لم توجب طفولة الإمام الجواد(ع) وقت شهادة أبيه الإمام الرضا(ع)، وصغر سنه عند تصديه لمسؤولية الإمامة وقيادة الأمة، مشكلة في الوسط الشيعي،وذلك لما يحملوه من معتقد يقوم على اشتراك مفهومي النبوة والإمامة في جهات عديدة، توجب جريان ما وقع في النبوة في الإمامة أيضاً.
خبر عيون المعجزات:
إلا أن البعض قد يستند إلى رواية يونس، أنه لما قبض الإمام الرضا(ع) كان سن أبي جعفر(ع) نحو سبع سنين، واختلفت الكلمة في بغداد وفي الأمصار، واجتمع الريان بن الصلت، وصفوان بن يحيى، ومحمد بن حكيم، وعبد الرحمان بن الحجج، وجماعة من وجوه الشيعة وثقاتهم في دار عبد الرحمان بن الحجاج في بركة زلزل، يبكون ويتوجعون من المصيبة، فقال يونس: دعوا البكاء، من لهذا الأمر؟ وإلى من نقصد بالمسائل إلى أن يكبر هذا، يعني أبا جعفر(ع)، فقام إليه الريان ووضع يده في حلقه، ولم يزل يلطمه ويقول له: أنت تظهر الإيمان وتبطن الشك والشرك، إن كان أمره من الله جل وعلا، فلو أنه كان ابن يوم واحد لكان بمنـزلة الشيخ العالم، وإن لم يكن من عند الله فلو عمر ألف سنة فهو واحد من الناس، فأقبلت العصابة عليه تعذله وتوبخه[1].
لدلالتها على أن إمامة الإمام(ع) المبكرة كانت تمثل مشكلة في الوسط الشيعي، أوجب وقوع الاختلاف في الأمصار، فضلاً عن بغداد الحاضرة العلمية للشيعة.
ولا يخفى عدم صلوح الاستناد للرواية المذكورة من جهات:
الأولى: أن مصدر هذه الرواية كما ذكر هو كتاب عيون المعجزات، وقد ذكر أن مؤلفه هو الشيخ المفيد(ره)، ولم يعرف في كتب الشيخ المفيد(ره) كتاب بهذا الاسم، ومن المحتمل أن هناك حدساً في نسبة المؤلف المذكور للشيخ المفيد، واجتهاد من الناسب، فلاحظ.
الثانية: إنه بعد التسليم بثبوت نسبة الكتاب للشيخ المفيد، إلا أن الرواية المذكورة عليلة بسبب الإرسال، وهذا يمنع من الاستناد إليها.
الثالثة: لقد تضمنت الرواية وجود رؤية واضحة المعالم جلية الأمر عند الشيعة كما يظهر ذلك من جواب الريان بن الصلت، فلاحظ قوله: إن كان أمره من الله جل وعلا، فلو أنه كان ابن يوم واحد لكان بمنـزلة الشيخ العالم، ما يعني عدم إمكانية تصور وقوع الاختلاف في الوسط الشيعي، فإن الذي دعى إحاطة الريان بن الصلت بهذا الأمر لا يعني عدم وضوحه عند غيره من الشيعة كما لا يخفى.
الرابعة: إن الرواية المذكورة مضطربة، بل متهافتة المتن، فإنها إذ تحكي عن يونس بن عبد الرحمن التسليم والإيمان بإمامة الإمام الجواد(ع)، تذكر أنه كان يرى عدم أهلية أبي جعفر(ع) للإجابة على المسائل، مع أن من البديهيات جداً أن منصب الإمامة في الفكر ليس ملكاً يورث، وإنما هو انتخاب واصطفاء من الله سبحانه وتعالى، ما يجعل المنتجب والمصطفى متوفراً على أمور لا تكون ثابتة عند غيره، ويكون مزوداً بما يوجب التسليم له بما يقوم به من أمر جسيم، ومهمة سماوية.
ثم إنه لو رفعت اليد عن ما قدم من موانع من القبول بالخبر المذكور، فإنه يكفي لرده حال يونس بن عبد الرحمن في الوسط الشيعي، ومكانته عند الطائفة، ما يعني أنه لو كان هذا الأمر قد صدر منه، لأشير إليه بينهم، ولتناقلته الرواة، وحدثوا به، لا أنه يكون مقتصراً ذكره على خصوص هذه الرواية التي عرفت حالها، مضافاً إلى أنه لا يتصور أن يكون الريان بن الصلت وإن كان جليلاً مطلعاً على مثل هذا الأمر المهم، ولا يكون يونس بن عبد الرحمن وهو هو مطلعاً عليه.
وبالجملة، إن الراية المذكورة عليلة من جهات عدة، تمنع من الركون إليها، فضلاً عن أن تجعل شاهداً أو دليلاً يعول عليه، فلاحظ.
قبول الشيعة بالإمامة المبكرة:
إلا أن الإجابة عن الخبر المذكور، لا تمنع من أن يظهر على السطح تساؤل، حاصله: كيف يمكن تحليل قبول الشيعة بإمامة الإمام الجواد(ع) مع صغر سنه، وما هي الدوافع التي دعت إلى التسليم بذلك والرضا به؟
لا يخفى أن قيام الإمام الجواد(ع) بمسؤولية الإمامة بعد شهادة أبيه الرضا(ع)، وهو صغير السن لم يتجاوز عمره على أقل الروايات السابعة، حدثاً غير عادي في الوسط الشيعي، فإنه لم يعهد من قبل تصدي أحد المعصومين(ع) لهذا المنصب في هذا العمر.
ومن الطبيعي جداً أن يثار حول هذا الحدث الجديد العديد من الاستفسارات والتساؤلات تبدأ بكيف قبل الشيعة الإمامية بإمامة هذا الطفل صغير السن، والتسليم له والانقياد في هذا المنصب الخطير والمهم جداً، هل أن ذلك كان ناشئاً من جهل وعدم وعي منهم بخطورة الموقف، أم أن ذلك كان منشأه حالة من التعصب والانحياز، أم أنه يعود إلى التواطئ على الكذب والباطل ، أم غير ذلك؟
وهل أن طفولة الإمام الجواد(ع) كانت تمثل مشكلة للشيعة في تلك الفترة، أم أنه لم يكن لهذا المعنى أي أثر من قريب أو بعيد أصلاً؟
وما هي الدلالات المستوحاة من تولي مثل الإمام الجواد(ع) في هذا السن منصب الإمامة، وهل أن ذلك يكشف عن وجود مخطط سماوي مقصود أريد له التنفيذ، وقد كان بدأ تنفيذه بشخصية الإمام الجواد(ع)، أم لا؟
يتفق الجميع على أن تصدي الإمام الجواد(ع) لمنصب الإمامة في تلك الفترة من عمره الشريف، يعد إحدى الظواهر الإعجازية التي وجدت معه، وتعتبر من البراهين الجلية على حقانية مذهب أهل البيت(ع)، لأن قيامه بهذا المنصب في مثل هذا العمر مثلَ برهاناً جلياً على امتداد خط الإمامة ومرجعية أهل البيت(ع)، والتأكيد على عنصر الإعجاز عندهم. وقد ترك تصديه لهذا المنصب أثره الكبير جداً على حكام عصره.
إلا أن هذا لم يمنع أن تثار شبهات حول تصديه(ع) لهذا المنصب، فأثير سؤال، مفاده: ما هي الدواعي التي جعلت الشيعة يؤمنون بإمامة غلام صغير حدث السن، بعد لم يتجاوز الثامنة من عمره؟
وقد تعددت المحتملات في محاولة الإجابة على هذا السؤال، نشير إلى أهمها:
منها: إن الشيعة عندما آمنوا وسلموا بإمامة الإمام الجواد(ع)، لم يكونوا على دراية وعلم بأن عمره لا يتجاوز الثامنة.
ولا يخفى أن هذا المحتمل يعتمد على أن يكون الإمام الجواد(ع) محجوباً عن شيعته، ومحاطاً بحواجز وعساكر تمنع من الوصول إليه، مضافاً إلى أنه لم يكن قد أشير إليه في كلمات أبيه الرضا(ع)، ولم يكن قد رأي من قبل أحد منهم.
وهذا ما تكذبه الشواهد التاريخية، فإنه مضافاً إلى أن ولادة الإمام الجواد(ع) قد أحيطت بمجموعة من الظروف الخاصة التي دعت أن يكون معروضاً على الشيعة، ومرئياً من قبل أكثرهم، بل كل من أراد رؤيته منهم أوريه، وإظهار الإمام الرضا(ع) له في مواضع عديدة، فقد تضمنت النصوص أيضاً النص على إمامته، وقد كان تاريخ ولادته محفوظاً عندهم، كما أنهم يوم جاءوا بعد شهادة أبيه(ع) إلى داره، خرج عليهم، وقد عرفوه. بل إن السلطة الحاكمة في تلك الفترة متمثلة في شخصية المأمون العباسي كانت على معرفة ودارية به، ومن أبرز الأمثلة على ذلك مناظرته المشهورة ليحيى بن أكثم عندما أراد المأمون تزويجه من ابنته أم الفضل، فإن هذا الحدث البارز أوجب أن تسلط عليه الأضواء وبصورة واضحة وواسعة.
ومنها: أن يكون منشأ قبول الشيعة بإمامة الإمام أبي جعفر الجواد(ع) يعود لوجود تواطئ بينهم على الباطل والزور، والتفاني منهم على الغرور، فهم لا يريدون أن يتخلفوا عن أهل هذا البيت، وإن لم يكن متوفراً بينهم من يصلح لهذا المنصب.
والإنصاف، أن هذا أضعف من سابقه، فإن الذي يقرأ التاريخي الشيعي، ويقرأ تاريخ الشيعة يجزم ببطلان هذا الاحتمال، فإن المتصور أن يكون التواطئ على مثل هذه الأمور رغبة في الحصول على دنيا، وأموال وسلطة وجاه، مع أن الظروف الموضوعية التي عاشها الشيعة، شاهدة على بطلان هذا الأمر برمته، لأن التشيع لم يكن في يوم من الأيام طريقاً إلى الأمجاد، وإلى السلطان وتحصيل الأموال، والمناصب، بل كان الانتماء إلى التشيع طيلة تلك المدة سبباً للتعرض للتنكيل والاضطهاد، والتعذيب، والسجون والحرمان، والويل والدمار.
والحاصل، فإذا كان التشيع طريقاً شائكاً، ملغوماً، وكان الخوف والتقية هي مظاهره، فأي فائدة ترتجى ليتواطئ المنتمون إليه على الزور والباطل، خصوصاً وأن ذلك لن يحقق مطلباً مادياً ولا دنيوياً.
ومنها: إن الطائفة الشيعية لم تكن قد بلغت مستوى من النضوج الفكري والعلمي الذي يؤهلها لأن تقيّم قابلية الإيمان بشخص من عدمها، ولهذا السبب فقد آمنوا بإمامة الإمام الجواد(ع) وهو في هذا السن المبكر.
وبعبارة ثانية، لم يكن الشيعة في ذلك الوقت علماء أو من العارفين بالصفات والمؤهلات التي يلزم أن تتوفر في الإمام الذي يلزم أن يتبع، وبالتالي كانت متابعتهم لشخصية الإمام(ع) متابعة ساذجة.
ولا يخفى عليك أن تمامية هذا المحتمل تقوم على دراسة الواقعي العلمي والفكري والعقلي والروحي للطائفة الشيعية، بحيث لو كان التاريخ شاهداً على ضعف ما عندهم من وعي في الأمور المذكورة مثلاً، أمكن القبول به، أما لو كانت الشواهد التاريخية كاشفة عن معنى آخر مخالف تماماً لما ذكر، فلن يكون لهذا المحتمل أدنى مقبولية، واعتبار.
هذا وعندما نعود لنقرأ الواقع الشيعي في المجال المعرفي، نجد بداية أن الشيعة هم خريجوا مدرسة الإمامين الصادقين(ع)، والذي قد طبقت مدرستهما أرجاء الوسط الإسلامي بجميع فئاته وانتماءاته، ما جعلها أكبر مدرسة للفكر الإسلامي في العالم الإسلامي على الإطلاق، فوجد في هذه المدرسة تلامذة الإمام الصادق(ع)، وتلامذة الإمام الكاظم(ع)، وتلامذة تلامذتهم.
وقد ذكر في شأن هؤلاء التلامذة أنهم أصحاب تميز في مجال الفقه والتفسير والكلام والحديث والأخلاق، بل في جميع الجوانب المعرفية الإسلامية.
وهذا العرض يكشف عند مدى سعة المدار المعرفي عند الشيعية، ما يعني أنه لا يتصور فيهم أن يقبلوا بأمر من الأمور بالغ الأهمية والخطورة بسهولة. بل لابد وهم العلماء أن يكون قبولهم بشيء ما مستنداً إلى دليل وبرهان، ويقوم على حجة، فكيف إذا كان الموضوع يرتبط بمنصب خطير جداً، يشكل تحدياً لكل الظروف والواقع المعاش، أعني منصب الإمامة، فإن من المستبعد جداً أن يقبل هؤلاء بما هم عليه من المستوى المعرفي والحال هذه بإمامة شخص لا يكون مؤهلاً لهذا المنصب، فكيف يقبلون بإمامة طفل صغير لو لم تكن لديه المؤهلات المطلوبة لمثل هذه المسؤولية الجسيمة.
ومنها: إن الذي دعى الشيعة للقبول بإمامة الإمام أبي جعفر الجواد(ع) منشأه أن مفهوم الإمامة والإمام لم يكن من المفاهيم الجلية والواضحة عند الشيعة، فإن أقصى ما كانوا يملكون فيه من معرفة ودارية أن الإمامة مجرد تسلسل نسبي وراثي، من دون أن يعرفوا ما هو الإمام، وما هي قيمته، وما هي الشروط التي لابد أن تتوفر فيه.
وبالجملة، إن الطائفة الشيعية وعبر تاريخها الطويل، لم تكن تمتلك تصوراً واضحاً لهذا المفهوم، والأمور التي يلزم توفرها في من يتصدى إليه.
ولا يذهب عليك أن هذا المحتمل يخدش بداية في التشيع كأساس، وفي مكوناته، ثم يخدش في المنتمين إليه، وقد فات المحتمل المعرفة الحقيقة بهذا المبدأ، فالتشيع كما هو معروف يقوم على المفهوم الإلهي العميق لفكرة الإمامة، بل يعدّ هذا المفهوم من المفاهيم البديهية جداً فيه، ويشهد لهذا تحديد المقصود من الإمام عند الشيعية، إذ أنهم يعرفونه بأنه: الإنسان الفذ بمعارفهن وأقواله، وأعماله، وأخلاقه.
ولا يخفى أن هذا التعريف بما أخذ فيه من قيود يكشف عن تحديد لهوية الإمامة، ووضوح عند القائلين بهذه الحقيقة وهذا المفهوم، فإنه لا يتصور ممن يحدد المقصود من الإمام، أن لا يكون محيطاً بالمقصود بالإمامة.
على أن مراجعة التراث الروائي المتوارث في المكتبة الشيعية منذ عصر أمير المؤمنين(ع)، وإلى عصر الإمام الرضا(ع) بل إلى ما بعده من عصور الأئمة المعصومين(ع)، يفيد خلاف هذا القول، بل يكذبه، فقد تضمنت النصوص الحديث عن الإمامة كمنصب سماوي لا يقل أهمية عن منصب النبوة، وأنه يشترك وإياها في أمور عديدة، ويختلف عنها في أشياء أخرى، كما جاء فيها أيضاً الحديث عن علامات الإمام، وما ينبغي أن يكون متوفراً فيه، سواء من الصفات الجسمانية، أم من المقومات العلمية والمعرفية، حتى أنه قد أعتبر فيه طهارة الآباء والأمهات، وغير ذلك.
ومما يدل على ما ذكرنا من وضوح مفهوم الإمامة والإمام في الوسط الشيعي الحادثة التي حصلت في عصر الإمام الجواد(ع)، فقد روى محمد بن جمهور العمي والحسن بن راشد وعلي بن مدرك وعلي بن مهزيار وخلق كثير-في حديث- وسألوا عن الخلف بعد الرضا(ع) فقالوا: بصريا-وهي قرية أسسها موسى بن جعفر(ع) على ثلاثة أميال من المدينة-فجئنا ودخلنا القصر فإذا الناس فيه متكابسون فجلسنا معهم، إذ خرج علينا عبد الله بن موسى شيخ فقال الناس: هذا صاحبنا؟! فقال الفقهاء: قد روينا عن أبي جعفر وأبي عبد الله(ع) أنه لا تجتمع الإمامة في أخوين بعد الحسن والحسين(ع) فليس هذا صاحبنا، فجاء حتى جلس في صدر المجلس[2]. فإن قول الفقهاء، يكشف عن وضوح هذا المفهوم عندهم، ووضوح ما يعتبر توفره في الإمام، فإن الاعتراض الصادر منهم يدل على ذلك، إذ لو لم يكن المفهوم واضحاً، فكيف جاء هذا الاعتراض.
على أننا نستفيد من النصوص الشريفة تأصيل مبدأ الاعتقاد بصفات الإمام المثلية، وأن المعيار على توفرها، وهذا المعنى تشير إليه العديد من النصوص التي تضمنت النص على إمامة الإمام الجواد(ع)، فلاحظ ما ذكره شيخنا الكليني(ره) في كافيه، مثلاً ما رواه الخيراني عن أبيه، قال: كنت واقفاً بين يدي أبي الحسن(ع) بخراسان، فقال له قائل: يا سيدي، إن كان كون فإلى من؟ فقال: إلى أبي جعفر ابني، فكأن القائل استصغر سن أبي جعفر(ع)، فقال أبو الحسن(ع): إن الله تبارك وتعالى بعث عيسى بن مريم رسولاً، نبياً، صاحب شريعة مبتدأة، في أصغر من السن الذي فيه أبو جعفر(ع)[3].
هذا وتوجد رواية نقلها صاحب كتاب تحف العقول، مروية عن الإمام الرضا(ع) وهي مفصلة تتضمن الحديث بصورة واضحة حول ما ينبغي أن يكون في الإمام من الصفات، والسبل التي يتم التعرف من خلالها عليه، فكيف يقال بعد ذلك بأنه لم يكن مفهوم الإمامة والإمام واضحين عند الشيعة[4]؟!
وإذا بطلت المحتملات السابقة والمتصورة في البين، فلا يبقى إلا أن يكون إيمان الشيعة وتسليمهم بإمامة الإمام الجواد(ع) ناجماً عن دليل قاطع وبرهان ناصع على حقانيته بمنصب الإمامة، وأنه قد نص عليه من قبل أبيه الإمام الرضا(ع)، وهذا يؤكد أن هناك رؤية واضحة في الوسط الشيعي حول فكرة الإمامة، وأن الطفولة لا تمثل فيها مشكلة من قريب أو بعيد، لأنهم يعتقدون أن الإمامة تجري مجرى النبوة، وأن أمر الإمامة ليس بيد أحد، بل بيد الله سبحانه يضعه حيث يشاء، كما يقول أبو بصير: كنت عند الصادق(ع) فذكروا الأوصياء وذكرت إسماعيل، فقال: لا والله يا أبا محمد، ما ذاك إلينا، وما هو إلا إلى الله عز وجل ينـزل واحداً بعد واحد[5].
مضافاً إلى أن الشيعة تستقي معتقدها من القرآن الكريم، وقد تضمنت الآيات الشريفة تصدي أنبياء لمنصب النبوة والرسالة في مرحلة الطفولة، قال تعالى بحق يحيى(ع):- (وآتيناه الحكم صبياً)[6]، وقال سبحانه بحق المسيح عيسى(ع):- (قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبياً قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبياً)[7]، كما تضمنت بعض النصوص أن سليمان كانت نبياً في مرحلة الصغر والطفولة.
كلام الشيخ المفيد:
هذا وقد تعرض الشيخ المفيد(ره) إلى هذه المسألة وأشار إلى عدم مانعية صغر السن من التصدي لمنصب الإمامة الإلهية والخلافة الرانية، فذكر أنه أن كمال العقل لا يستنكر لحجج الله تعالى مع صغر السن. واستدل على ذلك، بنبي الله عيسى، ونبى الله يحيى(ع). وبما أجمع عليه جمهور المسلمين من أن رسول الله(ص) دعا علياً(ع) وهو صغير السن، ولم يدع الصبيان غيره، وبمباهلة النبي(ص) بالحسنين(ع)، وهما طفلان، ولم ير مباهل قبله ولا بعده بالأطفال[8].
وأشار في موضع آخر إلى أن المعروف بين أهل التفسير أن الشاهد في قصة نبي الله يوسف(ع) طفل كان في المهد أنطقه الله تعالى ليبرأه من الفحشاء، وتزول عنه التهمة[9].
على أن الإمام الرضا(ع) قد أشار إلى إمامة ولده الجواد(ع)، وهو ابن ثلاث سنين، فقد أجاب على صفوان بن يحيى عندما قال له أنه ابن ثلاث سنين، فقال(ع): وما يضره من ذلك، فقد قام عيسى بالحجة وهو ابن ثلاث سنين[10].
دلالة الإمامة في هذه المرحلة:
ثم إنه بعد الفراغ عن عدم وجود مشكلة متصورة في الوسط الشيعي في التعاطي مع إمامة الإمام الجواد(ع)، وأنها قد قبلت وأخذت مورد التسليم شأنه شأن بقية آبائه الطاهرين(ع)، يأتي أمر آخر، وهو الدوافع التي دعت إلى أن يجعل الإمام الجواد(ع) إماماً في هذه المرحلة هل يمكن أن يعدُّ أمراً طبيعياً، أم أنه أمر مقصود؟
وبكلمة أخرى، هل أن تأخر الإنجاب عند الإمام الرضا(ع) كان من ضمن مخطط إلهي مقصود لتحقيق أمر ما، وتطبيق قضية معينة؟
إن الذي نتصوره أن عملية التأخير في الإنجاب عند الإمام الرضا(ع)، لم يكن لوجود مانع فيه لأننا نعتقد أن الإمام(ع) لا يكون إلا كاملاً مبرءاً من كل نقص وعيب، وهذا يعني أن هناك تخطيطاً استوجب تأخر الإنجاب كي ما يكون تصدي الإمام الجواد(ع) للإمامة في سن مبكرة، ولا ريب أن ذلك له موجباته ودواعيه، فما هي تلك الموجبات والدواعي.
المستفاد من بعض النصوص أن لذلك ارتباطاً وثيقاً بمسألة بقية الله في الأرض، خاتمة الحجج والأوصياء، الإمام المنتظر(روحي لتراب حافر جواده الفداء)، ذلك أن المولى( بأبي وأمي) سوف يتصدى للإمامة في سن مبكرة، ومن المعلوم أن حدثاً مثل هذا لم يكن مألوفاً في الوسط الإسلامي سوف يكون سبباً للتشكيك والرفض إليه، فإذا وقعت الحادثة خارجاً وتم تعاطي الناس معها بصورة طبيعية ووجدوا أنها لا تمثل مشكلة ولا معضلة، فلن يكون التصديق بإمامة المولى (بأبي وأمي) أمراً مستبعداً.
ولا يذهب عليك أن حديثنا ليس مع الشيعة، فقد عرفت أنهم مسلمون بذلك دون وجود منكر منهم، وإنما الكلام لغيرهم من الفرق الإسلامية، فإنها قد تتخذ هذا الأمر وسيلة للتشنيع على أتباع أهل البيت(ع)، وهذا أيضاً يفسر لنا البروز العلني الكبير جداً للإمام الجواد(ع) في المحافل العلمية، والطريقة التي كان يتخذها في عملية المحاججة والمناظرة مع خصومه، من عرض الإجابات بصورة مفصلة تجعلهم يذهلون مما يملك من علم ومعرفة.
وعلى أي حال، فمن تلك النصوص، ما رواه علي بن جعفر(رض) عن الإمام الرضا(ع) أنه قال: يا عم، ألم تسمع أبي وهو يقول: قال رسول الله(ص): بأبي ابن خيرة الإماء، ابن النوبية الطيبة الفم، المنتجبة الرحم، ويلهم لعن الله الأعيبس، وذريته صاحب الفتنة، ويقتلهم سنين وشهوراً وأياماً، يسومهم خسفاً، ويسقيهم كأساً مصبرة، وهو الطريد الشريد، الموتور بأبيه وجده صاحب الغيبة يقال: مات، أو هلك، أي واد سلك، أفيكون هذا يا عم إلا مني؟ فقلت: صدقت جعلت فداك[11].
[1] تجدها في بحار الأنوار ج 50 ح 12 ص 99.
[2] بحار الأنوار ج 50 ص 90.
[3] أصول الكافي ج 2 باب النص على إمامة الإمام أبي جعفر الثاني(ع) ح 13.
[4] أعلام الهداية الإمام محمد بن علي الجواد(ع) ص 155-160.
[5] أصول الكافي ج 1 ص 337 ح 1.
[6] سورة مريم الآية رقم 12.
[7] سورة مريم الآيتان رقم 29-30.
[8] الفصول المختارة ص 316.
[9] المصدر السابق ص 275.
[10] أصول الكافي ج 2 باب النص على إمامة الإمام الجواد ح ص 10.
[11] أصول الكافي ج 2 كتاب الحجة باب الإشارة والنص على أبي جعفر الثاني ح 14.