها،ويكفينا لإثبات ذلك ما أشرنا له في الدرس السابق من الإختلافات بين الأمة.
نعم ما هي الدواعي التي دعت إلى عدم بيانه(ص)جميع الأحكام،أشرنا في الدرس السابق لوجه ذلك إجمالاً.
6-إن النبي(ص)لم يلحق بربه إلا وقد أكمل دينه وأتم شريعته،ولابد أن يكون كذلك،لأن الله بعثه ليخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذنه،ويتبعه الناس في جميع الأعصار إلى يوم الدين،فكيف يقبضه وشريعته بعدُ ناقصة؟…
لا يحتمل بمسلم آمن بالله ورسوله أن يدعي ذلك لبطلانه عقلاً ونقلاً،أما عقلاً فلأنه نقض للغرض وهو قبيح،وأما نقلاً فلقوله تعالى:- (اليوم أكملت لكم دينكم)[1]،وقوله (ص):ما من شيء يقربكم إلى الجنة ويـبعدكم عن النار إلا وقد أمرتكم به،وما من شيء يقربكم إلى النار ويـبعدكم عن الجنة إلا وقد نهيتكم عنه.
ومن خلال هذه المقدمات التي ذكرناه يتضح وجوب نصب الخليفة،وإيداع ما بقي من بيان الشريعة إليه ليقوم بتبيـينه هو للناس حسب ما تقتضيه المصلحة والحكمة،وإلا يلزم إما عدم تكليف الناس بعد حياة النبي(ص)بدين الإسلام،وهو باطل كما تقدم في المقدمة الأولى،أو أن الشريعة منحصرة بما بينه النبي(ص)فقط وهو فاسد بحكم المقدمة الثانية والخامسة،أو أن الناس هم المختارون لجعل الأحكام،وقد عرفت بطلانه من خلال المقدمة الثالثة،فضلاً عن بطلان الإحتمال الثاني.
أو نقول بأنهم مكلفون حتى بما لم يـبينه النبي(ص)،وهو ممنوع بمقتضى المقدمة الرابعة،أو أن الأدلة الأربعة المعهودة كافية للمهمة،ولكن اتضح من المقدمة الخامسة ضعفه،أو أن النبي أهمل أمر الشريعة وحال الأمة،وقد ابطلته المقدمة السادسة،مضافاً إلى الإحتمال الأول في الدرس السابق.
فإذا بطلت هذه اللوازم ثبت ثبوتاً قطعياً قهرياً أن النبي الأكرم(ص)قد أودع الأحكام إلى غيره من بعض أفراد أمته ليوصلها إلى الناس.
ولهذا نجد أئمة أهل البيت(ع)يشيرون إلى أن الله سبحانه وتعالى لم يترك الأمر سدى،والرسول(ص)قد عين بعده شخصية مثالية تقوم بما كان يقوم به،فلم يترك الأمة حائرة في أمرها.
قال إمامنا الباقر(ع):إن الله لم يدع الأرض بغير عالم،ولولا ذلك لما يعرف الحق من الباطل[2].
وقال أبو عبد الله الصادق(ع):إن الأرض لا تخلو وفيها إمام،كيما زاد المؤمنون شيئاً ردهم،وإذا نقصوا شيئاً أتمه لهم[3].
وعن أمير المؤمنين(ع):اللهم بلى،لا تخلو الأرض من قائم لله بحجة،إما ظاهراً مشهوراً،وإما خائفاً مغموراً،لئلا تـبطل حجج الله وبيناته[4].
فيستفاد من هذه الكلمات وأمثالها أن الداعي إلى بعثة النبي(ص)هو بنفسه داع إلى وجود إمام يخلف النبي في عامة سماته،سوى ما دل القرآن الكريم على انحصاره به،ككونه نبياً رسولاً وصاحب شريعة.
أدلة نصب الإمام:
هذا ويمكننا أن نستدل أيضاً على وجوب نصب الإمام وتعيـينه من قبل الله تعالى،مضافاً لما ذكرناه بعدة أمور:
الأول:إن نصب الإمام لطف،واللطف واجب على الله سبحانه وتعالى،فيجب عليه نصب الإمام.
أما كون نصب الإمام لطفاً،فلأن كل أحد يعلم بالبداهة أن الإمام يقرب الرعية إلى الطاعة،ويـبعدهم عن المعصية.
وأما وجوب اللطف عليه سبحانه وتعالى،فيـبتني على مسألة الحسن والقبح العقليـين،وليس هذا مكان تحقيقها.
الثاني:إن وجود الإمام أصلح للمجتمع،والأصلح واجب عليه سبحانه،عقلاً ونقلاً.
الثالث:سيأتي في ضمن الشروط المعتبرة في الإمام أن يكون معصوماً،وهي أمر خفي لا يدركه الناس،فينحصر تعيـينه من قبل الله تعالى،إذ لو وجب على الناس لزم التكليف بما لا يطاق،فإذا لم يجب على الناس،وجب على الله تعالى اتفاقاً.
الرابع:إن الإمام مثل النبي في الصفات،والغرض المطلوب،كما بينا،فكما أن النبي يتعين بالنصب من الله سبحانه،فكذلك الإمام.
التعريف بمن أودعت عنده هذه الأمور:
وعلى هذا لابد للنبي(ص)من أن يقوم بتعريف هذا الشخص للأمة في حياته ليستمعوا إلى أقواله وينقادوا إلى إرشاده وهدايته،ولا يجوز لأحد مخالفته،كأن يقول:فلان وصيي استمعوا إلى قوله،أو يقول:أنا مدينة العلم وفلان بابها،ومن أراد المدينة فليأتها من الباب،وما يشابه ذلك.
إشكالان:
هذا وقبل التعرض لبيان الشخصية التي استودعها النبي الأكرم(ص)هذه الأمور ونصبها علماً وهادياً للأمة،نشير لإشكالين،قد يطرحا في المقام،حيث أن هناك كثيرين ممن ليست لهم قدم راسخة في أبواب المعارف،يصعب عليهم تصور إنسان مثالي يحمل علوم النبوة،وليس بنبي،ويقوم بوظائفه الرسالية،وليس برسول،يحيط بمعارف الشريعة وأحكامها،وليس طرفاً للوحي،ويصون الشريعة من التحريف والدس،ويرد تشكيكات المبطلين وليس له صلة بسماء الوحي.
وكيف ما كان فالإشكالان هما:
الأشكال الأول:إن الفرد الجامع لهذه الخصائص،لا يفترق عن النبي،فتصبح الإمامة عندئذٍ مرادفة للنبوة،مع أن أدلة الخاتمية قطعت طريق هذا الإحتمال.
وجوابه:
إن مفهوم النبوة:عبارة عن عن كون النبي طرفاً للوحي،يسمع كلام الله تعالى،ويرى الرسول،ويكون صاحب شريعة مستقلة،أو مروجاً لشريعة من قبله.
أما الإمام:فهو الخازن لعلوم النبوة في كل ما تحتاج إليه الأمة،من دون أن يكون طرفاً للوحي،أو سامعاً كلام الله سبحانه،أو رائياً الملك الحامل له.
نعم المشكل التي دعت هذا المستشكل وأمثاله إلى إثارة هذا الإشكال تعود لكونه لا يتصور وجود شخص مثالي بلغ حد الكمال والعلم من دون أن يدخل مدرسة أو يخضع للتلمذ على يدي شيخ،مع كونه غير نبي.
مع أن القرآن الكريم يحدثنا عن أناس مثاليـين نالوا الذروة من العلوم بتعليم غيـببي،مع أنهم لم يكونوا أنبياء،فلاحظ ما جاء في القرآن الكريم عن جليس سليمان(ع)الذي يقول سبحانه وتعالى في شأنه:- (قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك،فلما رآه مستقراً عنده قال هذا من فضل ربي)[5].
وهذا الجليس لم يكن نبياً،ولكن كان صاحب علم من الكتاب،ومن المعلوم أن هذا العلم لم يحصل له من الطرق العادية التي يدرج عليها الدارسون في المدارس،وإنما هو علم إلهي احتضنه بلياقته وكفائته،ولأجل ذلك ينسب علمه إلى فضل ربه ويقول:- (هذا من فضل ربي).
والنتيجة التي نصل إليها أن التعليم الغيـبي لا يختص بالأنبياء،بل هناك شخصيات صالحة،يحملون علوم النبوة ويحتضنونها بفضل من الله سبحانه،لغاية قدسية هي إبلاغ الأمة الغاية من الكمال،وإيصاد الثغرات التي خلفتها رحلة النبي(ص).
الإشكال الثاني:لو سلمنا بصحة ما تقدم ذكره منكم من أن المحاسبات الإجتماعية والتاريخ يشهدان بعدم استيفاء النبي(ص)لمهمة التشريع،فما معنى قوله تعالى:- (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً)[6].
والجواب:
إن هذا السؤال يـبتني على أساس تفسير كلمة(الدين)الواردة في الآية المباركة بالأحكام الشرعية،وحمل الإكمال على بيانها،لكن هذا التفسير غير صحيح لوجوه:
1-إن كثيراً من المفسرين فسروا اليوم بيوم عرفة من عام حجة الوداع،ومن المعلوم أن هناك نصوصاً لا يستهان بها،تدل على نزول أحكام وفرائض بعد ذلك اليوم،كأحكام الكلالة المذكورة في آخر سورة المائدة،وآيات الربا.
2-إن تفسير الدين بالأحكام،وإكمالها بالبيان وأنه تحقق في يوم عرفة من عام حج الوداع،لا ينسجم مع سائر فقرات الآية،فإن الآية تخبر عن يوم تحققت فيه ثلاثة أمور:
الأول:يأس الكفار من دين المسلمين.
الثاني:إكمال الدين.
الثالث:إتمام النعمة.
3-إن ما ذكر لا ينسجم مع ما رواه عدة من المحدثين من نزولها يوم الثامن من ذي الحجة في السنة العاشرة للهجرة،عندما نصب النبي علياً للولاية،وقال:من كنت مولاه فهذا علي مولاه.
وعلى هذا لا يصح تفسير الدين بالأحكام،والإكمال بالبيان،وعلى هذا يمكن أن يقال:
أن المراد من الدين هو أصوله،والمراد من الإكمال تثبيت أركانه وترسيخ قواعده،وذلك أن الكفار،خصوصاً المستسلمين منهم،كانوا يتربصون بالنبي الدوائر،فإنهم كانوا ينظرون إلى دعوته بأنها ملك في صورة النبوة،فإن مات أو قتل،ينقطع أثره ويموت ذكره،كما هو المشهور عادة من حال السلاطين،غير أن ظهور الإسلام تدريجياً وغلبته على الكفار والمشركين،بدد أحلامهم بالخيـبة فيئسوا من التغلب على النبي ودعوته،فلم يـبق لهم إلا حلم واحد،وهو أنه لا عقب له يخلفه في أمره،فيموت دينه بموته،إلا أن الخيـبة عمتهم لما شاهدوا خروج الدين عن مرحلة القيام بشخص النبي إلى مرحلة القيام بشخص آخر مثالي يقوم مقامه،فعند ذلك تحققت الأمور الثلاثة،فيئسوا من زوال الدين بعد موته،وكمل الدين بتنصيب من يحمل وظائف النبي،وتمت نعمة الهداية إلى أهداف الرسالة بالوصي القائم مقامه.
فالمراد من إكمال الدين،تحوله من وصف الحدوث إلى وصف البقاء،وكان ذلك بالعمل،رداً لما يحكيه سبحانه عن بقوله:- (ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره إن الله على كل شيء قدير)[7].
ولعل المراد من قوله:- (يأتي الله بأمره)،هو ما حدث في ذلك اليوم.
وعلى ذلك فتنسجم الجمل الثلاث،ويرتبط بعضها ببعض،فالدين الذي أكمله الله اليوم،والنعمة التي أتمها اليوم،أمر واحد بحسب الحقيقة،وهو الذي كان يطمع فيه الكفار،ويخشاهم فيه المؤمنون،فآيسهم الله منه،وأكمله وأتمه،ونهاهم عن الخشية منهم.
دوران الأمر بين علي وبين أبي بكر:
بعد هذا يقع البحث في من هو الشخصية المثالية التي نص النبي(ص)على كونها الخليفة من بعده،فقالت الإمامية أعلى الله كلمتهم وأنار برهانهم،أنه علي،فهو الخليفة المنصوب بعد رسول الله بلا فصل.وقال أبناء السنة،أنه أبو بكر بن أبي قحافة.
ومن الواضح أن ما قدمنا ذكره يؤيد ما ذكره الشيعة الإمامية،ويمنع من تمامية قول أبناء السنة،ولكن مع ذلك إكمالاً للبحث وجرياً على وفق قواعد الإستدلال،فإننا نذكر الأدلة التي استدل بها الشيعة الإمامية على صحة مدعاهم،وهذا ما سيأتي الحديث عنه إن شاء الله في الدروس القادمة.
——————————————————————————–
[1] سورة المائدة الآية رقم 3.
[2] الكافي ج 1 ص 178.
[3] المصدر السابق.
[4] نهج البلاغة،قسم الحكم،الرقم 147.
[5] سورة النمل الآية رقم 40.
[6] سورة المائدة الآية رقم 3.
[7] سورة البقرة الآية رقم 109.