في رحاب الزيارة الجامعة

لا تعليق
كلمات و بحوث الجمعة
380
0

جاء في الزيارة الجامعة قوله(ع): وإياب الخلق إليكم وحسابهم عليكم.

مدخل:

هذه العبارة أحد المقاطع الواردة في الزيارة الجامعة المروية عن إمامنا الهادي(ع)، وتعتبر الزيارة الجامعة دستوراً متكاملاً يعرض المعتقد الحق الذي يلتـزمه الشيعة في أئمتهم(ع)، ولذا ينبغي لكل مؤمن موالي أن يحيط بمضامين الزيارة ويفهم معانيها، ولو تسنى له حفظها كان ذلك حسناً.

ومع ما للزيارة الجامعة من منـزلة وأهمية، إلا أنها واجهت جملة من الاعتراضات التي يدعى بسببها المنع من قبولها والالتزام بمضامينها، ويمكن حصر ما عورضت به في أمرين:

الأول: الخلل السندي.

الثاني: الخلل في المتن والدلالة.

الخلل السندي:

أما بالنسبة للأمر الأول، وهو الخلل السندي، فقد أدعي أن الزيارة المذكورة ليست حجة، ذلك لأن هناك شروطاً لابد من توفرها في الخبر المروي حتى ينطبق عليه عنوان الحجية، مثل كون رواته ثقاة، أو كون الخبر مما يطمئن بصدوره من المعصوم لتوفره على ما يوجب تحقق ذلك، فما لم يتحقق ذلك لا يكون الخبر عندها معتمداً مقبولاً يصح الاستناد إليه والاعتماد عليه.

والزيارة الجامعة من هذا القبيل، ذلك أن بعض رواتها لم يوثقوا، وبالتالي تسقط عن الحجية، فلا تكون مقبولة.

الإشكال في المتن:

وأما الإشكال على متن الزيارة الجامعة، فيمكن حله إلى إشكالين أو أمرين:

أحدهما: إن المضامين التي جاءت في الزيارة الجامعة تتوافق ومضامين النصوص المروية عن طريق الغلاة، ونحن نعلم أن أئمتنا(ع) قد عارضوا هذا التيار ووقفوا ضده، وعليه تسقط الزيارة المذكورة.

ثانيهما: لقد اشتملت الزيارة الجامعة على بعض المضامين المخالفة لظواهر الكتاب الكريم والسنة المباركة المتواترة، وقد ثبت في محله أن كل ما خالف كتاب الله فهو زخرف، ويضرب به عرض الجدار، ولم يقله أئمة الهدى(ع)، ومن الشواهد التي تثبت صحة هذه الدعوى، العبارة التي جعلت مفتتح البحث، وهي قوله: وإياب الخلق إليكم، وحسابهم عليكم.

حيث أن هذه العبارة قد تضمنت وصف المعصومين(ع) بوصفين، وهما:

الأول: أن إياب الخلق إليهم.

الثاني: أنهم يتولون حساب الخلق.

ومن المعلوم منافاة هذين الأمرين للقرآن الكريم، حيث يصرح الباري سبحانه وتعالى أن الإياب إنما يكون له سبحانه وتعالى، قال تعالى:- (إنا لله وإنا إليه راجعون)، ويقول عز من قائل:- (ثم إن إلينا إيابهم* ثم إن علينا حسابهم)[1].

وبالجملة، نحن أمام منهجين مختلفين تماماً، فبينما يتبنى أصحاب المنهج الأول ما جعلناه مفتتح الكلام من أن الزيارة الجامعة تمثل الدستور المتكامل في حقيقة الاعتقاد بالمعصومين(ع)، يباين أصحاب المنهج الثاني هذا القول، فيصرّون على رفض الزيارة الجامعة تمسكاً بما ذكر من الإشكال.

ومن الواضح أنه لابد من التأمل في الإشكال المطروح من قبل أصحاب المنهج الثاني، ضرورة أنه لو تمكنا من علاجه كان ذلك يعيّن صحة المنهج الأول، بخلاف ما لو عجزنا عن علاج ذلك، فإنه يستدعي تمامية المنهج الثاني، وبطلان المنهج الأول.

علاج الخلل السندي:

ولا أود الخوض في الحديث بصورة مفصلة في هذا الأمر وبيان كيفية علاجه، ذلك لأنه مربوط بالبحوث التخصصية، وإنما أود أن أشير بصورة موجزة إلى أمرين، وهما:

الأول: لقد اتفق علمائنا جميعاً على أن باب الاجتهاد لا زال مفتوحاً في علم الرجال، كما هو مفتوح في بقية الأبواب العلمية الأخرى، من الأصول والفقه، وما شابه.

ومن المعلوم أن مقتضى فتح باب الاجتهاد في علم الرجال يستوجب وجود نظريات ورؤى مختلفة بين المجتهدين اليوم عن من تقدمهم، بل حتى وعن من سيأتي بعدهم، بل إن المجتهدين المعاصرين يختلفون بعضهم مع بعض، ولأشر إلى مثالين سريعين:

1-من الرواة الذين أكثر شيخنا الكليني(ره) النقل عنه، أبو سعيد سهل بن زياد الآدمي، وقد وقع مورداً للخلاف بين الأعلام، إذ يبني بعض أعلامنا على ضعفه وعدم القبول بروايته، بينما يرى البعض الآخر أن من الصعوبة بمكان رفع اليد عن مروياته.

2-من الرواة المعروفين عندنا، راوٍ يقال له محمد بن أبي عمير، وله قصة مشهورة ذلك أنه اعتقل من قبل الحكومة العباسية، فخافت أخته عليه فعمدت إلى دفن كتبه وآثاره التي تشتمل على ما رواه عن مشائخه، فلما أفرج عنه لم يجد كتبه، فصار يروي عن ظهر قلب، وقد نسي بعض الوسائط في سلسلة الأسناد، فعرفت مروياته بمراسيل ابن أبي عمير، وقد وقعت مورداً للخلاف بين أعلامنا، فبينما يبني بعضهم على الاستناد إلى مراسيله، ومعاملتها معاملة المسانيد، يرى آخرون أن مراسيله لا تختلف عن مراسيل غيره، فلا يحتج بها ولا يعتمد عليها.

إن هذا الاختلاف بين الأعلام في المثالين الذين ذكرت يدل على أن التضعيف والتوثيق قضية متفاوتة، فما قد يكون ضعيفاً عندك، لا يلزم منه أن يكون ضعيفاً عندي، ولذا عرف في الحوزة العلمية أن المناقشة السندية ورد الدليل لمجرد أنه ضعيف فقط، لا يعدو أمراً صناعياً.

الثاني: إن الاعتماد على الخبر لا ينحصر طريقه كما نعلم بإحراز وثاقة الرواة، بل هناك منهج معتمد عند الأعلام، ولا أقل عند جملة كبيرة منهم، وهو الوثوق بالصدور، ويتحصل هذا من خلال مجموعة من القرائن تلاحظ في النص المراد الحديث عنه، ويذكرون عدة أمور، يمكن للباحث مراجعتها في كتب الاختصاص.

بعد هذا يتضح أن إمكانية التصحيح السندي، وعلاج ما يسمى بالخلل السندي في الزيارة الجامعة ليس بالأمر العسير، بل إن الطريق لذلك سهل، ويمكن من خلال غير وسيلة كما لا يخفى.

الزيارة ونصوص الغلاة:

وأما الإشكال الأول المرتبط بالمتن، والذي تضمنت جعل الزيارة الجامعة متوافقة والنصوص المروية عن الغلاة الذين رفض أهل البيت رواياتهم، وعارضوها بشتى الوسائل، فهو كالإشكال السندي، ويتضح ذلك من خلال التوجه بداية إلى أن مفهوم الغلو من الأمور النسبية، وهذا يعني أن ما ربما يعتقد شخص أنه من الغلو يرى آخر أنه ليس من الغلو في شيء، وهذا يعود لعدم تحديد حقيقة الغلو وماهيته، ولنوضح ذلك أيضاً بمثالين:

1-من الأمور التي تعتقدها الشيعة الإمامية أن المعصومين، وعلى رأسهم النبي محمد(ص) لا يسهون، وقد دلت على ذلك النصوص الصريحة والصحيحة، لكن شيخنا الصدوق(قده) كان يعتقد أن قمة الغلو نفي السهو عن النبي(ص)، فشتان ما بين ما يعتقده شيعة أهل البيت(ع)، وبين ما يعتقده شيخنا المذكور.

2-لقد كان عند القميـين في القديم منهج وهو أن أي رواية تتضمن الحديث عن فضائل أهل البيت(ع) بما لا يقدر العقل البشري على قبوله بسهولة يوسم بكونه غلواً، ولذا كانوا يطردون كل راوٍ يروي الروايات المتضمن للحديث عن الفضائل، اتهاماً منهم إياه بأنه من الغلاة.

بينما نجد أن الروايات التي كانوا يتحفظون عليها ويعتقدون أنها تمثل خط الغلو تتوافق ما نعتقده اليوم وتنسجم معه تمام الانسجام.

وبالجملة، لابد من دراسة مفصلة لظاهرة الغلو حتى تتضح حقيقته، ويتم التعرف على المنهج المتبع عند أصحابه، ومن ثم يقر الكلام.

والذي يمكن ذكره موجزاً أن الزيارة الجامعة خالية من المنهج المذكور، ولا تتوافق معه أصلاً[2].

مخالفة الزيارة للقرآن:

وفقاً لما تقدم سوف نسلط الضوء بمقدار ما يتسع المجال على خصوص الإشكال الثاني المرتبط بالمتن، وهو كون المضامين الواردة في الزيارة الجامعة تتنافى والقرآن الكريم.

ولا يخفى أن ما ذكر يسمى منهج العرض[3]، وهو منهج امتازت به الطائفة الإمامية، حيث أنهم جعلوا المعيار الأول لقبول أي خبر من الأخبار موافقتها للكتاب العزيز، ولذا لو لم تتوافق الرواية مع القرآن الكريم، أو كان بينهما تعارض كان ذلك موجباً لرفع اليد عنها، وإسقاطها[4]، وهذا ما يدعيه المستشكل، كما عرفت في مطلع البحث.

وعندما نود علاج ما ذكر سوف نتحدث ضمن محورين:

الأول: بيان المعنى المتصور في العبارة التي افتـتحنا بها المقام.

الثاني: محاولة تسليط الضوء لنرى هل أن بينها وفقاً للمعنى المذكور وبين القرآن منافاة، أو أنه يمكن التوفيق بينهما.

إياب الخلق وحسابهم:

لقد تضمنت العبارة المذكورة مقطعين:

الأول: هو إياب الخلق.

الثاني: حساب الخلق.

ونحتاج بيان المعنى المتصور في كلا المقطعين:

أما بالنسبة للمقطع الأول، وهو إياب الخلق، فلا يخفى أن المقصود من الإياب هو الرجوع، فيقال: آب فلان إلى رشده، يعني رجع، وآب فلان عن مقصده، يعني رجع وعاد، وهكذا.

والمتصور في إياب الخلق بمعنى الرجوع إليهم أمران:

أحدهما: أن يكون إياب الخلق، بمعنى رجوعهم إليهم(ع) في عالم الدنيا.

ثانيهما: أن يكون المقصود بإيابهم إليهم في عالم الآخر.

أما الأمر الأول، فيكون إياب الخلق إليهم في عالم الدنيا، من خلال رجوعهم إليهم في أمور دينهم ودنياهم، وذلك بطلب التعرف على الأمور المرتبطة بالدين إذ أنهم ورثة النبي المصطفى(ص) وورثة الأنبياء والمرسلين، وهم خزنة علم الله سبحانه.

كما أن الناس يقصدونهم طلباً لقضاء حوائجهم وتلبية طلباتهم وأمورهم الدنيوية.

وقد يجعل من ضمن الإياب إليهم في عالم الدنيا الرجوع لكلامهم، فتأمل[5].

ومن الواضح أنه وفقاً لهذا الشرح لن يكون هناك أدنى مخالفة في الزيارة للمضمون القرآني، كما لا يخفى.

نعم لو أختير الأمر الثاني رجع الإشكال على حاله، وسنرى كيف يمكن الإجابة عنه. ذلك لأن إيابهم إليهم يوم القيامة إما للحساب، أو للشفاعة.

وأما المقطع الثاني، فلا يتصور فيه تعدد احتمال أو ظهور، بل هو من الواضحات جداً، وبالتالي يبقى ما ذكر من إشكال بحاجة إلى جواب.

جواب الإشكال:

هذا ولكي نجيب على ما ذكر نذكر سؤالاً، مفاده: من الذي يتولى حساب الخلق، هل أن الذي يتولى حساب جميع الخلق هو الباري سبحانه وتعالى، أم أنه عز وجل قد يوكل حساب البعض إلى غيره من الخلق؟…

ولنقرب ذلك بمثال ربما يكون أقرب إلى الأذهان، من الذي يتولى قبض الأرواح، هل أنه سبحانه وتعالى هو الذي يباشر ذلك بنفسه، أم أن هناك من وكلهم عز وجل بالقيام بذلك؟…

إن المستفاد من الآيات الشريفة، أن المتوفي للأرواح، تارة الباري سبحانه وتعالى، وأخرى يستفاد أن المباشر لذلك ملك الموت الذي وكل بكم، وثالثة يستفاد أن هناك أنواناً ومساعدين لملك الموت يباشرون معه القيام بهذا العمل.

وهكذا يستفاد من نصوص قرآنية ومعصومية أن هناك ملائكة موكلين ببعض الأمور مثل الرعد والبرق وما شابه.

وكذا يستفاد من القرآن الكريم أن الإنسان يتولى يوم القيامة محاسبة نفسه، مع أنه يتفق الجميع على أن المحاسب هو الباري سبحانه، فلاحظ قوله تعالى:- (وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتاباً يلقاه منشوراً* إقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً)[6].

مع أنه لا يختلف أحد أن المحاسبة نوع تدبير، وأنه ليس من مدبر للكون سوى الله سبحانه وتعالى.

من جميع ما تقدم يمكننا أن نخلص إلى التالي، أن محاسبة الإنسان نفسه في طول محاسبة الله سبحانه وتعالى له.

ووفقاً لما ذكرنا يمكن أن يفوض الباري سبحانه وتعالى أمر الحساب إلى من يشاء من خلقه، كما فوض أمر الموت وقبض الأرواح إلى ملك الموت، فكذلك شأن الحساب، وعليه يكون أئمتنا(ع) قد فوض لهم أمر الحساب يوم القيامة، وهذا لا يكون منافياً للقرآن الكريم كما ذكرنا.

وبالجملة، إن كان سبحانه وتعالى وكل بعض شؤون الخلق إلى بعض مخلوقاته، وأهل البيت(ع) أفضل من خلق، فلا إشكال في إيكال أمر الحساب يوم القيامة إليهم.

ويشهد لما ذكرنا النصوص الواردة عن طريق أهل البيت(ع)، فعن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله الصادق(ع) أنه قال: إذا كان يوم القيامة وكلنا الله بحساب شيعتنا[7].

وجاء عنه(ع) أيضاً في تفسير قوله تعالى:- (ثم إن علينا حسابهم)،قال: إذا كان يوم القيامة جعل الله حساب شيعتنا إلينا[8].

ولا ينحصر الأمر في خصوص الشيعة، بل قد تضمنت النصوص كما هو مقتضى المقطع الذي افتحننا به أن حساب الخلق جميعاً لهم يوم القيامة.

لماذا هم المحاسبون:

وعلى أي حال، كون حساب الخلق لهم يوم القيامة يوجد تساؤلاً مفاده: لماذا كان حساب الخلق إليهم؟…

أجابت عن هذا السؤال النصوص الشريفة، فذكرت أن العلة في ذلك تعود لكون شيعتهم خلقوا من فاضل طينتهم، فعن جابر الجعفي قال: كنت مع محمد بن علي(ع) فقال(ع): يا جابر خلقنا نحن ومحبينا من طينة واحدة بيضاء نقية من أعلى عليـين، فخلقنا من أعلاها، وخلق محبوناً من دونها، فإذا كان يوم القيامة التفت العليا بالسفلى، وإذا كان يوم القيامة ضربنا بأيدينا إلى حجزة نبينا، وضرب أشياعنا بأيديهم إلى حجزتنا، فأين ترى يصيّر الله نبيه وذريته؟ وأين ترى يصيّر ذريته محبيها؟فضرب جابر يده على يده، فقال: دخلناها ورب الكعبة ثلاثاً.

أما غير الشيعة، فإنهم إنما خلقوا من فاضل وجود الشيعة، أي خلقوا لأجلهم، وذلك لتوقف كثير من منافع الشيعة عليهم، فهم بضرب من التأويل يراجعون إليهم[9].

——————————————————————————–

[1] سورة الغاشية الآيتان رقم

[2] لقد تعرضنا لطرح بحث الغلو، كدراسة تاريخية ذكرنا فيها حركته التاريخية، بعدما عرفنا حقيقته، كما تعرضنا لبيان أسبابه، ومنهج أهل البيت0ع) تجاهه.

[3] نسأل الله سبحانه التوفيق للحديث عن هذا المنهج المهم جداً في قبول الروايات في بحث ودراسة مستقلة.

[4] وإني لأعجب أن يتهمنا بعض الفرق الإسلامية بأننا نقول بتحريف القرآن الكريم، فمن يلتـزم أن الميزان في قبول الرواية وعدمها هو القرآن، كيف يمكن فيه القول بالتحريف، بينما غيرنا لا يلتـزم بهذا المنهج، بل لا يجعل الموافقة للكتاب سبباً للحجية، مما يعني أن مخالفة الكتاب لا تضر في حجية الخبر.

[5] احتمل هذا المعنى السيد عبد الله شبر في شرحه على الزيارة.

[6] سورة الإسراء الآيتان رقم 13-14.

[7] بحار الأنوار ج 7 ص 264.

[8] المصدر السابق ص 274.

[9] من مصادر البحث: الأنوار الساطعة في شرح الزيارة الجامعة ج 4 ص 39، الأنوار اللامعة للسيد عبد الله شبر، شرح الزيارة للأحسائي، الشموس الطالعة من مشارق الزيارة الجامعة، بحار الأنوار ج 27، ج 7، مفاهيم القرآن ج 8.

تعليقات الفيسبوك

التعليقات مغلقة