قال تعالى:- ( وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً)[1].
مدخل:
امتاز الدين الإسلامي في جميع ما تضمنـته تعليماته الشرعية والأخلاقية والتربوية بالوسطية والاعتدال، وهذا أمر جلي واضح لكل من تأمل ذلك، ففي مجال العبادات نجد أن الشريعة الإسلامية السمحاء قد طبقت هذا المنهج بصورة واضحة، من خلال جعل التكاليف الإلهية تدور مدار قدرة المكلف وطاقته على الامتثال والتحقيق خارجاً، يقول سبحانه وتعالى:- (لا يكلف الله نفساً إلا وسعها)، ويقول سبحانه:- (لا يكلف الله نفساً إلا ما أتاها)، بل تضمنت الشريعة رفع التكليف في الموارد الضررية والحرجية، وهذا ليس مورد الحديث عنه.
كذلك لاحظ منهج الوسطية والاعتدال في الجوانب الاقتصادية، عندما يقول سبحانه:- (والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً)[2]، وقوله تعالى:- (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوماً محسوراً)[3]. كما نجد هذا المعنى من الوسطية والاعتدال في الأطروحة الاجتماعية التي يعرضها الشارع الإسلامي، حيث يقول سبحانه:- (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنأن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى)[4].
كما أننا يمكننا رؤية هذا المعنى في النصوص الشريفة الصادرة من المعصومين(ع)، وفي غير مورد.
وعلى أي حال، ليس هذا هو محور حديثنا، بل محوره ينصب في جعل غير واحد من الكتاب أحد الأدلة الدالة على هذا المنهج الإسلامي الوسطي المعتدل، الآية القرآنية التي جعلناها مفتـتح حديثنا، ونحن لا نشك في صحة المنهج الإسلامي المعتدل والقائم على الوسطية كما أشرنا، إلا أن الكلام يقع في صحة الاستدلال لهذه الأطروحة الإسلامية بالآية الشريفة محل البحث وبالتالي هل تصلح دليلاً على إثبات هذا المنهج الإسلامي، أم أن الآية الشريفة أجنبية عن ذلك، لكونها بصدد الحديث عن موضوع آخر لا ربط له بالمنهج الإسلامي القائم على الوسطية والاعتدال.
حتى يتضح أي المحتملين المتصورين في الآية الشريفة لابد من دراستها من خلال بيان المعنى الدلالي لمفرداتها، ومعناها من حيث المجموع.
شرح المفردات الأساسية للآية الشريفة:
وسوف نبدأ بشرح المفردات الأساسية للآية المباركة، وهي تتحد في أربع مفردات: الجعل، الأمة، والوسطية، والشهادة.
الجعل:
وهي أول الألفاظ التي ينبغي بيان حقيقتها، وقد استعمل هذا اللفظ في القرآن الكريم على ما يربوا على مائة وخمسين مورداً، وكان استعماله على نحوين:
الأول: استعماله مجرداً من الإضافة، مثل قوله تعالى:- (جعل الله الكعبة البيت الحرام)[5]، فنلاحظ أنه استعمل من دون أن يضاف إلى شيء.
الثاني: استعماله مضافاً، وفي هذا النحو له صورتان:
الأولى: أن يكون مضافاً إلى ضمير الخطاب، كقوله تعالى:- (ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة)[6]، فقد أضيف الجعل هنا إلى ضمير الخطاب.
الثانية: أن تكون إضافته إلى ضمير الغيـبة، مثل قوله تعالى:- (ولو شاء لجعله ساكناً)[7]، فإضافته هنا إلى ضمير الغائب.
بعد هذا نقول في بيان حقيقته:
ذكروا في بيان المراد منه أنه الإيجاد والخلق والتقدير. لكن بعض الكتاب، ذكر أنه التقدير والتقرير، وجعل الخلق والتكوين متأخر عنه زماناً، أو اعتباراً ولحاظاً.
وعلى أي حال، ينقسم الجعل إلى قسمين:
الأول: الجعل التكويني.
والثاني، الجعل التشريعي.
ونعني بالجعل التكويني: ما لا تتدخل فيه إرادة الإنسان أبداً، بل يكون حتمي التحقق والوقوع. وأمثلته في القرآن الكريم كثيرة، نشير لبعض منها، فلاحظ قوله تعالى:- (وجعل الشمس ضياءً والقمر نوراً)، وقوله تعالى:- (وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة)، وقوله سبحانه:- (وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة)، وقوله عز من قائل:- (ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين)، وكذا قوله تعالى:- (وجعلنا الأرض رواسي).
ونعني بالجعل التشريعي: ما تتدخل إرادة الإنسان واختياره في تحققه على أرض الواقع، ومن أمثلته في القرآن الكريم قوله تعالى:- (فقد جعلنا لوليه سلطاناً)، وقوله تعالى:- (ما جعل أدعياءكم أبناءكم)، وقوله سبحانه:- (والبدن جعلناها لكم من شعائر الله).
ولو أردنا أن نتعرف أن الجعل الوارد في الآية الشريفة من أي القسمين الذين أشرنا لهما، لوجدنا أنه من القسم الثاني، وسيأتي ما يوضح ذلك عند حديثنا عن معنى الوسطية في الآية المباركة، فأنتظر.
الأمـة:
ويقصد بها الجماعة، وتستعمل في الكثير والقليل والأقل، وسيظهر من خلال ما يأتي أنها هنا مستعملة في المعنى الثالث.
الوسط:
ويقصد منه المعتدل، أي بين الجيد والردئ، وهو يستعمل على نحوين:
الأول: أن يكون مضافاً إلى أمر مادي، إما متصل كالأجسام، أو منفصل، كالأعداد، وفي كلا الموردين يكون معياراً لتعيـين الطرفين، فيميز بينهما من خلال عرض الجيد والردئ.
الثاني: أن يكون مضافاً إلى المعنويات، فيكون معياراً لتميـيز مرتبتي الإفراط والتفريط. ولنوضح ذلك بمثال، لقد عرف فلاسفة اليونان الفضيلة بأنها الوسط بين رذيلتين، بمعنى أن هناك تطرفاً في سلوك الإنسان باتجاه التفريط مرة، وأخرى باتجاه الإفراط، مثلاً الشجاعة، وسط بين رذيلتين، بين الجبن والتهور، والكرم، وسط بين رذيلتين، بين البخل والإسراف، وهكذا.
الشهادة:
وتعني العلم بالحضور عند المعلوم ومعاينـته، وللشهادة إطلاقان:
الأول: حضور الشخص موقف القضية وتحمل العلم.
الثاني: حضوره مجلس القضاء لأداء الشهادة التي تحملها.
ثم إن الشهادة قد تكون شهادة النفس وقد تكون غيرها، ولشهود النفس مراتب، فشهود بعضو الباصرة، وبأعضاء السامعة والذائقة والشامة واللامسة، وبالقوة المفكرة، وشهود النفس لنفسه، ولصفاته الذاتية.
معنى الأمة الوسط:
ثم إنه بعد الفراغ عن بيان مفردات الآية الشريفة التي تحتاج بياناً، ينبغي الآن أن يصرف عنان البحث إلى بيان مجموع الآية المباركة وذلك من خلال بيان المقصود من قوله تعالى:- (أمة وسطاً)، وفي ذلك معنيان:
الأول: أن يكون المقصود من الأمة الوسط هو جميع الأمة، من دون استثناء.
الثاني: أن يكون المقصود منها، هو بعض الأمة وليس جميعها.
هذا وقد ذكر أصحاب المعنى الأول، في بيان الآية الشريفة التالي: أن الوسطية في الإسلام تتجلى من خلال أن المسيحية هي دعوة للتجرد والابتعاد عن هذا العالم وقضاياه المادية، وتركز على مجال الأخلاق والترفع عن الشهوات المادية.
وبعبارة موجزة تصب المسيحية رؤيتها على الاعتناء بخصوص الروح، ونسيان الجسد، بل لا ربط لها به أصلاً، فلا تسعى إلا إلى تغذية الروح فقط، وتعمد إلى تلبية رغباتها.
وفي مقابلها وجدت اليهودية، وأتباعها لا يؤمنون بالبعث، بل يعتبرون وجودهم في هذه الدنيا هو الوجود النهائي، وأنه سوف ينـتهي بالموت، ولذا هم يعمدون دائماً إلى تلبية رغبات الجسد، وأداء كافة احتياجاته، فنراهم ينغمسون في مبدأ الشهوات والملذات، وينسون الروح وما لها من احتياجات ووظائف.
وما بين هاتين الرؤيتين، تأتي وسطية الإسلام، ذلك أنها تدعو إلى المزج بين هذين العنصرين، بين عنصر الروح وعنصر الجسد، فكما يدعو الإسلام إلى الاعتناء بالروح وتغذيتها، كذلك يدعو إلى الاعتناء بالجسد وتلبية احتياجاته، ولذا نجد الإسلام يرفض الرهبانية، بل يتضمن الدعوى إلى أن ينال الإنسان نصيـبه من الدنيا كما يستعد للآخرة.
وبعبارة أخرى، يكون معنى الآية على وفق هذا الاحتمال، أن المقصود بالأمة هو عموم الأمة، وذلك لأن الأمم في العالم بين مفرط في الغور في المادة والحس، ويقف عند أسبابها ومسبباتها القانونية، وبين مفرط في جانب الروح ويرجع كل شيء لذلك، وقد جعل الله سبحانه وتعالى الأمة الإسلامية أمة لا تفريط فيها إلى جانب ولا إفراط.
وهذه الرؤية صحيحة كما ذكرنا في مطلع الحديث، وأشرنا إلى أن المنهج الإسلامي هو منهج الاعتدال والوسطية، لكننا نشير إلى عدم دلالة الآية المباركة على ما يرمي له هؤلاء، وذلك لأنه لو كان المقصود من الآية الشريفة جميع الأمة، لكان ذلك يتنافى مع العديد مما جاء في آيات الكتاب المجيد، ولكي يتضح الأمر أكثر نشير إلى ما يمنع من القبول بهذا التفسير للآية الشريفة:
أولاً: لقد صدر من الباري سبحانه وتعالى في كثير من آيات الكتاب ذم لأكثر الأمة، وبعدة صور:
منها: أنهم لا يعقلون.
ومنها: أنهم لا يعلمون.
ومنها: أنهم لا يشكرون.
ومنها: أنهم لا يؤمنون.
ومنها: أن أكثرهم الفاسقون.
ومنها: أكثرهم للحق كارهون، أو يجهلون، وهكذا.
ومن الواضح أن من كان حاله هكذا، لا يمكن أن يكن متصفاً بصفة الوسطية والاعتدال الواردة في الآية المباركة.
ثانياً: إن أصحاب التفسير الأول عمدوا إلى تفسير الآية المباركة مجردين إياها عن المقطع الثاني الوارد فيها، وهو قوله تعالى:- (لتكونوا شهداء على الناس)، إذ أن المقصود من هذا المقطع أن المجعولين أمة وسطاً علة جعلهم كذلك تكليفهم بمنصب إلهي يتمثل في شهادتهم على الناس، والرسول يكون شهيداً عليهم.
لكن ما هي هذه الشهادة في الآية المباركة؟…هل هي شهادة جسمانية تحملاً وأداءً، أم أنها شهادة حضورية معنوية تكون على أعمالا لجوارح والجوانح. الظاهر هو المعنى الثاني، وليس المعنى الأول.
وعلى هذا فسوف تكون الآية الشريفة ناظرة إلى بعض الأمة، وليست جميعها، ومن ثمّ يكون المقصود بالأمة الوسط في الآية الشريفة هي بعضها وليس جميعها، وهو المعنى الثاني في الآية المباركة.
جعل الله الأمة وسطاً:
ثم إنه يتصور جعل الله سبحانه وتعالى الأمة وسطاً على أنحاء:
الأول: أن يكون جعلاً تكوينيا، وقد عرفت فيما تقدم أن حقيقته ما لا يكون للعبد فيه اختيار ولا إرادة، بل هو كسائر المجعولات التكوينية، كقوله تعالى:- (وجعلنا الليل والنهار آيتين)[8].
الثاني: أن يكون جعلاً اجتماعياً تنظيمياً، وهو يتضمن اختيار العبد لكن في الجملة، ومن مصاديقه قوله تعالى:- (وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا)[9].
الثالث: أن يكون جعلاً ناشئاً من كمال العبد في نفسه وكمال علاقته بربه، ومن نماذج هذا القسم قوله تعالى:- (وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لمّا صبروا)[10].
ولا يخفى أن المقصود من الجعل في الآية الشريفة هو القسم الثالث دون الأولين، ذلك لما عرفت من أن الأمة الوسط في الآية تختص ببعض الأمة وليس جميعها، وبالتالي لابد وأن يكون هناك موجب لجعل هذه المجموعة من الأمة بهذه الصفة وتعطى هذه المزية، فما هو الموجب لجعلها كذلك، وبالتالي إعطائها هذه المزية؟…
إن الموجب لذلك سببه كمال العلاقة التي كانت بين هؤلاء وأنفسهم وربهم.
خاتمة:
ثم إنه بعدما تبين لنا أن الأمة الوسط في الآية الشريفة تتحدث عن بعض الأمة وليس جميعها، فمن هم الأمة الوسط.
لقد وردت نصوص عديدة تتحدث عن بيان المقصودين بالأمة الوسط، وهو أهل بيت النبي محمد(ص)، علي وفاطمة والحسن والحسين والأئمة المعصومين من ذرية الحسين(ع)، وأنهم الشهداء على الناس، وهذه الآية الشريفة واحدة الآيات الكثيرة في القرآن الكريم التي تتحدث عن فضائلهم، وتشير إلى مكانتهم، كما أنها واحدة من الأدلة القرآنية التي تشير إلى عصمتهم(ع)، وعصمة الزهراء(ع)[11].
——————————————————————————–
[1] سورة البقرة الآية رقم 147.
[2] سورة الفرقان الآية رقم 76.
[3] سورة الإسراء الآية رقم 29.
[4] سورة المائدة الآية رقم 8.
[5] سورة المائدة الآية رقم 97.
[6] سورة المائدة الآية رقم 48.
[7] سورة الفرقان الآية رقم 45.
[8] سورة الإسراء الآية رقم 12.
[9] سورة الحجرات الآية رقم 13.
[10] سورة السجدة الآية رقم 24.
[11] مصادر البحث: تفسير الميزان، تفسير مواهب الرحمن، تفسير الأمثل، مناهج البيان في تفسير القرآن، مجلة الحياة الطبية العدد الرابع، المعجم في فقه لغة القرآن وسر بلاغته المجلد التاسع، التحقيق في كلمات القرآن الكريم ، التجديد في تفسير القرآن الكريم.