صلاة ليلة الدفن
وهي المعروفة بصلاة الهدية، أو صلاة الوحشة، وقد جرت عادة الكثير من الفقهاء ذكر هذه الصلاة ضمن الصلوات المستحبة، ولا بأس بالإشارة إليها بصورة موجزة.
لا يخفى أنه ليس لهذه الصلاة ذكر في شيء من كتب قدماء الأعلام، فلم يتعرض لها المفيد، ولا المرتضى، ولا الشيخ في شيء من كتبهم، حتى أن الشيخ(ره) لم يذكرها في كتابه المصباح والذي قد أعده لمثل هكذا أعمال من الصلوات المستحبة والزيارات والدعوات.
كما أنها لم ترد في شيء من المصادر الحديثية الأصلية المعتمدة، فلم يذكرها الكليني(ره)، ولم ترد في شيء من كتب الصدوق(ره)، كما لم يتعرض لها الشيخ(ره) في تهذيبه.
والظاهر أن أول ظهور لها كان في عصر السيد ابن طاووس، فقد ذكرها في كتابه فلاح السائل، حذيفة بن اليمان عن النبي(ص).
ثم نقلها ممن بعده الكفعمي صاحب المصباح(ره)، فقد نقلها من كتاب الموجز لابن فهد الحلي، وهو قد نقلها عن النبي(ص). والرواية التي ذكرها في المصباح تغاير الرواية التي ذكرها السيد ابن طاووس، كما سيتضح عند نقل الروايتين.
وقد أوجب خلو المصادر الفقهية والحديثية من الإشارة لهذه الصلاة، توقف بعض الأعلام في مشروعيتها، بل جزمه بكونها من الموضوعات، قال صاحب الحدائق(ره): لكن شرعية هذه الصلاة على هذا الوجه المخصوص من الكيفية والزمان وكمية العدد المشهور فيها، ونحو ذلك لما لم يثبت من طريق أهل البيت(ع)، فهو لا يخلو من احتمال البدعية، وعدم المشروعية، فإن العبادة وإن كانت من حيث كونها عبادة راجحة ومستحبة، لكن لو انضم إلى ذلك أمر آخر من التخصيص بكيفية مخصوصة أو زمان مخصوص أو نحو ذلك من المشخصات مع عدم ثبوت ذلك شرعاً فإنه يكون تشريعاً، ألا ترى أن الأخبار قد استفاضت بتحريم صلاة الضحى، مع كونها صلاة، والصلاة خير موضوع، إلا أنه لما انضم إلى ذلك تخصيص استحبابها بهذا الوقت المخصوص، والعدد المخصوص ونحو ذلك من الخصوصيات مع عدم ثبوت ذلك شرعاً حصلت الحرمة وصارت بدعة، والحكم كذلك في هذه الصلاة مع عدم ثبوت مشروعيتها على هذا الوجه المذكور عن أهل البيت(ع)، واحتمال كون تلك الأخبار من طرق العامة كما لا يخفى.
وكيف ما كان، فقد ذكر السيد اليزدي(ره) في كيفيتها صورتين:
الأولى: أنها ركعتان، يقرأ في الأولى بعد الحمد آية الكرسي إلى قوله تعالى:- (هم فيها خالدون)، وفي الثانية بعد الحمد سورة القدر عشر مرات، ويقول بعد السلام: اللهم صل على محمد وآل محمد، وابعث ثوابها إلى قبر فلان، ويسمي الميت.
الثانية: أنها ركعتان، يقرأ في الركعة الأولى بعد الفاتحة سورة التوحيد مرتين، وفي الثانية بعدها يقرأ التكاثر عشر مرات.
وقد استند الأعلام في مشروعية الصلاة المذكورة إلى خبرين، مع أن دلالتهما على ذلك محل تأمل، بل منع، لو رفعت اليد عن المناقشة السندية فيهما، والخبران هما:
أحدهما: ما رواه الكفعمي في المصباح، وفي موجز ابن فهد مرفوعاً للنبي(ص)، قال النبي(ص): لا يأتي على الميت أشد من أول ليلة فارحموا موتاكم بالصدقة، فإن لم تجدوا، فليصل أحدكم يقرأ في الأولى الحمد وآية الكرسي، وفي الثانية الحمد والقدر عشراً، فإذا سلم قال: اللهم صل على محمد وآل محمد، وابعث ثوابها إلى قبر فلان. فإنه تعالى يبعث من ساعته ألف ملك إلى قبره مع كل ملك ثوب وحلة.
وهي ضعيفة سنداً بالرفع، ولا جابر لها من عمل المشهور، نعم يمكن الاستناد إليها بناء على تمامية قاعدة التسامح في أدلة السنن، وقد قرر في محله المنع من ذلك، خلافاً للمشهور.
على أنه لو رفعت اليد عن المناقشة السندية، فإنها أجنبية عن المدعى، ذلك أن المدعى أداء صلاة ليلة الوحشة، أو ليلة الدفن، من دون تقيـيد بشيء، والخبر المذكور يعلق مشروعية الإتيان بها على فقدان الصدقة، ما يعني أنه حال التمكن منها لن تكون الصلاة المذكورة مشروعة، لأن ظاهر النص وجود طولية بينهما.
ثانيهما: ما رواه السيد ابن طاووس في فلاح السائل، عن حذيفة بن اليمان، قال: قال رسول الله(ص): لا يأتي على الميت ساعة أشد من أول ليلة، فارحموا موتاكم بالصدقة، فإن لم تجدوا فليصل أحدكم ركعتين: يقرأ في الأولى بفاتحة الكتاب مرة، وقل هو الله أحد مرتين، وفي الثانية فاتحة الكتاب مرة وألهاكم التكاثر عشر مرات، ويسلم ويقول: اللهم صل على محمد وآل محمد، وابعث ثوابها إلى قبر ذلك الميت فلان ابن فلان، فيبعث الله من ساعته ألف ملك إلى قبره مع كل ملك ثوب وحلة، ويوسع في قبره من الضيق إلى يوم ينفخ في الصور، ويعطي المصلي بعد ما طلعت عليه الشمس حسنات، وترفع له أربعون درجة.
وما سبق ذكره في الرواية الأولى جارٍ في هذه الرواية أيضاً، فإنها ضعيفة السند، ولا جابر لضعفها، كما أن دلالتها ليست على وفق المدعى والمتداول، فإنها تعلق مشروعية الصلاة على فقدان الصدقة، فتأمل.
نعم كما ذكر في الخبر الأول، يقال هنا أيضاً بأنه لو تمت قاعدة التسامح، أمكن البناء على استحبابها.
وقد تضمن الخبر الثاني بياناً لكيفية مغايرة لما تضمنه الخبر الأول، وهذا يعني البناء على التخيـير فيمكن للمكلف أن يأتي بأي الصيغتين المذكورتين، وجعل صاحب العروة(ره) الجمع بين الكيفيتين أولى. ووجهه واضح لأنه عمل بالخبرين معاً.
بل قيل أنه يمكن الجمع بين الكيفيتين في صلاة واحدة، استناداً لأمرين:
الأول: أنه لم يرد في أي من النصين المتضمنين لبيان كيفية الصلاة التقيـيد بهذه الكيفية دون الكيفية الأخرى، وبالتالي يمكن الجمع بين النصين، بنحو الجمع الواوي.
الثاني: التمسك بكبرى كلية مفادها، أنه كل ما كان ذكراً لله سبحانه وتعالى وللنبي الأكرم محمد(ص)، فهو من الصلاة، اعتماداً على صحيحة الحلبي والتي جاء فيها: كل ما ذكرت الله عز وجل به والنبي فهو من الصلاة.
تنبيه:
لقد تضمنت الكيفية الأولى وفقاً لرواية الكفعمي أن يقرأ في الركعة الأولى بعد الفاتحة، آية الكرسي، وقد حددها السيد اليزدي(ره) بقوله تعالى:- (هم فيها خالدون) عند تعرضه لاستحباب الصلاة المذكورة، مع أنه عند حديثه عن المستحبات التي تعمل بعد الدفن، ذكر أن تقرأ إلى قوله تعالى:- (هم فيها خالدون) على الأحوط وجوباً. وفي مستحبات الاحتضار ذكر أنها تقرأ عند المحتضر، ونص على أنها ثلاث آيات، تنتهي عند قوله تعالى:- (هم فيها خالدون).
وعلى كل حال، فإن المطلوب منه أن يقرأ آية الكرسي وآيتين بعدها.
ولا يخفى أنه لو رجع إلى علماء اللغة، وإلى علماء التفسير، فإنهم يصرحون بأن المقصود من آية الكرسي هي خصوص الآية التي اشتملت على كلمة الكرسي، ولا يشمل ذلك الآيتان بعدها. بل ذكر الشيخ الطبرسي(ره) في المجمع ما يوجب تحديدها في خصوص الآية التي ذكرنا، حيث قال بأن عدد كلمات آية الكرسي خمسون كلمة، وهذا لا ينسجم إلا مع الآية التي تضمنت كلمة الكرسي، وأنها تنتهى عند قوله تعالى:- (وهو العلي العظيم). بل إن هذا هو مقتضى تسميتها بذلك، لأن الظاهر أن منشأ ذلك يعود لملاحظة الآية التي تشتمل على لفظة الكرسي نظير التعبير بآية النور، وآية النفر، وما شابه ذلك. بل ذكر بعض الأعلام(ره) أن ذلك هو مقتضى الجمود على التسمية بآية الكرسي.
ويساعد على ذلك أنه يرد القول بقراءة آية الكرسي وآيتين بعدها، ففي كشف اللثام، قال: روي أن يقرأ عند النـزع آية الكرسي وآيتان بعدها. وواضح أن المقصود بالآيتين بعدها الآيتان التي تليها في سورة البقرة. وقد ورد الأمر بقراءتها وقراءة آيتين بعدها في ثواب الأعمال.
ولا يخفى أن مقتضى الأصل عند الشك في أنها ثلاث آيات أم آية واحدة، فسوف يبنى على أنها آية واحدة، لأن مقتضى الأصل عند الدوران بين الأقل والأكثر هو البناء على الأقل.
نعم قد يقال بأنه ورد تحديدها بالآيات الثلاث وأنه يطلق عليهن جميعاً آية الكرسي، استناداً لما ورد في بيان كيفية صلاة المباهلة، الصادق(ع) أنه قال: من صلى في هذا اليوم، يعني الاربع والعشرين من ذي الحجة، ركعتين قبل الزوال بنصف ساعة شكراً لله على ما من به عليه وخصه به، يقرأ في كل ركعة أم الكتاب مرة واحدة وعشرات مرات(قل هو الله أحد)، وعشر مرات آية الكرسي إلى قوله:- (هم فيها خالدون)، وعشر مرات (إنا أنزلناه في ليلة القدر)، عدلت عند الله مائة ألف حجة، ومائة ألف عمرة، ولم يسأل الله تعالى حاجة من حوائج الدنيا والآخر إلا قضاها له كائنة ما كانت، إن شاء الله.
ولا يخفى ما فيه، فإن قوله(ع): يقرأ آية الكرسي، إلى قوله تعالى:- (هم فيها خالدون)، لا يعني أنها ثلاث آيات، بل هو ظاهر في كونها آية واحدة، إلا أن المطلوب القراءة إلى نهاية الآية الثالثة، لا أنها تنتهي عندها، فتأمل.
وبعبارة ثانية، إن الصادر منه(ع) تحديد لما يقرأ في الصلاة المذكورة، وليس بياناً لآية الكرسي وأنها تبدأ من هنا وتنتهي هناك، وعليه لا ربط للخبر المذكور بالمدعى.
وقد يتمسك لإثبات أنها ثلاث آيات تنتهي عند قوله تعالى:- (هم فيها خالدون)، بما روي عن الإمام زين العابدين(ع)، فقد ورد عن الإمام الصادق(ع) أنه قال: كان علي بن الحسين(ع) يحلف مجتهداً أن من قرأها قبل زال الشمس سبعين مرة فوافق تكملة سبعين زوالها غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فإن مات في عامه ذلك مات مغفوراً غير محاسب:- (الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى عالم الغيب والشهادة فلا يظهر على علمه أحداً من ذا الذي يشفع عنده-إلى قوله(هم فيها خالدون). فقد تضمنت النص على أنها ثلاث آيات فيثبت المطلوب.
وهو ممنوع، لأن المذكور ليس آية الكرسي وما بعدها، بل هو كلام مختلف تماماً، ولذا عبر بعضهم بأن تقرأ تارة على التنـزيل، وهو يشير إلى ما جاء في القرآن الكريم، وتقرأ على طريقة التأويل إشارة إلى هذا الخبر. وهذا يعني أن المذكور ليس آية الكرسي، فلا يصلح الاستناد للخبر المذكور في إثبات المدعى.