تجديد الخطاب الديني
تمثل ولادة النبي الأكرم محمد(ص) ولادة للرسالة السماوية الخاتمة لجميع ما سبقها من رسالات، فلا رسالة سماوية بعدها، وهذا يعني شمولية هذه الرسالة واستيعابها لكافة الأمور، وتلبيتها لكل ما يحتاجه العنصر البشري، سواء من كان منهم معاصراً للنبي(ص)، أم من سوف يأتي بعده حتى يرث الله الأرض ومن عليها، ويتضح ذلك بالإحاطة بأحد الأهداف التي من أجلها بعث الله تعالى الأنبياء، وأرسل المرسلين، وهو هداية البشر، وإصلاح شأنهم، والأخذ بأيديهم لما فيه خير وصلاح لهم، وهذا لا يكون إلا بتلبية ما يحتاجون إليه.
ومع البناء على الشمولية، والاستيعاب، والقدرة على معالجة كل ما يحتاجه البشر، إلا أنه تتعالى الأصوات بين فينة وأخرى، من جماعة معينة، بالمطالبة بتجديد الخطاب الديني الذي جاء به النبي الأكرم محمد(ص).
ومن الواضح أن الدعوة لهذا المعنى في أحد معانيه، أو معنيـيه، التزام من الداعين له بعدم الشمولية والاستيعاب في الرسالة المحمدية لتلبية احتياجات المجتمعات البشرية، فضلاً عن قدرتها على معالجة ما يستجد عندها من شؤون وقضايا.
ومن المعلوم أن الحديث مع المطالبين بتجديد الخطاب الديني، هو حديث مع من يؤمن بالإسلام ديناً وشريعة، وبالنبي الأكرم محمد(ص) نبياً ورسولاً، وبالقرآن الكريم كتاباً ودستوراً.
وليس الحديث مع لا يتدين بدين، ولا يؤمن برسالة، فضلاً عن التسليم بوجود خالق، وتظهر الثمرة أنه وفقاً لمن حدد مورد النـزاع معه، سوف يمكن الاستدلال عليه بالقرآن الكريم، والسنة الشريفة، وهذا بخلاف لو كان الحديث مع أشخاص لا دينيــين، أو لا يؤمنون برسالة محمد(ص)، فلن يتسنى لنا الاستناد للآيات القرآنية، فضلاً عن النصوص الشريفة.
حقيقة تجديد الخطاب الديني:
ويلزم قبل البدء بعرض ما يذكر حول هذا الأمر، وملاحظة ما يجعل برهاناً أو وجهاً من تحديد الموضوع الذي يدور الحديث حوله، وهو تجديد الخطاب الديني، فإن المقصود منه المعنى اللغوي لكل واحدة من مفرداته، وليس المقصود منه حقيقة أخرى متصورة في المقام، فالتجديد يعني إعادة الصياغة، والإبداع أو الابتكار، والخطاب يعني وسيلة التواصل، والديني، أي ما يكون مرتبطاً بالدين، وعليه يكون المطلوب في المقام، هو إيجاد وسائل جديدة مغايرة للوسائل المعروفة والقوانين الموضوعة في الخطابات الدينية، تغاير ما كان موجوداً من قبل.
رؤيتان في الدعوة لتجديد الخطاب:
ربما يقف القارئ على وجود رؤيتين متباينتين من حيث النتيجة، بل والطريق أيضاً في محل النـزاع، وهي تجديد الخطاب الديني، فإن ما تدعو له الأولى منهما يباين ما تنادي به الثانية، كما سيتضح.
الرؤية التنموية التطويرية:
يؤمن أصحاب هذه الرؤية بأهمية القوانين الصادرة من الشارع المقدس، ولذا لا يطلبون تغيـير شيء منها، لعقيدتهم الراسخة بأنها صالحة لكل زمان ومكان، إلا أنهم يأخذون على طريقة عرض القوانين الموجودة أنها ليست بالمستوى المطلوب، ذلك أنها لا تبرز الصورة الناصعة والواضحة لها، فضلاً عن أنها تجعلها جوفاء محدودة الاستفادة، فلا يمكن الاستفادة منها في ظل التطور والتقدم الحضاري والتكنولوجي في أوساط الحياة البشرية. ولذا يطالب أصحاب هذه الرؤية بإعادة النظر في طريقة العرض والبيان، ومحاولة القراءة لمادة التشريعات بنحو يجعل عنصر الاستفادة منها وتطبيقه على واقع الحياة البشرية أكثر نفعاً وفائدة، ولنشر لبعض الأمثلة المساعدة على ما ذكر:
1-قراءة السيرة النبوية:
إن الطريقة التي لا زالت متبعة لعرض السيرة المباركة لنبي الرحمة محمد(ص)، وقصرها على بيان الحدث التاريخي من دون تحليل، أو تعميق لما يحويه ذلك الحدث، فضلاً عن عدم العمد لمحاولة استنطاقه، واستخراج ما يحويه من حيثيات وموضوعات، يجعل السيرة المحمدية ليست بالنحو الذي تأمله الأمة لتستفيد منه في واقعها الحياتي، بل يجعلها صورة مغايرة لواقع الحياة الإنسانية، فلا يمكن للمجتمع الإنساني أن يستفيد منها.
وهذا بخلاف ما لو عمد إلى إعادة القراءة للسيرة المباركة، فأخذ في النظر جوانب متعددة في سيرته الشريفة، ينبغي التركيز عليها:
منها: البعد الحقوقي، والذي عمد فيه(ص) إلى تأسيس أسس وقواعد انسانية في كيفية التعامل مع الآخر، سواء كان ذلك الآخر حراً يوازي الشخص، أم كان عبداً مملوكاً.
وكذا ما أسس له من أبعاد في حفظ حقوق المرأة، والتأكيد على مكانتها، وفعاليتها في وسط المجتمع، وأنه عنصر منتج، وليس مجرد عنصر مستهلك لا يستفاد منه.
ومنها: الأبعاد الإدارية، وذلك بالقراءة التحليلية لدولته الشريفة التي أسسها(ص) في المدينة، وكيف كانت دولة مؤسسات، قامت على مجموعة من القواعد، وتضمنت وضع ضوابط للعمل، وأن لكل واحد مسؤوليته التي يقوم بها، ويؤديها، مع وجود عنصر المتابعة والمراقبة، وهذا يشير إلى نظام الحكم المدني المتبع اليوم في كثير من الدول الوضعية.
ومنها: الجانب التنموي، وهو ما يرتبط بالأبعاد الاقتصادية، وذلك بوضع خطط تتبع في تحصيل الموارد المالية التي تكفل للدولة القيام بواجباتها تجاه المواطنين والمنتمين إليها.
ومن الواضح، أنه لو عرضت السيرة المباركة للرسول الأكرم محمد(ص) بهذه الكيفية على سبيل المثال، كانت مدرسة سيارة أمكن لكل أحد أن يستفيد منها، بل أصبحت حديقة غناء، يمكن لكل من دخلها أن يخرج منها بوردة، بل ورود متعددة.
2-حياة أمير المؤمنين(ع):
وهي ممتلئة الجوانب الجديرة بالوقوف عندها، إلا أنه يركز غالباً على فترة الخلافة الظاهرية التي عاشها في الكوفة، ومع شدة الصراعات الداخلية التي أبتلي بها، إلا أنه قام بمجموعة من الأعمال الريادية في هذا المجال، لكنه لا يسلط الضوء عليها، وعلى رأسها عهده الدستوري لمالك الأشتر(رض)، والذي يعدّ دستوراً وضعياً متكاملاً للدولة، حتى أن الدراسات التي جرت له لا تخرج عن كونها محدودة العدد، والمادة.
3-النهضة الحسينية المباركة:
حيث أن التركيز منصب غالباً على البعد المأساوي، لدرجة أن البعد السياسي فيها، والدور الذي كان يسعى الإمام(ع) للوصول إليه يكاد يكون مغيباً.
وبعيداً عن دوافع التغيـيب، وأن ذلك يعود لوجود إشكالات في البين، أم لظروف التقية التي فرضت ذلك، لأن التجديد وفقاً لهذا الرؤية يقرر الحاجة إلى إعادة النظر في القراءة للنهضة المباركة، والعمد إلى عرضها بنحو ينسجم والواقع الحياتي اليوم، بحيث يستفاد منها بصورة أكبر.
ولا ينحصر الأمر في هذا الجانب، فهذه سيرة الإمام الصادق(ع)، وهي التي امتلأت بالعديد من الفتوحات المعرفية وفي مجالات متعددة من العلوم، بحيث عُدّ(ع) مؤسساً ورائداً للكثير منها، إلا أنه لا نجد عرضاً ولا تسليطاً للضوء عليها.
4-المبادئ الإسلامية العامة:
والتي تمثل الأسس الأصل في أطروحة الإسلام، ويقوم عليها بصورة عامة، مثل مبدأ الحب، والتعاون، والتسامح، وما شابه ذلك، مما يبرز الإسلام على أنه دين محبة وإخاء، وليس دين بغض وكراهية.
ولا يخفى، عدم منافاة هذه الرؤية والإيمان بشمولية الشريعة المحمدية وخاتميتها، لأن المفروض أن طريقة العرض والبيان، وكذا الأسلوب وما يلزم التركيز عليه، ليس أمراً منافياً لذلك أصلاً.
الرؤية التغيـيرية:
وهي التي يطالب أصحابها بتغيـير القوانين الإلهية، وإن تفاوتت مطالبتهم بالتغيـير فيها، إذ ليس جميعهم في دعوتهم المذكورة على حد سواء، بل هم مختلفون في ذلك، كما سيتضح عند عرض أقوالهم.
وعلى أي حال، فقد ذكرت عدة تفسيرات للمقصود من التجديد للخطاب الديني عند أصحاب هذه الرؤية، وقد يؤمن القائلون بكل واحد منها بخصوص ما قالوه دون البقية، وقد يلتـزم آخرون بقبول أكثر من معنى منها، خصوصاً حال وجود جانب تداخل فيها ولو بصورة جزئية.
التغيـير المطلق:
أحدها: وهو الذي يطالب فيه القائلون به بتغيـير شمولي لكافة القوانين الدينية والأحكام الإلهية من دون فرق بين حكم وحكم، حتى قيل أن بعضهم طالب بتغيـير الدين، بل بتغيـير الشمس والقمر، مبالغة منه في الدعوة لرفع كل ما سبق، والإتيان بشيء جديد تماماً.
ولا يذهب عليك، وجود شائبة العلمانية في هذه الرؤية، التي قد تجعل الإنسان خارجاً من الدين، لأن هذه القول لن يخرج عن أحد محتملين أساسيـين:
الأول: تبني الفصل المطلق للدين عن الشؤون الحياتية، وهو ما يعبر عنه بفصل الدين عن السياسة، وهذا يعني عدم قدرة الدين على تلبية الحاجات البشرية، وعجزه عن مواكبة التطور الحياتي.
الثاني: منع الإيمان بالدين، لأنه أصبح أمراً بالياً بعدما تقادمت عليه السنون ومضت عليه الأيام، فما عاد صالحاً.
وكيف ما كان، فقد قرب هذا المعنى على أساس، أنه في ظل التطور العلمي والتقدم المعرفي، لم يعدّ هناك حاجة للدين، فضلاً عن أن يجعل أساساً في كل ما يصدر عن الإنسان. بل قد يتطرف البعض ليقرر أن الدين إنما نشأ من حاجة الشعوب الضعيفة التي أرادت أن تجعل لنفسها شيئاً يجعلها تعيش على أمل، فأدعت وجود دين ينال أصحابه أجراً وثواباً في عالم آخر غير هذا العالم.
وقد انتشرت المقولة المعروفة، إن الدين أفيون الشعوب، لأنه يمثل وسيلة تخديرية يحول دون رقي وتطور المجتمعات.
ووفقاً لهذا القول، سوف يتصدى العنصر البشري لوضع النظم والقوانين التي تكفل السعادة للحياة البشرية، ما داموا لا يرغبون في القوانين والنظم الموضوعة من قبل الله سبحانه وتعالى.
وحتى يكون القول المذكورة تاماً لابد أن يلحظ الشروط المعتبرة في المقنن الذي يتصدى لوضع القانون، وأنه هل يمكن للعنصر البشري مطلقاً أن يقوم بذلك أو لا.
خصائص المقنن:
إن من أهم الأمور التي يلزم توفرها في المقنن المتصدي لوضع القوانين والأنظمة أن يكون مجرداً من الغرائز والرغبات الخاصة، ولا يكون متأثراً بمعتقدات محددة، مضافاً إلى لزوم توفر شروط فيه:
منها: امتلاك الإحاطة والمعرفة التامة بمن سوف يتم وضع النظام والقانون لهم، بحيث يكون على دراية بكل ما يكون مرتبطاً بهم، حتى يكون النظام أو القانون الموضوع منسجماً وما يحتاجون إليه، فواضع القانون للإنسان لابد وأن يكون محيطاً بكل ما يرتبط بالإنسان، ومحيطاً بحقيقته ورغباته، وغرائزه ومعنوياته، كي ما يكون القانون الموضوع من قبله له منسجماً وجميع ذلك.
ومنها: الاطلاع على المتغيرات المرتبطة بالزمان والمكان، والإحاطة بمتطلبات العصر وما يليه من أزمنة، والدراية بكافة التقاليد الموجودة كي ما يتمكن من علاجها من خلال وضع القوانين التي تلبي الحاجة وتستجيب للمستجدات الراهنة واللاحقة.
ومنها: انتفاء وجود أغراض ومتبنيات خاصة عنده دعته إلى وضع القانون وجعل النظام، فلو كان النظام منطلقاً في وجوده من بعض الغايات والأهداف كان فاقداً لصلاحيته لترتيب الأثر عليه.
ولا يذهب عليك أنه لو أمكن الإنسان الإحاطة بالثاني من الأمور المعتبرة في واضع القانون وصار محصلاً للوصف المذكور، إلا أنه لا ريب في انتفاء الأمر الأول عنه، وكونه عاجزاً عن الإحاطة بالإنسان وبطبائعه وغرائزه، وفقدانه الإحاطة بغرائزه ورغباته يجعله فاقداً الأهلية أن يضع له قانوناً شمولياً يعالج جمع ما يحتاجه ويلبي رغباته.
وأما ثالث الأمور، فإن الجزم بأن واضع القانون البشري كان مجرداً من عواطفه وغرائزه ومتبنياته الخاصة مجازفة، يصعب لأحد أن يدعيها. لأن احراز الشخص الذي قد حكم عقله على عواطفه وشهواته ورغباته من الندرة بمكان، وليس ذلك إلا من عصم الله تعالى.
على أنه لابد من الجزم بأن واضع هذا النظم والقانون لم يجعله وفقاً لمعتقداته، وهذا أصعب من سابقيه[1].
وبالجملة، إن الإنسان عاجز عن أن يجعل قانوناً مستجمعاً لما يطلبه العقلاء في القانون الذي يكفل للإنسان حياة سعيدة، وبالتالي يكون ضامناً له تلبية كافة رغباته في كل عصر وحين، وهذا يؤكد عجز العنصر البشري عن ذلك، فيلزم عدم القبول بالدعوة التغيـيرية المطلقة، ولابد من رفع اليد عما ذكر في هذا البيان.
التغيـير الجزئي:
ثانيها: ويقصد منه تغيـير بعض الأحكام الشرعية لتكون متناسبة وملائمة لمتطلبات العصر، لأن مقتضى تقدم الحياة البشرية وتطور الحياة المدنية يستوجب أن تكون بعض الأحكام المجعولة في عصر التشريع غير ملائمة ولا منسجمة مع الواقع الحياتي اليوم، مثلاً بعض الأحكام المرتبطة بالمرأة والتي كانت تفرض عليها بقاءها في المنـزل وعدم خروجها، وكذا مسألة حجابها، لم تعد اليوم صالحة في ظل تحول المرأة إلى عنصر أساس وفاعل في الحياة الاجتماعية والمهنية والاقتصادية، فلابد أن تغير تلك الأحكام المربوطة بهذا الجانب إلى صورة أخرى لتنسجم والواقع الحياتي اليوم.
ويعتمد القبول بهذا وعدمه على الإحاطة بالنكتة التي تجعل التشريعات السماوية عليها، ذلك أن التشريعات المباركة نوعان، قوانين ومقررات:
أما القوانين، فهي التي تكون مجعولة على وفق الفطرة البشرية، والتي تكون منسجمة تماماً مع واقع العنصر البشري، ولذا لا يمكن أن يطرأ عليها أي تغيـير أو تبدل مهما تقدمت الأزمنة وتباعدت الأماكن، وحصل ما حصل من التطور لأن القضية الفطرية باقية على حالها، فلا يتصور أحد أن تكون عاطفة الأب تجاه ولده مختلفة من زمان لآخر، أو من مكان لآخر، وأن يؤثر في ذلك التطور الزمني والتقدم التكنولوجي. وكذا ميل الرجل للمرأة، أو ميل المرأة للرجل.
وهذا يعني أن التشريعات المجعولة من قبل الشارع من خلال ملاحظة البعد الفطري عند الإنسان لا يمكن تغيـيرها أصلاً، لأنها باقية ما دام عنصر الفطرة باقياً.
وأما المقررات وهي التي تجعل وفق مصلحة تقتضي أن تكون، فإن هذه تتدخل فيها مجموعة من العوامل الموجبة لتغيرها وفق تغير الظروف المحيطة، فإن الدفاع عن الإسلام بالأمس كان يتم من خلال إعداد جيش إسلامي يملك القدرة على الدفع عن الدولة الإسلامية، بينما قد يكون الدفاع عن الإسلام من خلال وجود أقلام على مستوى عالٍ من القدرة للدفاع عن مبادئه وأهدافه وقيمه، وتعريفه للناس، وهكذا، وهذا يعني أن الظروف الموجبة للدفاع عن الإسلام تغير وفق الظروف والأزمنة، بل حتى الأمكنة.
ومن خلال ما تقدم، يتضح أنه لابد من ملاحظة الأمور التي يراد تغيـيرها، وأنها تندرج تحت أي النوعين من التشريعات، فلو كانت مندرجة تحت القوانين، فإنه لا مجال لتغيـيرها لانسجامها أساساً مع منطق الفطرة البشرية، وهذا بخلافه لو كانت من المقررات، فإنه لا مانع من حصول التغيـير فيها، ما دامت دواعي التغيـير متوفرة.
تجديد الطريقة المتبعة في الاستنباط:
ثالثها: إن المقصود من تجديد الخطاب الديني، هو القيام بتجديد الاجتهاد في الرؤى من دون المساس بالنصوص الشرعية من القرآن الكريم، والسنة المباركة، فلا تمس الثوابت الموجودة.
وهذا التفسير لا يخلو عن غموض، فإن كان المقصود منه إعادة النظر في بعض التشريعات والأحكام الموجودة، فإنه سوف يعود إلى التفسير السابق، وقد عرفت جوابه.
أما لو كان المقصود منه هو إيجاد معالجات لما استجد على الساحة الحياتية للعنصر البشري اليوم من مسائل مما لم يكن موجوداً في عصر التشريع، كبعض المسائل المالية، مثل عقد التأمين، والمعاملات البنكية، وبعض المسائل الطبية، مثل التلقيح الصناعي، واستخدام اللولب، بل حتى بعض المسائل العادية، مثل جريان عقد النكاح عن طريق جهاز الهاتف، وهكذا مسائل أخرى يطول المقام بذكرها مما لم تكن موجودة في عصر النص.
فإنه حق صحيح، فيلزم أن يجد المكلف الإجابة على ما استجد عنده من شأن حياتي، ويلقى ما يوضح له وظيفته، وهذا موجود في الشريعة السمحاء، فقد تضمنت الآيات القرآنية وكذا النصوص المباركة قواعد عامة يرجع إليها عادة في مثل هكذا موارد كي ما توضح الوظيفة الفعلية المرتبة بها، بل إن هناك بعض الأصول العملية التي يستند إليها والتي تتصدى لبيان الوظيفة الفعلية للمكلف في كل مورد لم يوجد ما يحدد وظيفته.
والحاصل، إن هذا النوع من التجديد مقبول، والشريعة الإسلامية قد كفلت الإجابة على كل ما يحصل من جديد في حياة الناس.
توسعة دائرة المشاركة:
رابعها: إن المقصود من تجديد الخطاب الديني هو عدم قصر التصدي لبيان الأحكام الشرعية على جهة محددة، بل يسمح لبعض ذوي الاختصاص بالمشاركة في بيانها، فيفسح المجال للطبيب، وكذا للخبير المالي والاقتصادي، وهكذا بالمشاركة في استخراجها وبيانها للمكلفين. فإن هؤلاء يملكون خبرة ودراية كافية بالعديد من الأمور، بل ربما تكون إحاطتهم ودرايتهم بها أفضل من رجل الدين المتصدي، فالطبيب مثلاً أقدر على تحديد أن اللولب يتولى قتل النطفة بعد انعقادها، أو ينحصر دوره في سلب قابلية الإخصاب من الحيوان المنوي، وهكذا.
ولا يوجد عند المتصدين لبيان الأحكام الشرعية واستنباطها أدى ممانعة في مشاركة المختصين في الشؤون الحياتية في عملية الاستنباط، إلا أن الأمر يحتاج تحديد الدور الذي سوف يناط بهم ويقومون به، فإن هنا محتملات أربعة:
أحدها: يكون متخصصاً لبيان الموضوع، كما لو كان طبيباً مثلاً، أو خبيراً اقتصادياً، ولا خلاف عندنا في أن يتدخل المختصون في تشخيص موضوعات الأحكام الشرعية الموكولة للعرف، وهي التي لا تكون موضوعات مستنبطة، فإن الشارع المقدس قد ترك أمر تحديدها للعرف، وليس أفضل من يحددها من المختص، فإنه على دراية تامة بكل ما يكون دخيلاً فيها.
ثانيها: أن يكون دوره احراز الموضوع، فإن الموضوع واضح جلي ليس بحاجة إلى بيان وتحديد، وإنما الذي يحتاج بحثاً وجوده في الخارج، فإن موضوع البول لا يخفى على أحد، إلا أن الجزم بأن هذا المائع بول أو لا، فإنه يحتاج إلى احراز، وهنا قد يتصدى المختص لتحديد أن هذا الموجود خارجاً بل، وليس مائعاً عادياً، أو العكس.
وهنا أيضاً لا يوجد مانع من تدخل المختص في عملية إحراز الموضوع ووجوده، لأن إحراز الموضوع ليست من مهام الشارع المقدس، وإنما هي مهمة المكلف نفسه.
ثالثها: أن يكون المطلوب تدخل المختص في بيان الحكم الشرعي، وهذا فيه احتمالان:
أحدهما: أن يكون المقصود تدخله في شرحه وتعريف الناس به، فكما يتصدى طالب العلم لشرح الحكم الشرعي وبيانه للناس،، يقوم الطبيب أيضاً بشرح الحكم الشرعي وبيانه لهم، فيكون ناقلاً للفتوى شأنه شأن طلبة العلوم الدينية.
ولا ضير في هذا المحتمل أيضاً، فيمكن للمختص التصدي لذلك متى كان محيطاً بالحكم الشرعي وعلى دراية به.
ثانيهما: أن يكون المقصود من تدخله مشاركته في استنباط الحكم الشرعي فيتصدى هو كالفقيه لاستنباط الحكم الشرعي.
وهذا ممنوع، لأن التصدي لذلك يحتاج امتلاك المتصدي للآليات التي يستعملها في هذا المجال، والمفروض عدم توفر ذلك عند غير المختص، فكما أنه لا مجال لأن يعمد طالب العلم لوصف دواء لمريض، فضلاً عن أن يقوم بتشخيص حالته المرضية، فكذلك لا يمكن للطبيب أن يقوم باستنباط الحكم الشرعي من مداركه المقررة. نعم يستثنى من ذلك ما إذا كان الطبيب على دراية وعلم بالأدوات الدخيلة في عملية الاستنباط، والتي يعتمد عليها في ذلك، وهنا لن يكون الطبيب متصدياً لذلك بما هو طبيب، وإنما سوف يكون متصدياً بما هو مختص في مجال الاستنباط.
تجديد العلاقة مع الآخر:
خامسها: تجديد لغلة الخطاب مع الطرف الآخر، ويقصد به غير المسلمين من أهل الكتاب، فيعمد إلى إعادة لغة الحوار معهم، فإن الظروف الحياتية اليوم قد اختلفت عما كانت عليه من قبل، وليس صحياً أن تبقى العلاقة شائكة بين المسلمين وبينهم، تنطوي على قطيعة بين الطرفين.
وهذا المعنى حسن في نفسه، إلا أنه بعيد تماماً عن أطروحة الإسلام، فإن من له أدنى دراية بتعاليم الشريعة الإسلامية السمحاء، يعلم أن الإسلام يدعو للحوار والمجادلة بالتي هي أحسن، ولا يحبذ حصول القطيعة والنفرة بين الأطياف، وقد كانت سيرة النبي الأكرم(ص) على ذلك، لأنه لم يقطع صلته بأهل الكتاب من اليهود الذين كانوا يسكنون معه في المدينة، وهكذا كانت سيرة المسلمين بعد ذلك. نعم هناك بعض الحالات التي تدعو إلى إيجاد عنصر القطيعة متى تحول الكتابي إلى رجل حرب، فإن الأمر سيختلف عندها.
وقد تحصل مما تقدم، أن التفسيرات المعروضة لتجديد الخطاب الديني بعضها ليس مقبولاً لكونه منافياً لأمور أساسية كما سمعت، وبعضها لا مانع من البناء عليه، لكونه ينسجم تماماً مع التعاليم الإسلامية.
والمتحصل مما تقدم، أنه لا يوجد ما ينفي شمولية الشريعة الإسلامية المحمدية، واستيعابها لكل ما يحتاجه العنصر البشري وتلبيتها لكل ما يحتاجه، وأن تلك الدعوات التي ترفعها الأبواق، وتنادي بها بعض الجهات بين فينة وأخرى جوفاء لا قيمة لها، فمضافاً لفقدها لمبدأ العلمية، لا يوجد لها دليل وجيه ولا معنى معتبر يمكن الوقوف معه.
[1] تجديد الخطاب الديني بين الحقيقة والأوهام ص 22-25(بتصرف).