قد عدّ الكذب على الله ورسوله والأئمة الطاهرين “ع” من الكبائر كما هو محرر في محله فراجع.
إنما الكلام في كونه مفطراً كالأكل والشرب والجماع والإستمناء فيكون مأخوذاً في ماهية الصوم ومن مقوماتها أو لا. خلاف بين الأصحاب إذا أنقسموا إلى قولين:
الأول: البناء فيه على المفطرية وهو مختار الشيخين والمرتضى في بعض كتبه وابن البراج وابي الصلاح وابن زهرة، وقد يظهر ذلك من الصدوقين[1]، بل عن الشهيد أنه المشهور بين الأصحاب[2]، وعن السيدين والشيخين دعوى الإجماع عليه.
الثاني: ماهو مشهور المتأخرين وقول بعض القدماء من أنه ليس مفطراً بل هو محرم لكونه من الكبائر ليس إلا، أختاره المرتضى وابن أبي عقيل وابن أدريس والمحقق والعلامة في أكثر كتبه والشهيد الثاني والمقداد السيوري وسيد المدارك[3].
هذا ولما كانت المسألة معنونة في كلمات الأصحاب،فلا بأس بنقل بعضها:
قال في المقنعة:ويفسد الصيام الأكل متعمداً،وكذلك الشرب،والجماع،والإرتماس في الماء،والكذب على الله عز وجل وعلى رسوله(ص)،وكذلك على ائمة الهدى(ع)[4].
وفي الكافي للحلبي:والأمور التي بكراهيتها يكون المكلف صائماً:الأكل والشرب والإزدراد والجماع واستنـزال المني والكذب على الله تعالى أو على رسوله أو على أحد الأئمة من آله(ص)[5].
وقال في الغنية:ما يفسد الصوم فيه على ضربين:
أحدهما:يوجب مع القضاء الكفارة.
والثاني:لا يوجبها،فالأول ما يصل إلى جوف الصائم،مع ذكره للصوم عن عمد منه واختياره،سواء كان بأكل،أو شرب،أو سم،أو ازداراد لما لا يؤكل في العادة،أو حقنة في مرض لا يلجأ إليها،وأن يحصل جنباً في نهار الصوم،مع الشرط الذي ذكرناه،سواء كان ذلك بجماع أو غيره،وسواء كان مبتدئاً بذلك فيه،أو مستمراً عليه من الليل،ويجري مجرى ذلك إدراك الفجر له جنباً بعد الإنتباه مرتين،وترك الغسل من غير ضرورة،وتعمد الكذب على الله تعالى،أو على رسوله،أو أحد الأئمة(ع)[6].
وقال في السرائر:وأما الكذب على الله سبحانه ورسوله،والأئمة(ع)،متعمداً،فقد قال شيخنا أبو جفعر في مبسوطه،وفي أصحابنا من قال،إن ذلك لا يفطر،وإنما ينقض[7].
وقال الشهيد في الدروس:اختلف في وجوب القضاء والكفارة بالكذب على الله أو على رسوله أو الأئمة صلى الله عليهم،متعمداً،وتعمد الإرتماس،والمشهور الوجوب،وإن ضعف المأخذ[8].
ولا يخفى أن مقتضى الأصل الذي هو البراءة البناء على عدم المفطرية،ذلك أننا إذا شككنا في مانعية شيء وعدمه،فالمرجع هو البراءة، فلابد في رفع اليد عنه من قيام دليل لفظي في المقام.
ولذا استدل أصحاب القول الأول بالنصوص:
منها: موثقة سماعة: سألته عن رجل كذب في رمضان. فقال “ع”: قد أفطر وعليه قضائه. فقلت: وما كذبته؟ قال “ع”: يكذب على الله وعلى رسوله[9].
ومنها: موثقه الآخر: سألته عن رجل كذب في شهر رمضان. فقال “ع”: قد أفطر وعليه قضائه وهو صائم يقضي صومه ووضوئه إذا تعمد[10].
أقول: من المظنون قوياً إتحاد الموثقين خصوصاً مع اتحاد الراوي والمروي عنه والناقل الأول للخبر. نعم مصدر أحدهما كتاب ابن سعيد ومصدر الآخر كتاب ابن مهزيار. ويبدو أن الأول أجرى على الخبر تقطيعاً فحذف ما لا يوافق المقام من البناء فيه على المفطرية ككون الكذبة ناقضة للوضوء بينما الثاني أبقى الخبر على حاله.
ومنها: معتبر أبي بصير قال: سمعت أبا عبدالله “ع” يقول: الكذبة تنقض الوضوء وتفطر الصائم. قال: قلت له: هلكنا، قال “ع”: ليس حيث تذهب إنما ذلك الكذب على الله وعلى رسوله “ص” وعلى الأئمة “ع”[11].
ومنها: خبره الآخر عن أبي عبدالله “ع”: إن الكذب على الله وعلى رسوله وعلى الأئمة “ع” يفطر الصائم[12].
أقول: من المظنون قوياً إن لم يكن مجزوماً به البناء على إتحاد النصين لكن تارة نقل بإسناد الصدوق وأخرى بإسناد الشيخ. ثم إن الضعف الموجود في سند الصدوق يمكن معالجته من خلال نظرية التعويض كما أوضحنا ذلك مفصلاً في محله.
ثم إن ما تقدم منا في الموثقين من تصرف الحسين بن سعيد بعينه جارٍ هنا بمعنى أن الصدوق “ره” تصرف في خبر أبي بصير فحذف ما لا يراه مناسباً أو أنه لا يبني عليه لمخالفتة للقواعد بنظره مثلاً وهذا ليس عزيزاً حتى يقال أنه مجرد دعوى بل إن المتتبع في كتب الحديث يجد شواهده كثيرة وخير مثال لذلك مقبولة عمر بن حنظلة فراجع نقل المشايخ الثلاثة لها وما في ذلك من التصرف.
هذا وقد أورد على الإستدلال بالنصوص المتقدمة بإيرادات أتضح دفع بعضها مما ذكرنا، وأقوى ما بقي في المقام إيرادان:
الأول: بعد ما عرفت من رجوع النصوص الأربعة إلى نصين بما سبق منا بيانه وقد أشتمل كلاهما على ناقضية الكذبة للوضوء وهذا مخالف لما عليه النص والفتوى من عدم الناقضية فلا محالة يكون المراد من النقض عبارة عن نفي الكمال ونقضه وبمقتضى وحدة السياق، يكون المراد من مفطريته للصائم ذلك أيضاً ويشهد له ما ورد في كثير من النصوص بأن الغيبة تفطر الصائم وكذا الظلم والسب والنميمة وغيرها وجزماً لا يراد منها الإفطار الحقيقي.
وإن أبيت عما ذكرنا فلا أقل من كون الخبر مجملاً فلا يمكن الركون إليه والتمسك به[13].
وقد أجاب عنه بعض الأعاظم “ره”بجوابين:
الأول: إن حمل ناقضية الكذب للوضوء على نفي الكمال لوجود قرينة خارجية نظير حمل الأمر في غسل الجمعة على الإستحباب وإلا لو كنا ومقتضى الظهور لحكمنا بناقضيتها للوضوء.
الثاني: لما كانت هذه الزيادة واردة في بعض النصوص دون جميعها فغاية ما يوجب ذلك هو حصول الإجمال فيما وردت فيه لأنها تمنع من انعقاد ظهور اللفظ في الإفطار الحقيقي فيبقى مالم يشتمل عليها دالاً على المفطرية لأن الإجمال لا يسري من خبر لآخر. على أن الزيادة غير ثابتة في النسخ حتى مع اتحاد النصوص لأن موثقي سماعة اشتمل أحدهما عليها دون الآخر فلا مرجح لما ثبت فيه الزيادة ونصا أبي بصير أختلفت رواية المشايخ الثلاثة له فالصدوق يرويها بدون ذلك كما أن إحدى نسختي الكليني بدونها أيضاً فلا وثوق بتحقق الزيادة لتقدح في الظهور[14].
أقول: قد أجاد في جوابه الأول حيث أن مقتضى ما ذكره هو بقاء ظهور لفظ المفطرية في جهة الكذب في الصوم على ظهوره في معناه الحقيقي فيكون الخبر إرشاداً للمانعية.
وأما جوابه الثاني فيلاحظ عليه أولاً: بما تقدم منا في أن المظنون قوياً هو اتحاد النصوص مما يعني رجوعها إلى نصين كما سبق منا تفصيله فقوله بأن الزيادة واردة في بعضها قد عرفت ضعفه.
ثانياً: على فرض التسليم بكون الزيادة واردة في بعضها مقتضى الصناعة مع عدم ثبوت قرينة خارجية صارفة عن الظهور وتمامية وحدة السياق هو حصول المعارضة بين النصين كما لا يخفى فلا محيص عن العلاج عندها.
ثالثاً: ماجاء في كلامه أخيراً من عدم صحة إحدى نسختي الموثق فلا وثوق بأحدهما مما يعني عدم صحة الإستناد لأي منهما وكذلك الحال في نصي أبي بصير. وبالجملة إن اضطراب المتن مانع من الوثوق بهما مما يمنع ثبوت ظهور عقلائي واضح فيسقطا عن الحجية في الظهور مما يعني أنهما لا يصلحا للإستناد. فيكون ذلك قادحاً في الظهور.
إن قلت: لو دار الأمر بين أصالة الزيادة وعدمها قدمت أصالة عدم الزيادة فتقدم النصوص التي لا تحتوي زيادة ناقضية الكذبة للوضوء.
قلت: مضافاً لما عرفت منا فيما مضى أن المقام ليس من صغريات ذلك لتصرف الحسين بن سعيد والصدوق، إن أصالة عدم الزيادة أصل عقلائي يقبله العقلاء في حدود لا مطلقاً بمعنى أن العقلاء يلجأون له في مورد يستوجه ذلك كما في زيادة حرف أو كلمة لا في مثل المقام من زيادة جملة.
والحاصل في جوابه “قده” الأول غنى وكفاية للجواب عن هذا الإيراد.
الثاني: تضمنت موثقة سماعة قوله: قد أفطر وعليه قضاؤه وهو صائم يقضي صومه. فإن قوله وهو صائم ظاهرة في عدم بطلان صومه بالكذب لأنه لو كان مفطراً لم يكن صائماً فتصلح حينئذٍ هذه الجملة كقرينة على التصرف في لفظ الإفطار بحمله على نفي الكمال.
وأجاب عنها بعض الأعاظم “ره” بما ملخصه: إن بين قوله: وهو صائم. وبين قوله: قد أفطر. تهافت بحسب الفهم العرفي حيث أن مقتضى الأول عدم المبطلية بينما مقتضىالثاني المبطلية[15]. وفيه: إن التهافت المذكور مبني على حمل كل من اللفظين على ظاهره لكن الظاهر أن كل واحد منهما قرينة على الآخر فيكون مفاد الخبر هو الإشارة إلى نفي الكمال، بيان ذلك: إن السائل سأله “ع” عن الكذب في شهر رمضان فأجابه “ع” بأنه مع عدم مانعية هذا العمل للصوم إلا أنه منافٍ للكمال فقوله “ع” وهو صائم إخبار بنفي المانعية وقوله: أفطر وعليه قضائه. إشارة إلى أن ماصدر منافٍ لكمال الصوم. فحينئذٍ لا تناف ولا تناقض بحسب المتفاهم العرفي بين الصدر والذيل.
فتحصل أن الأظهر كون الكذب على الله ورسوله والأئمة “ع” ليس من المفطرات.
——————————————————————————–
[1] النهاية ص 153.الإنتصار ص 62.شرح جمل العلم والعمل لإبن البراج ص 185.الكافي للحلبي ص 179.الغنية من الجوامع الفقهية ص 571.
[2] الدروس ج 1 ص 274.
[3] جمل العلم والعمل ص 54.المختلف ص 218.السرائر ج 1 ص 376.المعتبر ج 2 ص 671.التذكرة ج 6 ص 32.المسالك ج 1 ص 70.التنقيح الرائع ج 1 ص 363.المدارك ج 6 ص 46.
[4] المقنعة ص 344.
[5] الكافي ص 179.
[6] الغنية ج 1 ص 138.
[7] السرائر ج 1 ص 377.
[8] الدروس الشرعية ج 1 ص 274.
[9] الوسائل ب 2 من أبواب ما يمسك عنه الصائم ح 1.
[10] المصدر السابق ح 3.
[11] المصدر السابق ح 2.
[12] المصدر السابق ح 4.
[13] مصباح الفقيه ج 14 ص 378.
[14] مستند العروة ج 1 ص 129.
[15] المصدر السابق ص 131.