من المعلوم اشتمال المجتمعات البشرية على جملة من السلوكيات غير الأخلاقية، كاشتمالها على السلوكيات الأخلاقية، ومن الطبيعي جداً تباين المواقف تجاه تلكم السلوكيات غير الأخلاقية من قبل أبناء المجتمع، إذ يلحظ الراصد لمواقف أفراده تبايناً واضحاً بينهم تجاهها، فبينما نجد البعض يعمد إلى محاولة التفكير الجدي، والدراسة العملية لمعالجتها، ومحاولة القضاء على وجودها في الأوساط الاجتماعية، نجد على العكس تماماً فئة أخرى تعيش حالة عدم المبالاة وعدم الإحساس بالمسؤولية حيالها، وكأن شيئاً مما يجري حولها لا يعنيها من قريب أو بعيد.
ولا يختلف حال مجتمعنا اليوم عن بقية المجتمعات الأخرى، فإن الراصد له يلحظ تفشي مجموعة من السلوكيات غير الأخلاقية فيه، مع تفاوت بينها من حيث شدة خطورتها عليه، من حيث القيم والتعاليم، فضلاً عن الهوية الدينية، وقلتها، ما يوجد تساؤلاً عن الموقف الذي يلزم اتخاذه تجاه تلكم السلوكيات، وكيف يلزم أن يتعامل مع المرتكبين لها.
أقسام السلوك غير الأخلاقي:
ويلزم قبل الحديث عن الموقف الذي ينبغي اتخاذه حيال تلك السلوكيات غير الأخلاقية، أن يحيط الإنسان بها، وأنها قسم واحد، أو أقسام متعددة.
هذا ولم يتعرض عند الحديث عن السلوكيات غير الأخلاقية إلى ذكر أقسامها، وإنما يقصر البحث غالباً على التعرض لبيان مصاديقها الخارجية، ويمكن أن تعرف الأقسام التي تنطوي تحت هذا المفهوم من خلال ملاحظة الطرف المقابل لها، فقد عرفت أن الحديث ينصب عن السلوكيات غير الأخلاقية، ومن الواضح جداً أن هذا يقابله الأخلاقيات والسلوكيات المحمودة، ما يفيد أن كل ما يكون منافياً للأخلاقيات الحميدة، يكون سلوكاً غير أخلاقي، كما لا يخفى.
وكيف ما كان، فقد قسموا السلوكيات الأخلاقية إلى ثلاثة أقسام[1]:
الأول: السلوك الأخلاقي الإلهي: ويقصد منه التـزام الإنسان بواجباته الموجهة إليه من الباري سبحانه وتعالى، والمتمثلة في إتيانه التكاليف الإلزامية المطلوبة منه، من الأمور العبادية وغيرها.
الثاني: السلوك الأخلاقي الفردي: ويراد منه كل سلوك يكون مرتبطاً بالإنسان نفسه، ويعود الإتيان به بالنفع عليه أساساً، وإن كان لا ينفك عن تضمنه صلة بالله سبحانه وتعالى.
الثالث: السلوك الأخلاقي الاجتماعي: ونعني به السلوكيات التي يكون أثرها إيجابياً على أفراد المجتمع، وتعود بالنفع عليه، كحفظ حقوقهم، بحماية أموالهم، وأنفسهم وأعراضهم، وقطع الطريق لكل من يود العبث بشيء منها، ومن ذلك أيضاً الحفاظ على الهوية الخاصة للمجتمع، وإبقاء صورته وهيئته، من خلال الحفاظ على معتقداته، ومتبنياته الفكرية والثقافية، وما شابه ذلك.
ووفقاً لما قدم، سوف تكون السلوكيات غير الأخلاقية جارية مجرى الأقسام الثلاثة السابقة، ما يعني أن هناك أقساماً ثلاثة لها:
السلوكيات غير الأخلاقية المنافية للخلق الإلهي، والسلوكيات غير الأخلاقية التي تنافي الأخلاقيات الفردية، وأخيراً السلوكيات غير الأخلاقية التي تتضارب وأخلاقيات المجتمع.
ويمكن تعريف القسم الأول منها، بأنه كل عمل يعارض واجب الإنسان تجاه ربه سبحانه وتعالى، فالصلاة مثلاً قد أوجبها الله تعالى على العبد، فعدم إتيانه بها، يعارض ما أوجب الله تعالى عليه، فيكون سلوكاً غير أخلاقي تجاه الباري سبحانه، والصوم مما فرضه الله تعالى على المؤمنين، فالإخلال به يتنافى والأخلاق الإلهية، كما أن عدم أداء الحج، أو الامتناع عن دفع الحقوق الشرعية، سلوكيات تعارض الأخلاق الإلهية.
والحاصل، إن كل تقصير في أداء الواجبات الإلهية، يعدّ سلوكاً غير أخلاقي مقابل الأخلاق الإلهية، فلاحظ.
وسوف يكون المقصود من القسم الثاني، السلوكيات التي تعود بالضرر على الإنسان نفسه، والتي تكون مرتبطة به بنحو شخصي، وإن كانت ذات صلة بالذات الإلهية، مثل الضرر الناشئ من قلة الأكل، أو الضرر الناشئ من كثرة الأكل الموجبة لحصول التخمة، ومن ذلك أيضاً الانزواء، والانقطاع عن الآخرين، وما يتركه ذلك من حالات اكتئاب وأمراض وعقد نفسية.
ووفقاً لما قدم بياناً لحقيقة القسم الثالث، فإنه سوف يكون المقابل له كل فعل يوجب الإضرار أو يوقع الضرر على الآخرين، ويسبب ضياع حق من حقوقهم، ويدخل في ذلك الإهانة التي تقع على أحدهم، فضلاً عما لو وقعت على أغلبهم، بل كلهم، ومن ذلك أيضاً التعدي على أموال الآخرين من خلال السطو والنهب والسلب، ويجري ذلك أيضاً في التعدي على أنفسهم، وأعراضهم، ودمائهم.
التعدي على الآخرين:
ثم إنه يمكن تقسم السلوك غير الأخلاقي المرتبط بالبعد الاجتماعي إلى قسمين:
الأول: الأفعال التي تتضمن تعدياً على حق فرد أو على حقوق فئة من أعضاء المجتمع، وذلك كما لو عمد إلى نهب أو سلب أموال فرد من أفراد المجتمع، أو تمت عملية السطو على مجموعة من المحلات التجارية لبعض أفراد المجتمع، أو وقعت عمليات تخريبية في بعض منازل المجتمع، أو هدد أمن مجموعة من أبنائه بعمل إجرامي ما.
الثاني: الأفعال التي تحوي اعتداء على حق المجتمع ككل وبصورة عامة، وهذا له صور:
منها: تغريب الهوية الاجتماعية، بالتآمر على النظم والمقررات الاجتماعية بتميـيع هويته الثقافية، فيعمد إلى تغريب المجتمع الإسلامي، من خلال الغزو الثقافي الغربي بإحلال مجموعة من الأفكار والرؤى اللادينية في الوسط الإسلامي عوضا عن مقررات الإسلام، مثل الدعوة إلى تحرر المرأة، والدعوة إلى مساواتها بالرجل، وما شابه ذلك.
وقد يكون التغريب المقصود به المجتمع تغريباً له في أخلاقياته وسلوكياته الخاصة، إذ لا ريب في أن لكل مجتمع قيماً خاصة به تميزه عن المجتمعات الأخرى، وهو ما يعرف بالعادات والتقاليد، فيسعى إلى محاولة تغيـيبها والقضاء عليها.
ومنها: مصادرة حقوق المجتمع الواحد بعنوان أنه بلد، كمحاولة تشويه ما يدعو له أبنائه من قيم وأهداف، وعرضه بصورة تتنافى وتلك الأهداف، فعندما يطالب ذلك المجتمع بحقوقه التي تقرها النظم والقوانين الدولية، عوضاً عن أن يعطاها يبث بين أفراده مجموعة من الأعمال التي ترسم صورة سلبية عن ذلك المجتمع ما يجعله يخرج بصورة سلبية، فالمجتمعات التي يتظاهر أبنائها تظاهراً سلمياً للمطالبة بحقوقهم، يبث بينهم مجموعة من الأعمال التخريبية كعمليات السطو والنهب والسلب مثلاً بغاية عرض صورة سلبية عن هذا المجتمع، وأنه مجتمع إرهابي تخريبي، فيختلط الأمران بعضهما ببعض، وبالتالي تضيـيع أصل الفكرة التي كان المجتمع يسعى من أجل الحصول عليها، وكفلتها له النظم والقوانين الدولية.
سلوكيات غير أخلاقية سرية وعلنية:
ثم لا يذهب عليك أن الأقسام السابقة للسلوك غير الأخلاقي، يمكن تقسيمها إلى قسمين بلحاظ ممارسة الأفراد لها خارجاً، ذلك أن الفاعلين لهذه السلوكيات لا يخلو حالهم، إما أن يعملوها في السر والخفاء، أو يقوموا بفعلها علناً وأمام الآخرين[2]، من هنا، فعندنا قسمان إذاً لهذه السلوكيات:
الأول: السلوك غير الأخلاقي السري، ونقصد به: كل سلوك غير أخلاقي، يقوم الفاعلون له بممارسته في السر والخفاء، من دون أن يطلع عليه الآخرون، كمن يعمد إلى شرب الخمر في الخفاء، أو من يتعمد ترك الصيام، من دون أن يتجاهر أمام الناس بتركه له، أو الذي لا يؤدي الصلاة، لكنه لا يحيط أحداً بما أقدم عليه، وكذا من يستمع للغناء في الأماكن الخاصة جداً من دون أن يطلع أحد على ذلك، وهكذا.
الثاني: السلوك غير الأخلاقي العلني، ويراد منه: السلوكيات غير الأخلاقية التي تصدر من الفاعلين لها علناً وأمام الآخرين من دون خشية أو حياء منهم، كمن يستمع إلى الغناء في الأماكن العامة، أو يستمع إليه في سيارته، ويعمد إلى رفع صوت آلة التسجيل حتى يسمعه الآخرون، أو الذي يتجاهر أمام الناس بتركه لأداء الحق الشرعي، ويخبر كل أحد بذلك، وهكذا من يتجاهر بممارسة الفاحشة، وفعل الرذيلة، وغير ذلك.
ثم إنه بعد الإحاطة بأقسام السلوكيات غير الأخلاقية، ولو في الجملة، يقع الحديث الآن حول موقفنا حيالها، وماذا ينبغي أن يكون لنا من دور إيجابي في مقابلها؟
موقفنا تجاه السلوكيات السرية:
ولنبدأ بما إذا كان السلوك الغير أخلاقي مرتبطاً بالأخلاق الإلهية، وكانت ممارسته في السر، فقد أشير[3] إلى وقوع التزاحم في المقام بين قيمتين متقابلتين، لا مجال للالتـزام بكليهما، ما يوجب تقديم الأهم منهما، والقيمتان هما:
1-المسؤولية الدينية التي فرضتها الشريعة الإسلامية على كل فرد من أبناء المجتمع الإسلامي، والمتمثلة في قيامه بمراقبة الأفعال الصادرة من أفراده، مضافاً إلى مسؤولية الإرشاد للناس، والدعوة لممارسة الخير، والتواصي بالحق، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ما يمنع أن يكون الإنسان حيادياً تجاه ما يصدر من الآخرين من أفعال، ودون أن يكون له موقف بإزائها.
وبالجملة، إن المستفاد من تعاليم الشريعة السمحاء، أن هناك حالة مراقبة لأفعال الآخرين، ورصد لسلوكياتهم، توجب على الإنسان القيام بعملية التوجيه والنصح والإرشاد.
2-قد عرفت إن الفرض صدور السلوك غير الأخلاقي من الفاعل في حالة من السرية، وبعيداً عن أعين الآخرين، فهو لا يرغب أن يطلع أحد عليه، أو يحيطوا بما يفعل، وهذا يوجب أن تحفظ هذه الخصوصية إليه، فلا يتعدى عليه فيها، بل إن التعدي عليه يوجب انتهاك حرمته وهتك كرامته، وإراقة ماء وجهه، وقد تقرر في الشرع الشريف لزوم مراعاة كرامة الإنسان، وحفظها، وحرمة التعدي عليه، وإهانته بإراقة ماء وجهه.
من هنا تقع المعارضة بين القيمتين، إذ مقتضى وجوب الرقابة على أعضاء المجتمع الإسلامي، توجب القيام بعملية التوجيه والإرشاد للفاعل، ومقتضى لزوم حفظ كرامة الإنسان، ومراعاة كرامته، توجب حفظ خصوصياته، ومراعاتها، فكيف يمكن التوفيق بين الأمرين؟
من الواضح أنه لو أمكن الجمع بين القيمتين، بأن تسنى للمكلف توجيه صاحب السلوك غير الأخلاقي في الجانب الإلهي بنصحه بما لا يوجب هتكاً لكرامته، ولا تعدياً عليه بما يوجب إراقة ماء وجهه، كإرشاده إلى قراءة كتاب ما، يعالج هذا المرض السلوكي مثلاً، أو تزويده بمحاضرة تتضمن بياناً للآثار السلبية المترتبة على ما يقوم به من سلوك غير أخلاقي، أو اصطحابه إلى مكان يمكنه أن يعرف فيه ما يحتاج إليه تقويماً لأفعاله وسلوكياته بأن يتواجد في صلاة الجماعة، أو يديم الحضور في المجالس الحسينية، أو مجالس العلماء، فهو الهدف الأسمى، والغاية المطلوبة.
إلا أن تحقق ذلك-في الحقيقة-من الصعوبة بمكان، إذ يصعب تحصيل الغرض المطلوب من خلال ما عرض من حلول ومقترحات، لأن مجرد توجيه النصيحة والإرشاد لهذا الفاعل من قبل فرد من الناس، يجعله يشعر بإطلاع هذا الفرد عليه، وإحاطته بما يقوم به من عمل، ما يوجب خجلاً إليه أمامه، وبالتالي توهينه، وجرح كرامته، فضلاً عن كشفه لستره وسره, وعليه فلا مناص من وقوع المزاحمة والمنافاة بين القيمتين المطلوبتين، فإما أن يقوم الإنسان بمسؤولية الرقابة المطلوبة منه، والتي تستوجب القيام بعملية التوجيه والإرشاد، وبالتالي يهتك كرامة هذا الإنسان، أو يتركه على فعله وسلوكه غير الأخلاقي حفاظاً على كرامته، وصوناً لماء وجهه، لكنه يستوجب تركه القيام بمسؤوليته الاجتماعية من الرصد والمراقبة لما هو المطلوب منه.
وعندها، سوف يعمد إلى تقديم الأهم منهما ملاكاً، لكون المورد من صغريات التزاحم بين القيمتين، والظاهر أن مصلحة إنقاذه مرجحة على حفظ سره، ذلك لأن الحفاظ على كرامته موجبة لاستمراره على المعصية التي سيكون بسببها هلاكه، ما يعني أن إنقاذه مما هو فيه أهم، نعم ينبغي التأكيد على أنه يلزم مراعاة الحفاظ على كرامته وصونها قدر المستطاع، بحيث يحرص الموجه والناصح إليه أن يكون ما يصدر منه توجيهاً وإرشاداً في محيط السرية، ودن أن يحيط به أحد.
والظاهر أن الحال لا يختلف في ما لو كان السلوك الغير الأخلاقي السري مرتبطاً بالسلوك الفردي، فيجري فيه ما قدم جريانه بالنسبة للأخلاقيات الإلهية، فيكون المورد من صغريات التزاحم أيضاً، فيقدم الأهم ملاكاً وقد عرفت أن حفظه وصونه وحمايته من نفسه أهم ملاكاً من الحفاظ على كرامته، وحفظ ماء وجه، فلا تغفل.
السلوك غير الأخلاقي السري في البعد الاجتماعي:
وهو ما يكون مرتبطاً بحقوق الآخرين، ولا يذهب عليك أن هذا له صور، لأنه إما أن يكون:
1-تعدياً على حق فرد من أفراد المجتمع، كما لو تمت عملية سرقة لمنـزل فرد من أفراد المجتمع.
2-أن يكون ذلك من خلال إضاعة حق فئة من فئات المجتمع، كما لو تصدت مجموعة من الناس للتحدث باسم فئة من المجتمع وقدمت تنازلات عن حقوقهم وتصرفت في ما يكون مختصاً بهم.
3-إذا كان ذلك بالتعدي على القوانين والنظم الاجتماعية الثابتة، سواء كانت متمثلة في البعد الديني، أم القيمي والأخلاقي، أو الفكري، أو النظامي، أو غير ذلك.
أما بالنسبة للصورة الأولى[4]، فهنا حيثيتان:
الأولى: ما يكون مرتبطاً بحقوق الفرد أو الأفراد الذين تم التعدي عليهم، وأضيعت حقوقهم، كمن سرق ماله مثلا.
الثانية: ما يكون مرتبطاً بالفاعل لهذا الانتهاك والتعدي على حق الأفراد، وكيفية التعامل معه.
أما بالنسبة للحيثية الأولى، فلا إشكال في لزوم إرجاع الحقوق المسلوبة من الأفراد على كل من كان متمكناً من ذلك،فلو وقع المال المسروق بيد شخص ثالث، وعرف صاحبه لزمه إرجاعه إليه دون مراجعة لأية جهة رسمية.
وأما الحيثية الثانية، وهي التي تتضمن كيفية التعامل مع الشخص المعتدي على حق الآخر، فقد يتصور أنه يلزم فضحه والتشهير به، على أساس أن هذا نحو من أنحاء العقوبة التي يلزم إيقاعها عليه. وما ذكر صحيح في حد نفسه، لما دل من لزوم الشهادة على السارق مثلاً عند القاضي، لكن هذا يتوقف على وصول خبر السرقة إلى الجهة المخوّلة بالتصدي لمعاقبته، وإقامة حد السرقة عليه، وكلامنا في ما لو لم يصل الأمر إلى ذلك، فهل يستفاد من الأطروحة الإسلامية، لزوم التشهير به وفضحه؟
إن المستفاد من القانون الإسلامي أنه ما دام الفعل قد صدر من الشخص حال السر وعدم العلن، فلا يحسن الإقدام على التشهير به وفضحه لمن اطلع عليه، ويظهر ذلك من خلال الأدلة التي تضمنت اعتبار عدد محدد في ترتيب آثار العقوبات على الأفراد، ما يوجب معاقبة المدعين لصدور الفعل من فرد حال عدم اكتمال العدد المطلوب، فالزنا على سبيل المثال، يعتبر فيه رؤية أربعة أشخاص لوقوع الفعل الفاحش خارجاً بكافة تفاصيله، فلو تقدم دون العدد المطلوب مدعين صدور الفعل من زيد مثلاً، فإن ذلك يجعلهم مستحقين لإقامة الحد عليهم عوضاً عنه، وما هذا إلا رغبة من الشارع المقدس في الستر وعدم الفضح كما لا يخفى.
وهذا بنفسه يجري في الموارد الأخرى التي يعتبر فيها توفر البينة لترتيب الأثر، فإنه لو كان المدعي فرداً واحداً لم يكن ذلك كافياً لوقوع الأثر خارجاً، بل إن دعواه تعود بالضرر عليه، لأنه سيكون مورداً للتعزير نتيجة اتهامه وقذفه للآخر.
ويتحصل مما تقدم، أن الشريعة الإسلامية وقد اعتبرت عدداً معيناً في ترتب الأثر الخارجي على المعصية الصادرة من الفرد، أنه يلزم في تلك الموارد التي لم يتوفر العدد المطلوب التستر على الفرد وكتم ما صدر منه من فعل ما دام قد فعل ذلك في السر، ولا يسوغ التشهير به بإذاعة معصيته، بل يعتبر ذلك هتكاً يستحق فاعله عليه العقوبة[5].
والظاهر عدم الالتزام بخصوصية تلك الموارد، ما يجعل إمكانية التعدي منها إلى كافة الموارد الأخرى ممكناً، خصوصاً وأن المدار هو الستر، وعدم التشهير والفضيحة، مضافاً إلى أنه قد يكون من صغريات إشاعة الفاحشة بين الذين آمنوا، التي ورد النهي عنها في القرآن الكريم، فتأمل جيداً. نعم هذا ينحصر في حال عدم توقف الإخبار على إرجاع الحق لذويه، أما لو طلب من الشخص الشهادة على وقوع الفعل بين يدي القاضي، كان لزاماً عليه أداء ذلك، فتدبر.
ويبقى انه هل يمكن إبلاغ ذوي الحق وإطلاعهم على غريمهم، أم أنه لا يحسن ذلك أيضاً؟ الظاهر البناء على التفصيل، إذ قد يتوقف وصول ذي الحق إلى حقه على إبلاغه وإطلاعه على الأمر، وأخرى لا يكون متوقفاً على ذلك، فإن لم يكن متوقفاً عليه، فلا ريب في أنه لا يحسن الإقدام على الإبلاغ عن الشخص، وفضحه والتشهير به، لما عرفت من محبوبية الستر، وأنه تعالى ستار على عباده، ولا يحب الإذاعة. أما لو كان الوصول إلى الحق متوقفاً على ذلك، فالظاهر أنه يلزم الإبلاغ والإخبار، فلاحظ[6].
ثم إن جميع ما قدم، لا يرفع اليد عن لزوم توجيه النصح والإرشاد لهذا المعتدي على حق الآخر، وبيان الطريق الصحيح الذي يلزمه سلوكه، وعرض الآثار السلبية المترتبة على ما أقدم عليه من فعل.
وأما بالنسبة للصورتين الثانية والثالثة، كما لو كان السلوك يسبب ضياع حقوق المجتمع، أو كان يعرّض أساس المجتمع الإسلامي الصالح إلى الخطر، أو كان يضرّ به، فيجب عندها التصدي لمنع هذه الأفعال مهما كلف ذلك، بل تجوز بعض الأفعال المحرمة في غير هذه الحالة وفق شروط معينة، كالتجسس مثلاً، لوجوب التحري ومراقبة الأوضاع في مثل هكذا حالات يحتمل وجود تآمر على النظام الاجتماعي، أو على مصالحه، فضلاً عما إذا علم بوجود أشخاص يسعون للإخلال بها.
ولا يذهب عليك أن جواز التجسس كما عرفت في مثل هذا الحال، رهين وجود إذن من الحاكم الشرعي، ولا يجوز من دون ذلك، فلاحظ[7].
السلوك غير الأخلاقي العلني:
كان جميع ما قدم من حديث حول ما إذا كان السلوك غير الأخلاقي سرياً، لا يطلع عليه الآخرون، ولم يتجاهر الفاعل به أمام الآخرين، أما لو كان ذلك السلوك علنياً، فكيف تكون ردة الفعل من قبل المجتمع وأفراده حياله، وكيف يلزم أن يكون تصرفهم مع الفاعلين لهذه السلوكيات.
السلوك غير الأخلاقي العلني مسقط للحرمة:
إن التأمل في القوانين الشرعية يفيد اتخاذ الشارع المقدس منهجاً في كيفية التعامل مع أصحاب السلوك الغير الأخلاقي العلني، فقد أسقط الشارع المقدس بداية حرمته، ولم يوجب احترامه، ويستفاد ذلك من خلال تسويغه غيبته، إذ أن لمستفاد من بعض النصوص أن حرمة الغيبة تعود لما يوجبه الشارع المقدس من حرمة وكيان مقدس للمسلم ما دام لم يعمد إلى هتك حرمة نفسه، ومتى تجاهر المسلم بالمعصية، وأعلنها دون مبالاة أمام الآخرين، فإنه بذلك يكون قد أسقط حرمة نفسه، وهتكها، ما يعني عدم ثبوت حرمة إليه، لذا سوغ الشارع في مثل هذه الحالة غيبته.نعم هناك خلاف في حدود الغيبة المسوغة، وأنها بنحو مطلق، أم أنها تنحصر في خصوص ما تجاهر به، والحديث عن ذلك وبيان منشأه وما هو المقبول منه وعدمه، يطلب من البحث الفقهي، فليراجع هناك.
والظاهر أنه يمكن التعدي من هذا العنوان، ليكون شاملاً لغيره من الموارد، فيكون موجباً لعدم احترام المسلم الموهن لنفسه ولو بالتعدي على حقوق الآخرين، أو إسقاط النظم الاجتماعية، فضلاً عن القوانين الدينية، كما هو واضح.
العقاب الاجتماعي:
كما أن أحد السبل التي تضمنتها قوانين الشريعة، أطروحة العقاب الاجتماعي، فقد دعت الشريعة إلى إيجاد عقوبة اجتماعية صارمة من قبل أفراد المجتمع على أمثال هؤلاء، وأنه تلزم المقاطعة المشددة إليهم بصورة كلية وتامة، وقد تضمنت السيرة النبوية مجموعة من النماذج فلاحظ قصة الثلاثة الذين خلفوا، وهم الذين تخلفوا عن الالتحاق بالنبي(ص) في غزوة تبوك.
وكذا لاحظ موقف النبي(ص) من الذين لم يحضروا صلاة الجماعة مع المسلمين دون عذر، وكيف أنه(ص) هددهم بعقوبة صارمة وقاسية جداً ودعى المسلمين إلى مقاطعتهم مقاطعة تامة أو يحضروا جماعة المسلمين. ولا ينحصر الأمر في هذين النموذجين، بل الأمثلة كثيرة جداً.
بل يلحظ تشدد الشرع الشريف في لزوم اتخاذ موقف عملي إيجابي تجاه هؤلاء من خلال الآيات والنصوص التي جعلت الساكتين عن أفعال هؤلاء منهم، فلاحظ حديث القرآن عن عاقر ناقة صالح، وكيف أنه عبر عن قومه بأنهم الممارسون لعقرها، مع أن المعروف أن عاقرها فرد واحد، لكنهم لما لم يتخذوا مقابل فعله موقفا جعلهم مشتركين وإياه، وكذلك الآيات التي تحذر من إصابة الفتنة للجميع، أو ووقوع العقاب على الكل، وكذا النصوص الشريفة، فلاحظ.
خاتمة:
ولنختم الحديث حول تحديد الموقف تجاه السلوكيات غير الأخلاقية، والموقف الذي ينبغي اتخاذه حيالها، بأنه يتكرر دائماً الدعوة إلى التسامح والصفح، وأنه وإن كان يمكن أن يتعامل مع أصحاب تلك السلوكيات بهذا الأسلوب، إلا أنه أيضاً قد ندب إلى العفو والصفح، ولا ريب في أن الصفح أفضل من المجازاة، فضلاً عن المواجهة.
والإنصاف، أن القوانين الأخلاقية بكافة توجهاتها تقر حسن الصفح والعفو، وتندب إليه، إلا أنها تقرر في نفس الوقت أن مثل هذا العفو والصفح إذا كان يستوجب انتشار الظلم، وازدياده، أو أنه يوجب هتك حرمة الإنسان المؤمن، أو يؤدي إلى تهديد أمان وأمن المجتمعات البشرية، أو سوف يكون سبباً لانتشار الجريمة، فإنه مذموم ليس محموداً، ما يعني أنه لا يحسن ممن كان بإمكانه اتخاذ موقف حياله أن يكون متسامحاً وعافياً، لاحظ.
وبالجملة، إن المستفاد من الأدلة، أنه لا يكون العفو مطلوباً دائماً وأبداً، بل إنه في بعض المواضع يكون العقاب وأخذ المجرم ما يستحق من عقوبة هو الفعل المحمود والمندوب إليه عقلائياً، فتدبر.
[1] الأخلاق في القرآن الكريم ج 3 ص 379..
[2] الأخلاق في القرآن الكريم ج 3 ص 380.
[3] الأخلاق في القرآن الكريم ج 3 ص 380.
[4] الأخلاق في القرآن الكريم ج 3 ص 382.
[5] الأخلاق في القرآن الكريم ج 3 ص 282-384(بتصرف).
[6] الأخلاق في القرآن ج 3 ص 384(بتصرف).
[7] المصدر السابق ص 385-386(بتصرف).