لم يتعرض نص من النصوص الشريفة الصادرة عن المعصومين(ع) بعد حديث الغدير، وحديث الثقلين، لما تعرض له التوقيع الصادر من الناحية المقدسة للشيخ السمري(رض)، فقد وجهت إليه اعتراضات متعددة الأساليب، وإن كانت في محصلها ترجع إلى محورين أساسيـين، يرجع أحدهما لنفي وجود المقتضي للتوقيع الشريف في الدلالة على المدعى، والآخر يقرر وجود مانع من الاستناد للتوقيع المذكور، وإن كانت دلالته على ما ذكر تامة.
المناقشة السندية:
أما بالنسبة للإشكال فيه من خلال الاقتضاء، وعدم توفرها فيه، فقد أورد عليه من حيث السند، فذكر أنه خبر آحاد، مرسل، ضعيف، لم يعمل به ناقله، وهو شيخ الطائفة(ره) في كتابه المذكور الذي نقل فيه التوقيع، وقد أعرض عنه الأصحاب.
ولا يذهب عليك أن المذكور مجموعة من المناقشات يجمعها عنوان الطعن في أصالة الصدور، وهي تحتاج تحليلاً لنرى مدى إمكانية القبول بها من عدمه.
أما المناقشة الأولى، وهي كون التوقيع الشريف خبر آحاد، فلا يذهب عليك أن هذا التوصيف مقابل لتوصيف الخبر بكونه خبراً متواتراً، ويختلف المتواتر عن الآحاد في كونه يفيد العلم، ولا يحتاج إلى ملاحظة سنده، بينما لا يفيد خبر الواحد أكثر من الظن المعتبر، ويحتاج سنده لملاحظة كي ما يحرز صدوره.
ولأصحابنا في حجية خبر الوحد مسلكان معروفان، إذ يبني بعضهم على حجية الخبر الذي تحفه القرائن الموجبة للوثوق بالصدور وإن لم يكن رواته ثقات. بينما يقصر آخرون الحجية في خصوص الخبر الذي يبنى على وثاقة رواته.
وكيف كان، فالظاهر أن منشأ ذكر المستشكل هذه الدعوى، وأن التوقيع الشريف من أخبار الآحاد، هو ما تضمنته كتب الكلام من عدم اعتماد الشيعة الأمامية على أخبار الآحاد في المسائل العقدية، وأنه لابد وأن يكون الخبر المستند إليه من الأخبار المتواترة. ولما كان التوقيع الشريف خبر واحد، فلن يصلح للدلالة على المدعى، لفقده شرطاً من شروط القبول، كما لا يخفى.
وهذا الإشكال ليس في محله، ضرورة أن أعلامنا، وإن كانوا يعتبرون التواتر في المسائل العقدية، إلا أنهم لا يعتبرون ذلك في كل مسألة مسألة، فإنهم يفرقون بينها، ويذكرون ما يعتبر فيه التواتر، وما لا يعتبر فيه ذلك، ويكفي فيه خبر الآحاد، ولا ريب في أن مسألتنا، أعني انتهاء السفارة الخاصة بحلول الغيبة الكبرى من المسائل التي لا يعتبر في الخبر الذي يستدل به عليها كونه من الأخبار المتواترة، كما لا يخفى.
على أنه قد أشير إلى أن التوقيع الشريف قد تضمن مجموعة من القرائن الداخلية والخارجية الموجبة للوثوق بصدوره، فمن القرائن الداخلية التي تضمنها، اشتماله على تحديد موعد وفاة السفير الرابع الشيخ السمري(رض)، وقد وقع ذلك وفقاً لما جاء فيه من إخبار، ولم ينقل لنا المؤرخون مخالفة وقت وفاته لما تضمنه التوقيع، وهذا يعني أنه من الإخبار الغيبي الذي لا يصدر إلا عن المعصوم(ع).
ومن القرائن الخارجية، انحصار الدليل على انتهاء الغيبة الصغرى وبدأ الغيبة الكبرى فيه فقط دون غيره من النصوص، كما أنه قد أجمعت الطائفة قدماء ومتأخرين على قبوله والعمل على طبقه.
وأما المناقشة الثانية، وهي وصف التوقيع الشريف بكونه مرسلاً، فالظاهر أن أول من ألتـزم بذلك هو المحدث النوري في كتابه جنة المأوى، إذ عبر عنه بذلك.
ولم يتضح لي وجه تعبيره عنه بذلك، فإن شيخنا الصدوق(ره) يرويه عن شيخه بن المكتب، وهو ينقل الحادثة مباشرة، لكونه في مدينة السلام عندما خرج التوقيع الشريف، فكيف يذكر أنه مرسلاً.
هذا وقد يتمسك لوصف التوقيع الشريف بالإرسال بما جاء في كتاب الاحتجاج، فإن الشيخ الطبرسي(ره) لم يسنده، وإنما ذكر المحادثة بين الشيخ السمري(رض) وبين من سأله من الحضار عنده حال الاحتضار عن وصيه، وقد كانت اجابته بإخراج توقيع لهم، ثم ساق التوقيع الشريف[1]. وهذا وإن كان حسناً، إلا أنه لا يفي بالمدعى، ضرورة أن الشيخ الطبرسي قد ذكر في مقدمة كتابه المنهجية التي يسير على وفقها في نقله للنصوص الشريفة، فأشار إلى أنه لا يأتي في أكثر ما يورده من الأخبار بإسناده إما لوجود الاجماع عليه، أو موافقته لما دلت العقول إليه، أو لاشتهاره في السير والكتب بين المخالف والمؤالف[2].
وأما المناقشة الثالثة، وهي ضعف السند، فالظاهر أن منشأها هو وجود أستاذ الصدوق(ره) ابن المكتب، والموجب للحكم بضعفه يعود لعدم نص أحد من الرجاليـين في كتبهم على توثيقه، فلا يعول على مروياته.
ولا يذهب عليك أن هذا يبتني على الالتـزام بحصر موجبات التوثيقات في خصوص التوثيقات الخاصة، ورفع اليد عن التوثيقات العامة، مع أن ذلك خلاف ما عليه أعلامنا سواء الرجاليـين منهم، أم الفقهاء، إذ أنهم جميعاً يلتـزمون بأن هناك عدة أمارت يركن لها في إحراز وثاقة الراوي، بعضها أمارات عامة، وأخرى خاصة، ومن الأمارات العامة التي يبني عليها جملة منهم، كون الراوي من مشائخ الإجازة، أو كونه ممن ترحم عليه الصدوق، أو كونه ممن ترضى الصدوق(ره) عليه، وقد توفرت الأمارات الثلاث في شأن ابن المكتب، وهذا يوجب البناء على وثاقته، مع أن توفر واحدة منها فقط كافٍ لتحصيل ذلك، فلاحظ.
وأما المناقشة الرابعة، وهي كون ناقله أعني شيخ الطائفة(ره) لم يعمل به، وقد أعرض عنه الأصحاب، فالظاهر أن منشأها نقل الشيخ(ره) جملة من الروايات والحكايات التي تضمنت ذكر رؤيته(روحي لتراب حافر جواده الفداء)، وهذا يتنافى وما جاء في التوقيع الشريف من نفي المشاهدة، فيحمل نقل الشيخ لتلك الحكايات والروايات على عدم عمله بما جاء فيه، وكذا أيضاً قد نقل غير واحد من أصحابنا مثل تلك الروايات والحكايات، فيكون ذلك كاشفاً عن إعراضهم عن العمل به، وعدم الاستناد إليه.
وهذا المعنى، سوف يتعرض له عند الحديث عن عرض الإشكالات المرتبطة بالمانع، فلا حاجة للحديث عنه في البين، ولنؤخر الكلام عنه إلى ذلك الموضع، فأنتظر.
وجود المعارض:
وأول الموانع التي ذكرت عن القبول بالتوقيع المبارك، هو وجود المعارض له من النصوص، فإن هناك مجموعة من النصوص تثبت المشاهدة، وقد تضمن التوقيع نفيها، وأن المدعي لها كذاب مفترٍ، فتقع المعارضة حينئذٍ بينهما، بين ما تضمن الحديث عن إمكانية المشاهدة، وإمكانية حصولها وتحققها خارجاً، وبين التوقيع النافي إليها.
وينبغي أن يلتفت في البداية أن تقريب المعارضة بين النصوص المذكورة وبين التوقيع الشريف مبني على كون المقصود من المشاهدة الواردة في التوقيع بمعنى الرؤية، أما لو قلنا بأن المقصود منها السفارة، فلن تكون هناك معارضة أصلاً.
فمن النصوص ما رواه إسحاق بن عمار في الموثق عن الإمام أبي عبد الله الصادق(ع)، أنه قال: للقائم غيبتان، قصيرة والأخرى طويلة، الغيبة الأولى لا يعلم بمكانه فيها إلا خاصة شيعته، والأخرى لا يعلم بمكانه فيها إلا خاصة مواليه[3]. على أساس أن المستفاد من ذيلها وجود أشخاص وصفهم النص بكونهم موالين للمولى(بأبي هو وأمي) يعلمون مكانه، ومن الطبيعي جداً أنهم ما داموا يعلمون مكانه، فبإمكانهم رؤيته، وهذا ينفي ما جاء في التوقيع الشريف من نفي للمشاهدة.
ولا يخفى أن النص المذكور يتفق والتوقيع الشريف في ناحيتين:
الأولى: اشتمال كليهما على كون الغيبة متعددة، فقد تضمن النص التعبير عن الغيبة الصغرى بالقصيرة، وعن الكبرى بالطويلة، وكان حديث التوقيع الشريف عن الغيبة الكبرى بالتامة، ويقابلها الغيبة الصغرى.
الثانية: إن المستفاد من كليهما إمكانية اللقاء والاجتماع بصاحب الناحية المقدسة(عج)، خلال فترة الغيبة الصغرى.
وأما نقطة الاختلاف وفقاً لتقريب المستشكل فهي في زمان الغيبة الكبرى، فإن التوقيع الشريف ينفي الرؤية، وأن مدعيها كذاب مفتر، بينما يفيد النص المذكور إمكانيتها.
وبعيداً عن عدم القبول بكون المقصود بالمشاهدة في التوقيع هو الرؤية، والتسليم بكونه ذلك، يمكن منع معارضة الموثق للتوقيع، بهذا البيان: لقد تضمنت موثقة إسحاق أن هناك موالياً للإمام المنتظر(عج) يعلمون مكانه، فيدل ذلك بالالتـزام على إمكانية رؤيته واللقاء به، إلا أنه لم يتضمن النص التصريح بذكر الموالي، مما يعني أن في البين إجمالاً، والطريق إلى رفعه من خلال ما ورد عندنا في نصوص عدة أن هناك من يلتقي به(عج) في فترة الغيبة الكبرى، فبحمل تلك النصوص الشارحة لمن يلتقي به على التعبير المجمل في الموثق يتضح أن الذين يرونه(بأبي وأمي) هم خصوص من جاء ذكرهم في تلك النصوص، وهم الخضر(ع)، والملائكة، ومؤمنوا الجن، فقد ورد عن الإمام الرضا(ع) أنه قال: إن الخضر شرب من ماء الحياة فهو حي لا يموت حتى ينفخ في الصور، وإنه ليأتينا فيسلم علينا فنسمع صوته ولا نرى شخصه، وإنه ليحضر حيث ذكر، فمن ذكره فليسلم عليه، وإنه ليحضر المواسم فيقضي جميع المناسك ويقف بعرفة فيؤمّن على دعاء المؤمنين وسيؤنس الله به وحشة قائمناً(ع) في غيبته، ويصل به وحدته[4].
وقد روى المفضل عن الإمام أبي عبد الله الصادق(ع)-في حديث-قلت: يا سيدي فمن يخاطبه، ولمن يخاطب؟ قال(ع): تخاطبه الملائكة والمؤمنون من الجن.
وما تضمنه خبر المفضل من خطاب الملائكة معه(روحي لتراب حافر جواده الفداء)يتوافق وما جاء في القرآن الكريم من نزول الملائكة عليه ليلة القدر لتلقي الأوامر منه، ولا يبعد استمرار نزولها عليه وعدم حصر ذلك في خصوص ليلة القدر، فتأمل.
ثم إنه لو لم يقبل بالتوفيق والجمع العرفي الذي ذكر، فلا ريب أنه سيلتـزم باستقرار المعارضة بين التوقيع الشريف والموثق، فإن لم يلتـزم بالترجيح بالأحدثية كما هو مختار بعض الأعلام المعاصرين(حفظه الله)، ولم يقبل بكون التوقيع الشريف حاكماً حكومة نظر على الموثق كما هو رأي بعض محقق فقهاء العصر(أطال الله في بقائه)، ولجأ للمرجحات، فلا إشكال في تقديم التوقيع الشريف لكونه من المجمع عليه، ويكون موثق الساباطي من الشاذ النادر، وقد تضمنت المقبولة الأمر بالأخذ بالمجمع عليه، وترك الشاذ النادر، فتدبر.
ومنها: خبر أبي بصير-بالبطائني-عن أبي عبد الله(ع) قال: لابد لصاحب هذا الأمر من غيبة، ولابد له في غيبته من عزلة، ونعم المنـزل طيبة، وما بثلاثين من وحشة[5]. فإن المستفاد منها أن هناك ثلاثين شخصاً يتصلون به(عجل الله تعالى فرجه الشريف)، وبهم تنتفي عنه الوحشة، ويحصل له الأنس.
هذا وهنا أمران ينبغي الإحاطة بهما قبل العمد إلى ملاحظة المعارضة بين الخبر والتوقيع الشريف:
الأول: ضبط متن الخبر المذكور ،فقد ذكر غواص بحار الأنوار العلامة المجلسي(قده) وجود اختلاف في متنه، حيث جاء في بعض النسخ عوضاً عن قوله: ولا بدّ له من غيبه، ولا له في غيبته[6].
ولا يخفى مقدار الفرق بين المعنيـين، فإنه لو بني على النسخة الثانية، كان مقتضاه الالتـزام بأن الغيبة تعني خفاء العنوان، وليس خفاء الشخص، ولهذا أشار العلامة المجلسي(ره): أنه ليس معتزلاً عن الخلق، بل هو بينهم ولا يعرفونه[7].
وأما لو بني على النسخة التي ذكرناها، فسوف يكون مدلول العبارة هو خفاء الشخص، وليس خفاء العنوان، لأنها تفيد أنه معتزل عن الخلق، كما لا يخفى.
هذا وقد تقرر في محله أن الصحيح هو البناء على أن حقيقة الغيبة هو خفاء العنوان، وليس خفاء الشخص، وقد ذكرت هناك الموانع الداعية إلى الالتـزام بهذا المعنى دون ذلك، وعليه سوف يكون النص مشتملاً على ما لا يمكن الالتـزام به، وهذا يساعد على البناء على تأويله، بحمله على خلاف ظاهره، أو رد علمه إلى أهله. نعم استظهر الشيخ المجلسي(قده) ما نقلناه، دون النسخة الثانية، وعلل ذلك بكونه أظهر وموافق لما في سائر الكتب[8].
وقد يكون موجب حكمه بأظهرية ما ذكرناه من متن النص على الآخر، تفسيره لما في الذيل: وما بثلاثين من وحشة.
الثاني: تحديد المقصود من الثلاثين الذين ذكرت في ذيل الخبر، فقد أشار العلامة المجلسي(ره) إلى وجود احتمالين فيه:
أولها: أن يكون المقصود من العدد المذكور هو الأصحاب، والأنصار على خلافٍ في أنه(روحي لتراب حافر جواده الفداء) واحد من الثلاثين، فيكون أصحابه دون ذلك، أم أنهم ثلاثون وهو ليس منهم.
ثانيها: أن يكون المقصود هو الهيئة، وليس العدد، بمعنى أنه(ع) في هيئة من بلغ الثلاثين من العمر، حتى مع تقادم الزمن، وطول المدة.
ولا ريب في اختلاف النتيجة المترتبة على كلا المحتملين، ضرورة أنه لو بني على الاحتمال الثاني، فلن يكون للخبر المذكور معارضة أصلاً مع التوقيع الشريف، لأنه سوف يكون مدلوله على شيء آخر غير الرؤية واللقاء. نعم يبقى للكلام مجال لو بني على الاحتمال الأول، فلاحظ.
وقد ذكر الشيخ المجلسي(قده) أن المحتمل الثاني منهما، في غاية البعد، فلا يصار إليه[9].
والظاهر أن موجبه لاستبعاده حاجة التعبير الوارد إلى حمله على خلاف ظاهره، ولا يصار إلى ذلك إلا مع وجود ما يوجب ذلك من قرينة أو ما شابه، فتدبر.
ولا يذهب عليك أنه وفقاً لما قدمنا ذكره من القبول بالنسخة الثانية لكون الغيبة من غيبة العنوان، وليست من غيبة الشخص، سوف يكون المعنى الثاني، وهو الإشارة للهيئة موافقاً للظهور العرفي، وليس مخالفاً، ولا أقل من كون ذلك قرينة داعية للتصرف فيه وحمله على هذا المعنى، فلاحظ.
ثم إنه لو رفعنا اليد عن ذلك، وبنينا على وفق ما بنى عليه العلامة المجلسي(ره) من كون الثلاثين إشارة إلى العدد، وليس إِشارة إلى الهيئة، فمتى يكون لقائه بالثلاثين المذكورين، هل يكون ذلك في زمان الغيبة الصغرى، أم في الكبرى؟
ذكر العلامة المجلسي(قده) قولاً بأنه زمان الغيبة الصغرى، وليس زمان الغيبة الكبرى[10]. وهذا هو الذي ألتـزم به المحدث الكاشاني(قده)، فقد عقب على الحديث المذكور، بقوله: بيان: طيبة، المدينة المقدسة، يعني إذا اعتزل فيها مستتراً ومعه ثلاثون من شيعته يأنس بعضهم ببعض، فلا وحشة لهم، كأنه أشار بذلك إلى غيبته القصيرة، فإن في الطويلة ليس لشيعته إليه سبيل[11].
وقد تحصل من جميع ما تقدم، عدم صلاحية الخبر المذكور للمعارضة، كيف وقد عرفت ما فيه.
ثم إن المدعين للمعارضة ركزوا بصورة أساس على عبارة الوحشة التي تضمنها الخبر، على أساس أنها متعلقة بصاحب الناحية المقدسة، ولبعضهم توجيه وجيه، إذ أنه لا يتصور حصول الوحشة للمولى(روحي لتراب حافر جواده الفداء) كيف وأنيسه الباري سبحانه وتعالى، والقرآن الكريم جليسه، والخضر(ع)، صاحبه، وصالحو الجن والملائكة حوله وفي خدمته؟! إن هذا كله مانع من الالتـزام بكون الوحشة متعلقة به(بأبي وأمي)، وعليه لابد وأن تكون الوحشة متعلقة بغيره، والظاهر تعلقها بالمجتمع المؤمن بفكرة الإمام المنتظر(عج)، فهو الموصوف والمقصود بتلك الرواية، لكونه قد اعتاد على وجود الإمام المعصوم(ع) بين ظهرانيه، والآن حصلت حالة جديدة لم يألفها المجتمع الموالي، فيصاب نتيجة ذلك بوحشة.
والحق، أنه بعد كل ما ذكر، كيف لفقيه، أو فاضل أن يستند لمثل هذا النص في مقام الاستدلال، وحاله ما قد عرفت فتدبر.
هذا ولو أصر المستشكل على عدم القبول بشيء مما قدم، وأدعي وقوع المعارضة، فلا يذهب عليك أن تقريبها يبتني على كون المقصود من الغيبة المذكورة في الخبر هي الغيبة الكبرى، أما لو قلنا بكونها الصغرى فلن تكون هناك معارضة أصلاً. وهذا يعني أن المدعي للمعارضة لابد وأن يأتي بقرائن تثبت كون الغيبة في الخبر هي الكبرى وليس الصغرى، فإن الاستيحاش نتيجة الغيبة كما يتصور في الكبرى فهو متصور في الصغرى أيضاً، فتدبر.
وعليه، فإن عدم الجزم بتحديد المقصود من الغيبة في الخبر، مع إمكانية حمل المعنى على الغيبتين دون وجود مرجح لأحدهما على الآخر يوجب إجمالاً فيه، وبالتالي إن أمكن حله بوجود مبين له، وإلا سقط عن الاعتبار ظهوراً، فلاحظ.
والظاهر أن حله من خلال ما تقدم عند الحديث الأول، بحمل الثلاثين على خصوص الخضر(ع)، والملائكة، والمؤمنين من الجن، فإن النصين الذين قدمنا ذكرهما لم يتضمنا تحديداً لعدد الملائكة، ولا لعدد مؤمني الجن، وبالتالي يمكن استيفاء العدد المذكور لهم، فتدبر.
وأما لو بني على عدم القبول بالجمع العرفي وكان الإصرار على كون المعارضة مستقرة، فلن يختلف الحال عندها عما ذكر في الحديث عن موثقة الساباطي، فلاحظ.
ومنها: قال أبو جعفر(ع): يكون لصاحب هذا الأمر غيبة في بعض هذه الشعاب-ثم أومأ بيده إلى ناحية ذي طوى-حتى إذا كان قبل خروجه أتى المولى الذي كان معه حتى يلتقي بعض أصحابه، فيقول: كم أنتم ههنا؟ فيقولون: أربعين رجلاً، فيقول: كيف أنتم لو رأيتم صاحبكم؟ فيقولون: والله لو نأوي بنا الجبال لناويناها معه[12]. فإن المستفاد منها أنه(عج) يبعث المولى الذي معه رسولاً إلى بعض أصحابه من المؤمنين، قبل قيامه وقبل قتل النفس الزكية، ولما لم تتضمن الرواية تحديداً للزمان، فمن المحتمل أن يكون ذلك قبل القيام والظهور بكثير، فيثبت المطلوب، من الرؤية واللقاء، الموجب لتحقق المعارضة.
ولا يخفى أن التقريب المذكور للرواية لو صح[13]، فإنه يتم بناءً على ما حكاه المستدل، وإلا فقد نقل الرواية صاحب البحار(قده) عن كتاب العياشي، وقد اشتملت على تحديد ذلك بما قبل الخروج بليلتين، ففي خبر عبد الأعلى الحلبي المروي في تفسير العياشي، قال: قال أبو جعفر(ع): يكون لصاحب هذا الأمر غيبة في بعض هذه الشعاب-ثم أومأ بيده إلى ناحية ذي طوى-حتى إذا كان قبل خروجه بليلتين انتهى المولى الذي يكون بين يديه حتى يلقى بعض أصحابه، فيقول: كم أنتم ههنا؟ فيقولون نحو من أربعين رجلاً، فيقول: كيف أنتم لو قد رأيتم صاحبكم؟ فيقولون: والله لو يأوي بنا الجبال لآويناها معه، ثم يأتيهم من القابلة، فيقول لهم: أشيروا إلى ذوي أسنانكم وأخياركم عشرة، فيشيرون له إليهم فينطلق بهم حتى يأتون صاحبهم ويعدهم إلى الليلة التي تليها[14]. ولا ريب في أن ذلك لا يكون إلا بعد حصول جملة من علامات الظهور، كقتل النفس الزكية، لأن قتله يكون قبل الظهور، كما أشير لذلك في العديد من النصوص.
ووفقاً لما ذكرنا، لن تكون الرواية المذكورة بناءً على نسخة البحار عن العياشي معارضة للتوقيع الشريف، فإنه إنما ينفي المشاهدة ولو بمعنى الرؤية قبل السفياني، والصيحة، وهما حاصلان قبل قتل النفس الزكية، فتدبر.
ثم إنه لو لم يقبل بما ذكر، فلا ريب أنه مع تعارض النسختين، وعدم وجود ما يوجب الترجيح لأحدهما على الآخر، فإن ذلك يستوجب عدم التعويل على أي منهما، كما هو المتبع عند علماء الحوزة(زادها الله رفعة وعزة)، ولا أقل من أنه ترفع اليد عن النقطة التي يقع الاختلاف بين النسختين فيها، وهذا يعني أن محل الاستشهاد بالخبر المذكور، هو الذي سوف يكون ساقطاً عن الاستناد، فلا تكون محلاً للاستدلال، فلاحظ.
المعارض الثاني:
وهذا هو الإشكال الثاني الذي عرض كمانع يمنع من الاستناد للتوقيع الشريف، وهو معارضته لما ثبت تواتره من القصص الدالة على رؤيته، وقد نقلها الثقات من الشيعة، خصوصاً وقد تضمنت بعض تلك اللقاءات النصائح والإرشادات التي يرغب إيصالها لقواعده الشعبية، فيكون معارضاً لما جاء في التوقيع الشريف، فترفع اليد عنه، لأنه من أخبار الآحاد، وتلك الروايات والقصص من المتواتر، ولا ريب في عدم قابلية خبر الآحاد لمعارضة المتواتر، كما قرر في محله.
هذا ولا يخفى أن المعارضة المتصورة كلها مبنية على أساس كون المقصود من المشاهدة الواردة في التوقيع الشريف بمعنى الرؤية، أما وفقاً لما أخترناه من أنها بمعنى دعوى السفارة، فلا معارضة في البين، ضرورة أن شيئاً من هذه الرؤى والقصص الناقلة للقيا به(روحي فداه)، لم يتضمن شيء منها دعوى السفارة أصلا.
إلا أنه لو لم يقبل بما ذكرنا، فلقد ذكر الشهيد الصدر الثاني(قده) علاجاً لهذه المعارضة المدعاة،
حيث أشار إلى وجود محتملات:
منها: أن ترفع اليد عن التوقيع الشريف، لما عرفت من المناقشة السندية فيه، بما قدمنا ذكره.
ومنها: أن ترفع اليد عن هذه الحكايات الناقلة لرؤيته(بأبي وأمي).
ولا إشكال في عدم القبول بأي من الوجهين المذكورين، فإن أولهما قد عرفت جوابه في ما تقدم، فلا نعيد، كما أن الثاني منهما، لا يصار إليه لما عرفت من كونها متواترة، فلاحظ.
ومنها: منع دلالة النصوص التي تضمنت الرؤية، وذلك بمعالجتها إما بحملها على مجرد التوهم، وأن هؤلاء لم يروا، ولم يسمعوا، بل هم يزعمون ذلك، فكلامهم، إما من الكذب المحض، أو من أضغاث الأحلام التي تكون في اليقظة.
ولا مجال للقبول بهذا التوجيه، لأن كثرة هذه النقولات مانعة من تسرب الكذب إليها، وهو بنفسه أيضاً يمنع من أن تكون أوهاماً أو أحلام يقظة.
ومنها: ألا يكون المشاهدون كذابين، أو واهمين في رؤيتهم، بل يسلم بها، إلا أن الكلام في أنهم لم يروا صاحب الناحية، وإنما رأوا شخصاً آخر غيره، وتوهموا أنه هو(روحي لتراب حافر جواده الفداء).
وحال هذا الوجه ليس أفضل من سابقيه، إذ يكفي ما تضمنته تلك النقولات من بيان لجملة من الأمور والموضوعات الكاشف عن كون المرئي هو الصاحب(روحي له الفداء وأقل الفداء).
ثم تعرض لحمل المشاهدة في التوقيع الشريف على دعوى السفارة، واستبعدها، ووجهه واضح، لكونه خلاف الظاهر، والذي قد عرفت في محله عدم المانع من المصير إليه.
وأختار أنه لا معارضة بين التوقيع وبين الحكايات، لما بني عليه من الالتـزام بكون الغيبة ليست بمعنى خفاء الشخص، بل هي بمعنى خفاء العنوان، وهذا يعني تواجده في كل حين ووقت بين الناس، والناس يرونه، وهذا ما لا ينفيه التوقيع الشريف، لأن الظاهر هو تكذيب المشاهدة التي تقترن بدعواها، أما المشاهدة المجردة منها، فلا ينفيه، فتدبر[15].
[1] الاحتجاج ج 2 ص 297 في ذكر طرف مما خرج أيضاً عن صاحب الزمان(عج) من المسائل الفقهية.
[2] المصدر السابق ج 1 ص 4.
[3] أصول الكافي ج 1 ح 19 ص 340.
[4] بحار الأنوار ج 52 ح 3 ص 152.
[5] أصول الكافي ج 1 ح 16ص 340.
[6] مرآة العقول ج 4 ص 50.
[7] المصدر السابق.
[8] المصدر السابق.
[9] مرآة العقول ج 4 ص 51.
[10] المصدر السابق ص 50.
[11] الوافي ج 2 ص 416.
[12] الغيبة للشيخ النعماني ص 182.
[13] لم يحضرني سريعاً كتابا لغيبة للنعماني لمراجعة المتن.
[14] بحار الأنوار ج 52 ح 91 ص 341.
[15] الغيبة الصغرى ص 639-646.