إن المستفاد من الآيات القرآنية وجود عملية استبدال وتبديل في المجتمعات البشرية، فلاحظ قوله تعالى:- (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)[1]. وقال سبحانه:- (إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) )[2]. ويقول عز من قائل:- (هَاأَنتُمْ هَؤُلاء تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاء وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ)[3].
ولا ريب أن هذا الاستبدال يتم على وفق ضابطة معينة، فهو يحتاج إلى توفر أسبابه بوجود أمور معينة في المستبدلين، وتوفر خصائص في البدائل، ومن الطبيعي جداً أن هذا يوجب الحاجة إلى معرفة المقصود من الاستبدال وتحديد المقصود منه، كما يلزم أن يحاط بالدليل عليه، وهل أنه من الأمور الخاصة بالأمة المرحومة، أعني أمة النبي محمد(ص)، أم أنه من السنن التاريخية التي جرت في الأمم السابقة، وجريانه في هذه الأمة، هو تطبيق لهذا المعنى، أعني تبعية هذه الأمة لمن سبقها حذوا القذة بالقذة والنعل بالنعل، وغير ذلك.
الاستبدال معناه ودليله:
لا يذهب عليك عزيزي القارئ أنه توجد مفردات ثلاث وردت في القرآن الكريم، وأشير إليها في كلمات أهل اللغة: الاستبدال، والتبديل، والتبدل.
ولا يبعد عود الجميع إلى بعضها البعض ولو في الجملة، وإن كانت كل واحدة منها تختلف عن البقية بلحاظ بعض الخصوصيات، لكنها تؤول لباً لمحصل واحد، وما يهمنا هو تحديد المقصود من مفهوم الاستبدال، ومن مفهوم التبديل.
أما الاستبدال، فهو لغة: جعل شيء مكان شيء آخر، سواء كان ذلك المجعول عوضاً أم لم يكن، فجعل المال مكان الدار التي تشتريها استبدال، وهكذا.
وأما التبديل، فيقصد منه لغة: التغيـير مطلقاً.
ولا يخفى مدى الفرق بينهما، ذلك أن الاستبدال متقوم بوجود البدل دائماً، فلا يكون متحققاً خارجاً ما لم يكن هناك عوض، بخلاف التبديل، فإنه لا يعتبر في تحققه خارجاً وجود البديل، وعليه، فسوف يكون التبديل أوسع دائرة وأعم من الاستبدال، إذ كل استبدال ينطبق عليه أنه تبديل، ولا عكس، فتدبر.
ويعرف الاستبدال في الاصطلاح، بأنه: تبديل قوم بآخرين أفضل منهم، لحمل أعباء الرسالة الإلهية. قال تعالى:- (هَاأَنتُمْ هَؤُلاء تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاء وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ)[4].
ويتضمن هذا التعريف قيوداً ثلاثة:
1-أن هناك حلولاً لقوم محل قوم آخرين.
2-امتياز البدائل على المستبدلين.
3-بيان داعي الاستبدال المتمثل في القيام بحمل أعباء الرسالة الإلهية.
وقوع الاستبدال في الأمم السابقة:
وقد أشار القرآن الكريم إلى وقوع الاستبدال في الأمم السابقة، فقص القرآن حدوثه في بني إسرائيل مرتين:
الأولى: في عصر نبي الله موسى(ع)، عندما رفضوا خليفة موسى هارون(ع)، وعبدوا العجل بقيادة السامري، وامتنعوا من دخول الأرض المقدسة، ويستفاد ذلك من ضم مجموعة من الآيات بعضها مع بعض، فلاحظ قوله سبحانه وتعالى:- (وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ0 وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ0قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ0وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ0سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ0وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَلِقَاء الآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ0وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُواْ ظَالِمِينَ0وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّواْ قَالُواْ لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ0وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِيَ أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأعْدَاء وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ0قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)[5]، وقوله تعالى:- (ا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ)[6]. وقد ترتب على ذلك فقدانهم ما كانوا ينالوه من النعم، فقد سلبت منهم النعم الكثيرة التي كانت تعطاهم، من المن والسلوى وتظليلهم بالغمام وقاية لهم من حرارة الشمس، وتفجير اثنتي عشرة عيناً من الماء العذب، لشربهم وارتواء مواشيهم وسقي مزارعهم، وغير ذلك من النعم المذكورة في كلامه تعالى:- (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ)[7] . وحل بهم الاستبدال بحلول التيه عليهم في صحراء سيناء مدة أربعين سنة، وقد بلغ بهم الحال في تلك الفترة أنهم أخذوا يخفرون الآبار بأيديهم بحثاً عن الماء تحت هجير الحر والشمس المحرقة، وقد توزعوا بعد ذلك في الأرض بحثاً عن مصادرا لعيش وسعياً لتأمين الحياة.
الثانية: وقع الاستبدال فيهم أيضاً جراء ما قاموا به من أعمال أوجبت ذلك، وقد تمثلت تلك الأعمال في إدخالهم ما ليس من الدين في الدين، وتماديهم في الانحرافات، وفي قتلهم الأنبياء والأوصياء، وقيامهم بتشريدهم في الأرض. وباؤوا بغضب الله سبحانه وتعالى، وطردهم من موقع القيادة.
الاستبدال في أمة الرسول:
ووفقاً للقانون القرآني، والثابت بنصوص السنة الشريفة، من أنه لابد وأن يجري في أمة النبي(ص) ما سبق وجرى في الأمم السابقة، وفقاً لسنن التاريخ، وإتباع هذه الأمة لسنن الماضين، فسوف يقع الاستبدال أيضاً في أمة النبي الأكرم محمد(ص)، وقد أشار إلى هذا الاستبدال القرآن، فلاحظ قوله تعالى:- (وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا)[8]. وقال عز من قائل:- (هَاأَنتُمْ هَؤُلاء تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاء وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ )[9].
ولا يخفى أن هذا الاستبدال، من الأمور الموعودة، التي أخبر عنها القرآن الكريم، قبل تحققها ووقوعها، ما أوجب ذلك حصول الاختلاف، في تحديد وقت وقوعه، وهل أن ذلك يكون في عصر رسول الله(ص)، وحال حياته، أم أنه سوف يقع بعدما ينتقل النبي الكريم(ص) إلى عالم الملكوت، ومن هو المجتمع المستبدل، هل هم أصحاب رسول الله(ص)، أم أنهم من يأتون بعدهم، ومن هو المجتمع البديل؟
إن جميع هذه الأمور وجدت في مطاوي البحوث التي تعرضت للحديث عن قانون الاستبدالـ والتي أشارت إلى الاستبدال الموعود، وإن كان مما يؤسف له، أنها ليست من الكثرة بمكان، بل حتى جملة من الأعلام، لم يعمدوا إلى التعرض لذلك، فهذا على سبيل المثال السيد العلامة الطبطبائي(ره)، لا يكاد يجد القارئ لموسوعته التفسيرية الميزان حديثا مفصلاً حول هذا الموضوع، مع أنه قد أسهب كثيراً عند حديثه عن آية(فسوف يأتي الله بقوم يحبه ويحبونه)، والسيد السبزواري(ره)، وإن أشار إلى هذا القانون، إلا أنه قد طوى ذلك بصورة سريعة جداً، من دون أن يسلط الضوء عليه بصورة موسعة، وإعطاء البحث ما يستحقه، ولعل العذر لأمثال هؤلاء الأعلام، وغيرهم أنهم ما كانوا بصدد الحديث عن هذا الموضوع بصورة مفصلة، وإنما كانوا بصدد التفسير مثلاً، ومثل هذا البحث يحتاج دراسة مستقلة، ولعل هناك أسباباً أخرى لم نطلع عليها.
المجتمعان المستبدل والبديل:
وكيف ما كان، فإنه يمكن تحديد المجتمع المستبدل، وكذا تحديد المجتمع البديل، ومن ثمّ تحديد وقت الاستبدال، وزمان حدوثه، من خلال الرجوع للأدلة الشرعية، سواء كانت آيات شريفة، أم كانت نصوص معصومية، لتعرضها للحديث عن ذلك كما لا يخفى.
وعليه، لو كنا ومقتضى الآيات القرآنية، أمكن القول، بأنه لا مانع من الالتـزام بالتعدد في المجتمع المستبدل، وكذا في المجتمع البديل، فيلتزم أن هناك موجبات تستدعي حصول عملية الاستبدال وتطبيق القانون، متى كانت متوفرة أوجب ذلك تطبيقه ووقوعه خارجاً.
وهذا يعني عدم انحصار عملية الاستبدال في عدد محدد، ما يجعل وقوعه وتعدده في الأمة الواحدة أمراً ممكناً، لا محذور فيه. ويشهد لذلك ما سمعته قبل قليل من تعدد عملية الاستبدال في المجتمع الإسرائيلي،فقد حكى القرآن الكريم وقوعه فيهم مرتين، مرة في عصر نبي الله الكليم موسى بن عمران(ع)، والأخرى بعد عصره. اللهم إلا أن يدعى أن الفترة الزمنية الفاصلة ما بين الزمنين الذي وقعت فيه عملية الاستبدال تفيد مغايرة العنوان الذي استبدل، فيلتـزم بأن المجتمع المستبدل وإن كان إسرائيلي الانتماء، إلا أنه يغاير تماما المجتمع الإسرائيلي السابق، ما يجعله عنواناً آخر غيره، وبالتالي لا يحكم بتعدد عملية الاستبدال، وتطبيق القانون في المجتمع والأمة الواحدة أكثر من مرة، فتأمل جيداً.
وبالجملة، لو كنا والظاهر القرآني، لبني على إمكانية تعدد الاستبدال في الأمة الواحدة، ولا يلزم من ذلك محذور كما لا يخفى.
وهذا يساعد على القول بإمكانية تعدد الاستبدال في أمة النبي(ص)، كما كان ذلك في الأمم السابقة، خصوصاً وأن أصل جريان الاستبدال الموعود، هو نحو من أنحاء جريان سنن الأمم الماضية في أمة النبي(ص)، كما جرى ذلك فيها، فتدبر.
وأما المستفاد من النصوص النبوية الشريفة التي تعرضت للحديث عن وقوع قانون الاستبدال، وأنه أحد الموعودات الغيبية، والملاحم التي تعرضها القرآن الكريم، هو حصر وقوعه في أمة النبي(ص) مرة واحدة، فقد تكررت الأسئلة من الصحابة على رسول الله(ص) عن تحديد المجتمع البديل لهم، كمجتمع مستبدل متى توفرت موجبات الاستبدال، فقد روى أبو هريرة على ما في صحيح الترمذي أن رسول الله(ص) تلا قوله تعالى:- (cÎ)ur هَاأَنتُمْ هَؤُلاء تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاء وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ)[10]، فقالوا: يا رسول الله! من هؤلاء الذين إن تولينا استبدلوا بنا، ثم لا يكونوا أمثالنا؟ فضرب رسول الله(ص) على منكب سلمان ثم قال: هذا وقومه، والذي نفسي بيده، لو كان الإيمان منوطاً بالثريا لتناوله رجال من فارس[11].
وعن الزمخشري في تفسيره، أنه لما نزل قوله تعالى:- ( وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً)[12]. روي أنها لما نزلت ضرب النبي(ص) بيده على ظهر سلمان وقال: إنهم قوم هذا.
قال الزمخشري: يريد أبناء فارس. وعلق الحافظ ابن حجر العسقلاني على الحديث في هامش الكشاف بقوله: أخرجه الطبري من رواية سهل عن أبيه عن أبي هريرة بهذا اللفظ: يعني عجم فارس.
لأنه لو كان هناك ما يشير في تطبيق القانون بتعدد المجتمع المستبدل، والمجتمع البديل، لأشار إلى ذلك(ص) في ما صدر عنه من كلماته، ولم يسكت عند وجود هذه الأسئلة المتكررة منهم عليه، ومقتضى سكوته(ص) وهو في مقام البيان، يستدعي حصر عملية الاستبدال وتطبيق القانون الموعود مرة واحدة لا أكثر، فلاحظ.
ولا يذهب عليك أنه وفقاً لهذه النصوص، سوف يبنى على رفع اليد عن الظاهر القرآني، وجعل تعدد الاستبدال من مختصات الأمم السابقة، دون أمة النبي(ص)، وحصر الأمر فيها في خصوص ما جاء في النصوص، فلاحظ. نعم يبقى في البين محتمل لا ينبغي الغفلة عنه، وهو أن يكون الصادر عنه(ص) ليس في مقام البيان من جميع الجهات، بل يكون من باب الجري والتطبيق، ما يجعل المذكور في كلامه لا يخرج عن كونه عرضاً لمصداق من المصاديق، وليس عرضاً لتمام الموضوع، وهذا لا ينفي ما تضمنته الآيات الشريفة من إمكانية تعدد وقوع القانون في الأمة الواحدة، خصوصاً وأنه سنة من السنن التاريخية، فتأمل جيداً.
ثم إنه وفقاً للبناء على حصر العملية الاستبدالية في المرة الواحدة فقط، فسوف يكون المجتمع المستبدل عنواناً كلياً، وهو قوم النبي(ص)، لكننا سوف نواجه تحديد وقت هذا المجتمع وزمان وجوده، وهل هو المجتمع الذي كان معاصراً له(ص)، أم المجتمع الذي كان من بعده، وقد اشتمل على عدد من الصحابة، أم أنه مجتمع يلي زمانه، ولو بعد حين.
ولا يذهب عليك أنه لو بني على المحتمل الثالث، كان مقتضاه كون الاستبدال في أمة النبي(ص)، لكنه لن يكون لقومه(ص)، لأن المنصرف من تعبير قومه، من كانوا معاصرين إليه، فلاحظ. بخلاف ما لو بني على المحتملين الأول والثاني، فإن المقصود بهم هم الصحابة الذين كانوا معاصرين إليه(ص)، ومن كان قريباً من عصره.
وعلى أي حال، فقد تعددت الآراء في تحديد المجتمع المستبدل ،، فإنهم وإن اتفقوا على أنهم قوم النبي(ص)، أو قوم من أمته، الذين يهجرون شريعة القرآن الكريم في آخر الزمان، كما أشار إلى ذلك قوله تعالى:- (وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا)[13]، لكنهم اختلفوا في تشخيصهم خارجاً، فذكرت أقوال، كما وقع الخلاف أيضاً في تحديد المجتمع البديل. وسوف نشير إلى بعض الأقوال المذكورة:
منها: أن المستبدلين، هم الذين بغوا على أمير المؤمنين(ع)، عندما تسلم منصب الخلافة الظاهرية، وهم الناكثون، والباغون، والمارقون، الذين قاتلهم أمير المؤمنين(ع) في معركة الجمل، وصفين، والنهروان.
وأما المجتمع البديل، فهو المجتمع الذي قام بنصرة أمير المؤمنين(ع) في حروبه الثلاثة ضد هؤلاء، وعمد إلى الوقوف إلى جانبه، ودافع عن الحق وأهله، ونصر خليفة رسوله(ص).
وقد استند القائلون[14] بهذا القول إلى ما جاء عن النبي الأكرم محمد(ص) عندما أراد بعث أمير المؤمنين(ع) لفتح خيبر بعدما عجز عنها الرجلان، وعادا خائبين، فقد قال(ص): لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، كراراً غير فرار، لا يرجع حتى يفتح الله على يديه، ثم دعاه فأعطاها له[15]. فقد تضمن الحديث النبوي وصف أمير المؤمنين بصفات المجتمع البديل، وهو كونه محباً لله ولرسوله، وكون الله ورسوله يحبانه.على أن المؤرخين قد اتفقوا على أن إحدى صفات أمير المؤمنين(ع)، هي شدته على المشركين والكافرين، حتى وإن كانوا قرابة له، ومواقفه في ذلك مشهورة، وتضحياته من أجل الدين ورفعته مشهودة.
والقول بكون أمير المؤمنين(ع)، وأصحابه الخلص هم المجتمع البديل، لا يمانع منه أحد، لما لأمير المؤمنين(ع) من الخصائص والصفات، التي تميزه على جميع الصحابة، إلا أن هذا يتوقف على تمامية الدليل الذي يستند إليه في مقام الإثبات مع انتفاء وجود المانع من الركون إليه.
والحق، أنه يمنع من قبول هذا الرأي عدم توفر الصفة المعتبرة في المجتمع المستبدل في المقاتلين لأمير المؤمنين(ع) في حروبه الثلاثة، وهي الموالاة لليهود والنصارى سياسياً، فإن الثابت تاريخياً أن أياً منهم لم يكن كذلك.
كما أنه يمكن المنع من كون الحديث النبوي الصادر عنه(ص) دليلاً صالحاً للإثبات، لأنه يمكن أن يحمل على قاعدة الجري والتطبيق التي تطبق كثيراً في النصوص المعصومية الواردة في سياق الحديث عن الآيات القرآنية، بجعل مورد مصداقاً لها غير مصداقها الأصلي، لمناسبة أو شبه بين المصداقين فلا يكون الصادر عنه(ص) بياناً لتمام الموضوع، وإنما هو عرض لواحد من أجلى وأوضح مصاديقها كما لا يخفى. لما ورد عن الإمام الصادق(ع) من أن القرآن يجري في آخر الأمة كما يجري على أولها، فلاحظ[16].
ولا يخفى ما فيه، ضرورة أن البناء على كون أمير المؤمنين(ع) مصداقاً لقانون الاستبدال ليكون هو(ع) وأصحابه مجتمعاً بديلاً لا ينفيه كون الصادر عنه(ص) جرياً وتطبيقاً، لأنه يمكن البناء على تعدد العملية الاستبدالية كما عرفت، وبالتالي يكون تعدد في التطبيق، وهو غير بعيد لو قبل بما ذكر، فتدبر.
ومنها: أن المجتمع المستبدل هم قوم النبي(ص)، وأما المجتمع البديل، فهم الأشاعرة قوم من اليمن، وقد استندوا القائلون بهذا الرأي إلى ما ورد عن النبي الأكرم محمد(ص) في مستدرك الصحيحين في الحديث الصحيح على شرط مسلم، أنه لما نزل قوله تعالى:- (فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه) قال رسول الله(ص): هم قومك يا أبا موسى!، وأومئ رسول الله(ص) بيده إلى أبي موسى الأشعري[17].
وقد أجيب عنه، بأنه لما كان الاستبدال لا يقع في أمة الإسلام إلا مرة واحدة، وقد ثبت أن المجتمع المستبدل هم العرب، فيلزم أن يكون البديل من غيرهم، وهذا يجعلنا نحمل النص المذكور على أحد محملين:
الأول: أن يكون ما صدر عنه(ص) إعمالاً لقاعدة الجري والتطبيق، من خلال تطبيقه الآية على بعض مصاديقها غير مصداقها الأصلي، لمناسبة أو شبه بين المصداقين.
الثاني: أن تحمل هذه النصوص على الأشاعرة الذين سوف يسكنون قم، وتكون ناظرة للنصوص التي تمدح دورهم الرسالي والجهادي في آخر الزمان، خصوصاً في تحرير فلسطين، فتكون هذه النصوص من الإخبارات النبوية بالأمور الغيبية.
وإن لم يقبل ما ذكرنا، فلا مناص من رفع اليد عن هذه النصوص، وإسقاطها عن الحجية، لأنها معارضة لما هو متواتر، ويفيد معنى آخر في المجتمع البديل غير من ذكر، هذا كله بعد الالتزام بصدور الخبر المذكور، ورفع اليد عن كون راويه أشعرياً، قد يكون مادحاً لقومه[18].
ومن الواضح أن تمامية الجواب المذكور مبنية على جعل مقدمته، وهي حصر الاستبدال في أمة النبي(ص) في مرة واحدة من الأمور المسلمة، مع أنك قد عرفت في ما سبق، إمكانية القول بالتعدد، ولو ثبوتاً. على أن كون المجتمع المستبدل هم العرب، لا يلزم منه أن يكون المجتمع البديل غيرهم من فئة عرقية أخرى، كيف وقد وجدنا القرآن الكريم، عندما تحدث عن استبدال بني إسرائيل، لم يشر إلى أنه يعتبر في تحقيق هذا القانون مغايرة المجتمع البديل للمجتمع المستبدل عرقياً، بل هو صريح في كون المستبدل والبديل من الإسرائيليين.
وأما حمل النص على ما ذكر، فالإنصاف، حسن الأول، وعدم استبعاد الثاني. مع أن البناء على الثاني يستوجب منافاته في كلام المجيب، لأنهم سوف يكونون عرباً، وليسوا كما يريد المجيب إثباته، فيكون ما أراد الفرار منه من المغايرة بين المجتمعين المستبدل والبديل، قد وقع فيه، فلاحظ.
وأخيراً، رفع اليد عن النصوص المعارضة، يعتمد على تحقق الاستقرار للمعارضة، والتقديم بما ذكر يبتني على توفر التواتر فعلاً في النصوص المقدمة، فتدبر.
مع أنه يمكن أن يكون هذا القول راجعاً للقول الأول أيضاً، لما هو المعروف تاريخياً من أن أكثر شيعة أمير المؤمنين(ع)، هم من اليمن، وأن أكثر من قاتل معه في حرويه الثلاثة كان اليمانيون، ما يعني إمكانية إرجاع هذا الدليل ليكون دليلاً للقول الأول، وبالتالي تداخل القولين، وعدم عدّهما مستقلين، فيكون الجواب السابق ذكره هناك في المنع من القبول به جارياً في المقام.
ولا مجال للاستناد لإطلاق الخبر، فإنه وإن كان مسلما، إلا أنه يمكن تقيـيده بمعرفة المجتمع المستبدل، فتأمل.
ومنها: أن المجتمع المستبدل، هو أمة النبي(ص)، وأما المجتمع البديل، فهم الفرس، قوم سلمان(رض)، وهو قول الزمخشري، والرازي، فقد ذكر الزمخشري في تفسير قوله تعالى:- (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاء فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ)[19]. قال: مجاهد: هم الفرس، ومعنى توكيلهم بها، أنهم وفقوا للإيمان بها والقيام بحقوقها، كما يوكل الرجل بالشيء ليقوم به، ويتعهده ويحافظ عليه[20]. وقد حكى ذلك الرازي أيضاً في تفسيره عن سعيد بن جبير في تفسير الآية رقم 39 من سورة التوبة.
مضافاً إلى النصوص التي تضمنت جواب النبي(ص)، لأصحابه عندما كانوا يسألونه عمن سوف يكون البديل إليهم عندما يتولوا، وقد كان(ص) يجيبهم: هم أبناء فارس. وفي بعضها يشير إلى سلمان(رض)، ويقول: قوم هذا، وأحياناً يضرب على فخذه أو على منكبه، ويقول: قوم هذا، وهكذا. على أن النصوص المذكورة متواترة[21].
ولا يذهب عليك أنه يرد على القول المذكور، ما سبق ذكره في القولين السابقين، ذلك أن من الممكن جداً البناء على كون النصوص المذكورة والمشيرة إلى قوم سلمان، لا تكون من باب الفرد الحقيقي للمجتمع البديل، وإنما تكون من باب المصداق، وفقاً لقاعدة الجري والتطبيق، فلا يختلف الحال فيها عن الحال في القولين السابقين.
ومجرد كون النصوص المذكورة متواترة-على فرض التسليم بذلك-لا يوجب تعين المعنى فيها، على أنه للتوقف في صدق عنوان التواتر عليها مجال، إذ أن المدعى شمول طوائف من النصوص كالتي تعرضت للحديث عن إسلام فارس وتبشر به، وما تضمن أن أسعد العجم بالإسلام فارس، وأنه لو كان الدين بالثريا تناوله رجال من فارس، والإنصاف كونها أجنبية عن المدعى، فإن موضوعها يختلف تماماً عما نحن فيه، مع أنه يمكن التمسك بنصوص أخرى لإثبات التواتر في شأن أحد القولين السابقين.
وبالجملة، لن تخرج النصوص التي تضمنت بيان أن المجتمع البديل، هو قوم سلمان(رض)، عن كونها أخبار آحاد، أقصى ما يتصور فيها أنها مستفيضة، لو ثبت لها ذلك، فلاحظ.
مع أنه لو رفعت اليد عن جميع ما ذكرنا، أمكن إرجاع النصوص التي تتحدث عن كون المجتمع البديل هم قوم سلمان، إلى نصوص الأشاعرة، لما عرفت عند الحديث عن القول الثاني، بأن المقصود بهم القميون، ولم تنص الروايات التي تضمنت كونهم قوم سلمان على تحدثهم اللغة الفارسية، أو أن أصولهم ليست عربية، وبالتالي يكون هناك التقاء في الأقوال الثلاثة، ومن ثم في أدلتها، وهذا مما لا ريب فيه يعدّ مانعاً من القبول بأي منها، لأن المتصور أن عملية الاستبدال الموعود بها، بعدُ لم تقع، وذلك لأن المفروض اشتمال المجتمع البديل على مواصفات خاصة، وهي بعدُ لم تتحقق خارجاً، فلاحظ.
وقد تحصل مما قدم، أنه لم ينهض شيء من الأقوال المذكورة في بيان حقيقة المجتمع البديل، وإن كان المتيقن أن المجتمع المستبدل هو أمة العرب التي بعث فيها النبي الكريم محمد(ص)، دون تحديد لوقت حصول عملية الاستبدال.
ظن يرقى إلى مستوى الاطمئنان:
والذي يقوى في النفس جداً، بل تميل إليه، أن المجتمع البديل هي الدولة الكريمة المنتظرة ، والتي ستكون على يدي سيدي ومولاي صاحب الناحية المقدسة(روحي لتراب حافر جواده الفداء)، وأن أصحابه هم البدلاء لتلك الأمة المستبدلة، والذي يجعلنا لا نجزم بهذا المحتمل، فقداننا لدليل واضح يمكن أن نركن إليه، في مقام الإثبات، فإنه بمقدار ما تفحصت عاجلاً لم أجد ما يسند هذا الرأي، أو حتى يشير إليه ولو بنحو الاحتمال، نعم لا يبعد أنه يمكن تحصيل ما يشير إليه بنحو التصيد من أدلة أخرى متعددة، لكن قد يمنع الركون إليها عدم وضوحها في المدعى.
والحاصل، يبقى ما أشرنا إليه محتملاً يحتاج زيادة فحص، ومتابعة، كي ما يكون هناك ما يدل عليه، ويثبته.
أسباب الاستبدال:
ثم إنه يمكن أن يعيننا على ما احتملنا من كون المجتمع البديل هم أصحاب الدولة الكريمة، ملاحظة موجبات الاستبدال وأسبابه، ومن ثمّ المواصفات التي سوف يمتلكها المجتمع البديل، وسوف نبدأ بعرض أسباب الاستبدال، ثم نعمد لعرض مواصفات المجتمع البديل.
أما أسباب الاستبدال، فإن المستفاد من الآيات القرآنية، وكذا النصوص أنها تعود إلى ثلاثة أمور:
الأول: رفض الخلافة الإلهية، ويظهر هذا من استبدال بني إسرائيل، فإنهم لما رفضوا هارون(ع)، وهو الذي نصبه موسى(ع) خليفة عليهم، أوجب ذلك توفر دواعي الاستبدال، بتوفر أحد أسبابه. وقد أشرنا لذلك في ما قدم من آيات عند حديثنا عن الاستبدال الأول بني إسرائيل، فلاحظ. كما يدل عليه قوله تعالى:- (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ )[22].
الثاني: هجر التعاليم الإلهية، ومخالفة الشريعة السمحاء، وقد أشير إليه في قوله تعالى:- (هَاأَنتُمْ هَؤُلاء تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاء وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ)[23]. على أنك سمعت أن ما قام به الإسرائيليون من عبادة للعجل وتبعية للمنافق السامري صار سببا لوقوعه فيهم.
الثالث: التخاذل عن الجهاد، وهذا واضح عندما طلب الكليم موسى من قوه دخول الأرض المقدسة فامتنعوا عن ذلك، مبررين وجود قوم جبارين. قال تعالى:- (يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ)[24]. وإليه أيضاً يشير قوله تعالى مخاطباً أمة النبي(ص):- (إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)[25].
ولا يذهب على أحد أن هذه الأسباب الثلاثة قد توفرت في أمة النبي الأكرم محمد(ص) ذلك أن الأمة قد رفضت الخلافة الإلهية، عندما امتنعت عن تنصيب من نصبه الله تعالى وأقامه النبي(ص) خليفة عليها، وهو هارون هذه الأمة أمير المؤمنين(ع)، وأوكلت أمرها إلى من لم يجعله الله تعالى. كما أنها قامت بتحريف الشريعة وهجرانها، فأدخلت فيها ما ليس منها من قياس واستحسان ومصالح مرسلة، وغير ذلك، كما أنها غيرت وبدلت مصادر التشريع، وحرفت التاريخ. وأما تحقق السبب الثالث، وهو تثاقلها عن الجهاد، فهو من الواضحات التي لا تحتاج بياناً وإيضاحاً. نعم قد يكون لذلك أسباب، لكننا لسنا بصدد الحديث عنها.
مواصفات المجتمع البديل:
وأما بالنسبة للمجتمع البديل، فيلزم كما عرفت توفر مواصفات فيه، وهي:
الأول: التمسك بالولاية الإلهية.
الثاني: تطبيق الدين في حياتهم.
الثالث: الجهاد في سبيل الله تعالى. ويستفاد جميع ذلك من قوله تعالى:- (ا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ )[26]. ، فلاحظ[27].
[1] سورة المائدة الآية رقم 54.
[2] سورة التوبة الآية رقم 39.
[3] سورة محمد الآية رقم 38.
[4] سورة محمد الآية رقم 38.
[5] سورة الأعراف الآيات رقم 142-151.
[6] سورة المائدة الآية رقم 21.
[7] سورة البقرة الآية رقم 47.
[8] سورة الفرقان الآية رقم 30.
[9] سورة محمد الآية رقم 38.
[10]سورة محمد الآية رقم 105.
[11]صحيح الترمذي ج 5 ح 32606.
[12] سورة النساء الآية 133.
[13] سورة الفرقان الآية رقم 30.
[14]لاحظ مواهب الرحمن ج 11 ص 377.
[15]صحيح البخاري في الجهاد والسير وكذا في كتاب بدء الخلق. صحيح مسلم كتاب الجهاد والسير، كتاب فضائل الصحابة.
[16]ثورة الموطئين ص 64.
[17]مستدرك الصحيحين ج 2 ص 313.
[18]ثورة الموطئين ص 61-62.
[19] سورة الأنعام الآية رقم 89.
[20]تفسير الكشاف ج ص
[21]ثورة الموطئين ص 59، ص 133.
[22] سورة المائدة الآية رقم 54.
[23] سورة محمد الآية رقم 38.
[24] سورة المائدة الآية رقم 21.
[25] سورة التوبة الآية رقم 39.
[26] سورة المائدة الآية رقم 54.
[27]اعتمدنا كثيراً في هذا البحث على كتاب ثورة الموطئين للمهدي(ع).