قال تعالى :- (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين)[1].
مدخل :
تتعرض هذه الآية الشريفة إلى درس من الدروس القرآنية التربوية –وما أكثرها في القرآن الكريم- وهو تحكيم الروابط مع الصادقين.
فبعد الدعوة الدائمة إلى الله سبحانه وتعالى ذات العمق الإيماني من خلال التقوى ، دعانا سبحانه وتعالى إلى تحكيم العلاقة والارتباط مع الصادقين.
من هم الصادقون :
ذكر المفسرون عدة احتمالات في المراد من الصادقين الذين أمرت الآية الشريفة بإتباعهم ، فقيل أن المعني بالصادقين هم من ذكرهم الله في كتابه في قوله تعالى :- (رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه –يعني حمزة بن عبد المطلب وجعفر بن أبي طالب- ومنهم من ينتظر –يعني علي بن أبي طالب (ع) .
وقيل كما عن ابن عباس أنه علي ابن أبي طالب (ع) وأصحابه .
وفي قول ثالث،كما في رواية جابر عن أبي جعفر (ع) أنهم آل محمد (ص) ، وقيل أنهم النبيون والصادقون في الجنة بالعمل الصالح في الدنيا.
هذا وإذا أردنا معرفة المراد منهم في الآية المباركة ، فعلينا ملاحظة القرآن الكريم لأنه يفسر بعضه بعضا ، وقد فسرت الآيات القرآنية معنى الصادقين في غير مورد :
منها : قوله تعالى :- (ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيـين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون)[2].
حيث أشارت إلى تفسير حقيقة العمل الصالح والبر بأنه الإيمان بالله ويوم القيامة والملائكة والكتب السماوية والأنبياء ، ثم الإنفاق في سبيل الله ومساعدة المحتاجين والمحرومين وإقامة الصلاة ،وإيتاء الزكاة والوفاء بالعهد ، والاستقامة والصمود أمام المشاكل حين الجهاد ، وبعد ذكر كل هذه الصفات تقول بأن الذين يمتلكون هذه الصفات هم الصادقون والمتقون.
وعلى هذا فالصادق إذن هو من يؤمن بكل المقدسات ، ثم يعمل بموجبها في جميع النواحي.
ومنها: قوله تعالى :- (إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا في سبيل الله أولئك هم الصادقون)[3].
حيث يستفاد منها أن الصادق هو الذي يجمع الإيمان والعمل الذي لا تشوبه أية شائبة من التردد أو المخالفة.
ومنها : قوله تعالى :- (للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون)[4].
فقد عرفت الصادقين بأنهم المؤمنون المحرومون الذين استقاموا وثبتوا رغم المشاكل ، وأخرجوا من ديارهم وأموالهم ، ولم يكن لهم هدف وغاية سوى إحراز رضى الله ونصرة رسوله (ص).
استنتاج :
ومن مجموع هذه الآيات نحصل على نتيجة ، وهي أن الصادقين هم الذين يحافظون ويؤدون تعهداتهم أمام الإيمان بالله على أحسن وجه ، فلا يدعون للشك والتردد مجالاً لأن يدخل في نفوسهم ، ولا هم يتراجعون ، ولا يخافون سيل المصاعب والعقبات ، بل يثبتون صدق إيمانهم بأنواع التضحية والفداء.
هل الصادقون هم المعصومون :
اتضح مما سبق سعة مفهوم الصادقين وعدم انحصاره في أفراد مخصوصين ، إلا أنه وردت بعض النصوص التي يستفاد منها أن المراد من الصادقين في الآية الشريفة هم المعصومون (ع) فقط.
فعن سليم بن قيس الهلالي : إن أمير المؤمنين (ع) كان له يوما كلام مع جمع من المسلمين، ومن جملة ما قال : فأنشدكم الله أتعلمون أن الله أنزل :- (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين)، فقال سلمان : يا رسول الله أعامة هي أم خاصة ؟ قال : أما المأمورون فالعامة من المؤمنين أمروا بذلك ، وأما الصادقون فخاصة لأخي علي والأوصياء من بعده إلى يوم القيامة قالوا : اللهم نعم[5].
وكذا ما أشرنا له في استعراض أقوال المفسرين،من رواية جابر عن أبي جعفر الباقر(ع)من أن المراد بها هم آل محمد(ع).
وعلى هذا قد يتصور وجود تنافٍ بين ما ذكرناه،وبين هذه النصوص،وهذا يستدعي الحاجة إلى علاج لذلك.
والصحيح أن المعنى الذي جاءت به النصوص من كون المقصود بالصادقين في الآية هو خصوص المعصومين ، هو الصحيح ، كما أنه يساعده الظهور والمستفاد من الآية المباركة، ويتضح ذلك من خلال ملاحظة أن الآية الشريفة قد اشتملت على المعية ، فقال تعالى : (مع الصادقين) وهذا يعني أن مفهوم الصادقين فيها ليس عاما وشاملا ، وإلا لو كان المفهوم عاما وشاملا لكل المؤمنين الحقيقيين المستقيمين ، لعبرت الآية، وكونوا من الصادقين، لا (مع الصادقين) ، فهذه المعية قرينة على أن الصادقين في الآية فئة خاصة ، يدعوا الله سبحانه المتقين من عباده إلى مرافقتهم ، وهذا يعني أن الآية قد اشتملت على أمرين :
الأول : تقوى الله سبحانه وتعالى.
الثاني : الكون مع الصادقين.
ولا تنافي بـين هذا المعنى وبـين ما يتصور في معنى الصادقين في القرآن الكريم،فإنه وإن كان عاماً في غير آية من آياته،إلا أنه في خصوص هذه الآية يكون خاصاً لورود المخصص له وهو النصوص.
مراحل الصدق:
هذا ويمكننا أن نؤكد انحصار الصادقين في الآية الشريفة،بآل محمد(ع)من خلال معرفة مراحل الصدق،فإن له مراحل ثلاث:
الأولى:الصدق في القول.
الثانية:الصدق في العقيدة والإيمان.
الثالثة:الصدق في العمل.
الصدق في القول:
وهو أيسر مراحل الصدق،ولا يكلف الإنسان كثيراً ، وبه يتحقق الإسلام،قال تعالى:- (قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا)[6].
وهذه المرحلة تحصن الإنسان من الكفر،لكنها لا تحصنه من النفاق،وهي الثغرة التي يدخل منها الشيطان إلى نفس الإنسان في هذه المرحلة.
الصدق في العقيدة والإيمان:
والصدق في هذه المرحلة يحصن الإنسان ضد الكفر والنفاق معاً،ولكنه لا يحصنه من الشك والريب،وهو الثغرة الوحيدة التي ينفذ منها الشيطان إلى نفس الإنسان،فإذا دخل الإنسان مرحلة(اليقين)حصّن نفسه من الشك والريب،ولم يـبق للشيطان مطمع فيه من هذه الناحية،لكن اليقين كما نعلم أمر عزيز.
الصدق في العمل:
وهو يعني تطابق القول والإيمان والعمل،وهذه المرحلة هي أعلى مراحل الصدق،وقد أشار إليها سبحانه وتعالى في كتابه العزيز بقوله تعالى:- (إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون)[7].
وفي هذه المرحلة:
1-يتجاوز الصدق من القول إلى العقيدة والإيمان،(إنما المؤمنون الذين آمنوا).
2-ويحصّن الإنسان صدقه في مرحلة الإيمان من الشك والريب: (ثم لم يرتابوا).
3-ثم يحقق الصدق في مرحلة العمل،فيتطابق قوله وإيمانه وفعله: (وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله).
فإذا حقق الإنسان هذه المرحلة من الصدق في علاقته بالله سبحانه يصح فيها أمران:
الأول:حصر الإيمان في أمثاله:- (إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله…).
الثاني:وصفهم بالصدق على نحو الحصر والتأكيد:- (أولئك هو الصادقون)،وكأنها تـتضمن سلب الصدق عن غيرهم،وقد قال سبحانه عن هذه المرحلة من الصدق:- (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه…)[8]،لأن الصدق هنا بمعنى تطابق العهد والعمل.
الصادقون معصومون:
ومقتضى هذا التوضيح الذي ذكرناه من خلال مراحل الصدق الثلاث،يتضح أنها لا تجتمع إلا عند الذين عصمهم الله سبحانه من الذنوب وهم المعصومون(ع).
دلالة الآية:
ثم إنه بناء على النتيجة التي وصلنا إليها في بيان معنى الصادقين،وأنهم آل محمد(ع)فهذا يعني أن الآية تقرر أنه لابد من وجود إمام معصوم في كل عصر وزمان،لكي يتسنى للخلق أن يكونوا معه،لأنها أشارت إلى أمرٍ من الله سبحانه بلزوم الكون مع الصادقين،وهذا يستدعي أنه لابد من وجود صادق على الأقل في كل وقت،حتى يمكن للأمة أن تكون معه،وقد عرفت أن المراد من الصادق،هو الإمام المعصوم.
وإن لم تقبل بهذا الذي ذكرناه،فذلك يعني إما أن يكون القرآن الكريم خاصاً بخصوص المخاطبين به،فيختص بمن نزل إليهم،وهذا باطل باتفاق الأمة الإسلامية،لأنهم يقررون أن القرآن الكريم عام لكل المسلمين في كل عصر وزمان.
أو أن يلتـزم بأمر آخر وهو كذب القرآن الكريم،وهذا ما لا يمكن أن يرضى به أحد من المسلمين.
وبرفض هذين الاحتمالين،يثبت المطلوب من أنه لابد من وجود إمام معصوم في كل عصر وزمان.
ولادة الإمام المنتظر:
وبمقتضى ما ذكرنا في بيان دلالة الآية الشريفة،من وجود إمام معصوم في كل عصر وزمان،يمكننا الاستدلال أيضاً بها على ولادة الإمام الحجة المنـتـظر(عج)وذلك لأنها دلت على وجود إمام معصوم في كل عصر،ومعنى وجوده،الوجود بالفعل وليس الوجود بالقوة،وهذا يعني أنه(عج)قد ولد لكي ينطبق عليه أنه موجود بالفعل،وأنه يخرج فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعدما ملئت ظلماً وجوراً.
رأي الفخر الرازي :
وقد قبل بهذه النتيجة التي وصلنا إليها الفخر الرازي -صاحب التفسير الكبير وهو أحد علماء السنة – فأشار إلى أن الآية تدل على وجود المعصوم في كل زمان ، فيجب على من يقع في الخطأ الاقتداء بالمعصوم ، حتى يبقوا مصونين عن الخطأ ، وسيكون هذا الأمر في كل زمان ، ولا نملك أي دليل على اختصاصه بعصر النبي (ص).
نعم هذا المعصوم الذي لا بد من وجوده في كل عصر ، ليس فرداً واحداً ، بل هو عبارة عن مجموع الأمة ، وذلك حجة على أن قول مجموع الأمة حق وصواب [9].
مناقشة الفخر الرازي :
لقد أخطأ الفخر الرازي في دعواه أن الصادقين في الآية هو مجموع الأمة ، لأن مجموع الأمة لا يمكن أن يكون هو المعصوم المقصود في الآية الشريفة ، والسبب يعود إلى أن مجموع الأمة معصوم فيما اتفقوا عليه ، لا فيما اختلفوا فيه ، وحاجة الناس إلى اتباع المعصوم فيما اختلف الناس فيه ، وليس مجموع الأمة معصوماً قطعاً فيما اختلف فيه الناس.
مضافا إلى أن مقتضى كلامه هو اتحاد التابع والمتبوع ، لأنه لو كان الصادقون هو مجموع الأمة ، فإن هذا الإتباع بنفسه جزء من ذلك المجموع ، وهو في الواقع اتباع جزء للقدوة والإمام ، فيتحد التابع والمتبوع ، مع أن ظاهر الآية يشير إلى مغايرة القدوة للمقتدي ، والتابع للمتبوع.
وبالجملة فالآية الشريفة من الآيات التي تدل على وجود المعصوم في كل عصر وزمان ، ليصح الأمر باتباعهم ومعيتهم فيما اختلف فيه الناس ، وليكون اتباعهم ومعيتهم عاماً للناس ، وضماناً للتقوى.
——————————————————————————–
[1] سورة التوبة الآية رقم 119.
[2] سورة البقرة الآية رقم 177.
[3] سورة الحجرات الآية رقم 15.
[4] سورة الحشر الآية رقم 8.
[5] البرهان في تفسير القرآن ج 2 ص 170.
[6] سورة الحجرات الآية رقم 14.
[7] سورة الحجرات الآية رقم 15.
[8] سورة الأحزاب الآية رقم 23.
[9] التفسير الكبير ج 16 ص 226-227.