الجهر والاخفات

لا تعليق
خواطر حوزوية
250
0

الجهر والاخفات

 

المشهور بين الأعلام هو القول بوجوب الجهر على الرجال في صلاة الصبح وفي الأوليتين من صلاتي العشائين، ووجوب الإخفات في الأوليتين من صلاتي الظهرين، وخالف في ذلك ابن الجنيد، والسيد المرتضى(ره) من القدماء، وصاحبا المدارك والذخيرة من المتأخرين، فقالوا بالاستحباب[1]، وقال عنه غواص بحار الأنوار العلامة المجلسي(قده) أنه لا يخلو عن قوة[2].

ولا يخفى أن مقتضى الأصل هو البناء على عدم اعتبار الشرطية في القراءة، فيكون المكلف مخيراً بين الاتيان بالقراءة جهراً، أو الاتيان بها إخفاتاً، لأن المورد من صغريات الشك في الشرطية، وهو يقضي بجريان أصالة البراءة عن ذلك.

وقد استند القائلون بوجوب الجهر فيما ذكر إلى أمور:

الأول: الإجماع المدعى من قبل الشيخ(ره) في كتابه الخلاف[3].

وهو ممنوع صغرى وكبرى، أما من حيث الصغرى، فقد عرفت مخالفة ابن الجنيد، والسيد المرتضى، ولا ريب أنه وفقاً لمسلك حساب الاحتمال الرياضي يمنع التمسك بهذا الإجماع.

وأما كبرى، فلأن هذا من إجماعات الشيخ(ره) في الخلاف، وقد تقرر في محله المنع عن حجيتها، لأنها إجماعات اسكاتية، مضافاً لكونها من الإجماع على القاعدة.

الثاني: التمسك بالسيرة الجارية على مراعاة الجهر في الموارد المقررة، وهي سيرة متصلة بزمان المعصومين(ع).

ولا يخفى أنه بعد التسليم بثبوت هذه السيرة، يقع الكلام في دلالتها على المدعى، إذ أقصى ما يستفاد أنها كانت قائمة على ذلك، أما أنها تفيد وجوب الجهر والإخفات، أم أنها تفيد الاستحباب، فهي فعل، والفعل مجمل من هذه الناحية.

الثالث: التمسك بدليل التأسي بالنبي محمد(ص)، لما ورد من قوله(ص): صلوا كما رأيتموني أصلي، ولا إشكال ولا خلاف بين المسلمين-العامة والخاصة-أن النبي(ص) كان يجهر بالقراءة في الركعتين الأوليتين من المغرب والعشاء، وفي صلاة الفجر، ويقرأ إخفاتاً في بقية الركعات والصلوات.

ويرد عليه: أن دليل التأسي، وهو الحديث النبوي لم يرد من طرقنا، مما يسقطه عن الحجية لضعفه السندي، كما أن أقصى ما يدل عليه هو المشروعية، لأنه فعل، وقد عرفت غير مرة أن فعل المعصوم لا يدل على الوجوب، أو الاستحباب، بل هو أعم.

الرابع: خبر الفضل بن شاذان، والذي تضمن تعليل الجهر في بعض الصلوات بأنها في أوقات الظلمة، فيجهر بها ليعلم أن هناك جماعة، عن الرضا(ع)-في حديث- أنه ذكر العلة التي من أجلها جعل الجهر في بعض الصلوات دون بعض أن الصلوات التي يجهر فيها إنما هي في أوقات مظلمة فوجب أن يجهر فيها ليعلم المار أن هناك جماعة فإن أراد أن يصلي صلى، لأنه إن لم ير جماعة علم ذلك من جهة السماع، والصلاتان اللتان لا يجهر فيهما إنما هما بالنهار في أوقات مضيئة فهي من جهة الرؤية لا يحتاج فيها إلى السماع[4].

والإنصاف أنها أجنبية عن المدعى، ضرورة أنها ناظرة لبيان حكم آخر وهو الجماعة، وليست ناظرة لبيان الجهر والاخفات المبحوث عنهما في المقام. هذا مضافاً إلى ضعفها سنداً، لضعف طريق الصدوق إلى الفضل بن شاذان، حيث أن طريقه له في المشيخة كالتالي: عن عبد الواحد بن عبدوس النيسابوري العطار، عن علي بن محمد بن قتيبة، عن الفضل بن شاذان. وبن عبدوس، وبن قتيبة لم يوثقا من القدماء، لذا يحكم بضعف الطريق، فتأمل.

الخامس: صحيح عبد الرحمن بن الحجاج، قال: سألت أبا عبد الله(ع) عن الصلاة خلف الإمام أقرأ خلفه؟ فقال: أما الصلاة التي لا يجهر فيها بالقراءة فإن ذلك جعل إليه فلا تقرأ خلفه، وأما الصلاة التي يجهر فيها فإنما أمر بالجهر لينصت من خلفه، فإن سمعت فأنصت وإن لم تسمع فاقرأ[5]. وتقرب دلالتها بالنظر إلى الجواب الصادر من الإمام(ع)، فإنه(ع) قد فصل في الصلوات، حيث ذكر أن بعضها يجهر فيها، وبعضها الآخر يخفت فيها.

والإنصاف، أن الجزم بدلالتها على المطلوب، ورفع اليد عن خصوصية صلاة الجماعة صعب، خصوصاً بملاحظة أن ما تضمنه جوابه(ع) من بيان وظيفة للمأموم ابتنى على وظيفة الإمام، وهذا يوجب احتمال أن يكون المنظور في الصحيح هو صلاة الجماعة، وليس مطلقاً، فتأمل.

على أنه لو بني على تمامية دلالتها على المطلوب، فسوف يكون حالها حال صحيح زرارة الآتي من حيث المعارضة، ومن ثمّ جريان العلاج.

السادس: التمسك بصحيح زرارة المروي عن أبي جعفر(ع) في رجل جهر فيما لا ينبغي الإجهار فيه، وأخفى فيما لا ينبغي الإخفاء فيه، فقال: أي ذلك فعل متعمداً فقد نقض صلاته، وعليه الإعادة، فإن فعل ذلك ناسياً أو ساهياً أو لا يدري فلا شيء عليه وقد تمت صلاته[6]. ودلالته على المدعى بالمنطوق واضحة، إذ يستفاد منه التفصيل بين ترك الإجهار فيما ينبغي الإجهار فيه، وترك الاخفات فيما ينبغي الإخفات عمداً، فتجب الإعادة، وبين تركه نسياناً أو سهواً، أو لأنه لا يدري، فلا تجب عليه. كما أنها مروية بطريقين، أحدهما طريق الصدوق، والآخر طريق الشيخ:

أما الصدوق، فقد ذكر طرقاً أربعة إليه، أثنين منها يختصان بما رواه في الزكاة، وأما الطريقان الآخران، فهما كالتالي:

1-عن أبيه، عن ابن الوليد، عن سعد، والحميري، ومحمد بن يحيى العطار، وأحمد بن إدريس، جميعاً، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسن بن سعيد، وعلي بن حديد، وعبد الرحمن بن أ[ي نجران، جميعاً، عن حماد بن عيسى الجهني، عن حريزي بن عبد الله[7].

2-عن أبيه، وابن الوليد، ومحمد بن موسى المتوكل، عن الحميري، ومحمد بن عيسى، ويعقوب بن يزيد، والحسن بن ظريف، جميعاً عن حماد بن عيسى، عن حريز[8].

وأما الشيخ(ره) فقد ذكر له في الفهرست طرقاً ثلاثة:

1-الشيخ أبو عبد الله محمد بن محمد بن النعمان المفيد(ره)، عن جعفر بن محمد بن قولويه، عن أبي القاسم جعفر بن محمد العلوي الموسوي، عن ابن نهيك، عن ابن أبي عمير، عن حماد، عن حريز.

2-أخبرنا عدة من أصحابنا، عن محمد بن علي بن الحسين، عن أبيه، عن سعد بن عبد الله، وعبد الله بن جعفر، ومحمد بن يحيى، وأحمد بن إدريس، وعلي بن موسى بن جعفر كلهم، عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، وعلي بن حديد، وعبد الرحمن بن أبي نجران، عن حماد بن عيسى الجهني، عن حريز.

3-أخبرنا الحسين بن عبيد الله، عن أبي محمد الحسن بن حمزة العلوي، عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن حماد، عن حريز[9].

كما يمكن التمسك بمفهوم صحيح زرارة الآخر، عن أبي جعفر(ع) قال: قلت له: رجل جهر بالقراءة فيما لا ينبغي الجهر فيه، وأخفى فيما لا ينبغي الإخفاء فيه، وترك القراءة فيما ينبغي القراءة فيه، أو قرأ فيما لا ينبغي القراءة فيه، فقال: أي ذلك فعل ناسياً أو ساهياً فلا شيء عليه[10]. فإن مقتضى مفهوم الوصف البناء على بطلان الصلاة لو صدر منه ذلك متعمداً، فلو تعمد الجهر في موضع الإخفات، أو أخفت في موضع الجهر بطلت صلاته، وهذا يدل على لزوم مراعاة الجهر والإخفات في الصلاة.

واحتمال اتحاد الخبرين وعدهما خبراً واحداً، لو لم يكن متعيناً فهو غير بعيد، ويساعد على ذلك ملاحظة جوانب متعددة، المسؤول وهو الإمام الباقر(ع)، والراوي وهو زرارة، والراوي عنه وهو حريز، وألفاظ الحديث.

وتعارض صحيحة زرارة صحيحة علي بن جعفر عن أخيه الإمام موسى(ع)قال: سألته عن الرجل يصلي من الفريضة ما يجهر فيه بالقراءة، هل عليه أن لا يجهر؟ قال: إن شاء جهر وإن شاء لم يفعل[11]. وتقرب دلالتها على أن المصلي بالخيار إن شاء أن يجهر في موضع الإجهار، وإن شاء أن يخفت، فلا يكون ملزماً بالإخفات، كما لا يكون ملزماً بالإجهار.

وقد جمع بينهما صاحب المدارك(ره) جمعاً عرفياً، فحمل صحيحة زرارة على الاستحباب، وذلك لأن صحيحة على بن جعفر نص في عدم وجوب الجهر، وصحيحة زرارة ظاهرة في وجوبه، فيحمل الظاهر على النص، وتكون النتيجة حينئذٍ هي الحكم باستحباب الجهر، لا وجوبه.

ولم يرتضه بعض الأعاظم(ره)، لأن الوارد في صحيح زرارة هو الأمر بالإعادة، وهو ليس حكماً تكليفياً حتى يمكن التصرف فيه بحمله على الاستحباب، بل هو إرشاد إلى الفساد، ويستفاد وجوب الإعادة من حكم العقل، ومقتضى حمل الأمر المذكور بالإعادة على الاستحباب، يعني استحباب الفساد.

وقد تضمن كلامه(ره) الإشارة لمطلبين هما موضع خلاف بين الأعلام:

أحدهما: أن الجمع بالحمل على الاستحباب يختص بالأحكام التكليفية، ولا يجري في غيرهما، ولما كان الموجود من لزوم الإعادة ليس حكماً تكليفياً، فلا مجال للحمل على الاستحباب.

ثانيهما: أن دلالة الأمر على الوجوب بحكم العقل، وليس بالوضع، ولا بالإطلاق ومقدمات الحكمة.

وللمناقشة في كليهما مجال، فإن المتابع لموسوعته الفقهية يقف على أنه لم يلتـزم بالأول منهما حيث خالف ذلك في موارد عديدة، فجمع بين النصين بحمل أحدهما على الاستحباب لكون الثاني قرينة على ذلك مع أنهما ليسا حكمين تكليفين.

وأما الثاني منهما، فإن المقرر في الأصول خلافاً لمدرسة المحقق النائيني(ره)، ومن تبعه من تلامذته البناء على دلالة الأمر على الوجوب بالوضع، وليس بحكم العقل، وتفصيل ذلك يطلب من محله.

وقد يمنع من الجمع المذكور كما عن بعض الأعاظم(ره)، بعدم دخول صحيح علي بن جعفر دائرة الحجية، لأنه مضطرب المتن، لأن الظاهر منه في البداية أن مسألة الجهر من المسلمات والأمور المفروغ عنها عند السائل، فنراه قد فرض في سؤاله أن الفريضة يجهر فيها، فلا معنى بعد ذلك لأن يسأل هل عليه أن لا يجهر، فوجود هذا السؤال بهذه الكيفية يكشف عن اضطراب في متنها، مما يمنع من الاستناد إليها.

وقد يعمد إلى تأويل الصحيح المذكور، من خلال حمل السؤال في قوله: هل عليه أن لا يجهر، على شيء آخر غير القراءة، كالتشهد وذكر الركوع والسجود، وما شابه.

إلا أنها دعوى غير واضحة، والظاهر أن منشأها يعود لتسليمه(قده) أن الجهر من الأمور المفروغ عنها، مع أن الصحيح غير ناظر لذلك أصلاً، بل هو يتضمن الحديث عما يجهر فيه من الصلوات، ومن الطبيعي أن الجهر فيها ليس على جهة الإلزام والمفروغية عن ذلك، بل ربما يكون ذلك للاستحباب، وبالتالي قوله ما يجهر فيه، لا يثبت أن الجهر من المسلمات المفروغ عنها، بل أقصى ما يفيد أن هناك تعارفاً على إيقاعه خارجاً، والفعل أعم كما تقدم، وبالتالي يكون السؤال عن أن هذا المتداول والمتعارف هل هو على جهة الإلزام، فيجب الجهر، أم أنه على جهة الاستحباب، فلا إلزام فيه، وبالتالي لا يوجد أدنى تناقض وتهافت بين السؤال والجواب، ويؤكد ما ذكرنا بل يدل عليه ما جاء في بعض نسخ قرب الاسناد، من أن السؤال عن الوظيفة، قال: هل عليه أن يجهر، فإنه صريح في أن تحديد ما هي وظيفته، هل الجهر بنحو الإلزام، أم لا إلزام عليه، فيكون السؤال منسجماً تماماً مع الجواب، ولا تهافت.

وكذا أيضاً أشار السيد البروجردي(قده) في موسوعته الحديثية إلى أن هناك نسخة من نسخ الاستبصار جاء السؤال فيها هكذا: هل يجوز عليه أن لا يجهر[12]، وهو أيضاً يتطابق مع الجواب، ويتوافق مع ما ذكرنا، والحاصل، لا مجال للركون لإشكال التهافت المدعى، والموجب لرفع اليد عن الصحيح.

وقد ذكر السيد البروجردي(قه)، أنه لا مجال للقبول بهذا الجمع العرفي، وإن كان على طبق القواعد، وذلك لأن صحيحة زرارة تأبى الحمل على الاستحباب، لأنها تضمنت التعبير بقوله: نقض صلاته، ولا ريب في ظهور هذا في الفساد، فلا مجال لحمله على الاستحباب.

ويمكن الجواب عنه بما ذكره صاحب الذخيرة(ره)، حيث أشار إلى أن المروي في بعض النسخ هو: نقص، وليس نقض[13]، مما يدل على نقصان الثواب، ومن الواضح جداً أن هذا يلازم الاستحباب، كما لا يخفى.

وقد أجاب عن ذلك بعض الأعاظم(قده) بأن الموجود في كتب الروايات كما قيل ذكره بالضاد، أي نقض، نعم نقل ذكره بالصاد، لكنه عن بعض الكتب الفقهية، ولا ريب أن المدار في الأخبار على المصادر الحديثية، لا الكتب الفقهية.

لكن يرد عليه: أن صاحب البحار(ره) أشار إلى أن بعض نسخ الفقيه تضمنت التعبير بـ(نقص)، وليس نقض[14]، والمذكور فيه ذلك مصدر حديثي وليس كتاباً فقهياً. كما أن هناك بعض نسخ الاستبصار تضمنت التعبير بكلمة(نقص)، وليس نقض، وهو مصدر حديثي أيضاً. وأما القيل الذي ذكره، فيعارضه ما جاء عن الشيخ حسن صاحب منتقى الجمان بأنه لم ينقل ضبطها بالمعجمة[15].

ومع البناء على استقرار المعارضة بين النصين، فقد ذكر بعض الأعاظم(قده)، أن الترجيح حينئذٍ لصحيح زرارة، لأن صحيح علي بن جعفر موافق للعامة، وقد أمرنا بطرح ما وافقهم والأخذ بما خالفهم، وقد حمله الشيخ(ره) على التقية أيضاً.

وللمنع من هذا المرجح مجال واسع، إذ أنه بعد التسليم أن فتوى العامة على الاستحباب، فإن الصحيح مخالف لها، ضرورة أن مفاده هو التخيـير، وهو يختلف عما عليه القوم.

على أنه يمكن القول بأنه لا موجب لحمل الصحيح على التقية، وذلك لأن من المسلم عند المسلمين كما أن عمله(ص) كان على الجهر في بعض الصلوات، فلا معنى لأن يتقي(ع) حينئذٍ.

نعم لو قلنا بأن الترجيح بالشهرة الواردة في المقبولة يقصد منه الشهرة الفتوائية، أمكن البناء على ترجيح صحيحة زرارة على صحيح علي بن جعفر، لأن الشهرة الفتوائية معها.

وقد منع بعض الأعاظم(ره) من الترجيح بموافقة الكتاب، لعدم ظهور قوله:- (ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بيت ذلك سبيلاً)[16]، لعدم ظهورها في تعين أحدهما، وإنما هي ناظرة إلى بيان المقدار اللازم حصول الجهر والإخفات به في الصلاة، فيكون مفادها الإرشاد إلى عدم الإفراط في الجهر كالمؤذن، وعدم التفريط في الإخفات بحيث يكون مجرد تحريك الشفتين فلا يسمع نفسه ما يقول.

وبالجملة، ليس في الآية دلالة على تعيين الوظيفة من حيث الجهر والإخفات وجوباً أو جوازاً، فلا تصلح لترجيح أحد المتعارضين الدال تعين الوظيفة لزوماً في الجهر والإخفات، أو التخيـير بينهما[17].

ويساعد على ما أفاده(ره) النصوص الواردة حيث دلت على أن المقصود من الآية الشريفة هو حالة الاعتدال في مستوى الصلاة حال الصلاة، وليست ناظرة إلى كون الوظيفة في بعض الصلوات جهر، وفي غيرها إخفات:

منها: صحيح عبد الله بن سنان قال: قلت لأبي عبد الله(ع): على الإمام أن يسمع من خلفه وإن كثروا، فقال: ليقرأ قراءة وسطاً يقول الله تبارك وتعالى:- (ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها)[18].

ومنها: موثقة إسحاق بن عمار، عن أبي عبد الله(ع) في قوله عز وجل:- (ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها)، قال: الجهر بها رفع الصوت، والتخافت ما لم تسمع نفسك، واقرأ ما بين ذلك[19].

وفي مقابل هذا الاستظهار، استظهر بعض أعلام التفسير(قده) دلالة الآية على كون الوظيفة المعتبرة في الصلاة إما الجهر أو الإخفات، وهذا يجعل الآية الشريفة مرتبطة بمحل البحث، قال(ره): الجهر والإخفات وصفان متضائفان، يتصف بهما الأصوات، وربما يعتبر بينهما خصلة ثالثة هي بالنسبة إلى الجهر إخفات، وبالنسبة إلى الإخفات جهر، فيكون الجهر هو المبالغة في رفع الصوت، والإخفات هو المبالغة في خفضه، وما بينهما هو الاعتدال فيكون معنى الآية لا تبالغ في صلاتك في الجهر ولا في الإخفات، بل اسلك فيما بينهما سبيلاً وهو الاعتدال وتسميته سبيلاً لأنه سنة يستن بها هو ومن يقتدي به من أمته المؤمنين به.

هذا لو كان المراد بالصلاة في قوله:- (بصلاتك)، للاستغراق، والمراد به كل صلاة صلاة، وأما لو أريد المجموع ولعله الأظهر كان المعنى لا تجهر في صلواتك كلها ولا تخافت فيها كلها، بل اتخذ سبيلاً وسطاً تجهر في بعض وتخافت في بعض، وهذا المعنى أنسب بالنظر إلى ما ثبت في السنة من الجهر في بعض الفرائض اليومية كالصبح والمغرب والعشاء، والإخفات في غيرها

ولعل هذا الوجه أوفق بالنظر إلى اتصال ذيل الآية بصدرها، فالجهر بالصلاة يناسب كونه تعالى علياً متعالياً، والإخفات يناسب كونه قريباً أقرب من حبل الوريد، فاتخاذ الخصلتين جميعاً في الصلوات أداء لحق أسمائه جميعاً[20].

وكيف ما كان، إن الاستدلال بالآية الشريفة يعتمد على توفر أمرين:

الأول: أن يكون المقصود من لفظ الصلاة المذكور فيها هو الصلاة بالمعنى الاصطلاحي، وعدم كون المقصود منه المعنى اللغوي الذي هو الدعاء، لأنه لو كان المقصود منه المعنى اللغوي فسوف تكون الآية أجنبية تماماً عن المدعى.

الثاني: تحديد المقصود من الجهر والإخفات في الآية، وأنه ليس المقصود من الجهر بمعنى الإعلان والإظهار، والإخفات بمعنى الإسرار والكتمان، لأنه لو كان المقصود منهما ذلك فلن تكون الآية مربوطة بمحل البحث، بل سوف تكون ناظرة إلى إرشاد رسول الله(ص) إلى بيان الكيفية والطريقة التي يلزمه(ص) ممارستها حال أداءها الصلاة، بحيث لا يكون أداؤه إياها موجباً لظفر قريش به، لأنه(ص) كان إذا أراد الصلاة جهر بصوته فيعلم بمكانه المشركون، ويقومون بإيذائه، ففي خبر زرارة وحمران ومحمد بن مسلم، عن أبي جعفر، وأبي عبد الله(ع) في قوله تعالى:- (ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلاً)، قال: كان رسول الله(ص) إذا كان بمكة جهر بصوته، فيعلم بمكانه المشركون، فكانوا يؤذونه، فأنزلت هذه الآية عند ذلك[21]. وعليه، سوف يكون مفاد الآية المباركة دعوة النبي(ص) إلى اتخذا طريق وسط أثناء أداء الصلاة، فلا يعلن بصوته فيتعرض لإيذاء المشركين، ولا يصلي سراً وإخفاتاً، فلا يعرف مكانه المؤمنون الذين يودون الصلاة معه، ويساعد ذلك ذيل الآية:- (وابتغ بين ذلك سبيلاً).

ومن الواضح، أنه لو بني على عدم توفر الأمر الثاني، للبناء على أن المقصود من الجهر والإخفات في الآية الإعلان والإظهار، والإسرار والكتمان، وإنما هي بصدد إرشاد النبي(ص) للطريقة الوسط التي يتبعها حال أدائه الصلاة حفظاً لنفسه الشريفة، وعدم حرمان المؤمنين من الصلاة خلفه، وإنما ذكر الجهر بالصوت لكوه طريقاً للدلالة عل مكانه(ص) حين أدائه الصلاة، فيكون معرضاً لأذى المشركين، فسوف تكون الآية الشريفة أجنبية تماماً عن المدعى.

بل حتى أن البناء على انتفاء الأمر غير بعيد، وذلك لعدم المحذور في كون المقصود من الصلاة في الآية الأعم من معناها الاصطلاحي الخاص، واللغوي وهو الدعاء فيكون النهي شاملاً كافة الموارد، ويساعد على ذلك كون الآية نزلت في مكة وربما في أوائل البعثة والتي بعد لم تشرع فيها الصلاة المخصوصة فتأمل جيداً.

ثم إنه بعد التسليم بتوفر الأمرين المذكورين لدلالة الآية على المطلوب، لابد وأن يلتـزم بأن لا يكون لسبب نزول الآية دخالة في معناها، لأنه لو بني على مدخلية ذلك فسوف تكون الآية أجنبية عن المدعى، فقد ورد أن الآية بصدد توجيه النبي(ص) إلى كيفية الحفاظ على نفسه الشريفة من أذى المشركين في مكة، حيث أنه(ص) كان عندما يود الصلاة يعلن بصلاته فكان يقرأ القرآن في الصلاة بصوت مرتفع، فيسمعه المشركون، فيسبوه، وينتقصوا منه، ويشتموا القرآن، ويلغوا فيه، لذلك أمر(ص) بخفض صوته في القراءة أثناء الصلاة[22].

والحاصل، إن الجزم بتمامية دلالة الآية على تعين الوظيفة في الصلاة، وأنها الجهر أو الإخفات، كما عن بعض أعلام التفسير(ره)، من الصعوبة بمكان.

ثم إنه لو لم يمكن الترجيح بين النصوص، فلا مناص عندها من التساقط، والرجوع لمقتضى الأصل، وهو قاضٍ بالبراءة عن وجوب الجهر والإخفات كما عرفت ذلك في مطلع البحث.

 

 

 

 

 

 

 

[1] نقله عن ابن الجنيد ومصباح السيد المرتضى في مختلف الشيعة ج 2 ص 153، مدارك الأحكام ج 3 ص 357، ذخيرة المعاد ج 1 ص 274 الطبعة القديمة.

[2] بحار الأنوار ج 82 ص 71.

[3] الخلاف ج 1 ص 372.

[4] وسائل الشيعة ب 25 من أبواب القراءة ح 1.

[5] وسائل الشيعة ج 8 ب 31 من أبواب صلاة الجماعة ح 5 ص 356.

[6] وسائل الشيعة ب 26 من أبواب القراءة في الصلاة ح 1.

[7] من لا يحضره الفقيه ج 4 ص 443(المشيخة).

[8] المصدر السابق.

[9] الفهرست رقم 249 ص 118.

[10] وسائل الشيعة ج 6 ب 26 من أبواب القراءة في الصلاة ح 2 ص 86.

[11] وسائل الشيعة ب 25 من أبواب القراءة في الصلاة ح 6.

[12] جامع أحاديث الشيعة ج 5 ص 121 ح 2569.

[13] ذخيرة المعاد ج 1 ص 2274 الطبعة القديمة.

[14] بحار الأنوار ج 82 ص 77.

[15] منتقى الجمان ج 2 ص 13.

[16] سورة الإسراء الآية رقم 17.

[17] موسوعة الإمام الخوئي(ره) ج 14 ص 374-375.

[18] وسائل الشيعة ج 6 ب 33 من أبواب القراءة في الصلاة ح 3 ص 97.

[19] المصدر السابق ح 6 ص 98.

[20] الميزان في تفسير القرآن ج 13 ص 226.

[21] تفسير العياشي ج 2 ص 318.

[22] مجمع البيان ج 6 ص 304.

تعليقات الفيسبوك

التعليقات مغلقة