قال إمامنا أبو جعفر الباقر(ع): قراء القرآن ثلاثة:
رجل قرأ القرآن فأتخذه بضاعة واستدر به الملوك، واستطال به على الناس، ورجل قرأ القرآن فحفظ حروفه وضيع حدوده، ورجل قرأ القرآن فوضع دواء القرآن على داء قلبه، فأسهر به ليله، وأظمأ به نهاره، وقام به في مساجده، وتجافى عن فراشه، فبأولئك يدفع الله العزيز الجبار البلاء، وبأولئك يديل الله من الأعداء، وبأولئك ينـزل الغيث من السماء، فوالله هؤلاء القراء أعز من الكبريت الأحمر[1].
تمهيد:
يتعرض الإمام الباقر(ع) في هذا الحديث الشريف إلى تقسيم القراء للقرآن الكريم إلى ثلاثة أقسام، وهي:
الأول: من جعل القرآن الكريم وسيلة من الوسائل التي يتكسب من خلالها، فهو الواسطة التي يتحصل من خلالها على لقمة عيشه، فالقرآن عندهم سلعة يتاجر بها، مثله مثل أي بضاعة يتحصل من خلالها على الكسب، وتحصيل الربح، والأجر، والجوائز.
وقد ذكر الإمام(ع) نموذجاً من ذلك، وهو من يستدر الملوك، لتحصيل ذلك، فيقصدهم كي ما يعطى جوائز كونه حافظاً القرآن مثلاً، أو قارئاً له، أو غير ذلك. كما أنه يعمد إلى التفاخر على الناس بقرائته إياه ويستعرض نفسه في هذا المضمار.
ولا ينحصر الاسترزاق بالقرآن الكريم في خصوص من ذكره(ع) بل كما ذكرنا إنما هو نموذج على ذلك، ونرى اليوم كثيرين هم الذين يعمدون إلى المتاجرة بالقرآن الكريم من خلال كتابة العوذ والأوراد والأحراز، أو قراءة القرآن على المياه استشفاءً وما شابه[2].
الثاني: من عمد إلى قراءة القرآن، لكن لم تكن غايته من قراءته الاستفادة المادية منه، بحيث جعله وسيلة يتكسب من خلالها، وإنما عرف للقرآن مكانة أوسع فرأى له أهمية دعته إلى قراءته، لكنه قد اكتفى في هذه القراءة بالظاهر فقط، فعمد إلى حفظه ومراعاة قواعد التجويد فيه، واهتم كثيراً بملاحظة مخارج الحروف، واختلاف القراءات، وما شابه ذلك.
وهذا كما قلنا، حصر فائدته في القرآن الكريم في خصوص جملة من الأمور السطحية القشرية، فلم يوفق للغور في أعماق القرآن الكريم والوصول إلى كنه معارفه ودقائق مخازنه، فهو ممن لا يستفيد منه فائدة معنوية، ولا يترك أي انطباع عليه من الناحية الروحية، وهذا أوجب عنده عدم مراعاة إلى حدود القرآن، فلم يعتنِ بالخير والشر، والسعادة والشقاء.
الثالث: من يقرأ القرآن الكريم قراءة حقة، بحيث أصبح له كالبلسم الشافي، والدواء الناجع لعلاج أي الجراحات الموجودة في القلب والروح، فضلاً عن الجسد، فهو شفاء لمرضه الروحي والنفسي، يلتذ به فيسهر معه ليله، ويسقيه فيقضي معه نهاره ظامئاً عن كل شيء سواه.
هو خليله في مسجده، ومسليه عن فراشه، يقوم الليل كله كي يأنس به في ظلامه عن كل أحد، لا يشعر بفقد لذة النوم وهو معه، ولا تعب البدن وهو خليله.
ثم إنه(ع) أشار إلى أن القسم الثالث هو القسم الذي ينبغي أن يكون قارئ القرآن منـتمياً إليه دون البقية، وأشار إلى ندرة وجود أصحاب هذا القسم، فأشار إلى أنهم كالكبريت الأحمر، فهم عزيزو الوجود، لهم عند الله سبحانه وتعالى وجاهة ومكانة، إذ أنه بهم يدفع الله تعالى البلاء، كما أنه بهم يديل الله سبحانه الأعداء، وبهم أيضاً ينـزل الغيث من السماء.
ثم إننا وقد تعرفنا أقسام القراء من بين الناس، فمن أين انطلق الإمام الباقر(ع) في هذا التقسيم، فهل أنه انطلق من خلال تعامل الناس مع القرآن الكريم، وكيفية تعاطيهم معهم، بحيث أن هناك من يتعاطى معه بالقسم الأول، وهناك من يتعاطى معه بالقسم الثاني، وهناك من يتعاطى معه بالقسم الثالث؟…
الصحيح أن هذا التقسيم لم ينطلق من هذه الناحية، بل الظاهر أنه(ع) أراد من خلال عرضه التقسيم المذكور الإشارة إلى نقطة أبعد، وهي مقدار معرفة الناس بالقرآن، والظاهر أن ذكره الأقسام الثلاثة إنما هو إشارة إلى مقدار ما يملكه كل واحد من أصحاب الأقسام الثلاث من معرفة بالقرآن الكريم، فوفقاً لما يعرفه أصحاب القسم الأول يعتقدون أن قدسية القرآن الكريم تحصل من خلال الاسترزاق به، والتفاخر به على الناس.
أما القسم الثاني، فيعتقد أن تمام معرفة القرآن الكريم تحصل من خلال حفظه، وجودة تجويده، وإبعاد الغبار عنه، وجعله في خزانة منمقة، ومتى ما رآه قبله ووضعه على رأسه وما شابه.
وهذا بخلاف أصحاب القسم الثالث، فإنهم لما عرفوا القرآن الكريم معرفة تامة كان لذلك أكبر الأثر على نفوسهم، ولذا جعلوه الوسيلة إلى شفاء كافة الأمراض وعلاج الأرواح.
إذاً التقسيم السابق نشأ من خلال مقدار المعرفة الموجودة كل واحد من هؤلاء.
معرفة القرآن ضرورية:
ولعمري أن معرفة القرآن الكريم ضرورية لكل أحد من المؤمنين، خصوصاً مع الالتفات إلى أنه أحد أبرز الأدلة والوسائل التي يتم من خلالها إثبات نبوة نبي الرحمة محمد(ص)، كما أنه طريق إلى إثبات وحدانية الباري سبحانه وتعالى، فضلاً عن وجوده.
ولا ينحصر الأمر في خصوص المسلمين، بل إن معرفته تغني وتـثري جميع الباحثين، وذلك لما ينطوي عليه من نظريات في علم الاجتماع، ونظريات في علم الاقتصاد، وغير ذلك.
نعم تكون معرفته ذات أهمية أوسع في الوسط الإسلامي، لكونه دستورهم السماوي الخالد الذي جاء يحمل لهم سعادة الدنيا والآخرة.
يقول أمير المؤمنين(ع) في وصف للقرآن الكريم: ثم أنزل عليه الكتاب نوراً لا تطفأ مصابيحه، وسراجاً لا يخبو توقده، وبحراً لا يدرك قعره، ومنهاجاً لا يضل نهجه، وشعاعاً لا يظلم ضؤوه، وفرقاناً لا يخمد برهانه، وتبياناً لا تهدم أركانه، وشفاء لا تخشى أسقامه، وعزاً لا تهزم أنصاره، وحقاً لا تخذل أعوانه.
فهو معدن الإيمان وبحبوحته، وينابيع العلم وبحوره، ورياض العدل وغدرانه، وأثافي الإسلام وبنيانه، وأودية الحق وغيطانه، وبحر لا ينـزفه المستنـزفون، وعيون لا ينضبها الماتحون، ومناهل لا يغيضها الواردون، ومنازل لا يضل نهجها المسافرون، وأعلام لا يعمى عنها السائرون، وآكام لا يجوز عنها القاصدون.
جعله الله رياً لعطش العلماء، وربيعاً لقلوب الفقهاء، ومحتج لطرق الصلحاء، ودواء ليس بعده داء، ونوراً ليس معه ظلمة، وحبلاً وثيقاً عروته، ومعقلاً منيعاً ذروته، وعزاً لمن تولاه، وسلماً لمن دخله، وهدى لمن ائتم به، وعذراً لمن انتحله، وبرهاناً لمن تكلم به، وشاهداً لمن خاصم به، وفلجاً لمن حاج به، وحاملاً لمن حمله، ومطية لمن أعمله، وآية لمن توسم، وجُنة لمن استلام، وعلماً لمن وعى، وحديثاً لمن روى، وحكماً لمن قضى.[3]
هل يمكن معرفة القرآن:
الآن وقد عرفنا ضرورة معرفة القرآن، لكنه هل يمكن معرفة القرآن الكريم لكل أحد، بحيث يتمكن من ذلك، أم أن معرفته أمر غير ممكن، فليس لأحد أن يتمكن من ذلك، أم أن معرفته ممكنة، لكنها ليست لكل أحد، بل هي مختصة بفئة من الناس دون البقية؟…
هناك نظريتان بين المسلمين في هذه المسالة:
النظرية الأولى: وهي التي تقوم على أساس إنكار فكرة إمكان معرفة القرآن الكريم، فليس لأحد أن يصل إلى معرفته، والإحاطة بكنه دقائقه ومضامينه ومعانيه.
وتتشعب هذه النظرية إلى اتجاهات:
الاتجاه الأول: وهو اتجاه الأشاعرة.
الاتجاه الثاني: وهو اتجاه الصوفية.
الاتجاه الثالث: وهو اتجاه الإسماعيلية.
الاتجاه الرابع: وهو اتجاه الإخباريـين من أصحابنا.
فالأشاعرة، هم الذين يعتقدون أن معرفة القرآن الكريم ليست عملية التدبر فيه، وإنما تنحصر معرفته في خصوص فهم المعاني اللفظية لآياته، فيقتصر على ما فهم من ظاهر الآيات، ولا يسعى إلى معرفة واقعها.
وقد نتج عن هذه السطحية في المعرفة-لو صح تسميتها بمعرفة-وقوعهم في جملة من الانحرافات العقدية على سبيل المثال، فنسبوا الباري سبحانه وتعالى إلى التجسيم فحكموا بكونه جسماً، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
كما وقعوا في أن من كان في هذه أعمى، فهو في الآخرة أعمى أيضاً دونما فرق بينهما.
وبمقدار ما عمدت الأشاعرة إلى التعامل مع الألفاظ القرآنية وحصره فيها، قام المتصوفة والإسماعيلية بالعمد إلى التأويلات الباطنية، فجيروا القرآن الكريم لما يكون خادماً لمصالحهم وأهوائهم الشخصية، ولذا كثرت عندهم التفسيرات الباطنة للآيات الشريفة.
ولا يخفى على أحد أن هذه الفرق الثلاث بهذه الكيفية تمنع من ثبوت معرفة القرآن الكريم، والاستفادة منه.
أما أصحابنا من الإخباريـين، فإنهم أيضاً التـزموا بعدم إمكانية معرفة القرآن الكريم، وقالوا بأنه لا يمكن لأحد أن يعرف القرآن إلا خصوص من خوطب به، ولذا هم يخصون التعامل معه في حدود ورود نص من المعصوم(ع)، فما لم يرد من المعصومين(ع) نص في تلك الآية، فإنها يرد علمها إلى أهلها، وليس لأحد أن يعمد إلى بيانها، وتفسيرها، واستفادة شيء منها.
وقبل أن أعرض لأدلة الإخباريـين، أود أن أشير إلى أن هذا أيضاً من المنع من معرفة القرآن الكريم، بل هو صريح في عدم إمكانية معرفة القرآن الكريم لكل أحد، إذ سوف تحصر معرفته على خصوص المعصومين(ع)، ولا يتعدى منهم إلى غيرهم، نعم يمكن للمؤمنين التعرف على القرآن، ولكن من خلال ما ورد عنهم(ع) تفسيراً وبياناً له.
أدلة الإخباريـين:
وعلى أي حال، فقد علل الإخباريون دعواهم عدم إمكانية معرفة القرآن الكريم لكل أحد، وحصر ذلك على خصوص المعصومين(ع)، بجملة من العلل والأدلة جعلوها إثباتاً لمدعاهم، ولنشر إلى شيء منها:
منها: أن القرآن الكريم مشتمل على معاني شامخة لا يصل إليها إلا الأوحدي من الناس، وهذا يمنع من كون معرفته متيسرة لكل أحد، بل سوف تكون مختصة ببعض الأفراد.
وهذا الدليل بعد التسليم بقبوله والالتزام بوجود جملة من الأمور التي في القرآن الكريم لا يتسنى لكل أحد فهمها، إلا أن ذلك لا يعني عدم إمكانية استيعاب ما تبقى، ضرورة أن القرآن المجيد يحتوي على جملة من الأحكام والقصص والأخلاق، وهذا يمكن لكل أحد فهمه، سواء الأوحدي أم غيره.
ومنها: إننا نعلم إجمالاً بأن القرآن الكريم يحتوي على جملة من العمومات، وأخرى من المخصصات، وجملة من المطلقات، وأخرى من المقيدات، وإذا كان الحال هذا فكيف يمكن لكل أحد أن يعمل بالقرآن الكريم، وهو لا يملك الدراية بعموماته، ومخصصاته، ومطلقاته ومقيداته.
ولا يخفى أن هذا العلم الإجمالي بوجود ما ذكر يعالج من خلال المراجعة للنصوص الشريفة، حيث أننا إذا رجعنا إليها وظفرنا بما يظفر به فيها من هذه الأمور كان ذلك موجباً لحل هذه العلم الإجمالي ورفع اليد عنه، وبالتالي تبقى إمكانية الاستفادة من القرآن الكريم ومعرفته لكل أحد باقية على حالها.
ومنها: ما ورد من النهي عن تفسير القرآن الكريم بالرأي، وهي نصوص متواترة قطعية الصدور، ومن الواضح أن من التفسير بالرأي حمل اللفظ على المعنى الظاهر إذا لم تقم قرينة مخالفة على ذلك الحمل، فيكون مشمولاً لما ورد من النهي عن التفسير بالرأي، فيثبت المطلوب.
ويمكن الجواب عن هذا الوجه بعدة أجوبة:
أولها: إن هناك فرقاً بين التفسير وبين حمل اللفظ على معناه الظاهر ما لم يكن هناك قرينة على خلافه، ضرورة أن الحمل لا يسمى تفسيراً، لأن التفسير كما هو معلوم مشتق من سفر، وهو رفع القناع عن وجه المراد، ولا يخفى أن اللفظ الظاهر لا قناع له، نعم ما يكون من الألفاظ مجملاً أو متشابهاً، فإنه يحتاج إلى سفر ورفع القناع عنه.
ثانياً: لو سلمنا جدلاً بكون بيان المعنى الظاهر من اللفظ يعدُّ تفسيراً، إلا أننا نمنع من كونه تفسيراً بالرأي، ضرورة أن التفسير بالرأي عبارة عن أخذ موقف خاص في المسألة، وبعضها يتم التفحص عن دليله ومدركه، ثم بعدها يعود المفسر ليقوم بعملية تطبيق القرآن الكريم على رأيه السابق، وهذا يعني أن هدفه إنما هو تصحيح معتقده من خلال تطبيق القرآن الكريم عليه، ومن المعلوم أن هذا أجنبي تماماً عن حمل الآيات الشريفة على ظاهرها عند العرف.
هذا وتوجد أدلة أخرى تمسكوا بها أعرضنا عن ذكرها وحالها كحال ما ذكرناه لا ينهض لإثبات المدعى.
النظرية الثانية: وهي النظرية التي تبناها أصحابنا الإصوليون من شيعة أهل البيت(ع)، وهي النظرية القائلة بإمكانية معرفة القرآن الكريم لكل أحد، وهذا ما تصدقه الآيات القرآنية الشريفة، ودلت عليه النصوص المعصومية المباركة، فلاحظ قوله تعالى:- (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان)[4]، وقوله تعالى:- ( أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها)[5]، وقال عز من قائل:- (كتاب أنزلناه إليك مبارك ليتدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب)[6].
فإن من الواضح أن كون القرآن الكريم كتاب هدى للناس، يستدعي إمكانية التعرف عليه والإحاطة بما جاء فيه لكل أحد متى ما أراد ذلك. كما أن الدعوة إلى التدبر فيه تثبت ما قلناه، وإلا كيف يدعى إلى التدبر فيما لا يمكن الوصول إليه، كما أن الدعوة للتدبر عامة، وليست خاصة.
ويكفينا إلى أن القرآن يمكن معرفته لكل أحد أنه لم يختص في ما جاء فيه بزمان دون زمان، بل نزل القرآن ليكون دستوراً خالداً للبشرية جمعاء إلى أن يرث الله الأرض وما عليها، ومقتضى ذلك قابلية التعرف عليه ومعرفته لكل أحد، وإلا لزم نقض الغرض، ولا ريب في أن التالي باطل، فالمقدم مثله.
أنواع معرفة القرآن:
ثم إنه بعدما أتضح لدينا أن معرفة القرآن الكريم ضرورية، وأنها ممكنة ولكل أحد متى ما أراد ذلك، وهذه المعرفة ليست معرفة مبنية على الهوى والأغراض الشخصية، بل هي مبنية على الموازين المقررة، نحتاج أن نتعرف على أنواع معرفة القرآن، وذلك لأن المذكور في الكلمات أنه عندما يـبحث للتعرف على أمر ما لابد من توفر ثلاثة أنواع من المعرفة، ولنأخذ مثالاً بكتابٍ لمؤلف، فإنه يعتبر للتعرف عليه تحقق ثلاثة أنواع من المعرفة حتى يقال بأنه تم التعرف على الكتاب المذكور، والقرآن الكريم كتاب وأي كتاب، ليس كبقية الكتب، بل هو الدستور السماوي الكافل السعادة للبشرية جمعاء، متى ما عملوا بما جاء فيه، فلابد للتعرف عليه من تحصيل هذه المعارف الثلاث. وتلك المعارف هي:
المعرفة الاسنادية:
وقد تسمى بالمعرفة الانتسابية، ويقصد منها معرفة صحة إسناد الكتاب إلى من نسب إليه، وذلك لأنه ربما نسب كتاب من الكتب إلى مؤلف من المؤلفين، لكنه ليس من مؤلفاته، أو هو مدعى عليه في تلك النسبة، أو لحصول اشتباه مثلاً نسب إليه، فأول ما ينبغي إحرازه عند التعرف على كتاب من الكتب أن تحرز عملية إسناد الكتاب إلى ذلك المؤلف، وصحة انتسابه إليه.
ولنوضح ذلك بمثال: عندنا في المكتبة الشيعية في مجال التفسير مما ألف كتاب تفسير القمي لشيخنا الجليل علي بن إبراهيم القمي(ره)، وقد نص أعلام الفهارست على أن من مؤلفاته هذا الكتاب.
وتوجد اليوم نسخة من كتاب تفسير ينسب لعلي بن إبراهيم القمي، فهل أن هذه النسخة الموجودة الآن هي كتابه، كتاب التفسير، فيصح نسبته وانتسابه إليه، أم أنها ليست كذلك؟…
لابد لمعرفة ذلك من ملاحظة عدة جوانب، كنسخ الكتاب، وتاريخ التأليف، والمادة التي تضمنها الكتاب، والطريقة المتبعة في زمان المؤلف في تأليف الكتاب، وأمثال ذلك حتى نستطيع التقرير بعد ذلك، فنصحح نسبة الكتاب لمؤلفه من عدمها، فإن جميع ما ذكر يعدُّ وسائل يمكن الاعتماد عليها في التعرف على صحة انتساب الكتاب إلى مؤلفه من عدمها.
والحاصل، إن أول عمل ينبغي القيام به في طريق معرفة كتاب، أي كتاب كان تحصل من خلال إحراز صحة إسناد الكتاب وانتسابه إلى مؤلفه.
المعرفة التحليلية:
وتتمحور هذه المعرفة في التعرف على الموضوعات التي احتواها الكتاب، ومعرفة الهدف الذي ألف من أجله، والأسلوب الذي تم من خلاله عرض مواضيعه، فهل أنه أتخذ الأسلوب الفلسفي العقلي، أو أنه استعمل الأسلوب الاجتماعي النفسي، أم غير ذلك.
وقد يلحظ أيضاً المنهج الذي تعاطى معه المؤلف في تحليله للقضايا، فهل كان منصفاً أم كان أحادي الرؤية والتفكير والمنهج، أم أنه عمد إلى الاستفادة من العقل الجمعي، أم غير ذلك.
المعرفة الجذرية:
ويقصد بها أن المادة التي تضمنها الكتاب مستقاة من أفكار المؤلف خالصة منه ومن عند نفسه، أم أنه قد اعتمد فيها على الاستفادة من كتب أخرى، وبالرجوع إلى مؤلفات مؤلفين آخرين.
وهذه المعرفة إنما تحصل بعد الإحاطة بالمعرفة التحليلية للكتاب، فحينئذٍ يقرر أن ما تضمنه الكتاب من موضوعات ما هو مصدرها وكيف تم التحصل عليها[7].
الأنواع الثلاث والقرآن الكريم:
وعندما نود التعرف على القرآن الكريم، نحتاج إلى ملاحظة الأنواع الثلاثة حتى نتمكن حينها من التعرف على القرآن الكريم، وإنما يتم ذلك من خلال إحراز وجودها، بحيث أننا إذا تمكنا من إحرازها استطعنا حينئذٍ أن نقرر أنه يمكننا التعرف على القرآن حينئذٍ.
وعندما نعمد للبحث في إحرازها فإننا نجد، أننا في غنى عن البحث عن النوع الأول من المعرفة وهو المعرفة الاسنادية الانتسابية، ضرورة أنه لا يشك أحد في كونه من عند الله سبحانه وتعالى، قال تعالى:- (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً)[8]، ووفقاً لما نعتقده من صحة النسبة، سوف نستغني عن البحث في صحة دعوى النقص أو التحريف، كما أننا لا نحتاج إلى متابعة نسخه، وملاحظة أقدمها ومدى تطابقها مع بعضها البعض، وذلك لأن القرآن ومنذ نزوله أول مرة وطيلة ثلاث وعشرين سنة، تسابق المسلمون على حفظه والعناية به، وما رحل رسول الإنسانية(ص) عن عالم الدنيا إلا وقد جمعه ورتبه على وفق أمر الله سبحانه، فبقي محفوظاً يتناوله الأبناء من الآباء، وسيـبقى-إن شاء الله-حتى يرث الله الأرض وما عليها.
ولا يخفى أن هناك عاملاً أساسياً ساعد على بقاء القرآن، وهو ما أمتاز به من ناحية فنية قوية وأدبية، وهو ما يعبر عنه بالفصاحة والبلاغة، فكانت عاملاً أساسياً في أن يـبادر المسلمون إلى تلقيه وحفظه وشربه، بل حتى غيرهم أيضاً.
وعند الحديث عن المعرفة التحليلية للقرآن الكريم، فإننا نحتاج أن نقف للحظة للبحث ضمن أمرين:
الأول: في بيان الهدف من نزول القرآن الكريم، ومدى تطابق الهدف مع المادة التي تضمنها الكتاب المذكور.
الثاني: ملاحظة الموضوعات التي تضمنها القرآن الكريم، وكيفية التعاطي مع القضايا الخارجية، ومعالجتها، خصوصا مع ما نعتقده نحن المسلمين من أن القرآن قد نزل لعلاج كافة القضايا المرتبطة بالأمة البشرية.
ومن المعلوم أن معرفة هذين الأمرين، كفيلة بإثبات أن القرآن ليس من المخترعات البشرية، إذ أنه قد جاء بما يفوق القدرة البشرية، وتضمن ما لم يصل إليه العقل البشري بعد، فضلاً عن إدراكه.
ولعمري أن هذا بمفرده يحتاج إلى بحث مستقل، حتى يتمكن الإنسان من التعرف على الموضوعات التي تضمنها القرآن الكريم، وكيفية التعاطي معها، بعد الإحاطة من الهدف الذي نزل القرآن الكريم من أجله.
وأخيراً المعرفة الجذرية، فإنه بعد أتضح لدينا أن القرآن الكريم كتاب إلهي، وأنه فوق القدرة البشرية، فلا مجال بعد ذلك لأن يقال بأن ما تضمنه من أمور مستقاة من شخصية كان يتلقى منها النبي الأكرم محمد(ص) التعليم، وكانت تقوم بالإملاء عليه فيما يلقيه للناس، فلا ورقة بن نوفل ولا أمثاله، أو من هو أفضل منه قدير على أن يأتي بما جاء به القرآن الكريم، وهذا يعني أنه هذه المضامين التي جاءت فيه ليس من اختراع بشر حتى لو كان رسول الله(ص)، وإنما هي متلقاة من خلال الوحي الأمين عن الله سبحانه وتعالى.
ختام:
وفي نهاية المطاف، نحتاج إلى التعرف على القرآن الكريم، ونحن وإن كنا في غنى عن نوعين من أنواع المعرفة، لكننا بحاجة إلى معرفة النوع الثالث، فإننا لا نحتاج إلى المعرفة الاسنادية، حيث لا يشك أحد من المسلمين في صحة انتساب القرآن الكريم لله سبحانه، كما أننا لا نشك أيضاً في أن جميع ما جاء في القرآن الكريم موحى إلى الرسول الكريم محمد(ص) بواسطة الوحي الأمين، لكننا نحتاج إلى تحصيل النوع الثالث والأخير من أنواع المعرفة، فإننا لا نملك في هذه الناحية شيئاً عن القرآن الكريم، ولو عرفنا شيئاً من ذلك فإنه لا يعدّ في ميزان المعرفة ذا قيمة، ولعل هذا هو الذي أراده إمامنا الباقر(ع) في تقسيمه للقراء في الحديث الذي أفتـتحنا به المقام، وقد أشرنا لذلك فيما مضى، فإن أصحاب القسم الثالث، إنما كانوا كذلك وفقاً لامتلاكهم المعارف الثلاث للقرآن الكريم.
——————————————————————————–
[1] الخصال ب الثلاثة ح 164.
[2] لا نمانع من أن يستفاد من القرآن الكريم في جميع هذه الأمور، لكننا لا نرضى أن يتخذ القرآن فقط من أجل هذه الأمور ويكون وسيلة للكسب ببسبها، فلاحظ.
[3] نهج البلاغة الخطبة رقم 196.
[4] سورة البقرة الآية رقم
[5] سورة محمد الآية رقم 24.
[6] سورة ص الآية رقم 29.
[7] مفاهيم إسلامية -بتصرف-
[8] سورة النساء الآية رقم 82.