طهارة الإنسان(3)
مناقشة القرائن المذكورة:
وللتأمل في القرائن المذكورة مجال:
فإنه يلاحظ على القرينة الأولى: أنها تعتمد على التسليم بدلالة الآية الشريفة على النجاسة، بحيث يكون المقصود من كلمة(نجس) الوارد فيها هي النجاسة المصطلحة، أما لو بني على خلاف ذلك، فلن تصلح القرائن المذكورة للدلالة على المدعى، توضيح ذلك:
لقد جعل المعيار في القرينة الأولى على اصطياد عنوان عام كلي وهو الكفر من خلال البناء على ثبوت الحكم الثابت للمشركين في الآية الشريفة للملحدين والدهريـين، بالأولوية القطعية، ومن الواضح أن ذلك يتم بناءاً على تمامية دلالة الآية الشريفة على النجاسة المصطلحة، أما لو بني على خلاف ذلك، فلن تصلح الآية المباركة للدلالة على نجاسة الدهريـين والملحديـين، فضلاً عن دلالتها على المنع من دخولهم البيت الحرام، لاحتمال اختصاص الحكم الوارد في الآية الشريفة بخصوص المشركين.
وأما القرينة الثانية، فإن تماميتها تعتمد على استفادة العنوان الكلي من خلال الآية المباركة، وأنه يتصيد منها مفهوم عام، وهو الكفر، ليكون هو الموضوع لكافة موارد النجاسة المرتبطة بالعنصر البشري، وأن جميع ما تضمنته النصوص من تعداد مجرد مصاديق لذلك العنوان، فما دل على نجاسة الناصبي مثلاً، أو ما دل على نجاسة الخوارج، إنما هو بلحاظ انطباق عنوان الكفر عليهما، وكونهما مصداقين لذلك الكلي، ولذا ترتب عليهما كافة الأحكام الأخرى، من المنع من التزويج، وعدم التوارث، ويساعد على ذلك، تعليل بعض النصوص بمنع التزويج من الناصب بكونه كافراً.
وقد عرفت أن البناء على ذلك فرع تمامية دلالة الآية الشريفة على المدعى، فما لم تتم دلالتها، لن تصلح القرينة المذكورة على المدعى.
وأما القرينة الثالثة، فإنها تعتمد على الالتزام بإطلاق مفهوم الشرك على أهل الكتاب، ليكونوا بعد ذلك مشمولين في الآية محل البحث من جهة، ومن ثمّ يندرجوا تحت العنوان العام الكلي وهو الكفر ليحكم عليه بالنجاسة.
وقد جعل القرينة على عموم الحكم لهم بالمنع من دخول المسجد الحرام، ومن ثمّ البناء على نجاستهم، مجموعة من الآيات، ذكر منها قوله تعالى:- (ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر)[1]، الدالة على النفي الشامل لكافة الأمور من تولية المسجد الحرام، ودخوله، والمكث فيه، لأجل الذكر والصلاة، والزيارة، وإنما منع من ذلك نجاستهم.
والظاهر أن تمامية القرينة المذكورة تقوم على الالتزام بشمول مفهوم الشرك لأهل الكتاب، حتى يكونوا مشمولين في الآيات القرآنية المتضمنة لذلك، وقد عرفت جواب ذلك في ما تقدم فلا نعيد.
والغريب الاستدلال للتعميم بالآية التي ذكرها، مع أن ملاحظة سياقها صريح جداً في أنها تتحدث عن أهل مكة، وما كان منهم من موقف حيال سدانة الكعبة الشريفة، ويساعد على ذلك الآيات التي تلتها، فقد قال سبحانه:- (إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين* أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين)[2].
نعم يمكن البناء على صحة الاستناد للآية الثانية التي تضمنها كلامه(وفقه الله)، وهي قوله تعالى:- (ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم)[3]، بلحاظ ما تقدمها من الآيات لأنها واردة في سياق الحديث عن أهل الكتاب من اليهود والنصارى، فقد سبقها قوله تعالى:- (وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء وهم يتلون الكتاب كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون)[4]، فيكونوا مشمولين بالآية التي استشهد بها، سواء كانوا يمنعون المسلمين من الصلاة إلى المسجد الحرام بعدما حولت القبلة، أم كانوا يسعون في تهديم الكعبة وما استطاعوا، كما أنها تعم أيضاً هدم بيت المقدس، بواسطة بخت نصر وسواه من الطغاة، أم أي منع من أي مسجد أو مسجد، أو سجدة وتهديهم أي منها طول زمن التكليف على مدار الرسالات الإلهية[5].
إلا أن المشكلة تكمن أنه ليس في الآية المستشهد بها ما يشير لوصف أهل الكتاب بالمشركين، ولا في الآيات المرتبطة بها حتى يصلح الاستشهاد بها، ومجرد وحدة العمل الصادر منهم ومن المشركين لا يوجب الاتحاد بينهم في الصفة وهي الشرك، نعم ربما يتحدون في الحكم بأنهم يحاربون الله ورسوله.
والحاصل، لم يتضح وجه الاستشهاد بالآية المذكورة على المدعى حتى تكون ذات ارتباط بما يروم الفاضل المعاصر الوصول إليه.
على أنه لو رفعت اليد عما ذكر، فإن تمامية الاستدلال متوقفة على احراز أن المقصود من مفهوم(النجس) المذكور في الآية المباركة، هو خصوص النجاسة المصطلحة.
ولا يقل التعميم للموضوع غرابة عن تعميم الحكم، فإنه يقوم على البناء على اندراج مفهوم أهل الكتاب تحت مفهوم الكفار، ليكون مصداقاً من مصاديقه، وقد عرفت في ما تقدم، تعدد الطوائف والفرق الموجودة منهم، ما يصعب أن يبنى على كونهم فئة واحدة، حتى يحكم بكفرهم، فإن ذلك لو سلم فإنه يكونوا لبعضهم وليس لهم جميعاً، وهذا يتضح لمن لاحظ الآيات الشريفة.
وأما القرينة الرابعة التي ذكرها، وهي استعمال القرآن الكريم، لمفهوم الشرك، وهو يقصد به الكفر، وقد تمسك لذلك بآيتين، وهما:
1-قوله تعالى:- (ويا قوم ما لي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار تدعونني لأكفر بالله وأشرك به ما ليس لي به علم)[6]، لأنه سبحانه قد أطلق الشرك على الاعتقاد بأن فرعون رب الأرباب وإله الآلهة، مع عدم الاعتقاد بالله سبحانه وتعالى، والقرينة على ذلك ما صدر من فرعون نفسه، كما يشير له قوله تعالى:- (وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحاً لعلي أبلغ الأسباب أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذباً)[7].
2-قوله سبحانه:- (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء)[8]، إذ لا ريب في شموله لمطلق الكفر.
فممنوعة، وذلك لأن الآية الشريفة على خلاف مراده(وفقه الله) أدل وأوضح، فقد تضمنت عطف الشرك على الكفر، ومن الواضح أن هذا يشير للمغايرة، ولا يتوهم أن المورد من صغريات التفسير أصلاً، وعليه، فكأن الآية تشير إلى وجود دعويـين وجهتا لمؤمن آل فرعون، الأولى منهما كانت دعوته للكفر، والثانية دعوته للشرك، ووفقاً لذلك لن يكون في الآية دلالة على استعمال الشرك في الكفر الإلحادي.
وأوضح من ذلك دلالة الآية الثانية، لأن البناء على دلالتها يعتمد على كون الشرك يؤول للكفر، وأن المقصود منه في الاستعمال القرآني ذلك، وقد عرفت منعه، نعم لو كان في البين قرينة دالة على ذلك بني عليه وإلا فلا.
وأما القرينة الخامسة، وهي ملاحظة ما تضمنته الأدلة من إسناد مفهوم الشرك لأهل الكتاب، وإطلاقه عليهم.
وحتى تتم هذه القرينة لابد من التسليم بكون المقصود من الشرك هو الكفر، وقد سمعت منعه.
ولما كان جواب القرينة الخامسة واضحاً لن نطيل الكلام في استعراض ما ذكره، لأن أغلب الآيات التي ذكرها تمت الإجابة عنها في ما تقدم.
نعم طلباً للفائدة، سوف نقصر الأمر على خصوص الآية الأولى مما ذكره(وفقه الله)، وهي قوله تعالى:- (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون)[9]، فإنها واقعة عقيب الآية محل البحث، ومقتضى ورودها في سياقها يجعل الموضوع فيهما واحداً، فيكشف ذلك عن اطلاق مفهوم الشرك على أهل الكتاب، وهو المطلوب.
وقد نشأ توهمه(وفقه الله) لحمله الآية الشريفة على ظاهرها، بأن المقصود من اتخاذ رهبانهم أرباباً يعني الربوبية، وهو ممنوع لعدم قولهم بألوهيتهم، كما أشار لذلك الشيخ الطبرسي(ره) في مجمع البيان، فقد روى عدي بن حاتم-في حديث- قال: انتهيت إليه-يعني إلى رسول الله(ص)-وهو يقرأ من سورة البراءة هذه الآية:- (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم) حتى فرغ منها، فقلت له: لسنا نعبدهم، فقال: أليس يحرّمون ما أحل الله فتحرمونه، ويحلّون ما حرّم الله فتستحلونه. قال: قلت: بلى، قال: فتلك عبادتهم[10]. وهذا يعني أن الشرك الذي تشير إليه الآية الشريفة ليس شركاً حقيقياً، وإنما تقليد أعمى، ولا ربط له بالشرك المصطلح.
وهذا المعنى هو الذي تضمنته نصوصنا أيضاً، فقد جاء في أصول الكافي عن أبي بصير، قال: سألت أبا عبد الله(ع) عن قول الله عز وجل:- (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله)، فقال: أما والله ما دعوهم إلى عبادة أنفسهم ولو دعوهم إلى عبادة أنفسهم لما أجابوهم، ولكن أحلوا لهم حراماً وحرموا عليهم حلالاً، فعبدوهم من حيث لا يشعرون[11]. ومثل ذلك جاء أيضاً في تفسير العياشي، بل تضمنت بعض النصوص أن من أطاع رجلاً في معصية الله فقد عبده.
[1] سورة البقرة الآية رقم 221.
[2] سورة التوبة الآيتان رقم 18-19.
[3] سورة البقرة الآية رقم 115.
[4] سورة البقرة الآية رقم 113.
[5] الفرقان في تفسير القرآن ج 2 ض 156 في الحاشية رقم 4.
[6] سورة غافر الآية رقم 42.
[7] سورة غافر الآية رقم 37.
[8] سورة النساء الآية رقم 48.
[9] سورة التوبة الآية رقم 31.
[10] مجمع البيان ج 5 ص 37.
[11] أصول الكافي ج 2 ح 7 ص 398.